illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تخبروا زوجتي؛ الفصل الرابع والعشرون





"لقد عثروا عليها ورأسها دامي" حكت بيلا ثم ابتلعت كلمتها التالية ففمها اعوج للأسفل مرتجفا، تقاوم ذرف الدموع وعلى الفور سحبت يدها من على المائدة التي تفصل بينها وبين والدتها كي تقضم اظفر ابهامها. ففي خلدها يدور شك أمرضها، لربما لمقتل ماتيو علاقة بحادث تلك الفتاة وأن نيكولو هو الفاعل، لكن كيف عساها تكتشف أمره وهو بارع في المشي في الجنازات هكذا؟ بل والمشين أنها تشك في زوجها. لم يتوقف عقلها عن اللف والدوران إطلاقا وما أرهقها أن العلة المسببة لهذه الكوارث كانت نزوتها.

 

"بئسا لي، بئسا لي، إلهي إني استحق الموت"

 

"بيلا" كررت والدتها اسمها "كفي عن البكاء كأنها غلطتك، الفتاة قد تدحرجت عبر التل. إن كان هناك ملام فهو والدتها لكن ما النفع من البحث عن مذنب، لابد أنها فاقدة لصوابها الآن فابنتها زفافها كان في الربيع القادم"

 

"أمي إنك لا تفهمين" هزت بيلا رأسها بقلة حيلة ولما اشتد بها كفاحها في كبت حزنها ضربتها والدتها محذرة إياها فهذا النوع من الضغط لن يدر عليها وعلى جنينها بالخير..

 

وتلك الضربة التي سددتها دفعت بيلا لتقيء عواطفها فباتت تجهش بالبكاء وما أرعب والدتها هو تمنيها الموت لتدرك حينها أن ابنتها ليست بخير إطلاقا. لذا وكأي أم ذات فطنة بخلفتها، علمت بوجود خطب بها وأن للقصة حلقة مفقودة، ففي السابق ظنت أن ماتيو ألقى بنفسه منتحرا كي يهرب من العار الذي فعله لبيلا، فهو أشبه بالرجل الصالح والبلدة إن علمت بتعديه على انبتها لن ترسل أولادها للمدرسة مجددا، لكن حال بيلا لم يبشر بالخير إطلاقا لذا استجوبتها وألحت في استجوابها لدرجة أن قبضت على ساعدها تهزها.

 

"أمي، أقسم لك لا وجود للمزيد" عضت بيلا على شفتها وكلما كاد أن يزل لسانها ويعترف بحقيقة الفأس هي تماسكت فرقبة نيكولو معقودة معها. لم تستسلم والدتها فإن لم يكن هناك حلقة مفقودة فإذا يوجد شيء، لربما هي وابنتها لا يمكنهما رؤيته، وماذا يوجد غير النحس لمحاربته إن لم يوجد عدو؟

 

جربت معها السنيورة كل ما تجيده من الطرق العلاجية لربما النحس ما ضربها أو لربما الملعونة غابرييلا اصابتها بسوء، فتلك العجوز طريقها معروف لكل شابة ارادت أن تسيء لغريمتها أو أن تربط حبيبها فلا ينظر لغيرها.

 

فعزمت السنيورة أمرها وذهبت لقطاف أوراق من شجيرات البرقوق كي تسعف ابنتها بتلك الطرق الروحانية العتيقة والأب قابلها هناك، فسألها عما تفعله ولما علم أوصاها بمعاودة الصلاة والإلحاح فيها إلى أن تنزل السكينة على بيلا مجددا لكن السنيورة عيبها هو العجل، لا يسعها انتظار الرد من السماء فتحايلت على الأب ببضع كلمات وطلبت منه أن يصلي نيابة عنها وعن ابنتها.

 

"إنه النحس! قال الأب هذا هراء لكن متأكدة من ذلك، ألم تري ما حل بثوب زفافك حينها؟! ملعونة غابرييلا إن كانت هي السبب! ملعونة في هذه الحياة وفي الحياة الأبدية وإني أدعوا من أعماق قلبي أن يصفعها الرب بدعواتها كلما فكرت برفع يديها عاليا نحو السماء" دعت والدتها بحنق على كل من تربص بابنتها المدللة شرا، وكم كانت متأكدة من كل كلمة تنطق بها بينما تغسل رأس ابنتها بماء نقعت فيه ما جمعته من نباتات، ثم جعلتها تمشي على الأرضية التي التهبت بأشعة شمس أغسطس كي ينزل النحس من قدميها. بالمعنى المفيد؛ هي طبقت على ابنتها كل تجارب أجدادها حتى غروب الشمس.

 

في المساء عاد نيكولو للمنزل فسأل عن زوجته المحروسة لتخبره والدتها بتوتر أنها في فراشها راقدة وبالفعل وجد بيلا نائمة وجلد قدميها يلمع كمن قامت بدهنهما بزيت. لم ينم في البداية بل انتظر قدوم موعده وحالما دقت الساعة العاشرة؛ أدار مقبض الباب منهكا بجفنين ثقيلين من التعب، إذ وضع يده بيد آدم وقاما بشوط من تصليح محرك السيارة فعقل آدم السميك والعداوة التي تربطه بالميكانيكي منتعه من وضعها تحت يد مختص، فهو يكرهه لأنه قريب من أقارب زوجته الهاربة.

 

 لكن حضور امه في القانون اصابه بالريبة، فهي واقفة بثوب نومها وشعرها مربوط بلفاف بلاستيكية بينما غطائها في جعبتها "كم كان يوما متعبا أليس كذلك يا بني؟"

 

"نعم..." اجابها نيكولو فسألها كي يتأكد من ظنه "تحتاجين شيئا من ميرا سنيورا؟"

 

"آه؟ لا بل أتيت للنوم إلى جوارها" دفعت باب الغرفة كي تلج قبله ونيكولو راقبها مصدوما بينما تفترش إلى جوار بيلا النائمة واستلقت كأن هذا فعل طبيعي تفعله أي أم في حجرة ابنتها المتزوجة "أوه عزيزي ما بك واقف عند الباب هكذا؟ تعال ونم" اضجعت جانبها وأشارت له "لكن المصباح تأكد من اخماده فإني أعجز هكذا عن النوم" ولما وجدته متسمرا لا ينبس بحرف "ألن تغير ثيابك؟ إياك والخجل مني فأنا والدتك"

 

"بالتأكيد" أومئ لها بضيق من فعلتها، فبالنسبة له غرفة نومه مكان خاص لا يدخله ولا يبعثر أغطتيه إلا من يشاركه الغرفة. فهو يكره كثرة الأيادي المتدخلة التي لابد أن تفسد عليه نظامه، لذا منذ زمن وهو يحرص على ترتيب غرفته بنفسه ولا يدع أخته أو ابنه يحركان شيء فيها. لم ينفذ نيكولو قولها بل سحب منامته المخططة بالأخضر كي يفر بها "لكن لست معتادا على تبديل ثيابي أمام أحد أبدا"

 

"وهل قلت هذا لابنتي وقتها أيضا؟ كم انت ولد مدلل" قهقهت عليه ونيكولو اوصد الباب خلفه ليستقر واقفا في الممر، لبرهة هو بقي حائرا من الموقف السخيف الذي وقع به، فها هو مضطر لتغير ثيابه في الممر بينما زوجته وأمها في غرفة النوم. دحرج عينيه بضجر من هذه الليلة التي لا تبشر بالخير وحل أزرار قميصه ثم زلق بنطاله فإذا بالباب يفتح خلفه ورأسه أمه في القانون أطل "عزيزي نيكو نسيت أخذ دواء الضغط فاجلب لي ما... أوه لم يخيل لي أن تكون صغيرا من الخلف هكذا"

 

ارتفعت عينا نيكولو للأعلى نحو السقف وقد جرت أبواق معزوفة بحيرة البجع في أذنيه تطربه، من هول المصيبة التي سمع وتعليقها المحرج كان موجها لأسفل ظهره نحو أردافه "بالطبع" لم يستعجل فيظهر لها مزاجه الذي تعكر واكمل ارتداء منامته. نزل السلالم نحو المطبخ ثم عاد للغرفة وسكب لها الماء بينما هي ممسكة بالكأس "شكرا بني" ثم اضافت بعد ابتلاعها الدواء "أحلاما سعيدة نيكو"

 

"شكرا" تجرع حلقه الجاف بينما مرفقها ملقي على صدره، إذ لم تبقي له شيئا يدعى مساحة شخصية "ولكِ أيضا"أغمض نيكولو عينيه ظنا منه أنه سيتغاضى عن استلقاء أمه في القانون بينهما ومن شدة ضيق السرير مرفقها ملقي على صدره، مارس استطاعته من الصبر واستعد أخيرا للنوم لكن صوت السنيورة أيقظه "إني أشخر أحيانا فلا تؤاخذني"

 

"لا بأس" ابلغها ألا تقلق وعاود استعداده للنوم فإذا بعينيه تتسع على مصرعيها من هول وقع شخيرها، الذي كان طويلا وعاليا، للدرجة التي دفعته أن يوليهما ظهره لكن أمه في القانون لحقت به واضطجعت جانبها حتى بات فمها قريبا من أذنه.

 

وكلما علقت أثناء شخيرها واختنقت، قامت بالسعال. كانت القشعريرة ترقص السالسا عبر عاموده الفقري واكتمل كابوسه بزوجته التي تذمرت من الحر والبعوض الذي تسلل عبر النافذة، فعلق في فضاء الغرفة يحوم فوقهم والضيق أوصلها لدفع الغطاء بقدمها، كاشفة عن بدن نيكولو المنكمش وامها التي لا تكف عن التعدي على مساحته في نومها كالمتحرش المنحرف. ومن شدة ضيق المكان صاحت بكليهما لأنهما لم يبقيا لبطنها مكانا كي تريحها.

 

والضحية في هذا كان نيكولو، الذي كاد أن يسقط فطلبت منه أمه في القانون أن يفترش أرضا ويكمل نومه "أمي؟ ما الذي تفعلينه هنا؟" سألتها بيلا ونيكولو وجهه أشرق فأخيرا خروجها اقترب وعلى يد ابنتها، هكذا لن يكون ابنا في القانون سيء السمعة.

 

"قررت البقاء إلى جوارك يا ابنتي كي انتبه عليك بالطبع ولا نزعج نيكولو بمزاجك العكر"

 

"صدقيني التعامل معه أهون مما نحن عليه الآن"

 

لم تنصت والدتها لرده بل ثرثرت مع ابنتها ولما وجدت فيها وجعا أمرته أن يدلك لها ظهرها فيريحها، زفر نيكولو تحت أنفاسه ليس باغضا هذا العمل فهو يمارسه من حين لآخر معها منذ أن بدأت بطنها بالبروز بل لأنه طُلب منه كما لو أنه خادم وبقسوة أراحت بيلا هو مرر يديه على ظهرها وهمس "ما بها والدتك عالقة هنا بيننا؟ هل اصابكِ شيء؟"

 

"احتاج وجودها جواري فحسب وهي لم ترد لي طلبي" ردت دون أن تبالي بأن والدتها ثالثتهما في الغرفة فأجاب نيكولو غير مقتنع "ألا يكفي وجودي؟ إن وجد أمر فلما لم ترجعي إلي؟"

 

"نيكولو إنها أمي وهناك أمور احتاجها فيها لا انت" تذمرت عندما شعرت به يدفع بها نهو هاوية عواطفها التالفة وهي لا طاقة لها به.

 

"بماذا اخطأت؟ إني لا أفهمكِ إطلاقا"

 

"نيكولو!" زجرته "انت فقط زوج لي، لا يمكنك أن تحل محل أمي، أخي أو أحد آخر كأبي مثلا" جادلته لتلقي في وجهه التالية "المرء يحتاج والديه أحيانا اكثر من زوجه حتى لكن كيف عساك تفهم هذا" اشتكت من سُمكِ جمجمته فكيف تطرد والدتها من الغرفة بعد أن اتت بنية طيبة، لكن أثر حديثها الغير مبالي ظهر تأثيره عليه لما راقبت تعابيره تتبدل لأخرى لائمة، فلم يخيل له أن تصفعه بهذه الحجة؛ ألا وهي عدم امتلاكه والدين.

 

"معكِ حق، لن أفهم هذه الحاجة أبداً" أومئ لها موافقا على حديثها ثم استأذن منهما أن يخرج كي يشعل سيجارة "بيلا، آه يا ابنتي الخائبة ما الذي قلتيه" تآوهت والدتها من لسان ابنتها المنفلت "ما كان عليك قول هذا"

"كنتُ متضايقة والألم في ظهري أهلكني"

"لكنه زوجكِ بيلا"

 

"نعم هو كذلك لكن أنا التي أعاني هنا!" تآوهت بيلا عندما قررت الاعتدال من استلقائها فغيرت رأيها وعاودت اراحته على الوسادة "الفرار متحججا بالسيجارة سهل عليه بالطبع فهو ليس مضطرا لتحمل نتيجة نزوته" أشارت على بطنها والجنين الذي نتج من نزوته وانفلات عواطفه ينمو في احشائها ويسلبها راحتها.

 

"هراء، لا يمكنك طرده لمجرد شعورك بالضيق، سأجلبه فقومي بمراضاته"

 

"أنا ابنتك وليس هو، أليست سعادتي هي أولويتك؟ عليك جعله هو الذي يراضيني! فأنا القابعة كالكلب المبلول يجري خلف صاحبه بلا حول ولا قوة وهو بكل لئم يستمر بالهرب مني كأني مصابة بداء الكلب!"

 

"كفي عن تشبيه نفسكِ بالكلب، علمت الآن لما هو هارب ثم إني ابتغي سعادتك ولن أدعك تفسدين عائلتك" همت أمها بجلبه فتمسكت بيلا بمعصمها تتوسلها ألا تعيده فهي لا مزاج لها للإعتذار عن أمر لا ذنب لها فيه وإنما ذنب أعصابها التالفة. تجادلا في الأعلى ثم حاولت أمها اقناعها كي تصدق أن ما بينهما ليس خلافا وإنما النحس الذي صنعته غابيريلا.

 

وفي الأسفل وضع آدم بين اصبعي نيكولو سيجارة ثم أشعلها لأجله، فحبس فاهها بين شفتيه ليسحب الكثير حتى لمع لهيبها وأحرق العود بينما عظام وجنتيه برزت حدتهما. أغمض عينيه مسترخيا مع الغمامة التي حررها فطافت فوق رأسه مشتركة مع التي صنعها آدم وفيليب ثالثهما يقوم بالتدخين أيضا.

 

"اخبرتك أن تؤجل نومك ولا تفوت ليلة الورق"

 

"لا أشعر بشيء سوى الندم والكثير من الصداع" دلك نيكولو فوق حاجبيه، وجلسته كانت مختلفة عنهما فهما ظهرهما ملقى للخلف وأقدامهما القذرة على الطاولة في حين أن نيكولو متكئ بمرفق على الطاولة ومعصمه مرفوع للأعلى برقي بينما ساق فوق الأخرى ملقية.

 

"أختي لا يسعها إلا أن تكون ألما في المؤخرة أحيانا" سخر آدم ثم ألقى ورقة وفيليب باشر بالتفكير أي ورقة يلقي من مجموعته وهو لم يفضل المشاركة في الحديث، فما سيقوله عن عمته سيجعل الأخ والزوج مستائين ولربما يعيدانه لغرفته مع كدمة زرقاء وصفراء في عينه اليمنى.

 

"لها أعصاب حامية فحسب" صحح نيكولو عبارته فكلمة ألم في المؤخرة لا تليق بها "ولا أعرف لما هي تصر على الصياح في كل مرة أخبرها أن رأسي يؤلمني"

 

"ما شعورك وقد تزوجت بنسخة من والدتك في القانون؟" قهقه آدم شامتا "هذا طبع أمي وهي حرصت على توريثه لبناتها، ولا أعلم لما فهذا الأسلوب لم ينفع مع والدهن فكيف سينفع مع الغريب؟ المرحوم كان رجلا مسالما، يوافقها في كل شيء ولا يجادل فقط كي لا تسمعه شريطها المعتاد. أما أنا فقد أقسمت ألا أكرر غلطته وقد كنت واقفا في وجهها في كل جدال تحاول صفعي به" قصد زوجته السابقة في حديثه.

 

تبسم نيكولو بجانبيه والثقل طغى على جفنيه من شدة نعاسه ففي هذا الوقت من المفترض أن يرى أحلاما ورأسه مرتاح على الوسادة "ليكن المرحوم منارة لي إذا إن كان سيضمن لي الراحة"

 

"مخبول انت، اخبرتك منذ المرة الأولى التي دردشنا فيها هنا ألا تسير خلف الإرتباط، لديك ولد في التاسعة عشر من عمره إن لم تخني ذاكرتي فما حاجتك للزواج؟ قد ول زمن تربيته فلما تبحث "

 

"إنها اختك التي نتحدث عنها" ذكره نيكولو وكم كان أمرا مضحكا بالنسبة لفيليب، فالأجنبي هو من يذكر والده بالدم الذي يربطه بعمته وبينما هو منغمس في التفكير تعجب من يد نيكولو التي انتزعت ورقة من مجموعته فألقاها عوضا عنه "هيا ضع ما عندك" لم يزل لسان نيكولو ويثرثر عن حياته مثل آدم، إذ اكتفى بتمهيد الطريق لآدم كي يمسي ملك هذه الأمسية وهو تمتع بإراحة فكه على راحة يده.

 

"زواجك منها لم يزد إلا كلامي صحة، انظر لحالك هارب منها بمنامتك، الرجل لا يجني من الارتباط سوى الشقاء، كأنه لا يكفينا شقاء هذه العيشة"

 

"لديك وجهة نظر شرسة" علق نيكولو ثم امسك بطرف كرسي فيليب وجره ليكون قربه كما لو أنه خفيف كالريشة مما دفع الحرارة لتغزو وجنتي فيليب، فلقد أشعره نيكولو أنه فتاة تعرضت للتغزل ثم دون اذنه أخذ نيكولو ورقة أخرى وألقاها مكانه، رغم زعمه أنه لن يلعب الورق معهما..

 

"انظر لابني المعتوه هذا، أتريد دليلا غيره لاثبت لك وجهة نظري عن الزواج؟ بل وانظر لنفسك يا رجل، هذا خاتمك الثاني فهل تريد المزيد من الشقاء؟" عرض آدم وجهة نظره التي كان مقتنعا فيها بشدة لدرجة أن آخذه حماسه كالسياسين بأن عرض على نيكولو ما سيجعله يندم لاحقا للتلفظ بهكذا ألفاظ؛ ألا وهو أن يتخطى أخته ويبحث عن الحرية التي فقدها. فأي قيد أقسى من أن يُربط الرجل من عنقه فيفقد حرية المشرب، المأكل والمسكن بل وحتى حرية اضاعة الوقت كيفما يشاء.

 

بالطبع جن جنون السنيورة عندما هبطت السلالم وسمعت ابنها السكير يحث نيكولو على الفرار من زوجته، فندبت حظها وهدت على رأسهما طاولة الورق منهية ليلتهم فلا يقتنع نيكولو بحديث ابنها الأخرق ويتجرأ على هجر بيلا في أيامها العصيبة.

 

وفي صباح اليوم التالي قامت زوجة ماتيو بدعوة اصحابها للزيارة ومن المدعوين كانت بيلا، فأجبرت بيلا على الحضور بفضل نيكولو الذي أصر أن تقوم بهذه الزيارة، فلا تثير الريبة في نفس أحدهم. خطواتها كم كانت ثقيلة ولم تتوقف عن اعتصار يد نيكولو طوال الزيارة وهي تزيف ابتسامتها أمام السنيورة.

 

كان الحديث عاديا لكن كل كلمة فرت من بين شفتي السنيورة كالسهم رشقت فؤاد بيلا وتبعها وسوسة لصوت دنيء مماثل لصوتها، يذكرها بأن هذه المرأة لمعتوهة لا تدري شيئا عن الحب العظيم الذي جمعها بزوجها، لا تدري عن اخلاص زوجها لعشيقته لدرجة أن زارها في الليل خلسة كي يراها وقبل لحظة موته هو أخذها بين ذراعيه وقبلها بشغف وإخلاص في فناء منزلهم بينما زوجته تعيش الآم الولادة.

 

شحب لون بيلا من هذه الأفكار المريعة التي تجوب خلدها وما جعلها تصاب بالذعر عندما همهم الرضيع في مهده وقهقهته علت جراء الدمية التي حركها نيكولو فوق رأسه يلاعبه بها، فصوته حث الشياطين في رأسها لتصيح بأن هذا الرضيع من المفترض أن يكون رضيعها هي وهذا المنزل الرث من حقها هي لا تلك السنيورة القبيحة.

 

-لو لم تتدخل والدته لكان ماتيو زوجا سعيدا والأهم من ذلك على قيد الحياة- ردد الصوت الخبيث في أذن بيلا مما دفعها أن تهز رأسها كي تردعه وعندما لم تجد في فعلها هذا نفعا فاضت عيناها بالدموع، مشمئزة من نفسها وهذا الشعور بالحقارة اشتد كلما تبادلت زوجة ماتيو ونيكولو أطراف الحديث.

 

كم كانا صالحين في حين أنها وماتيو كانا من أحقر خلق الرب، لكن ذاك مات مع ذنبه وهي بقيت هنا عالقة، تواجه عواقب فعلتها المشينة.

 

"بيلا انتِ بخير؟" استفاقت بيلا على الدموع التي بللت وجنتيها فقالت وهي تداري مصيبتها أن استأذنتهم كي تذهب للخلاء قبل أن تعود والدة ماتيو من المطبخ فتكتشف أمر دموعها المثيرة للشفقة. حاولت والدة بيلا التستر على انفلات ابنتها العاطفي كي لا يفهم أحدهم شيئا فيشك في أمرها ويظن أنها تذرف الدموع على ماتيو عوضا عن زوجته "إنها تمر بوقت عصيب فكما تعلمين، الحر لا يلائم امرأة حاملا، وهي تعاني بشدة من ألم في ظهرها فلا يسعها الجلوس فترات طويلة، وهي تبكي أحيانا"

 

اصطدمت بيلا بوالدة ماتيو فطأطأت رأسها وتجاوزتها لكنها لم تقصد الخلاء بل القت بنفسها على باب الفناء بينما تجر أنفاسها بتسارع، ادارت مقبضه وفرت للفناء بحثا عن هواء نقي يلفحها وحرارة شمس حارقة تعيد لها رشدها لكن الفناء أعاد لها ذكريات عصيبة عن تلك القبلة اللئيمة، فغطت بيلا شفتيها بكف يدها وترنحت في مشيتها نحو الحظيرة، فهناك قد قررت أن تجد حلا لعارها وإلى الأبد.

 

من خلفها أطل نيكولو بهيئته عبر النافذة والصدمة اعترته لما وجدها تقصد مكان الحادث فلحق بها مستعجلا وولج للحظيرة خلفها فإذا بها ممسكة بحجر ذو نتوء قد نوت به تهشيم رأسها. همت بسحق جمجمتها به لكن نيكولو منعها بانتشاله منها "بحق كل ما هو مقدس، ما انتِ فاعلة؟! أفقدت صوابك؟!"

 

"دعني! ابعد يدك عني ودعني أخلص العالم مني!"

"أي عالم ملعون تقصدين؟! انتِ في جيونكاريكو التي لا يعلم عنها إلا أهلها!"

 

"دعني! فأنت لا تفهم شيئا" ناضلت بيلا كي تخلص يدها منه وضربته بقبضتها الحرة على صدره، فلما فاضت دموعها وضاقت بها عواطفها؛ صاحت بقهر، حينها لجمت يد نيكولو فاهها على الفور مغلقا إياه وعاد بها للوراء حتى لاصق ظهرها حائط الحظيرة. ولم يفعل هذا الفعل الغير رومانسي إلا حرصا منه على ألا يصل صوتها لأحد فيكتشف أمرهما.

 

 اهتز صدر بيلا باعثا صيحات لكنها كلها توقفت عند يده فوق فاهها. حركت رأسها للجانبين ولما لم تجد خلاصا من الأغلال التي اثقلت بدنها وكبلت روحها، انهارت باكية وألقت ببدنها عليه. اجهشت بالبكاء وكي لا يعلو صوتها فيسمعهما أحد لاصقت شفتيها بقماش قميصه الأصفر واصابعها غرزتها فيه، متشبثة به "كفاكِ بكاء" حادثها مواسيا ولسانه لم يكن محترفا في هذا، رفع يده ليضعها على شعرها وتنهد بقلة حيلة "رباه أعِني" أغمض عيناه بتعب منها ومن أفعالها "لا أصدق أنك كدتِ تنهين أمركِ بيدك!" التقط رأسها بكلا يديه على الجانبين وابعدها قليلا كي يعاينها، خشية اقترافها جريمة بحق ذاتها.

 

"انتَ لا تفهم، لا أحد يفهم" رددت بيلا "إني أختنق فافهمني، إن السماء ما عادت شاسعة بل ضيقة على حنجرتي والأرض تحت قدماي إنما هي شطر من العذاب" تحدثت بحرقة "إنه يعذبني وينتقم مني فدعني أذهب واترك هذا كله ورائي"

 

"هراء" نطقها من بين أسنانه ولم يتقاعص عن توبيخها "ماذا عن الولد في احشائك؟ لن أغفر لكِ إن اصابكما شيء، لا في هذه الحياة ولا في الأبدية وسأوصل لعناتي لك من قاع الجحيم!"

 

"بئسا لك ولولدك!" اشتكت وقد وجدت خير مكان لتلقي عليه اللوم "ملعون انت إن فكرت بالاقتراب مني مجددا! انها المرة الأولى ولك مني وعد أنها ستكون الأخيرة"

 

"اقسم لكِ أني نادم" اعترف لها بتعب وهي قد فار دمها اكثر فلقد أشعرها أن المصائب كلها اتت من تحت قدميها "أكرهك! اقسم بقبر ابي اني أكرهك!" صاحت به تفرغ أعصابها الحامية "مجرد بارد متلبد المشاعر وجامد كجدار من الطوب بل وانت قاسي مثل السقيع!"

"ميرا انتِ تكررين نفسك، بارد ما هي إلا مثل البقية" أبلغها وقد اعطاها ما تحتاج من الهواء بابتعاده عنها كي يستخرج سيجارة من جيبه وهي عبرت عن كرهها له بكلمات كثيرة ثم ختمتها "إني امقتك!"

 

"ها انتِ ذا تكررين نفسك مجددا، امقتك هي ذاتها اكرهك"

"سأقتلك إذا!"

 

 أيدها بينما أحرق طرف السيجارة بالقداحة."احسنتِ هذه جديدة، استمري على هذا النحو"

 

زمجرت بيلا فتقدمت عازمة على خدش وجهه الحسن بأظافرها لكن الوجع دفعها ليعوج عود ظهرها ثم عادت لتجهش بالبكاء تندب اللحظة التي رضيت برجل قاسي مثله، فتنهد نيكولو بنفاذ صبر والتفت إليها تلك التي تتقلب كالممسوسة بروح شيطانية "فقط قولي ما الذي تريده؟" سألها سؤالا بسيطا وعنفها تبدل لدموع تترجى رؤية بصيص شفقة منه "ظهري إنه يؤلمني" ضربت على جبينها من الوجع "دلك لي ظهري"

 

"سأفعل لكن لنخرج من هذا المكان القذر أولا" تنهد نيكولو بقلة حيلة وأخذها لخارج هذا البؤس نحو السماء الشاسعة فوقهما والأرض الممتدة بالحشائش تحت أقدامهما. اجلسها أسفل ظل شجرة برتقال وجلس إلى جوارها فوجدها توليه ظهرها بلا اعتراض أو صخب "كان عليك أن تطلبي من البداية، لا أفهم ما الداعي من اثارة الفوضى" وهكذا لامست اصابعه القاسية ظهرها يدلكه لأجلها وبين حين لآخر تأكدت بيلا من ارشاده، ولم تخشى ابدا من ضرب يده أحيانا تترجاه أن يتريث فلمسته قاسية "بروية اكثر، إنه ظهري وليس عجيبة خبز"

 

"والدتك قالت أنك معرضة عن الطعام هذه الأيام" حادثها وسرب من عصافير الدُّوري تقاتلت لتنتزع دودة من منقار احدهم وهذا الشجار شب في الأغصان فوقهما، فتنقلوا محلقين من شجرة لشجرة محدثين ضجة قادرة على تغير المزاج إلى الأفضل.

 "لا يسعني تناول شيء، ليس بارادتي" أغمضت عيناها وعلى حاجبيها تقطيبة من الوجع "عليك دس شيء في جوفك، لست خبيرا بقدركِ فلم اقرأ مجلات عن الأمومة لكن رأيت أخواتي، والطبيب كان دوما يوصيهن بالتغذية، لأجل سلامتها أولا قبل سلامة الجنين"

 

زفرت بضيق منه لعدم قدرته على فهم ما تمر به "إني اختنق يا نيكولو! إني أختنق كلما ابتلعت لقمة فهئية زوجة ماتيو تقفز لذهني، كيف تأكل وكيف تعيش مع رضيع بدونه، إنها تعاني وأنا السبب في هذا" انسابت دمعة لتفر هاربة "إن الموت أهون، وإني أفضله على البقاء حرة طليقة مع جريمتي"

 

"ما عدت قادرة على العيش" هبطت اصابعها لتغطي بها فاهها ونيكولو لم يتوقف عن رسم دوائر بكلتا يديه "عليكِ التماسك اكثر من هذا" أوصاها ناصحا.

 

"هراء! إياك وإلقاء موعظة عن التماسك فما أدراك انت عن القتل؟! ما أدراك عن روحي التي غلبها السقم فتعفنت؟! الكوابيس التي أراها في كل ليلة؟! أو عن الندم الخالص كلما رأيت ابنه راقدا في مهده؟" وعوضا عن فاهها غطت بيلا وجهها من شدة خزيها من نفسها "اني استحق الرقود في الجحيم لا في هذه الحديقة المثمرة"

 

" لكن من احادث ولمن أشكو؟ فانت لن تفهم أبدا وماذا عساك تفهم؟" هزت رأسها بيأس "حضرتك مجرد سنيور مترف ورث من أبيه متجر قصابة ويعتني بحزمة من النسوة المبتذلات" شعرت بيديه توقفت عن التدليك فانتقلت بطرفها إليه ووجدته ينظر إليها دون النبس بحرف. تأمل عينيها أولا ثم جاب ببصره على كتفيها وذراعيها فطالتهما اصابعه واعتصر عليهما، بطريقة مريبة اخافتها، قربها  لتريح ظهرها ضد صدره وهي منكمشة لم تقاوم.

 

"ميرا بيلا، إنك موجوعة، أقدر هذا لكن"

"انت لا تعرف مقدار ما امر به حتى!"

 

"لكن عليك تمالك نفسك" اكمل نيكولو كأنه لم يسمعها

"انت مجرد رجل أناني لا يسعه تفهم هول المصيبة التي أمر بها"

"انا متفهم..."

 قاطعته"لا! انت لا تفعل"

 احتد صوته كي تسمع ولا تستمر بمقاطعته."بل أفعل!"

"ما الذي فعلته لك؟! لما انت لئيم معي؟!"

 

صاحت به وقد شعرت بمحاولاته لتمالك اعصابه، لدرجة أن شعرت بقبضته تشتد على جانبي عضدها ثم دنى بوجهه مريحا جبينه فوق كتفها وحينها سمعت بيلا صوته هامسا ومتعبا "كفي عن سحقي" اعترف لها واعترافه هذا كان موجعا بحد ذاته لكنه أخيرا حصل منها على لحظات خالية من الصخب.

 

"لكل منا مصائبه، تافهة كانت أو مهلكة، صوفيا تلك المرأة المبتذلة كما تزعمين لها مصائبها الخاصة وهلعها يشتد إن تلطخ الموقد ببقع المرقة، كم هو شيء تافه لكنه عظيم بالنسبة لها" رفع رأسه من على كتفها كاشفا عن تقاسيم وجهه "لست أسخر بما تمرين به ولا أشبه ألمك ببقعة مرقة لطخت الموقد لكن مربط الفرس هو؛ وجعي من وجعك، إني أفعل ذلك حقا ولا يمكنك سحقي هكذا، أنا شريك لكِ ولست سلة نفايات كي تستفرغي غضبك فيها"

 

عادت يداه لعملها السابق، فمرت فوق فقراتها وأضلعها، أغمضت بيلا عيناها مرغمة لما وصلت يداه الثقيلة لنقطة ألمها فضغط هناك أكثر وهي رحبت بهذا الألم المريح برحابة صدر "لم أقصد" حادثته بنبرة مهذبة أكثر "لما لم تخبرني من قبل؟ كيف عساي افهم إن لم تنطق؟ إني لست ذكية في استقراء العقول بل على العكس، إن لي عصبية مفرطة لا مكابح لها واسأل أمي عني" حاولت بيلا تخفيف وطئة استياءه منها فحاججته بما تملك.

 

"إني نادمة يا نيكولو" اعترفت "لكن الغضب والغيرة يسلبني ارادتي عندما أرى أشخاصا صالحين لا ذنب لهم مثلك تماما. بعد الذي اقترفته، بت أشعر أني أهوي في هاوية سحيقة وحدي وكلما أراك هناك عاليا، حيث الفضيلة... آه يا نيكولو كم إني حقيرة بسبب افكاري هذه لكنها الحقيقة، انها الحقيقة الخالصة يا نيكولو"

 

"رؤيتك تؤلمني لكن موجوعة من ابتعادك عني وانشغالك بكل أمر سواي، إني أكافحهم وحدي، أكافح كوابيسي وأفكاري المعتمة" رفعت بصرها للأغصان فوقها ورائحة الأوراق حملت معها عبق البرتقال لأنفها وقد كانت الثمار معلقة، لازالت خضراء غير ناضجة.

 

"وبنفس الوقت وجودكَ قربي، رائحتك العطرة ولمستك لا تنفك عن تذكيري بقبح ذنبي" عضت على شفتها تقاوم شوطا من الدموع الجارفة "إنها تحرقني، يداك تجعل من جلدي يشتعل كشيطان قد قهره نور قديس" غطت عيناها بظهر يدها، تأبى النظر إليه بعد اعترافها، فلسانها يوشك على الزلل والافصاح عن قدمها التي وقعت في نجاسة الخيانة، بالأخص بعد أن اتهمته بهذا الفعل الفاحش سابقا.

 

شعرت بأنفاسه الحراة تلجم أذنها وقد مرت ومضة كهربية منطلقة من عنقها عبر عامودها الفقري، لا تدري أهذا تأثير بدنها الذي بات مغبرا من المدة التي ابتعد عنها أم من وقع الفاجعة التي لفظها وعلى محياه شبح ابتسامة.

 

لم تتجرأ بيلا على التأكد من عينيه ورغم الشمس الساطعة إلا أن الحديقة باتت مظلمة بالنسبة لها، مظلمة ومشبعة بروائح خطاياهما النجسة، فلقد لفظ للتو شيئا من الصعب عليها التفكير بتكراره، وكم تمنت لو أنه يمزح لكنه لم يفعل بل بقي هادئا يراقب رد فعلها بتوجس، ينتظرها أن تسأله وبيلا لم تخيب ظنه بالفعل "كم... كم كان عمرك حينها؟"

 

"الخامسة عشر" احست بيلا بوهن يغزو مفاصلها وأغمضت عيناها على الفور عند شعورها بذراعيه تحتضنها من الخلف ورأسه مسند ضد رأسها، فرقت بين شفتيها لا تدري ما تضيف فالرعب قد اكتسحها من هول ما علمت للتو "نعم لقد فعلتها يا ميرا" أبلغها نيكولو بصوت هادئ وذراعاه اشتدت عليها اكثر كي لا يدع لها فرصة فتفكر بالفرار منه.  

 

"وإني أقص عليك هذا كي يكف جلدك عن الاحتراق بنور قديس مزيف مثلي"





عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz