بما أن الفصل الأخير طلع لوحده فوق 8 الف كلمة فقسمته لنصين، هذا النص الأول 4599 كلمة والثاني هو النهاية ان شاء الله.
استمتعوا
----------------------
مشت بيلا مُكرهة بيدين مقيدة كالماشية، جُرت نحو الطابق الأخير في هذا المنزل مهول الحجم لكن اللوحات، الفن العصري ورائحة العطر الفواحة بعبق الغاردينيا والعنبر لم يشتتها إطلاقا عن التفكير بالقابع في جوفها ينمو وعن اخته الكبرى؛ آنا ماريا، التي شغلها غضبها من زوجها عنها فنسيت أخذها من مدرستها. بالتأكيد والدها قد عثر عليها منذ ذلك اليوم، فأطعمها، بدل لها ثيابها ودثرها بالأغطية فلا تشعر بالبرد.
يا ترى أتلح آنا ماريا بالسؤال عني؟ لربما ذرفت بعض الدموع على هذا الفراق المفاجئ وماذا عن نيكولو خاصتي؟ لابد أن الخبر وصله وهو الآن مذعور لكن ما هو بفاعل؟ فكرت بيلا وما ضايقها أن ذلك السنيور الجريح لم يبح لها بعد عن مبتغاه، أهي أموال الفدية أم هو مجرد انتقام بحت، لكن لما هي ولما زوجها؟ هل لربما تعدى على ابنة ذاك؟ أم أن ثأر الماضي من قتل نيكولو لأبيه البيولوجي قد فار للسطح بعد أعوام طويلة؟
بيلا لم تجد أبدا خلال هذا الوقت الطويل من العزلة أجوبة ترضي بها دماغها لكنها أيقنت أمرا، هو أن زوجها من الممكن ألا يكون بريئا كما ظنته وهذا ما خشيته بيلا لدرجة أنها لم تطق رؤية السنيور، فهو بالتأكيد سيحكي لها قصصا هي لن تعرف صدقها من كذبها وسيشوه هيئة زوجها المحب في ذكراها.
تبا له وتبا لما سيحكيه من قصص ستمزق طيف نيكولو اثناء جلوسه على كرسي الأريكة في ذكراها، حيث ركنه المفضل جمع فيه ما يهوى من النباتات الغير مزهرة، على يمينه حوض سمكته وفوق رأسه رفٌ، صف فيه مجموعته المثالية من العصافير الخزفية، يرتدي منامته المملة المخططة بالأخضر، بين يديه جريدته وعلى المسند الأحمر قدماه ممتدة.
استقرت واقفة مع الأصهب الذي ساقها مرتين وفي المرتين السابقة رافقها آخر داكن الشعر، حينها فطنت كونهما يتناوبان عليها. دق الأصهب على الباب مرتين فإذا بالجواب يأتيه من الداخل وقد كان كبير الخدم من أذن لهما برؤية السنيور المسن ممد في فراشه "تفضل"
نزع الاصهب قبعته قبل ولوجه وانحنى باحترام لسيده وعلى نفس النظام مثل المرة السابقة تقدمت بيلا وجلست على كرسي مجاور للسرير، حينها فقط فك الأصهب قيدها وبقي فوق رأسها كالغراب يراقبها ولمعة مسدسه المحفوظ في حزامه حذرتها من التهور.
"إنكِ اليوم تبدين شاحبة اكثر من ذي قبل" تحدث السنيور المسن ورفع بصره للأعلى يأبى النظر لجرحه عندما قامت بفتحه فوجدت القيح لازال فائضا "تعرفين أني أسمح لكِ بالتحدث"
"لا افهم سبب انتظارك ردا وحضرتك تعرف الجواب بالفعل" اجابته باختصار ولباقتها التي غلفت تعابيرها الحاقدة دفعته للتبسم فعلق قائلا "طريقتك في الحديث تشبه طريقته، إن المرء يتطبع بطباع أهله حقا" احتفظت بيلا بحقها في الرد منكبة في عملها.
"لم تخبريني بعد من أين تعلمتِ مداواة جرح"
"زوجي" اجابت باقتضاب.
"كان يعرض جروحه لك كي تادويها إذا" مرر اصابعه على غطائه "خير امرأة وجد لنفسه إذا؛ تعد الطعام، تكوي الثياب، تبقي الفراش دافئا وتداوي الجروح" عدد السنيور وبيلا رفعت طرفها إليه، تحاول أن تستشف نواياه من حبسها هنا "إني أحسده بعض الشيء، زوجتي المرحومة كانت امرأة ذات مكانة بين أهلها ولم تدس يدها في الماء الساخن يوما كي تغسل طبقها ولأنها امتلكت بعض المشاكل هنا" اشار على دماغه "كانت مرعوبة من أن يلمس ممتلكاتها الخدم، فكنت أنا من أعد لها طعامها وأغسل ثيابها"
"لقد أدرت أعمال العائلة، رعيت أولادي الخمسة واعتنيت بها؛ هي التي خشيت مغادرة غرفتها" انتقل السنيور بطرفه نحو الصور الموضوعة فوق رخام المدفأة فأشار لها "انهضي وانظري للصور"
"المعذرة؟"
"إياك والخجل، تفضلي"
حثها على النهوض وبيلا من ارتباكها دماغها فعل وضع البقاء على قيد الحياة فنفذت أمر خاطفها وذهبت بخطى حذرة نحو الصور "هذا هو ابني البكر" عرفها على أفراد عائلته من مكانه حيث هو مستلقي ومرافق بيلا من كان ينتشل الصور ويضعها بيد بيلا كي تتأملها.
عاينتهم بيلا وعاينت هيئة السنيور المسن وقت شبابه واقفا إلى جوار زوجته التي ذكرها سابقا في الغرفة هذه؛ كان يافعا ومن المودة التي تنبع منه اثناء وضع يديه على كتفي زوجته، ما خيل لها أبدا أنه ابليس بشحمه ولحمه أرسل خلفها شياطينه كي يجروها من دارها بتابوت.
"أما ذاك، الذي على يمينك فهو ابني من صلبي وليس من المرحومة" لم يلصق السنيور اطلاقا عبارة غير شرعي بابنه ذاك وحالما وضع المرافق الصورة بين يدي بيلا قطبت حاجبيها مستنكرة فهو يبدو مألوفا لذاكرتها.
"جوليان، هذا هو اسمه وهو معروف بجوليان ترنتينو لم أعطه اسمي لأني لم أعلم بشأنه يوم ولادته" استدارت بيلا بكعبها نحو السنيور وبصرها قد شخص من هول الصدمة؛ فجوليان ترنتينو كان سبب زيارة نيكولو بلدتها أول مرة. لقد كان صديقه.
"التي تقف إلى جواره هي زوجته؛ ابنة صديقي المقرب. حظيا بهذه الصورة في زيارتهما الأخيرة للمنزل وقد كان يوم عيد بالنسبة لي، إذ ابلغني جوليان أني سأمسي جدا مجددا" تبسم السنيور فذكريات ذلك المساء مرت كشريط سينمائي أمام بصره إلى أن تبدل حاله لعبوس ثم أكمل "لابد أنك تعرفين جوليان فلقد أرسلت جثمانه لجيونكاريكو بينما زوجته دفنت في سان سيفيرو، في مسقط رأسها"
"لقد مشيت في جنازة والدته ونثرت وردا مع نيكولو فوق قبرهما"
"لكما خالص شكري وامتناني لكن ألن تسألي كيف لقي جوليان وزوجته حتفهما؟"
سؤاله هذا جعل حملا ثقيلا من الغم يهبط على صدر بيلا، إذ شعرت مسبقا في داخلها عن المنحنيات التي ستسلكها هذه القصة ذو البداية الرومانسية، لم تقدر بيلا على سؤاله والسنيور علم بذلك مسبقا فباعد بين يديه وأجابها مبسطا الأمر "جزار دي كارلو بالطبع، بعبارة أخرى نيكولو؛ زوجك الحبيب"
هزت بيلا رأسها رافضة بينما السنيور أومئ لها، فاعترضت وستارة من الدموع غطت عينيها "لا، لا، إنك مخطئ، نيكولو لم يكن ليفعل هذا أبدا"
"بلى فعل، وأزيدك من الشعر بيتا، لقد شق بطن ابنتي في القانون، رجالي عثروا على حفيدي في كيسه إلى جوار أمه متعفنا والدود نهشهما"
"هو صديق وفي، لم ولن يمس صديقه بسوء أبدا"
دافعت بيلا عنه بكل إخلاص دون أن تفكر مرتين، فما يقصه عليها لأمر يعجز نيكولو عن فعله، فلقد شهدت على الكيمياء بينه وبين أقاربه، رأت بريق الدمعة مرت في عينه لحظة نطق ابنه ريكاردو للعهود أمام زوجته، لمسته الحنون وسهره على آنا ماريا كلما لازمها المرض؛ كان أبا محبا أراد رؤية ذريته في الأعالي.
كان حازما، متين البنيان تجاه كل ما يضرها ورقيقا مرهف القلب تجاهها ومع اصحابه، كان يملك رابطا صلبا لا يقطع...
"يا عزيزتي، كلنا هذا الشخص عندما يتعلق الأمر بالعائلة" جمع السنيور اصابعه فوق بطنه "وجميعنا لنا وجه آخر اثناء العمل"
"ماذا ستفعل بي إذا؟ ستبقيني هنا حتى يجمع لك مالا؟"
"آه لا على الإطلاق، من منا هنا تحدث عن المال"
اعتدل السنيور من استلقائه مستندا على يديه وكبير الخدم أعانه كي يجلس، كانت انفاسه ثائرة من وجع الجرح ووجهه اللين قد انقلب لآخر مظلم، سوداوي واقسمت انها سمعت الشيطان ينطق بلسانه لما أخبرها "نحن هنا يا حلوتي، نتحدث بلغة العين بالعين والسن وبالسن"
"نيكولو سيأتي نعم، لكن عندما أرسل في طلبه فهو دي كارلو بالنهاية ولن يتجرأ على وضع اسم العائلة في خطر، هو سيأتي وسيستلم جثمانك من الباب الأمامي"
أدير مقبض الباب فجأة وتمنت بيلا لو يكون نيكولو قد كسر توقعات العجوز لكنه لم يكن هو، بل آخر شخص توقعت رؤيته هنا "أنتونيو..." تمتمت بيلا باسمه حالما ولج أنتونيو، الذي صعق بنفسه حالما رأى هيئة بيلا قابعة في غرفة السنيور فهتف مستنتجا "سحقا، جدي لابد أنك تهذي!"
ضرب أنتونيو على جبينه "ما الذي كنت تفكره بإحضارها هنا؟!" جادله أنتونيو والسنيور أشار لمرافقها أن يعيد بيلا للسرداب حيث يتم تخزين الطعام، احكم المرافق قبضته على مرفقها وجرها بعد تقيدها لخارج الغرفة.
"بل وتعاقدت مع ساعي البريد، ذلك العاهر الدموي كي يحضرها؟! الجحيم انت فعلت هذا حقا!"
"راقب لهجتك معي يا ولد"
"الشيطان إلى جانبك، اللعنة عليك وعليَّ وعلى جميع آل باتشينو! بيننا صلح فما الذي كنتَ تفكر به!"
هذا آخر ما سمعته بيلا قبل تساق نحو السرداب وحالما وطئت قدماها الاسمنت البارد فك قيدها المرافق ثم أوصد الباب تاركا إياها في الظلمة مجددا ومع مصباح عتيق لا يكف عن الرمش. لوحدها بقيت محاصرة بين فج عظيم من الأكاذيب ولم تعرف أيهم تصدق...
كان السرداب يحوي نافذة في أعلى الحائط لكنها كانت مقفلة فلم ترى المروج الفسيحة ممتدة لكن الأخضر لم يكن لون الساعة، بل الأبيض. فالثلج لم يكف عن الهطول منذ يوم الحادث ذاك وقد حذرت الأنباء الجوية من اقتراب عاصفة ستضرب روما، فنوهت على السكان تخزين المأكل والمشرب لآن الخروج سيكون مستحيلا وقتها.
لم تكن الحركة في أطراف روما صاخبة كمركزها والمركز لم يكن صاخبا كصخب دماغ نيكولو القابع في غرفة المشفى، رأسه ملقي على فراش ريكو حيث يرقد بلا حراك وقناع الأوكسجين لازال متصلا بأنفه، يسعف رئتيه ويهبها من الهواء ما لم تقوى على سحبه.
كم كان بدن نيكولو ساكنا ولوهلة ظن لورينزو أن سيده فارق الحياة لكن مع التنهيدة التي فارقت شفتيه دحرج لورينزو عينيه مستهزئا بالفكرة التي راودته، فالجميع يموت إلا هذا المنحوس، لذا اشاح بصره عن النافذة في الباب واكمل نقاشه مع الشرطة يفاوضهم، فرئيس القسم مستجد والمثير للضجر أنه شاب يافع، قد ركب الحمار رأسه ومهما بسط له لورينزو الأمر لم يستوعب إطلاقا أن الحادث الذي وقع لهو موضوع يفوق صلاحياته.
"مجددا أقول لك يا حضرة السنيور المحترم، دي كارلو في الداخل مع ابنه الآن وانت حقا لا تريد التحدث معه"
"هذا ما نحدده نحن وليس انت فتنحى عن الطريق" تخطاه الرئيس وسترة طاقم الشرطة الشتوي تعلوه، دفع الباب ليلج للداخل غير آبه بفيفيان الغافية على الأريكة جوار سرير ريكو وعلى بدنها بطانية كان قد وهبها إياه لورينزو لما وجدها ترتعش من البرد في نومها.
"نيكولو دي كارلو أليس كذلك" سأل الرئيس ولم ينزع عن رأسه قبعته إطلاقا بل وقف متفاخرا بالشارة التي طرزت على كم السترة وخلفه اثنان من رجاله على أهبة الاستعداد لأي أمر، فمن دخلوا عليه يعتبر أب عائلة شرسة "ها قد حان وقت استجوابك فلا تظن أنه بسبب منصبك ستفر هاربا"
لم يبدي نيكولو ترحيبا بهم، فلم يرفع طرفه عن ولده بينما أذناه لم تنصت لصوت سوى طنين الجهاز، فهذا الطنين كان الإشارة الوحيدة على بقاء الروح في ريكاردو. نده الرئيس عليه مجددا لكنه لم يرد ولم يعر لوجودهم اهتماما فضجة دماغه أشد من ضجتهم، وكم كان دماغه لائما، زنانا لا يكف عن تذكيره بمدى وهن الأمل الذي يمتلكه في استرجاعه.
لاحظ الرئيس شيئا فوجه سؤاله "ما بها يداه مقيدة بالسرير؟" حينها هبط مساعداه ببصرهما نحو زوج من الأصفاد كبل كلا معصمي نيكولو.
"مجرد تدابير احترازية قمتُ بها"
"ولما هذا؟"
"أهذا حقا سؤال يطرح؟ حفاظا على الأمن العام بالطبع!" تعجب لورينزو من بلادة دماغه.
انتقل الرئيس ببصره بين نيكولو ولورينزو وضيقه اشتد من هذين اللذان يعرقلان عليه عمله، باشر بطرح السؤال الأول ثم التالي ولما لم يجد من نيكولو ردا سخط عليه، فأجابه أخيرا "أغرب عن وجهي" لا الضجر ولا الغضب كان بارزا في نبرته لدرجة أنها كانت جافة خالية من المشاعر وخلوها من العاطفة هو ما بث الرهبة في صدورهم.
"اسمعني أيها المتحذلق الملعون، ليكن الرب إلى جانبي، اسمك هذا الذي تتغنى به لن ينفعك فالقانون ماضي فوقك حالك من حال الجميع" اسهب الرئيس بسرد محاضرة عن قبضة القانون الماضية في طريقها فوقه وفوق من هم على شاكلته، فالصحوة بدأت شرارتها في أركان الدولة وأصحاب المقاعد ذوي العلاقات الفاسدة، بات تقصيهم واسقاطهم هدفا من أهداف الألفية الجديدة؛ فتم اصطياد واعتقال البعض منهم ليحل محلهم وجوه جديدة، عازمة على نفض الأغبرة المتراكمة عن إيطاليا التي تسبح في الدم.
لكن حديثه عن الفضيلة لم يهز شعرة من كيان نيكولو المنخور، فالمثاليات التي يصفعه بها إنما هي مجرد ثرثرة لن ترى بصيص النور إلا بعد خمسين عاما أو أكثر فنطق مهددا هذه المرة "لأعطيك عرضا أفضل إذا، إما أنا وإما ابنتك الحبيبة، صدقني عندما أقول أنا رجل موجوع واحب نشر وجعي على الآخرين"
مر طيف ابنة الرئيس أمام عينيه فتراجع عن قراره المتهور وفضل الصبر هذه المرة، فألقى على مسامعهم لفظا مهينا ثم ولوا مغادرين. راقب لورينزو أثره مغادرا فقال "إني أهنئه على صموده، امتلك من الشجاعة ما أبقاه واقفا حتى هذه اللحظة"
لم يعقب نيكولو شيئا لانعدام شغفه فعاد برأسه متأرجحا لابنه ثم انكب عليه ملقيا جبينه واصابعه توغلت بين لفائف شعره يسأله أن يتمسك بطبيعته اللزجة فيقاوم الموت هنا كما قاومه سابقا وتشبث برحم أمه رغم عدد المرات التي حاولت اجهاضه فيها.
"أخبرني في أي حفرة سقط فيتو" تمتم نيكولو ثم رفع طرفه الخالي من الروح نحو لورينزو يطالبه بأخبار عن هوية الشيطان الذي وظف ساعي البريد ذاك كي يعكر عليه صفو عائلته و-تعكير صفو- لهي عبارة حقيرة، فخير وصف لحاله كان؛ لقد دثر أسرته وبعثرها.
فالصغيرة حمل نعشها وسار في جنازتها والكبير ها هو راكع عنده عاقدا يديه يكثر من صلواته، أما الزوجة المصون مفقودة لا يدري أحية هي أم لفظت آخر أنفاسها بالفعل.
"إنه يبحث سنيور فتحلى بالمزيد من الصبر"
"يا له من شيء أملك منه الكثير" تمتم ثم عاد لحاله، الخالي من الصوت والتعابير.
"صدقني لا نفع من العجلة، التريث في هكذا موقف لهو حكمة مطلقة" نصح وهذا كل ما كان يملك، فلورينزو أراد الحفاظ على بنيان ما تبقى من الأسرة لأن الحكمة تقتضي ذلك ولقد علم دون الحاجة لسماع تصريح من سيده أنه مستعد لإهدار نفسه واهلاك الجميع في سبيل ذلك الفرد المفقود من دي كارلو.
"سنيور صدقني إن التضحية هي سبيل الضعفاء الوحيد لحماية احبتهم لكنك لست بصعلوك" وضع يده على كتف سيده لكن كلمته لم تترك اثرا عليه.
"ها هي الغرفة" انتقل لورينزو بطرفه نحو الباب فوجد صوفيا كما خمن صوتها قد ولجت وبرفقتها بيانكا ومارسيو. كانت قسوة الطقس في الخارج واضحة على معاطفهم المبتلة وبشرتهم المحمرة. ركنوا مظلاتهم جانبا وأعينهم فيها بعض من الأمل بانتظار سماع أخبار مريحة بعض الشيء حيال ريكو.
"ليرحمنا الرب، إن الطقس مريع في الخارج" علقت صوفيا وهمت موقظة فيفيان بينما بيانكا قد مكثت جوار أخيها دون النبس بحرف، تتأمل ريكو الهامد في فراشه ولولا طنين الجهاز لظنته ميتا، لكنها ارتكبت زلة فمجرد التفكير بكلمة -الموت- أرسل كثيرا من الدموع لتفيض، فدنت لتطبع قبلة على جبين ريكو، تسأله أن تدب الحياة فيه مجددا وحالها بدى كمن يسأل جثة أن تنطق. لقد أتت على الفور إلى العاصمة دون التفكير مرتين حالما وصلها الخبر، فلا خصامها مع نيكولو ولا الطقس وقفا حائلا بينها وبين هذا الولد الذي كانت أما له عوضا عن التي هجرته.
لقد أحبته بإخلاص، فأعدت له الحساء الساخن في الأيام الباردة، نظفته عندما احتاج للتنظيف وحمته من أبيه مرات عدة. ريكاردو لم يكن ولدا من صلبها لكنه أيقظ فيها الأمومة.
انضمت صوفيا إليهما وكان بلا حراك كما تركته فجر اليوم، اعوجت شفتها بحزن من طيف الذكرى التي عصفت ذهنها فأخذتها للحظة التي وردها اتصال من شقيقها يسألها أن تأتي بحقائبها لروما فتجالس ابنه وهذا ما فعلته هي وبيانكا، استقلتا أول رحلة وولجتا لشقة أخيهما في جعبتهما حقائب سفر. توقعت صوفيا حينها رؤية منزل تعثه الفوضى وفتى أجرب لا يكف عن هرش رأسه لكن نيكولو خيب أملها لما عثرت على بنيان داره أنيقا لامعا وابنه نظيف، تفوح منه رائحه الصابون يقوم بكتابة واجبه المنزلي. الرعب اعتراه في البداية لرؤيته سيدتين تقفان في الردهة لكنه استجمع شجاعته وسألهما مؤكدا إن كانتا عماته صوفيا وبيانكا.
ريكاردو الذي خسرته كان ولدا في قلبه من الحب ما يسع الجميع لكن رئتيه ثقبت قبل أن يكرم به الآخرين، فليشهد الرب أنه كان أقرب إلى قلبها من ابنها ليوناردو الذي ولاها ظهره، فذهب بلا رجعة. لذا ذرفت صوفيا دموعها بإخلاص ومسحت على شعره، تدعوه أن يعود إليها ولا يتركها كالأم التي مات ولدها.
"ماذا قال الطبيب بشأنه اليوم؟" سأل مارسيو.
"معجزة هي التي تحتاجون وليس طبيبا مختصا؛ هذا كل ما قال" اجابها ليوناردو والسخرية طاغية عليه فآل دي كارلو لا تعرف المعجزات طريقها إليهم من قسوتهم و وحشيتهم، وإن كان هناك شيء ما يعرف عنوانهم؛ فهو البؤس "لولا احترامي الشديد للأطباء للكمته على تعليقه السخيف هذا"
"لكن قل لي لما هو مقيد بالفراش؟" استنكر مارسيو.
"قيدته إلى أن تجد الحكمة طريقها لرأسه السميك! إنك زوج اخ فحادثه! يريد الذهاب وتوريط اسم العائلة في مصيبة نحن لا نعرف عن عواقبها شيئا! أي نعم هو لم ينطق بهذا لكن الشيطان في هيئته! يمكنك تخمين هذا بمجرد النظر إلي عينيه" انفجر لورينزو أخيرا بعد أن كبت غضبه طويلا وألقى بذراعيه في الهواء "أخبِرُه أن فيتو ذهب لتقفي أثر ساعي البريد ومن بعدها سنجتمع بالأسرة، لقد أرسلت في طلبهم وهم قادمون نحو العاصمة للبحث في هذا الشأن"
"سحقا لهذا هل حقا سننتظر مشورتهم في هكذا أمر طارئ؟!"
"بل سحقا لك انت! تعقل قبل أن نفقد المزيد!" وبخ مارسيو كي لا يشجع أحدا ثم وجه حديثه لنيكولو هذه المرة يزجره أمام الجميع "بئسا لك! إنه أكثر موقف احتاجك فيه متماسكا لكن انظر لحالك، ثائر لا يقوى على التفوه بعبارة ملعونة صحيحة! ابنتك مزقت، ابنك يصارع الموت والهانم مهما كان وضعها الآن حية أو ميتة فانت ما عدت تشكل فارقا بالنسبة لها، فعليك التماسك لما هو أهم"
"هذا ليس الوقت الملائم لهذا يا لورينزو" حاول مارسيو التخفيف من حدته.
"وهل تراني أتفوه بالهراء؟! هذا أقل ما يمكنني قوله للرجل الذي مشى خلف نزواته وورطنا في هذه المصيبة من البداية!" عاود توبيخ نيكولو الصامت "الشيطان إلى جانبك كم مرة حذرتك من عواقب هذا الزواج لكنك كنت مجرد وغد أناني أراد فتح ساقي امرأة!" صاح لورينزو ومن شدة ثوران اعصابه، اتجه نحو الحائط، يبحث عن مخرج من هذه الورطة لكنه لم يجد، فلانت تعابيره الحامية لأخرى يائسة.
"إن كانت حية فهي لن تقوم بشيء سوى لعنك حتى نفسها الأخير وإن كانت ميتة فلا يسعني قول شيء سوى فليغفر لنا الرب، لقد دمرنا حياة شابة لا علاقة لها بهذا الدم" مسح لورينزو على وجهه بكف يده المهول، ذو الأصابع المربوعة ثم انتقل ببصره نحو الشابة فيفيان التي افاقت من نومها منذ مدة طويلة وانصتت لما جرى بينهم من خلاف.
عرض عليها لورينزو أخذها لبيتها لكن فيفيان فضلت البقاء إلى جوار ريكاردو فهي لم تعلم أي لحظة ستكون هي لحظته الأخيرة فنبس نيكولو بعد صمت مميت طويل ان تنزل للأسفل فتتناول ما يسند عظمها. بالطبع بعد الأحداث الأخيرة لم يسمح لها بالنزول وحدها فهي زوجة ريكاردو في النهاية وكلاهما نيكولو ولورينزو لم يعلما بعد هو الرأس المدبر ولم يستشفا نياته بعد.
عرض لورينزو عليها الرفقة فغادر بصحبة صوفيا ومارسيو لكن فيتو استوقفهم في ردهة الطابق بالفعل وافصح بأنفاس لاهثة عن مكان مكوث ساعي البريد، تمنى لورينزو حينها أن نيكولو لم يسمع من حديثهم شيئا لكنه وبيانكا قد كانا منصتين بالفعل. بحثت بيانكا في أخيها عن ألم، غضب إلا أنها لم تجد.
"بالتأكيد تنتظر مني التفوه ب -لقد اخبرتك- لكن لن أفعل فالرجل اسمعك ما تستحق" استمر نيكولو بالحفاظ على لسانه داخل جوفه فأكملت بيانكا "سأقوم بتعزيتك فقط في جنازة ريكاردو لكن لا تنتظر مني المزيد فأنا لست شاكرة لكَ وسخطي عليكَ سأصحبه معي للجهة الأخرى، إن كان لنا يا أخي فرصة أمام الرب هناك فأنا سأشهد ضدك وسأطلب منه النُصرة، هذا الشيء الذي لم اتمكن من الحصول عليه في هذه الحياة"
أخفض نيكولو بصره لمعصميه المقيد بالأصفاد فإذا بنظرته تتبدل لما رأى المفتاح يدور في القفل محررا إياه من حبسه "إني لا احتمل فكرة أن هناك من يصارع الموت بسبب وغد مثلك لذا اذهب وضحي بنفسك دون تردد إن تطلب الأمر، فصدقني إن عدت بجثتها لن يمنعني أحد من سحب مسدس أبي وتفجير رأسك"
"لن أطيق إطلاقا فكرة أن تهدر دماء تلك المسكينة بسبب رجل أناني مثلك"
استقام نيكولو من كرسيه ثم واجه اخته وعيناها لم ترتفع للأعلى كثيرا فطولهما كان متقاربا، تبادل كلاهما النظرات وبشطر من الثانية التفت ذراعا نيكولو حول بيانكا التي لم تتردد باستقباله ومبادلته بذراعين أحاطت عنقه. في البداية زمت شفتيها حتى باتت خطا رفيعا ثم اعوجت من فرط حزنها وبضع قطرات مالحة فرت من مقلتيها.
"لأي حد من الممكن أن تكون رجلا مريعا؟" سألته واصابعها اخذت حزمة من شعره فنفسها تأبى تركه خشية عليه من البأس فما خسرته لكاف "رباه إني أكرهك لكن أكره من صنعك اكثر"
"لستُ آسفا على ما فعلت به" نطق نيكولو قاصدا قتله لزوجها فرانكو فهو لم يملك ذرة ندم "لقد استحق كل حرق اصاب جلده على ما فعله بكِ" مسح على شعرها وقد مر أمام عينيه ذكرى رؤيته لكدمات زرقاء وصفراء في مواضع من وجهها وبدنها بعد زواجها من ذلك الوغد.
تبسمت بيانكا مستاءة فعبارته هذه لشيء سيقوله والدها بالتأكيد أيضا، لكن والدها ليس الملام وحده فتلك السنين الخمس التي قضتها في منزل أبيها مكنتها من التفكير وإلقاء بعض من اللوم على كاهلها وكاهل اخوتها، فهن اجبرن هذا الرجل على أن يرتدي رداء والدهن ويتقن دوره حتى النخاع.
رغبت بيانكا بالإعتراف له عن آخر ما توصلت إليه في إجازة النقاهة خاصتها لكن ما النفع من الندم الآن وما حدث قد حدث؟
إن اخبار نيكولو بخاطرة كهذا لن تشعره بالراحة بل بالمزيد من السخط على حياته التي أهدرها لأجل هذه العائلة، لذا كل ما تمكنت من فعله هو عناق هذا اليتيم الذي جره والدها إلى دارهم ثم دفعته عنها، توصيه بأن يرحل قبل أن تعدل عن قرارها وتعاود تقيده.
ولاها نيكولو ظهره مغادرا الغرفة بعد أن ودع ابنه وداعا لائقا وتأسف لأنه سيهجره في هكذا ساعة حرجة، فنيكولو عليه دفع ثمن أفعاله التي أقدم عليها في ساعة نزوة، كتوريط ميرا بيلا في هكذا زواج فاسد مثلا...
كانت الرياح في الخارج تتحدث بلغة قاسية وفي طياتها حملت الكثير من حبات الثلج مبقية السكان في بيوتهم لكن هذا لم يمنع نيكولو من الركض اثناء نزوله السلالم فمن طابق لأخر هو قطع، وهيئته مرت عبر نوافذ ركن الاستراحة في الأسفل حيث الكراسي مرصوصة وزوار المشفى واقفون في انتظار أن يغلي الحساء أسفل الموقد. لورينزو مع ابنه فيتو كانا واقفين في انتظار مجيء دورهما كي يبتاعا طعاما يسند البطن وبالطبع الحديث حول ساعي البريد لم يتوقف إلا بسبب رجل يشبه سيده ولو لم يعلم لورينزو كونه مقيدا في الأعلى لظنه هو.
"إلى ماذا تنظر يا أبي؟"
"إلى ذلك المعتوه في الخارج يبحث عن سيارة تقله، الشيطان في هيئته، يشبه دي كارلو بشدة" ارتشف لورينزو من القهوة ثم ولى النوافذ ظهره مكملا الانتظار فحملا صينيتين فيها من الحساء الكثير حيث يجلس البقية منتظرون. ارتشف لورينزو رشفة ثم اثنتين من حساء كرشة الخروف لكن الوخز في صدره لم يتوقف، فنهض من مقعده وقال "إني ذاهب لتفقد نيكولو"
هو هم بتفقده لكن في هذه اللحظة كان نيكولو قد حصل على توصيلة من سيارة ليست بسيارة أجرة وإنما سيارة رجل للتو فرغ من زيارة أخته المريض، وهذا السنيور لم يوافق إلا بعد حصوله على الكثير من المال وفي الرحلة تأكد من تشغيل موسيقى مع اصبع سيجارة وعلى مقدمة السيارة كانت راقصة هاواي تهز وسطها.
"هل الجو مناسب لك سنيور؟" قام السائق بمراعاة نيكولو بعدما نهبه من المال الكثير ولكي لا يتضايق أنفه من رائحة الطعام العفنة في الخلف استخرج زجاجة عطره ورشها في الهواء، ثلاث رشات أمام وجه نيكولو وخمسة في الخلف ثم مرتان أمامه.
"هل حضرتك فرنسي؟" مرر نيكولو يده على الغبار المتجمع على حافة الباب ولم يمنع نفسه من النظر لأغلفة الطعام الملقية أسفل مقعده، لقد كان من الواضح أنه يعيش في سيارته.
"وي وي، كيف علمت بهذا؟"
"خمنت فحسب"
"يا لهذا الحظ الذي جمعته يا سنيور، ثري وذكي" دس الميسو يده في قميصه يبحث عن شيء ولم ينتبه على يده التي جذبت المقود للجانب الآخر فارتفع صوت مزمار سيارة واشتدت انارتها ولما رأى نيكولو انه لا نفع من الصياح به جذب الموقد بقوة كي يبتعدا عن طريق السيارة القادمة.
"ها هي قد عثرت عليها! سنيور امسك المقود من فضلك بينما ابحث عن الولاعة" حينها ترك الميسيو المقود تماما كي يشعل سيجارته بينما نيكولو يقود بتركيز مفرط بسبب الماسحات التي لا يسعها التوقف.
"تريد واحدة؟" عرض الرجل سيجارة فرد نيكولو ساخرا "أمسكها لي بينما أقود"
"لما لا" وعينا نيكولو اتسعت لما دس الرجل السيجارة بين شفتيه ثم سحبها كي ينفث نيكولو دخانها "عجيب أمرك، لا تفوح منك رائحة كحول ودماغك في الأعالِ يسرح ويمرح" قهقه الرجل على سخريته ثم اخذ منه المقود كي يكمل فهو يخشى ترك سيارته الحبيبة في عهدة غيره.
"حسنا، لم يخيل لي من النظر لمظهرك الأنيق أنك رجل تقصد هكذا أماكن" علق الرجل متعجبا من الحي ذو السمعة الفاجرة حيث توقف واكمل "وإني قادر على رهن سيارتي مقابل ليلة واحدة هنا" والعرض هذا رفع من حاجبي نيكولو الذي دنى بظهره وأطل برأسه عبر النافذة يعرض عليه "لو حققتها لك أنت لن تعود في كلامك؟"
"إنها لك لهذه الليلة إذا، فأعدها لي غدا"
حصل المسيو على جوابه عندما لحق بنيكولو، ذاك الذي ارتدى تعابير العمل على وجهه، وهيئتة كانت واضحة عبر النوافذ أثناء تسلقه السلالم بينما هو في حذائه. وذلك البناء الذي ولج إليه نيكولو لم يكن حسن السمعة، فحاله من حال هذه المنطقة التي لم تكن قذرة فقط بسبب نظام المجاري وإنما بمن يسيرون متجولين فيها، ولأن برد الشتاء قارص في الخارج كان الفساد منتشرا في أروقة النزل الذي لطخت جدرانه بالدماء وافرازات أخرى مندفعة عبر الفم كالقيء.
ولو كان الجو بديعا لقضوا نشاطاتهم في الأزقة.
كانت وجهة نيكولو واضحة فلقد قدم تهديدا صريحا للموظف في الاستقبال باسم عائلته الدموية، فوهبه الموظف مفتاح حجرة ساعي البريد على الفور، بالطبع هو فعلها عن طيب خاطر، ليس وكأن نيكولو غرز سكينا في يده التي رفضت فتح السجل ثم تركه الجلاد تحت المكتب يلفظ أنفاسه الأخيرة والدم يتدفق بغزارة وطيش من عنقه.
بعض غرف النزل كانت مفتوحة فوهبت للعابر نظرة واضحة عن الفحش الذي بداخلها والتي لم تجد زبونا وقفت في الخارج وعلى بدنها اللا شيء، في انتظار أن يدخل عليها أحد. لم تكن الطيبة تعلوهن، ليس والسجائر ذات الرائحة المذهبة للعقل بين اصابعهن يقمن بتدخينها بترف وانتشاء.
أعينهن المفترسة لحقت بنيكولو اثناء مروره وذلك الفرنسي لم يقاوم اكثر فمع أول امرأة جذبته من معطفه اختفت هيئته من خلف نيكولو.
تسلق نيكولو آخر سلمتين نحو الطابق الرابع حيث استقر بصره على امرأة تدخن بانتشاء ولم يزدها اقتراب نيكولو إلا فرحة فانتقت افضل تعليق تملكه عسى ولعل أن تجذب اهتمامه فيتوغل بين ساقيها الليلة "تبدوا كمن يهوى ركوب الخيل، ما رأيك بجولة؟"
"أين هذه الغرفة؟" رفع المفتاح برسمية بحتة أمام بصرها، لتدرك الهانم أن هذا القابع أمامها ليس رجلا عاديا بل آخر مميز، ذو منصب. فمن غيرهم قد يبحث عن ذلك المختل ساعي البريد، لذا ودون مماطلة أشارت بحاجبها نحو اليمين.
عزم نيكولو على التحرك لكنها اعترضت طريقه، فالحمقاء وحدها من تفوت فرصة دس يديها في جيوب ثري مثله "ماذا عن جولتنا؟" كشفت عن صف أسنانها "إني احتفظ بكرباج إن كنت مهتما بترويض الجياد" تقربت منه كي تبهره بالمزيد لكنه رحل بالفعل نحو وجهته.
ولأنه رجل ذو مبدأ قام بالطرق ثلاث مرات قبل أن يدير المفتاح في القفل كاشفا عن حال الغرفة المظلمة، لا نور فيها سوى المصباح المجاور للسرير. أوصد نيكولو الباب خلفه جيدا ونزع عنه معطفه، فقام بطيه ووضعه على ذراع الكرسي. مشى بخطى لا وقع يسمع لها بحثا عن ساعي البريد الذي نده بعلو صوته بالفعل "فينينسا، يا وجه الشيطان لما تأخرت؟َ! تعالي ونظفي ها هنا فأظن أني تغوطت في سروالي"
لم يخفي نيكولو انبهاره أبدا بما سمعه للتو ولأجل الاحتفال هو تأكد من مروره على المطبخ قبل أن يستقر واقفا أمام الحمام، حيث ساعي البريد مستلقي في الحوض الخالي من المياه بثياب متسخة وعقل محلق في أعالي السماء.
حملق ساعي البريد لبرهة بضيفه فقهقه لظنه أن فينيسا تعاطت عقاقير فتحولت لرجل وسيم لكن السكين التي غرزت في فخذه على حين غرة اسقطت عقله من الأعال واعادته لجمجمته فصاح الساعي فزعا باسم نيكولو، لكن لا الصيحة ولا الرجاء نفع لاحقا معه، فعرض عليه المساعدة قبل أن يهوى بسكينه مجددا في بطنه.
وشى الساعي باسم السنيور باتشيني دون التفكير مرتين، فهو ما كان قادرا على تحمل الوجع من أجل شيطان مثل ذاك ولما اعتدل نيكولو من فوقه تنهد الصعداء فعلى الأقل هو سيتدبر أمر جرح لعين واحد.
"أخبرني هل صرَخت بشدة؟"
"م.. ماذا؟"
حاول الساعي استيعاب ما قيل له لكن صيحته علت باللحظة التي ثقبت تلك السكينة الحادة ركبته المثنية "لقد سألتك هل صرخت بشدة؟ هل شعرت بألم؟" كرر نيكولو سؤاله وبقبضته المنبسطة ضرب على السكين كي يدسها اعمق ثم نزعها وفي جانب ركبته عاود غرزها "عن ابنتي اسأل"
ضرب ساعي البريد رأسه في الحوض يرغب بنهاية لدوامة الوجع لكن نيكولو استمر "لقد مُزِقت أنسجتها من الأسفل، هذا ما قيل في التقرير الجنائي" رفع نيكولو حاجبيه قبل أن ينزع السكين وغرزه هذه المرة في المنطقة التي لا ترى الشمس بالعادة.
"ماذا عن ابني الذي ثقبت رئته، صدقني لقد أتيت للشخص الخطأ، في المرة القادمة التي يسألك فيها أحد العبث معي، فكر مرتين، هذا إن تسنى لك الوقت للتفكير مجددا" أدار السكين في مكانها والرجل من شدة وجعه ما عاد يعرف بأي نوع من أنواع الأسف يتلفظ، لكن تلك ال-آسف- هي التي جعلت من اعصاب نيكولو تفور فجر السكين بعنف من ذكورته المشوهة نحو ركبته ليصنع طريقا تدفق الدم منه وتطاير ملوثا الحائط وساعي البريد في هذه اللحظة لم يمتلك روح محارب ففرت الروح من فتحتي منخاره.
موته لم يطفئ يأس نيكولو الذي نزع قناع عمله ليكشف أخيرا عن وجه أب موجوع على خسارته، فرفع سكينه عاليا وأنزلها كي يقطع ويمزق من الجلد ما آتى في طريقه بحثا عن انتقامه إلى أن توقف لاهثا وتأمل ما صنعه من لوحة فنية، لكنها لم تكن قادرة أيضا على اسكات المسخ بالمزمجر داخله. لقد أراد اعادته للحياة كي يقتله مجددا ومجددا...
ارتجفت أطرافه من شدة غضبه فزمجر وضرب على الحوض لكن هذا كله لم يعد له ولداه، لم يمحوا عنهما ما ذاقاه من وجع فقطب حاجبيه بيأٍس.
لقد كان مستعدا للتضحية بنفسه إن قال احدهم أن دمه قادر على اعادتهما. لورينزو لم يكن على صواب في حديثه، فنيكولو أدرك كم هو عاجز بمعنى الكلمة ولو لم تكن زوجته في مأزق للازم الحداد طوال حياته لكنها على قيد الحياة ربما وبالتأكيد هو عليه اعادتها.
لفظ أنفاسه ثم نهض من على البلاط والشحوب لم يفارقه. أدار الصنبور كي تتدفق المياه الساخنة عبر الأنابيب القديمة وتهبط عليه فيستحم بعد أن تعرى من ثيابه. استنشق رائحة غسول الشعر قبل وضعه ثم باللوفة الوفيرة بالرغوة دعك جلده غير آبه بالجثة الممزقة واحشائها المتدلية عبر الحوض. وكأي رجل مدني لم يرتكب جريمة في حياته، التقط منشفة وقصد غرفة النوم كي ينتقي ثيابا نظيفة.
فارتدى بنطالا أسود ولم يعثر على قميص بل كنزة وهو لم يكن ليرتدي سوى الأسود فهم بارتدائها أمام الباب الذي فُتح من قبل فينيسا تشتكي من برودة الطقس في الخارج.
تسمرت المرأة في مكانها أمام الجذع العاري المبني بصلابة عكس جذع ساعي البريد وباللحظة التي أخرج نيكولو رأسه من فتحة العنق الضيقة هي صاحت مرعوبة كمن رأت حاصد الأرواح قد أتى لزيارتها.


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة