illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تبخروا زوجتي؛ الفصل السادس والعشرون




ألقى ريكاردو نظرة لفيفيان عبر النافذة، جالسة على الأريكة وسط الأقارب تتجاذب أطراف الحديث وابتسامة هادئة تعلو محياها، لم تكشف عن اسنانها ولم تكن متهكمة الوجه، لقد كانت توحي له بثبات شديد وتمكُن، كما لو أنه هو الوحيد المتخبط من الخاتم الجديد في اصبعه فاصيب ريكو بالحيرة، هل هي ثقيلة الظل كامرأة عجوز أم انها ليست بالاجتماعية إطلاقا؟

عاد باهتمامه لأقاربه الذين قاربوه سنا لكنه تأخر فالكرة لطمت وجنته بالفعل، أراد التذمر لكنه المذنب فمن يفقد انتباهه وسط شوط حماسي من كرة القدم وعن ثياب أبيه التي كانت في يوم نظيفة؟ لابد أن نيكولو سيقتلع شعره حالما تصله سترته وفيها ثقب في الظهر.

ركض ريكو خلف الكرة وهواجسه ركضت خلفه فقادته نحو الزلل مرات عدة، إلى أن صاح به فريقه وأجلسوه في مقاعد الاحتياط، حيث يمكث ولد صغير والحماس يعلوه، منتظرا متى سيحين دوره، فلقد اصر على اللعب معهم وهم وعدوه باستدعائه حالما ينقص عددهم.

قفز الولد من مقعده مستعدا للعب وريكو عاد برأسه يتأمل فيفيان التي باتت بعيدة عن مرمى بصره هذه المرة. تدفق الحماس في أوردة الفتية وارتفع وقع هتافهم إلا أن تحليق الكرة بعيدا احبطهم ومهمة احضارها وقعت على عاتق ريكو، فمضى مجتازا الشجيرات نحو البستان.

"كان علي جلب مصباح معي" زفر بضيق بينما يحاول قدر المستطاع الاستعانة باضاءة حديقة المنزل، لكنه كلما ابتعد كلما خفت الضوء، فوقف مكتوف اليدين حائرا وسط محاصيل القرنبيط. مر نسيم الخريف باردا لبشرته وبرفقته كنس أوراق الشجر اليابسة. رفع ريكو بصره للأعلى نحو أعشاش الغربان في الأغصان العارية، يشاهد الغيوم تعدوا محذرة بهطول المطر فالتفت كي يعود أدراجه لولا سماعه صوتا مناديا "ريكاردو!"

تعجب ريكو من كونها فايوليت آتية من عمق الغابة حيث الأشجار خلف البستان كثيفة وبحوزتها مصباح فسألها "فايلويت؟ ما الذي تفعلينه هناك وحدك؟"

زمت فايوليت شفتيها لوهلة تفكر، فألقت نظرة للمنزل المكتض خلفه ثم له وقالت بارتباك "كنت ابحث عن قلادتي، اضعتها لما كنت اتنزه مع الفتيات"

"وجدتها؟"

"إني خائفة ولم أجرؤ على البحث كثيرا"

"أترغبين بعينين اضافية؟"

"بالطبع" أشرق وجهها حالما احست باقتراب فرصة لها معه "سأكون ممتنة" وهكذا مضى كلاهما نحو الغابة وريكو لم يشعر بالمسافة التي قاما بقطعها ففاه فايلويت لم يتوقف عن الثرثرة، تارة تحكي له عن سخافة أقاربهما وتارة عن توترها فأختها ستغادر كي تكمل دراستها ثم سألته وعيناها لمعت بفضول "هل تحب المرأة المتعلمة ريكو؟"

"لا أدري، لم أجرب واحدة كي أخبرك" توقف ريكو عن المضي قدما ورفع المصباح نحو الظلام أمامهما "لا أظن أنك والفتيات ابتعدتن اكثر من هذا، هيا لنعد فلربما فوتناها ونحن غير منتبهين" ثم أوصى فايوليت أن تولي مهمة البحث اهتماما اكثر وهي زفرت بضجر. راقبت هيئته من الخلف فسارت على مقربة منه ثم تقصدت التعثر لتقع عليه وتشبثت بمعضده.

"حمقاء" وبخها لأن صيحتها أرعبته "انظري أمامك جيدا"

"أهذا ما تقوله لامرأة آذت كاحلها؟"

"امرأة؟ إنك فتاة حمقاء اكثر من كونك امرأة"

مطت فايوليت شفتيها بغيض من هذا البغيض الذي لا يحادثها كسنيورة ناضجة أبدا، فسلكت طريق حيلة مبتذلة وأدعت أنها غير قادرة على المشي كي يحملها. فعزم ريكو على حملها لكن على ظهره، حينها ضربته فايوليت مشتكية من بلادته. لقد علمت أنها لن تحضى بالمزيد وأنها محظوظة بالفعل كونها أوصلته لهذا الحد فرضيت بالموجود وغرزت اصابعها في قميصه متنعمة بالفتات.

أراحت وجنتها على كتفه وأهدابها رفت بسكينة فلاطفت بشرة عنقه، تنهدت فايوليت بقلة حيلة وعضت باطن شفتها بحسرة، فهذه ستكون الذروة والنهاية لهيئة ريكو في أحلامها لذا قدست كل لحظة وعاشتها بحواس يقظة.

فحاوطت عنقه بذراعيها ودفنت بدنها ضد ظهره، شاعرة بفقراته ضد معدتها وكتفاه ملاصقان صدرها. ابصرت فايوليت اقتراب أنوار الحديقة ورائحة القرنبيط ثقبت فتحتي منخارها، سمعت من مكانها صخب الصبية فعلمت أن رحلتها توقفت هنا حيث لا مزيد من الحب الأبتر خاصتها فهمست "ريكو، أنزلني هنا"

"ماذا عن قدمك؟"

"إني على ما يرام الآن"

تبسمت فايوليت واحتفظت بنبرته القلقة عليها في قلبها، كي تستمع إليه مجددا ريثما تعيد هذا المشهد السينمائي داخل عقلها قبل خلودها للنوم. ولأن فايوليت كانت منساقة خلف عاصفة من الخيبة قررت امتلاك لحظة أخيرة ستجعلها سعيدة لبقية عمرها فلا تشعر بالخسارة أمام فيفيان الحقيرة.

دفنت فايوليت وجهها في قوس عنقه العظيم وهناك طبعت قبلة حارة افصحت فيها بما يخالجها من وجع ويأس، حينها اتسعت عينا ريكو من الومضة الكهربائية في فقراته وعلى الفور قبل أن تتمادى اكثر أنزلها وتراجع عنها مرعوبا مما اقدمت على فعله.

"فايوليت؟!"

لم تقوى فايوليت على النظر إليه كي ترى اشمئزازه منها فغطت فاهها بسرعة وولت هاربة، خائفة وفي نفس الوقت منتصرة، لكنه لم يكن سوى انتصارا سيسوقها لهاوية سحيقة من الحزن. وضع ريكو يده موضع قبلة فايوليت والصدمة لم تنزل من عليه إطلاقا فكيف لتلك الحمقاء أن تفعل شيئا مريبا كهذا. مريضة هي أم مهوسة؟ لربما تتابع مواضيع بالغين ففي سنها هذا شيء وارد. هكذا فكر ريكو قبل أن يعود لأقاربه ولم يخطر في باله أنه من الممكن أن يكون حبا خالصا له من فتاة يافعة.

كم كره في تلك الأمسية فعلة فايوليت فلقد زادت من ضيقه وما عاد قادرا على المكوث معها في نفس الغرفة حيث وضعت مائدة طعام طويلة. هو جلس متوسطا زوجته الجديدة ووالده نيكولو، الذي كان يشارك في الأحاديث العائلية لكن بأريحية مطلقة فزوجته ليست هنا. لقد تعذرت بسبب شعورها بالنعاس وكم كان نيكولو حينها مرتاحا ومرحبا بالفكرة.

فهو لا يعلم متى سيزل لسان احدهم ويحكي قصة دموية أمامها.

مضى الوقت على الأسرة وقد جمعتهم ألعاب كجولات الورق والملاحقة، فهذه من نشاطاتهم المفضلة وفي الختام كل اتجه نحو غرفته إلا ريكو، بقي في غرفة اللعب ممدا على الأريكة، يخشى مقابلة فيفيان في غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ.

"ريكو؟" ولج نيكولو وتنهد براحة عندما اصاب تخمينه "ما الذي تفعله هنا؟ هيا اذهب كي اخمد الأنوار"

"حبا بالله، انت لا يمكنك جلب عادتك المريضة هذه لهنا أيضا" زفر ريكو بضجر وعزم على التدخين لكن والده انتشل منه سيجارته ودسها في جيبه كي لا تكون خسارة ثم ساقه نحو غرفة جده حيث السنيورة فيفيان تنتظره. والفتى كلما اقتربا كلما وجد عذرا يتوسل به والده فيشفق عليه.

"أبي أشعر بالمغص"

"إنها الفراشات"

"رائحة فمي كريهة انظر"

"بل برائحة النعناع"

"أبي أظن أني ساصاب بالاسهال"

"يوجد حمام في غرفة جدك فتأكد من اقفال الباب خلفك كي لا ترعب الشابة"

"الرحمة! تمهل! على رسلك فلست حمارا لتسوقه هكذا"

أوقفه نيكولو أمام الباب وطبيعته الوسواسية غلبته، فقام باعادة ترتيب شعر ابنه وهندامه "أبي دعني أنم عندك الليلة" ترجاه في محاولة اقسم انها لن تكون الأخيرة.

"ريكاردو حذار أن يسمعك أحد فيجعل منك اضحوكة"

"انت لا يمكنك تخيل مقدار الرعب الذي اعيشه الآن!" همس بتوتر ورفع يديه المتعرقة، متشبثا بأبيه.

"انفض عنك هذا الرعب يا ولد" تنهد نيكولو فلم يخيل له في حياته أنه سيخوض هكذا نقاشا مع ابنه الأبله فكوب جانبي عنقه وحثه على النظر في عينيه كي يركز ولا ينتابه الذعر "تنفس براحة وخذ الأمر ببساطة فهي بالتأكيد قلقة أيضا، إنه لشعور شائع يراود الجميع، حتى أنا راودني ولا زال يراودني"

زم ريكو شفتيه حتى باتت خطا رفيعا وتجرع حلقه ريثما ينصت لنصائح والده العتيقة "قم بالثرثرة فانت تجيد ذلك وشغل اسطوانة ربما، ثم أدعوها لكأس أو كأسين ولست ملزما بفعل شيء، كما قلت، خذ الأمر ببساطة وتريث"

"أخذ الأمر ببساطة" أومئ ريكو يحث نفسه على تمالك اعصابه فودع والده لما جمع شجاعته ثم استدار كي يفتح الباب لكن تربية أبيه غلبته فقام بالنقر على الباب ثلاث مرات يعلمها بقدومه. شجاعته الذي بناها تبخرت بثواني عندما ولج للداخل فوجدها على الأريكة مستلقية كآلهة رومانية، تطالع كتابا من مكتبة جده مستقر على بطنها وساقها مثنية الركبة، مكشوفة الجلد عبر فتحة الرداء الأبيض الذي عقدته حول خصرها.

لا يمكنني أخذ الأمر ببساطة! صاح ريكو في داخله وشتم والده متذمرا؛ إنها لا تأخذ الأمر ببساطة!

وقف ريكو في مكانه متصنما عندما اعتدلت فيفيان من استلقائها ورحبت به كي يجلس إلى جوارها ويشاركها كأسا من نبيذ عتيق ابتاعه شقيقها لها من فرنسا "ألن تأتي؟" سألته وصوتها كان ودودا لا شماتة ولا سخرية فيه. في البداية تملكه الذعر من ياقة ردائها التي انزلقت من على كتفيها كاشفة عن علاقة ثوب نومها والذي كان مطرزا يخفي خلفه قطعا انثوية صلبة وناضجة.

تنبهت فيفيان عليه أين يبحلق مرعوبا، فعاودت تنظيم ردائها وربتت على جوارها كي يجالسها بلا خجل. أي نعم ريكو جلس كالخشبة المتيبسة، شكر فيفيان على الكأس وبينما هو يرتشف منه فزع من نهوضها وراقبها تسير نحو مسجل جده لتضع فيه اسطوانه "لقد تصفحت ذوق المرحوم وله الكثير مما أعجبني"

"آمل أننا نتشارك نفس الذوق في الموسيقى" أرته واحدة "ما رأيك بداليدا؟" ولما لم يرفض ريكو وضعتها فدارت الاسطوانة ودب وقع الموسيقى، حينها تنهد نيكولو الواقف خلف باب غرفة ابنه براحة فلقد ظن أن ريكو سيخرج إليه في أي لحظة مذعورا لذا هو عاد ادراجه لغرفته تاركا له ما يحتاج من خصوصية.

"فيفيان كنت افكر" عرض ريكو فجاة ويداه المتعرقة مسحها بقماش الأريكة "إني استمع"

"نحن بالطبع لسنا ملزمين بهذا وأظن أنك لا تستلطفيني كما أفعل لذا يمكننا اكمال حياتنا بشكل أفلاطوني كما يقولون"

"بشكل أفلاطوني؟" تقدمت نحوه وهو ازداد ارتباكه منها لدرجة أن كاد يضع مسافة لما جلست جواره "نعم، سمعت هذا المصطلح في المذياع وهو يعبر عن الحياة ذات الحدود الواضحة والاحترام المتبادل" تبسمت فيفيان لما وجدته يثرثر فلطم الشمال بالجنوب من سذاجته، ثم اسمعها رأيه السياسي فجأة عندما سألها عن رأيها بحالة الطقس، حينها وضعت فيفيان يدها برقة على عضده ونادت باسمه "ريكاردو"

"نعم؟" استدار برأسه إليها وهي ساعدته بإغلاق فمه، أن دنت بشفتيها إليه وعينا ريكو اتسعت على مصرعيها فهذه الليلة لن تمر عليه ببساطة كما وعده والده وفي صباح اليوم التالي هو أغلق باب الحجرة خلفه ومشى بتريث في البداية لكنه هرول في منتصف الطريق بحثا عن أبيه، كي يشكو إليه ويستفسر عن بعض التفاصيل التي لم يستوعبها وأهمها كان؛ هل فيفيان امرأة طبيعية؟

فوجد ريكو والده يتمشى وضد صدره إيماليانو كما يحب أن يدعوها، متشبثة بقميصه تشاهد الأحصنة القابعة في حُجرها "أبي!" صاح ريكو فجأة مما أفزع الفرس فعادت برأسها فورا للوراء ونيكولو عاد بابنته بضع خطوات أيضا فلا يطالها مكروه، التفت نحو ريكو المتعرق في يوم بارد كهذا فانتظر منه تبريرا عن سبب عجلته.

كاد ريكو أن ينطق لكنه في اللحظة الأخيرة قرر ابقاء أفعال فيفيان سرا كي يتدبر أمرها بنفسه وأعرض عن الحديث، حفظا لكرامته قبل كرامتها لذا عوضا عن هذا سأله عن صحته. أومئ نيكولو متفهما فشاطره من الحديث الكثير بينما يتجولان في المزرعة وإيماليانو كانت ثالثتهما لكن بيلا أتت بالفعل وبصحبتها فيفيان وأخوات نيكولو بذريتهن خرجن للتنزه.

فار دم ريكو لدرجة أن تجمع في وجهه لحظة رؤيته فيفيان، فجميع ما فعلته به عُرض كشريط سنمائي أمام عينيه لكنه حرص على عدم احراجها اطلاقا وجاورها في الخطى، إلى أن تطور الأمر بينهما متشابكي الأصابع وفي جيب معطف ريكو.

توقف نيكولو عن المشي مبصرا الغابة الموحشة أمامه حيث يقف هناك طيف طفولته البائسة، شاب مهزوز الكيان لم يحضى بفتات عائلة من التي قصتها عليه الأخت في الملجأ قط، ثم استدار نيكولو برأسه نحو البستان يتأمل أسرته تتمشى بين المزروعات. يثرثرون بصخب وكل تارة يقهقه أحدهم على إيماليانو التي صاحت مذعورة فركضت بساقين قصيرة لأمها خشية تلك الخنفساء السريعة في الخطى.

"إيماليانو، تعالي هنا" بسط نيكولو ذراعيه وكشف عن أسنانه لما كشفت له ابنته بدورها عن اسنانها وغيرت وجهتها لتعدو بخطوات مستعجلة نحوه، باسطة ذراعيها هي الأخرى. وقعت في حضنه وهو انتشلها ليرتفع بها عاليا ثم استقبل بيلا التي اتت لتستقر داخل ذراعه. تمنى نيكولو في هذه اللحظة لو تكون هذه صفحته الأخيرة وينهي الكاتب قصته عند هذا الحد، فالرحيل وقت ذروة السعادة، كان أمرا يتمناه كل من سلك ذات نهجه الدموي.

لكن كان على حياته أن تستمر مع عائلته بصحبة زوجته التي تمكنت أخيرا من الإخلاص إليه ووهبته المكانة التي طمع بها، فلقد اقسمت أنها ستكفر عن ذنبها العظيم، ليس بالحديث وإنما بالعمل، فأنخرطت في الأعمال الخيرية التي تلتزم بها العائلة تجاه المنطقة التي حنت أعناقها لدي كارلو وانقضت معهم خمس سنوات بحلوها ومرها.

تلك الأعوام لم تخلوا بالطبع من الخلافات العائلية ففي كل عام قابلتهم نقمة ثم تلتها نعمة، ففاليري التي ذهبت لتكمل مسيرتها التعليمية في ميلانو قد وجدت للحب أثرا هناك بسبب طالب كان يدرس معها علوم الرياضيات ثم شاءت الظروف أن استقرا في نفس المدرسة يمارسان مهنة التعليم وفي أروقتها قد عاشا من المكاتبات الكثير لكن فايوليت أبت أن تسلك نهج اختها لا في العلم ولا في العلاقات بل وضعت يدها بيد آل باتشينو الذي ينحدر دم والدها منهم ولفت حبالها حول عنق واحد منهم له مكانة، دون أن تدري أنها قد تشبهت بفيفيان من قبلها؛ وفيفيان تلك نالت طموحها. فأظافرها باحكام غرست في جلد ريكاردو.

فرغم سعي ريكو للخلاص من تلك العائلة لكن الأفعى خاصته والتي تعلم حبها، قد التفت حول عنقه مقنعة إياه بالتماسك واكمال الطريق خلف والده؛ الذي لم يتقاعد كما كان ينتظر، بل بقي في كرسيه جالسا يمارس مهنهته لكن مع اختلاف بسيط؛ ألا وهو ملازمة ريكاردو له، حتى بات سكينه يسبق سكين والده.

وتلك النشوة التي ومضت صدفة في جوف ريكو لما قتل أحدهم عن طريق الخطأ، باتت رغبة ملحة ثم شيئا فشيئا مع الممارسة المستمرة ما عادت يداه قادرة على الارتعاش، بل أمست شديدة الدقة ولم يعد يفصله عن منصب والده سوى القليل. وكم كان والده وزوجته فرحين به حينها، فلقد تمكنا أخيرا من ابادة الروح الباحثة عن الفضيلة بداخله.

وعن أخوات نيكولو فلم يتغير حالهن كثيرا وكارولين ذهبت لميلانو كي تصحب ابنتها في تجهيزات زفافها أما عن زوجها مارسيو توغل في أعمال أسرته مع شقيقه التوأم أنتونيو، إذ أن آل باتشينو قد مارسوا نوعا مرعبا وجديدا من التجارة، اكتسحت السوق رغما عن الجميع بفضل آل بالديني وتركت كل العصابات اللاتي لم تغير نهجها في وضع مخزي. لذا تسابقوا في مضمار قد نخر أساس الدولة وجعل فئات هائلة من المواطنين معلقين من أعناقهم.

وعن الفرد الأخير؛ بيلا ميرا، تلك التي كافحت نفسها الآثمة، في كل عام التحقت بمشروع خيري كي تخرس صوت ماتيو في جوفها، ففي العام الأول أشرفت على الأعمال الخيرية الخاصة بالمنطقة، وكان مجهودها مكثفا بالأخص في الشتاء كي تجهز صناديق غذائية وحطب يقي الأهالي شر البرد، لكن فيفيان سلبت هذا النشاط منها، وتمكنت من اقناع نيكولو بحجة أن سنيورة ما قد شكرت بيلا على أطاحة نيكولو بتاجر لأجلها ورط ابنها بالممنوعات.

منع نيكولو بيلا من المشاركة مع اخواته في أعمال العائلة الخيرية بطريقة غير مباشرة بعد ذلك الحادث الغير سار وعرض عليها المشاركة في الخبز من المنزل لا في التوزيع من داخل القصابة.

وقلق نيكولو على زوجته وابنته كان ناتجا من التيار الجديد الصاعد، ففي كل تجارة جديدة تكتسح السوق السوداء، يتمادى أفراد العصابات، يعصي أحدهم الآخر فتفيض الدماء بينهم في الشوارع وكثير من الأبرياء يتساقطون، مما يجعل طلبات توكيل نيكولو كثيرة بشكل هو لم يطقه، ففي العديد من الأحيان اضطر للتخلف عن المنزل وحرمان ذاته لذة التنعم بفراش وفير ووسادة تريح عنقه المتيبس.

وخلال تلك المدة الشاقة على بيلا من الوحدة بعد مغادرة صديقتها المفضلة فاليري، تقاطع طريق بيلا بطريق امرأة صهباء الشعر فرنسية الجذور، فرت من زوج قاسي لم يذقها سوى الألم كما أدعت وبحكم أنها لن تعود أبدا لدارها آوتها بيلا بضعة أيام اثناء سفر نيكولو ثم في يوم عودته؛ أصرت السنيورة على إيجاد مسكن آخر. ولقائهما هذا حدث بعد شهرين من زواج ريكاردو.

بيلا بقلبها المرهف لم تدعها بمفردها آنذاك فترجت زوجها أن يوفر لها شقة من الشقق التي تحت ملكه ففعل، ولأن زوجته أصرت على فعل الخير لم يطالبها نيكولو بدفع الإيجار طوال عام كامل إلى أن تمكنت من توفير ما تستطيع من النقود في العمل في متجر بيلا للخياطة بعد أن تركت العمل في متجر تصفيف الشعر. حالما وقفت على قدميها لم تضيع الفرصة بالانتقال فلقد احست السنيورة بالريبة من نيكولو الذي بدأ ينبش عنها.

ومشروع ذلك المتجر بدأت به بيلا موسعة نشاطها الخيري كي يأخذ واقعا مؤثرا في حياة الآخرين ولم تراودها هذه الفكرة إلا بعد رؤيتها كابوسا عن ماتيو يفلق رأسها بفأس، فافتحت متجرا كي يسترزق منه المحتاجون لعمل فيعينوا عائلاتهم، لكن الانهيار النفسي غلبها لما سقط جنينها بفضل حادث اصابها في المتجر فبقيت بالاسم مالكته ووظفت فيه أرملتين وثلاث فتيات احتجن للمال بالاضافة لصديقتها الجديدة.

توطدت العلاقة بين السيدتين طوال تلك الأعوام الخمسة وجاورت تلك السنيورة المدعوة بفانيسا بيلا في السراء والضراء، ومن شدة حب بيلا لها قررت أن تجعلها الوالدة الروحية لثاني مولود تحصل عليه لكن في كل مرة تبرز بطن بيلا وتقترب أشهر وضع مولودها، ينزل الدم من بين ساقيها معلنا عن سقوطه.

ابتلع بيلا حزن عظيم وقتها وقد زال من قلبها امتنانها الشديد لنيكولو بسبب انشغاله المستمر عنها وعن قلبها الذي يحتضر، لكن الطامة الكبرى صعقتها في عامها الرابع عندما لزمها وجع شديد اثناء جلوسها في منزلها طرحها أرضا وابنتها آنا ماريا لم يكن بوسعها فعل شيء سوى نزول السلالم وضرب باب عماتها مذعورة لكن أحدا منهن لم يكن موجودا، فساق الرب لها صديقتها العزيزة فينيسا، التي اسقطت مستلزمات التطريز أرضا باللحظة التي رأت فيها بيلا على الأرض ملقية والدماء لوثت فخذيها.

كانت تلك ليلة عصيبة على بيلا ولولا رحمة الرب التي نزلت عليها لكانت كما اخبرها الطبيب في تابوتها تساق لقبرها، انهارت بيلا باكية حالما استعادت رشدها ولم تعلم صوفيا والأخوات بخبر انتكاسها إلا بعد عودتها لشقتها الفارغة فلا زوجها ولا ابنه عادا من سفرهما.

من بعد ذلك الحادث لم تشعر بيلا تجاه نيكولو سوى بالنفور وفينيسا من كانت تنفخ في لهيب روحها، تأجج النار بعبارات امرأة ذاقت قسوة الرجال. أي نعم حاول نيكولو مراضاتها وباللحظة التي كادت أن ترضى عليه خيب أملها مجددا بسبب سفره.

حينها أيقنت بيلا أنه لا يوجد من يجاورها سوى فينيسا وكتمت سمعها وبصرها عن أي ريب من الممكن أن يراودها عن تلك المرأة ولم ترى في إلحاح نيكولو على لقاء صديقتها سوى انذار خطر. فدفعته عنها واحتفظت بها متشبثة.

"لقد ضبطته يا بيلا فصدقيني، كشفته يدخل متجر الخياطة خاصتك ليلا وفي تلك الأثناء الأرملة غلوريا كانت هناك، توسلتني امس أن أعطيها المفتاح كي تفرغ من الثوب الذي ستأتي مالكته ولم أعرف أنها ستختلي به، آه كم كنت ساذجة"

حكت فينيسا لصديقتها بيلا التي مشت بخطى باطشة نحو متجرها في ساعة مبكرة من الصباح ودفعت الباب دون أن تأبه لأمر الجرس الذي قلع من مكانه، توجهت نحو الأرملة غلوريا التي استعدت للترحيب بها لكن عوضا عن عبارة صباح الخير سنيورة علا وقع صياحها اثناء جرجرة بيلا لها من شعرها لخارج متجرها. وبتهديد شديد اللهجة حذرتها بيلا من الظهور أمامها مرة أخرى، ملقبة إياها بالعاهرة التي تلتف حول الرجال.

"رباه بيلا! لما لم تتريثي؟! لم أحكِ لك هذا كي تقسي عليها، هي لا تملك أحدا وهذا مصدر رزقها الوحيد"

"ما عدت أبالي بأمرها، فلتجد رزقا غير هذا، ملعونة هي إن على فعلتها أطعمتها فقامت بعضي!" ثم استدارت بكاحلها نحو الأخيرة التي لم تطردها بعد خلال هذا العام وبصيحة امرأة فاقدة لعقلها قامت بطردها ثم أفرغت ما بقي من غضبها بهذا المتجر، الذي رفعت بنيانه بأموال نيكولو، ذلك الشيطان الخائن كما لقبته.

خلال الأعوام الماضية شعرت بيلا في أعذاره وغيابه المستمر ريبة لا تكاد تخفى عن أحد وأي حجة تملكُ بيلا غير الخيانة؟ الإجرام لم يكن مدرجا في حساباتها، ثم كيف لها ألا تلومه بالخيانة وهي ذنب هين يقدر المرء على ارتكابه في ساعات معدودة ثم يخفي أثر فعلته، ألم توفق هي في فعل هذا مع ماتيو؟ ألم تتمكن من اخفاء فضيحتها والاستمرار في حياتها دون أن يكشفها أحد؟ فما المانع من أن يفعلها نيكولو أيضا وهو وغد محترف في التمثيل، لقد شهدت بيلا في جنازة ماتيو على براعة زوجها في اخفاء القصص وهذا ما أرعبها وجعل الشك لا يكف عن نهش روحها.

الكذب والخيانة؛ كانتا صفتين حاولت بيلا تطهير روحها منهما بأعمال ترضي الرب إلا أن البقعة لم يزل أثرها وكلما اعطت أذُنها لوساوسها، كلما عاد للكذب والخيانة وقع شديد في حياتها، لكن خوفها ليس من ارتكابهما بل من أن يستغفلها الآخرون ويقوموا بالكذب عليها وخيانة ثقتها.

بالطبع هرعت الموظفتان في تلك الصباحية لمتجر القصابة، تشكيان مصيبتهما للسنيور دي كارلو، فقابلتاه في مكتبه وغلوريا ذرفت من الدموع الكثير، تلومه على مروره عليها ليلة أمس كي يسألها بضع اسئلة عن فينيسا تلك.

لم يجد نيكولو حلا سوى تعويضهما ماديا ومعنويا وبعد رحيلهما، سمع تعليقا ساخرا من ريكاردو على المعضلة التي يمر بها مع زوجته الثائرة والتي في الآونة الأخيرة لا تكف عن طرد الموظفات من متجرها بحجة أنهن يتوددن له، ثم تسأله لاحقا أن يعثر لها على المزيد.

"يبدوا أن خطواتك ما عادت مخفية للسنيورة"

"كيف لها اكتشاف زيارتي لغلوريا، هي تملك عينا واشية تراقبني بالتأكيد"

"أو ربما العيشة معك حسنت من حدسها، إنك مُعدي يا سنيور فلا تلمها"

"أغرب عن وجهي فلا طاقة لي بك"

"سأفعل بالتأكيد وسأدعك تفكر بطريقة للسيطرة على تلك النقمة التي احضرتها"

زفر نيكولو بضيق من حديث ريكو السخيف إلا أنه كان محقا، ففي الآونة الأخيرة عاد الندم ليراود خلده على زواجه من واحدة مثلها، غير قادرة على الثبات بدونه بل وتعيث الخراب حيثما تذهب اثناء انشغاله ثم تلقي باللوم عليه، عكس زوجة ابنه فيفيان؛ التي كانت قادرة على تدبر أمرها وإدارة شؤون أعماله، لدرجة أن توغلت في العمل وباتت تشاركهما الجلوس في المكتب اثناء النقاش، لقد كانت شغوفة بالكرسي وهذا الطمع في عينيها ظمن لنيكولو أن ابنه في آمان معها.

فكر نيكولو بزوجته وخلق بيلا الضاري هذا لم يطفوا للسطح إلا بعد تعرفها على تلك المدعوة بفينيسا؛ وقد استنتج نيكولو هذا في آخر مرة نطقت اسم صديقتها اثناء صياحها به. مدعية أن فينيسا اخبرتها بأنه سيكشف عن وجهه الخائن قريبا، وهذا لأنه طبعٌ قذر يولد به جميع الرجال الدمويين.

الشيطان إلى جانبها؛ ليلعنها الرب على تنغيص عيشته. هكذا فكر نيكولو وتمنى.

جادل نيكولو بيلا في تلك الليلة ولم يشأ أن يشب بينهما جدال، لكن السنيورة لم تكف عن التصعيد حتى استنزفت آخر خلية عصبية عنده فزجرها، صاح بها ووبخها توبيخا شديد اللهجة أحدث القطيعة بينهما لكن لأجل إيماليانو التي عثر عليها في سريرها تجهش في البكاء بسببهما. قرر نيكولو العودة في كلامه ومحادثة بيلا حديثا مدنيا ثم عرض عليها السفر لملاقاة أسرتها فبالتأكيد هي اشتاقت لأمها وبيلا حالما سمعت اسم امها لم ترفض.

تلك الرحلة أعادت لحياتهما لونا وكيف لا يعود اللون وإيماليانو قهقهت بعلو صوتها بفضل خالها آدم وأسرتها التي تقطن جيونكاريكو؛ حينها عاودت ذراعا بيلا الالتفاف حول عنق نيكولو وتشاركا قبلات حارة في سطح النزل بعد خوضها مبارة تنس ضارية.

عادت بيلا بوجه مسرور لروما وكما خمن نيكولو لم ينقلب خُلق زوجته لاحقا إلا بعد عودتها لمصاحبة فينيسا، تلك المرأة التي اثارت غضبه. أخت الشيطان! هكذا وصفها نيكولو في رأسه فلقد راقبها وتتبع أثرها لكن لم يجد فيها شبهة تبرر له قتلها وكم تمنى لو يجد فيها زلة كي يقوم بنحر عنقها ويمحو أثرها البغيض عن حياته وحياة زوجته.

ففي كل مرة ذكر نيكولو لزوجته أنها باتت مزعجة لا تطاق بسبب صديقتها الملعونة، دافعت بيلا عنها بشدة إلى أن وفي صباحية من صباحيات شهر ديسمبر، حادثته بيلا بخصوص اكمال آنا ماريا مدرستها لكن نيكولو رفض، فالرجل الذي وظفه نيكولو لمرافقة ابنته غلبه المرض فتوفي وإلى الآن لم يجد آخر يحل محله.

"نيكولو إني قادرة على مرافقتها"

"لديك المتجر بيلا وستنشغلين عنها ثم إنك حامل لا يجب عليك التهور، أم نسيتِ حديث الطبيب؟" لم يرد نيكولو ابلاغها أبدا أنها لا تجيد حمل سلاح تدافع فيه عن نفسها وعن ابنتها في مثل شوارع روما الخطيرة.

"انتم الرجال حقا لا تطاقون" ضربت بيلا على المائدة "لا ثقة لكم بالمرأة إطلاقا! تظن أني سأغفل عنها؟ ويحك على هكذا فكرة فهي ابنتي العزيزة وحبي لها يفوق حبك" ثارت بيلا ونيكولو زفر بضيق فتذمر ملقيا جريدته على المائدة "آه من هذه النبرة التي لا أطيق! انتم الرجال وانتم الرجال، انها لا تسقط من لسانك وليكن بعلمك انها لا تروقني البتة، ألا ترين أني خائف عليك وعلى الفتاة؟ ثم لا تضعي حبي لإيماليانو قياسا فهو لا قياس له!"

ارادت الخوض في جدال لكنها ضبطت مكابحها فساعة استيقاظ ابنتها اقتربت وهي لا تريدها ان تعرف عما يدور بينهما من خلاف "نيكولو إن طلبي بسيط فلا تعقد الأمر، إنك حقا كما تقول فينيسا لا تطاق في كثير من الأحيان. اسمعني سأوصلها صباحا وعن المتجر فالمفتاح سأتركه عند فينيسا هي موافقة بل ومأيدة للفكرة. إنه أمر سهل ويفعله جميع الآباء"

"فينيسا، فينيسا، فينيسا" كرر نيكولو بضجر اسم تلك المرأة ثم اشتدت نبرته "فلتبصق عليها السماء اخت الشيطان تلك!" ثم جمع اصابعه فوق المنضدة وصنع ابتسامة صفراء "لك مني اقتراح أفضل، لما لا تسألينها بالمرة عن الموعد المثالي كي نجتمع في الفراش مجددا؟" وبيلا عضت على لسانها فهذا موضوع هي سألت فينيسا عنه بالفعل طالبة منها المشورة "لا تظلم المرأة نيكولو!"

"أنا لا ألوم تلك الموبوئة بالطاعون بل ألومك انتِ لأنك تعطين لها أذنا" وكان نقاشهما طويلا لدرجة أن استمر بضعة أيام حتى حصلت بيلا على الموافقة ورافقت ابنتها آنا ماريا للمدرسة كل صباح ومساء كأي أم عادية عوضا عن توكيل حارس بهذه المهمة السخيفة.

بعد مضي شهر وتحديدا في السادس عشر من كانون الثاني، تركت بيلا ابنتها في المدرسة ثم أطلت على المتجر تبلغهم بعدم حضورها اليوم فطلبت من فينيسا أن تديره في غيابها "بيلا، لما لن تحضري؟ عساه خيرا؟ تشعرين بالمرض؟"

"على الإطلاق، اليوم ميلاد نيكولو ولن أدعه يمر مرور الكرام كالعام الماضي والذي سبقه" استذكرت بيلا ذلك الوقت السيء وبحكم ما تكنه له قررت هذه المرة جعله يمر على خير، فهما يستحقان استراحة يستذكران فيها الوقت الذي احبا بعضهما باخلاص.

"ستحتفلين بيوم مولده والأسبوع الماضي رفض السنيور طلبك بتجديد الأرآئك في غرفة الجلوس؟ إنك تفسديه بهذه المعاملة هو يستحق خصاما لا حبا، يبتاع لزوجة ابنه ولا يبتاع لك" ذكرتها فينيسا بغلطات زوجها التي لا تغتفر.

شعرت بيلا بالاستياء يلازم صدرها ونبشت على حجة في جوفها كي تظهر فيه نيكولو مظهر الرجل الطيب "وعدني أننا سنغيره الشهر القادم، فالميزانية هذا الشهر لن تكفي، لازال لديه القسم الثاني من المؤونة الشتوية لم يتم توزيعها بعد"

"بيلا أحقا لا ترين مدى وقاحته وشحه عليكِ؟ ألم تخبريني عن الزفاف العظيم الذي صنعه لزوجة ابنه بل وخصص لهما غرفة أبيه الراحل في حين أنه لم يكلف نفسه شيئا لأجلك وقضيتما ليلتكما الأولى في القطار؟" ولما وجدت فينيسا في بيلا تعابير الخزي تشكلت اكملت النخر فيها تحثها على العصيان "لو كنت مكانك لخشيته يا بيل، انه يولي فيفيان تلك اهتماما مبالغا فيه"

"انها ابنته في القانون فينيسا" اعترضت بيلا مشمئزة من الفكرة.

"لكنها الآن مقاربة لسنكِ لما قام بالزواج منك فما المانع؟ هو بالنهاية ليس سوى مريض يبحث عن الصغيرات" عبارتها هذه جعلت من لون بيلا يذبل فبات شاحبا والهواجس نهشتها فهي محقة، ما المانع من أن يخونها مع فيفيان فالخيانة لا مبدأ لها. حينها قررت بيلا تغير الخطة ورضيت بعرض فينيسا أن تلقي بيوم ميلاد زوجها عرض الحائط وتذهب للتسوق برفقة صديقتها العزيزة، كي تبتاع لنفسها ما تشاء منتقمة من زوجها البخيل عليها لكن الكريم مع غيرها.

لم تشعر بيلا بالوقت وكم شغلها الزحام إلا حين عودتها لشقتها، صفت مشترياتها بحذر في الخزانة فلا يكتشف نيكولو مقدار ما استهلكته، إذ طلب منها هذا الشهر مراعاة الميزانية والسبب هو عمله الذي اسنزف منه الكثير. نزعت بيلا عنها ثيابها واستبدلتها بثوب أصفر يعلوه سترة خضراء منزلية من الصوف وفي قدميها زلقت زوج جوارب حمراء داكنة ثم انتعلت الخف وقصدت المطبخ.

عقدت بيلا المئزر حول خصرها كي تباشر بإعداد حساء سينسي آنا ماريا قسوة برد الشتاء، عيناها الحالمة بابنتها كانت متأملة ولم تفق إلا على بعض من الحساء اندلق من المغرفة على مئزرها مخلفا بقعة لن تزول ابدا ا "سحقا لن يروق لآنا ماري معرفة أن المئزر الذي تحبه ب.." رف جفنا بيلا فاتسعت عيناها على مصرعيها وهتفت مذعورة "آنا ماريا!" ألقت عن يدها المغرفة في القدر الذي فار الحساء فوق النار وهرعت مغادرة المنزل، غير آبهة بما تنتعله وما ترتديه.

ركضت ميرا بيلا ورئتها سحبت ما استطاعت من الهواء البارد كي تساير سرعة ركضها، اشتدت حمرة وجنتيها وأنفها اثر البرد ومن فوقها انهمرت حبات الثلج متراقصة مع النسيم وكل من مر من جانبها لم يستوعب كونها زوجة السنيور دي كارلو فظنوها امرأة فاقدة لعقلها. إذ أن شعرها المعقود نصفه قد فر من رباطه ومئزرها ملوث، بل ومن يخرج بخف منزلي؟

أرادت بيلا الوصول لابنتها قبل أن يكتشف أمرها نيكولو فيوبخها توبيخا شديدا وما خشيته لم يكن صياحه عليها بل خيبة أمله عندما تصله آنا ماريا بحقيبة مدرستها دون أمها لكن هل ستجد الطريق وحدها؟ بالتأكيد ستجد ابنتها طريق متجر الخياطة الخاص بها فلقد حرصت على تعليمها إياه في كل مرة أعادتها من المدرسة.

حتى أنها أوصتها بالذهاب إما إليه أو إلى قصابة أبيها إن اضاعت طريقها للمنزل في يوم. وصلت بيلا لمدرسة ابنتها وارتطمت بالبوابة جراء عدوها، تشبثت بالقضبان تهزها ولما لم تجد أثرا لا لمعلم ولا لطالب قاومت ذرف دموعها.

"سحقا، سحقا" ضربت على رأسها توبخ زلتها المريعة هذه وتلفتت حولها تسأل العابرين عن فتاة بمثل مواصفاتها قبل أن تقصد في عدوها أولا متجر الخياطة ثم قصابة نيكولو، لربما هي هناك عند والدها تحتسي حساءً دافئا فلورينزو لن يدعها جائعة.

مرت بيلا على متجر الخياطة ودفعت الباب منادية "آنا؟!" انتاب الرعب الخياطة المسنة فنهضت من مكانها ونزعت نظارتها "سنيورة دي كارلو انت على ما يرام؟" لم تبالي بيلا بسؤالها العجوز وصاحت "آنا، هل أتت آنا لهنا؟!"

"لا سنيورة نحن لم..." لم تنصت بيلا للباقي فمنذ أول حرف لام من كلمة لا صفعت بيلا الباب خلفها وقصدت القصابة هذه المرة غير آبهة بالموظفين في متجرها أطلوا برؤوسهم ليروا ما بال السنيورة. سأل بعض سكان المنطقة العابرين، الموظفين عن تلك المرأة واعترتهم الصدمة جراء اكتشافهم أنها زوجة السنيور دي كارلو.

وصل هذا الخبر لموظف يعمل تحت إمرة نيكولو صادف كونه يقوم بالتبضع لمنزله، حينها اسقط مشترياته وهب راكضا غير آبهة بالطماطم خلفه تتدحرج على الثلج، وكم انتابه الذعر لما تنبه لأمر غريب مشبوه يتربص بها في وضح النهار.

مرت هيئة بيلا الهلعة عبر زجاج متجر يقف فيه ريكو؛ الذي كان يفكر في أي جريدة سيبتاع وقد لفت اهتمامه تلك الجريدة التي تحوي بعضا من عارضات أزياء مشدودات القوام، ذوات تضاريس صلبة؛ يروجن لسلسلة من أثواب نوم قصيرة وتعلوهن عبارة -لما لا تجرب ادخال يدك؟-

تبسم ريكو للشيطان الذي وسوس في أذنيه وصور له تخيلات فدس الجريدة في جيب معطف الداخلي وعزم على دفع مبلغا لكن ذلك السنيور أطل على المتجر متشبثا بجانبي الباب "سنيور ريكاردو! سنيور ريكاردو!" نادى الرجل الثلاثيني وقبض على عضد ريكو يحثه على المجيء "بسرعة تحرك، فزوجة السنيور في حال يرثى لها!"

"ميرا؟" استنكر ريكاردو لكنه لم يطل التفكير وخرج من المتجر على الفور كي يلحق ببيلا ثم استعجل بالركض عندما اعترض طريق بيلا نحو قصابة أبيه رجل في التقاطع، كشف عن انبوب حديدي أخفاه أسفل معطفه، عازما على ضرب رأسها به "ميرا(!)"

اعترض ريكو نزول الأنبوب عليها بذراعه متجرعا ألالم، قاومه ريكو وجرها عن مرمى استطاعه ثم سدد لكمه لوجنة ذاك وكم تمنى لو أنه يسقط لكنه لم يفعل بل عاود الضرب فاصاب جانب معدة ريكو "ريكاردو!" تدخل السنيور وقبض على معصم بيلا يستحلفها أن تتبعه ففعلت وريكو تنفس الصعداء وتوعد ذلك الأجنبي بأنه سيبرحه ضربا.

ركضت بيلا مع السنيور ومن كل طريق اعترضهما اثنان ممن يرتدون ثيابا مماثلة لذاك المريب، مما أجبر السنيور على اخذ بيلا لطريق ضيق بين عمارتين وكل خلية في بدنه كانت تصلي أن يصل لقصابة السنيور قبلهم؛ لكن الرياح لا تجري بما تشتهيه السفن، فاعترض طريقهما رجل ضخم البنية طرح السنيور أرضا وترك بيلا تصيح بجزع.

كان رجلا مهول الحجم، عريض الاكتاف فسد عليها الطريق، هيئته ورائحة الموت التي تفوح منه، لم تجد بيلا سببا إطلاقا لعدم محاولة الفرار، فعزمت على ذلك لولا قبضته القاسية على معصمها، شهقت بيلا وترجته أن يطلق صراحها ثم قاومته أن ضربته بقبضتها على صدره بلا انقطاع "دعني! دعني أرجوك!"

"يا سنيورة لما تأتين معنا طواعية؟" حصل على قبضتها الحرة وجرها إليه.

"لما لا تتراجع انت عنها طواعية؟!" صاح ريكو من خلفها واثناء ركضه وثب على الحائط كي ترتفع قامته ثم نزل بالأنبوب المعدني في قبضته على رأس الرجل الذي تهاوى للخلف متراجعا. صعقت بيلا من صنيع ريكو الذي استمر باصابتها بأنواع الصدمات لما ضمها لصدره ولوح بيده لدرجة أن احتك الأنبوب بالحائط من ضيقه مصدرا قدحة قبل أن يهشم أذن الآخر والدماء تدفقت من فتحتي أنفه.

"ريكو من هذا؟!"

"لا أعرفه!" فضرب الثالث مرة على جانب بطنه والتالية كسر أنفه "ومن هذا؟!"

"صدقيني لا أعرف أيا من هؤلاء!"

لطم ريكو بقدمه رأس الرجل قوي البنية الذي كاد أن يستفيق من اغمائه ورفع زوجة أبيه بذراع كي تجتازه أولا فيكملا نحو قصابة أبيه، عزم على القفز خلفها لكن صوت طلق ناري جعل من اطرافه تتيبس وقبضته عليها تشتد، كادت أن تفر عينا بيلا من محجرها من اللون الأحمر الذي تفشى في قميص ريكو أسفل معطفه.

"ر...ر.."

همت بالعودة إليه لما وهنت قدما ريكو فما عاد قادرا على الوقوف واتكئ بكتفه ضد الحائط لكن يدا قاسية جذبت بيلا من شعرها تعيدها إليه. صاحت بيلا مناضلة للفرار وريكو صارع وجعه فهبطت يده كي تصل للمسدس خلف سترته فإذا ببدنه يتلقى رصاصة أخرى ثقبته مسقطة إياه أرضا.

"ريك..." لجم الرجل فمها بيده المغلفة بقماش قفاز أسود، تلوت بيلا وكم من مرة دنت بظهرها تحاربه بينما هو ملاصق لها ومستمتع لدرجة أن لعق شفتيه وقال في نبرته استمتاع ووعيد "كم أهوى المتوحشات فهن يجعلن مني صلبا، ولولا كوني ساعي بريد مشغول، لمزقت ما بين فخذيك هنا أمام ابنك في القانون" اشمئزت منه وبالطبع لم تنصاع مرتعبة بل قاومت بشرف حتى حضيت بحصة من التعنيف كسرة شوكة شجاعتها أمام ريكو العاجز ثم جرت على الأرض كالكلب الميت نحو صندوق خشبي كبير، اشبه بتابوت يقف حوله أربعة رجال يضعون قبعات متماثلة فوق رؤوسهم.

"لا، أرجوك لا تؤذني فأنا ح.." لكن الشفقة لم تجد طريقا له فما الذي قد تناله من الشيطان؟ قام بحشرها في الصندوق رغما عنها ثم انزل غطائه بقسوة على اصابعها المتشبثة بالحافة. صاحت بيلا متألمة وقاومت لكن استمر بانزاله كل مرة اقوى من سابقتها إلى ان استسلمت وضمت اصابعها الدامية لصدرها.

ابصرت بيلا الرجال فوقها حيث نور الظهيرة يسطع خلفهم "أرجوكم، أرجوكم ألا.." بصق الذي عليها ثم أنزله وأدار المفتاح في القفل، مستمتعا بمعزوفة امتزجت بصياحها الذي اطربه والرصاصات المتبادلة بين رجاله وساكني المنطقة.

كانت الغلبة لرجال من يدعوا نفسه ساعي بريد فأسقطوا الرجال الثلاثة الذين وقفوا في وجوههم والأهالي اختفوا خلف نوافذهم ومتاجرهم، لا يجرأ أحدهم على استراق النظر. تأمل ساعي البريد الخراب الذي احدثه وكم احب ملئ رئتيه برائحة بارود زكية.

"هل نذهب الآن سنيور؟"

"تريث فقدومه بات قريبا"

وكما خمن ساعي البريد انطلقت رصاصة لتثقب رأس الذي سأل، حينها تبسم صاحب القبعة كاشفا عن صف أسنان مصنوعة من الذهب "أدخلوا الصندوق للسيارة حالا!" ضرب على الصندوق قبل أن يدخل أولهم، تحرك رجاله بسرعة ثم قفزوا للداخل وكبيرهم لم يغلق الباب الخلفي  لسيارة  البريد أبدا بل تركه مفتوحا على مصرعيه، واقفا بتعالي وتكبر يشاهد نيكولو الثائر.

"ها هو بريدك يا جزار دي كارلو!" ألقى ساعي البريد بكل قوته كيس قمامة أسودا فحلق بالهواء نحو نيكولو؛ ذلك الجزار الذي أعماه الغضب فأشهر عن مسدسه وبخمس طلقات ثقب الكيس قبل أن يلقى على الأسفلت، علت ضحكات ساعي البريد من المتعة ويده استقرت على جبينه يتأمل المعتوه قبل أن يغيب عن نظره فالسيارة ابتعدت في الأفق.


ركض نيكولو عازما على لحاق السيارة لكن يد لورينزو احكمت على عضده يستوقفه هلعا "سنيور! سنيور توقف أرجوك!"


"دعني يا لورينزو كي أثقب له رأسه"

"لكنك يا سنيور ثقبت شيئا آخر"


أشار لورينزو على كيس القمامة الذي تفشى منه الدم ملوثا الثلج أسفله، لجم الرعب فؤاد نيكولو فهب مسرعا نحو الكيس وحل عقدته كي يرى من بداخله فإذا بالذعر ينتابه حتى كاد شعره أن يشيب. اصاب الرعاش اوصاله ويده على الفور لجمت فاهه لكن الوهن غلبه فانهار ولورينزو امسك به بجانبي كتفه يمنعه من لقاء الأرض الباردة...


تسارعت أنفاس نيكولو حتى انقلب ثورانه لنهيج ودفع لورينزو عنه "الجحيم..." تمتم لورينزو مذعورا ونيكولو انهار على ركبتيه جاثيا، دس يديه في الكيس ملتقطا ابنته  التي كان الدم يقطر يفيض من مواضع الرصاصات وبكلا يديه رفعها أمام بصره يتأملها مستنكرا ولسانه كان معقودا، يخشى تحقق مخاوفه. لكن الدم المتدفق من منتصف جبينها، ملطخا وجهها بالكامل وعنقها حتى ثوبها كان كالبرهان على حتمية وجود الجحيم...


لم يتحمل لورينزو الصدمة وأشاح بصره عن السنيور وابنته فكم من المذابح شهد، لكن هذه كانت أشدهن وحشية، اعتصر لورينزو على كتف سيده كي يقاوم وأنين ريكو الموجوع دفعه للهرب من سيده فيسعف ويعين من بقي على قيد الحياة. 

ركض لورينز نحو السنيور الصغير الذي كان في وضع مزري والتقط رأسه يضمه إليه، يحثه على التماسك حتى مجيء النجدة،  والنجدة أتت إليهم بالفعل على هيئة سيارات اسعاف  وبصحبتها اجتمعت سيارات شرطة، فباشر رجال الاسعاف بنقل المصابين بينما الشرطة تفشت تستجوب الأهالي عن المجزرة التي شهدوا عليها.

"سنيور، يا سنيور هل انت على ما يرام؟" توقف شرطي يافع أمام نيكولو يستجوبه "هناك مصابة بين ذراعيه فتعالوا فورا!" نادى على الإسعاف كي يستعجلوا بالمجي لهنا.

رمق نيكولو الشرطي من أسفل أهدابه ولم يجبه بل كان يخوض حربا داخل رأسه، انتهت بستارة تغشي على عينيه جاعلة منها براقة متلألئة إلى أن فاضت وانهمرت قطرات مالحة.

"بحوزته مسدس!"

"ارفع يديك حيث أراها!" هددته الشرطة لكن الآخر كان في عالم موازي لا يكف عن هز رأسه بأسى، فلم يقوى أبدا على استيعاب خسارته العظيمة. تجمهر أهالي المنطقة محتجين على تصرف الشرطة وصاح بعض الرجال المسنين بهم أن هذه الطفلة هي ابنته فشب بينهم خلاف لم يسمع نيكولو منه حرفا واحدا.

انعقد حاجبا نيكولو في البداية رافضا الواقع المر لكنهما انكسرا في النهاية عندما بتر أمله وأغمض عينيه سامحا لتعابيره أن تخوض ما ستخوضه من حداد على فؤاده الذي ذبح بوحشية وقطع لأشلاء. عانق نيكولو كيانها الصغير، مستنشقا عبق ابنته وقد كان طيفها الخالد في مخيلته يبادله العناق، تدعوه بأبي بأبهى صوت شجي تملكه "إيماليانو" عض نيكولو على شفته بقوة يكبت أنينه.  فتح عينيه الدامعة ولاطف جبينها بجبينه يتودد إليها متوسلا إياها أن تكف عن اللعب فتفتح عينيها وتحادثه.


"ميو كارو" لفظ نيكولو بصعوبة من الغصات العالقة في حنجرته "بابا هنا، بابا هنا إلى جوارك فلا تخافي، هيا افتحي عينيك" حادثها وشفتاه شقت طريقها ضد جبينها يلثمه بقبلات حانيه "بابا سينظف لك ثوبك ولن يبقى فيه بقعة، سأغسله وسأغسل عنك الوجع" 


عض شفته بقسوة وأغمض عيناه بأسى، كان بعيدا، بعيدا عن الشرطة الذين يتناقشون فوق رأسه بشأنه  زحف على قوائمه الثلاثة ودفع بيده ساق الشرطي ليجتازه كرجل مجنون ثم جمع بوهن من الكيس ساقيها وذراعيها الذين بتروا بوحشية عن جذعها، يحفظ ما تبقى منها، فلقد أخذوها منه قبل أن يهبها قبلة أخيرة.

أخذوا إيماليانو خاصته قبل أن يبتاع لعبتها التي رأتها عبر زجاج المتجر، قبل أن يقص عليها الصفحة الجديدة التي وصلوا إليها في الكتاب الذي يقرأه قبل نومها.

هو حتى لم يتمكن بعد من تعليهما الفروسية كما وعدها!

تمتم نيكولو باسمها موجوعا وكل قطعة من لحمها التقطها قربها لشفتيه، دون تقزز فكيف عساه يشمئز من دم ابنته التي نُثر؟ ارتجف بدن نيكولو عندما طالت يده جانبي وجهها المنصوف فجمعه ثم أعاد مقلتها المتدلية وتأملها، فتدلت مقلة عينها مجددا. حينها غلبه الوهن وعلا نشيجه، ضم رأسها يحميه من كل سوء وطبع عليه من القبل ما لم يسعه الوقت ليقبلها سابقا وبين كل قبلة وأخرى كانت اوصاله ترتعش من هول الفاجعة.

"سنيور...."

توقف لورينزو أمام سيده وقميصه هو الآخر ملوث بدم ريكاردو، رفع نيكولو بصره للأعلى والوجع يعلو تعابيره فامتدت يده المرتعشة ليتشبث بمعصم لورينزو، صاحبه العجوز الذي اعتراه الأسى وذرف دمعة حداد على الأرواح التي أزهقت تحت الثلوج المنهمرة.

"ل..." كشف نيكولو عن أسنانه ففمه قد أعوج من القهر ودس وجهه ضد بطن صاحبه يحكي بعويله ما لم يستطع لسانه أن يبوح به. فلقد رحلت عنه ابنته دون وداع لكنه قاوم الانكسار متشبثا ببصيص أمل ونهض بينما يضم ابنته لصدره بذراع بحثا عن ولده، فوجده محمولا على سدية يأخذ لسيارة الاسعاف وكمامة الأوكسجين تغطي أنفه وفمه لذا ارتمى نيكولو عليه وألقى بجبينه الدامي ضد جبين ابنه، يتوسله ألا يغادره "ريكو انتظر أرجوك، ريكو بابا هنا لأجلك" 

توغلت اصابع نيكولو في شعر ابنه يقبض عليه، ومن شدة تلف أعصابه أراد انتشاله من على السدية كي يضمه اليه فيحميه كما يفعل مع اخته تماما "سنيور، يا سنيور! أرجوك دعهم يأخذوه!" ترجاه لورينزو ورجال الإسعاف قد حاولوا انتشال بدن انبته أيضا فصاح نيكولو بهم وقاومهم.

"انتم لن تأخذوهما مني!" صاح بعلو صوته وعروق قد برزت من شدة انفعاله لكن لورينزو من الخلف كتفه فانتزعوا ابنته منه وحالما فقد نيكولو دفئها ولفح صدره نسيم بارد اشتكى مزمجرا يهز رأسه للجانبين "أعيدوها لي! أعيدوهما لي! ريكو! إيماليانو!" 

"لا! لا!" صاح بأسى لما اغلقت أبواب سيارة الاسعاف فولت مغادرة، حينها ألقى برأسه للخلف على كتف لورينزو في اكثر مشهد سوداوي مر على حياة صاحبه ومن بعيد هو لمح هيئة أخواته قد وصلن حالما علمن بالخبر.

 "لا تأخذوهما مني، لا تفعلوا ذلك!" 

لم تتريث صوفيا أبدا ولم تبالي بثيابها التي لا تليق بهذا الطقس، إذ ركضت نحو أخيها الذي حالما وقع بصره عليها حاوطها بذراعيه وضمها بعنف إليه يبحث فيها عن دواء لعلته. شاطرته صوفيا الدموع وداريا من هول رعبها لم تقترب بل تشبثت بداريا التي ندبت هذا اليوم المنحوس.

"أنا لا أملك سواهما" اشتكى نيكولو وعيناه يأبى فتحها خشية أن يعود للواقع حيث ما عاد يملك اثرا للعائلة التي صنع "كلاهما، أخذوا مني كلاهما"

أخذ نيكولو يتمم بلا توقف وسط غصاته يهذي "ما عدت أملك احد"

.

.

.

في الحاضر وحيث طويت كل تلك الذكريات، منذ ليلة تموز الماطرة إلى ذلك اليوم الأسود، مكثت بيلا في السرداب حيثُ فُتح الصندوق عليها أول مرة وسألها رجل من هؤلاء المخيفين إن كانت تجيد مداواة جرح مريع.

تأملت تابوتها والمصباح المتدلي لم يكف عن الرمش منذرا عن اقتراب ساعته. دفنت وجهها بين ركبتيها واعتصرت على ساقيها ثم فركتهما تبحث عن الدفأ فهي عالقة هنا وما عاد لها حس بالوقت الذي يمر، وحده الرب يعلم كم يوما مر عليها

ارتجف قلب بيلا حالما سمعت صوت المقبض يدار وضوء من أعلى الدرج تسلل كاشفا عن ظل أحدهم، والذي نزل الدرجات بخطوات متريثة ثم أطل برأسه نحوها وقال بجفاء.

"حان وقت تغير الضمادات"

------------

كيف وضعكم مع الفصل؟

أنا وضعي دموع ومناديل:))

ديييم احتاج بعد هالنفسية رواية دايت فيها حرق اعصاب خفيف




عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz