illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تخبروا زوجتي؛ الفصل الثالث والعشرون





"أمي أرجوك، انظري استحلفتك بالله أن تنطقي أين ول نيكولو مختفيا"

 

"يا ابنتي وأنا استحلفتك بالله أن تعودي لفراشك، ذعرك هذا لن يضر أحدا سواك انت وابنكِ" حاولت والدتها معا بشتى الطرق كي تخمد ثورة أعصابها لكن بيلا قاومت وسألت ابنتي أختها أن تنطقا لدرجة أن وعدتهما أنهما إذ فعلتا هي ستخلد للنوم ولن تعاند.

 

حافظت الفتاتان على صمتهما وبيلا قد غلبها التعب بالفعل، فتآوهت ممسكة ببطنها ثم جلست على كرسي من كراسي ركن الطعام، قبضت على شعرها بيديها حتى كادت تقتلعه من جذوره فلقد خيل لها أن الشرطة أمسكت به وهو الآن يساق للحبس بسببها. لكن أفكارها السوداوية انقطعت باللحظة التي تسللت مصابيح سيارة آدم عبر نوافذ النزل وصوت العجلات تسحق الحصى تحتها كان واضحا.

 

"لقد عاد الخال آدم" قالت ابنة اختها مستبشرة وذهبتا مع جدتهما لاستقبالهم وبيلا خلفهم. تنفست الصعداء لما رأت خلقة نيكولو يوصد باب السيارة عائدا بصحبة آدم وابنه فيليب. كم كانت بيلا مسرورة بعودته فلقد خيب ظنها حول اعتقاله إلا أن نيكولو لم يبادلها السرور، إذ ذكرته مجددا لما يفضل العمل وحده، فهي لم تلتزم بخطته إطلاقا، وعوضا عن انتظاره غادرت المكان معهم.

 

"ها يا فيليب أبشر؟" سألته جدته لكنه هز رأسه نافيا ومن النظر لتعابيره هي فهمت الخبر الموجع "لا بأس، هيا ادخلوا كي أشغل سخان الماء فتتمكنوا من الاستحمام"

 

"إني عكر المزاج ولا طاقة لي، سأشرب الليلة فخذيهن للأعلى" قصد آدم فتيات العائلة، فهو له طباع سيئة عندما يثمل وآخر ما يتمناه أن تحتك به احداهن.

 

"يا ولد كف عن الشرب فلن يبقى شيء للنزلاء"


"دعك من هذا الهراء وكأنه يوجد أثر لنزيل هنا حتى، يا نيكو تريد الانضمام؟"


"سأستحم أولا ثم سأنضم لجولة واحدة"


"جولة واحدة؟ خلتك ذو جلد صلب"

 

"لا تشجعه على الثمالة، إن اختك حامل الآن ولا يوجد أمر مقرف للحامل أكثر من زوج مخمور" وبخته والدته وهو شخر لها ساخرا ثم  ارتمى على كرسي وألقى بحذاءه الملوث بالوحل على الطاولة، يمارس راحته بكل قذارة "اذهب يا ولد واجلب لي زجاجة من المخزن" أرجح يده في الهواء يحث فيليب على الركض.

 

"بئس الخلفة التي خلفت" تمتم والدته متضايقة ثم أبلغتهم بالصعود لغرفهم فلا يرون ابنها وهو يتدنى لأبشع حالاته. صعدت بيلا لغرفتها وانتظرت من نيكولو أن ينطق بحرفٍ لكنه لم يفعل بل اكتفى بفتح حقيبة سفره، يستخرج لنفسه منامة ومنشفة كي يستحم فوالدتها قد شغلت لأجله سخان الماء حيث الحمامات الجماعية في سرداب النزل.

 

قضمت اظفر ابهامها بترقب وهو فطن أمرها فقال متنهدا والانهاك بادي عليه "اخلدي للنوم مرتاحة ميرا فلقد تدبرتُ أمره" ختم حديثه معها ثم نزل السلالم نحو الحمامات الجماعية، فنزع قميصه ثم بنطاله واستقر واقفا فوق رخام الاستحمام الأصفر، منتظرا نزول الماء الساخن.

 

اهتز نظام الأنابيب وصدح صوت الخزان يضخ، حتى انهمر الماء الساخن عليه وأرخى عضلاته التي تيبست من طول السفر. لم ينتهي حمامه عند هذا الحد فلقد ملئ لنفسه حوضا واستقر فيه مستلقيا بينما من الأعلى وصله هراء آدم الذي يهذي ليدرك أن الشراب تمكن منه.

 

غط رأس نيكولو في الماء وأذناه غرقت لكن ظلا استقر فوقه حجب عنه ضوء المصباح المتأرجح، فتح عينيه ليجد أنها بيلا واقفة فوق رأسه فتبسم ساخرا "لم تستطيعي النوم؟"

 

"لم استطع" جلست على حافة الحوض المجاور لحوضه وقالت بينما اصابعها تعبث في قرط أذنها "نيكولو هيا قل ماذا حدث؟"

 

"لم يحدث شيء" أراح رأسه على رخام الخوض كأنه وسادة "أحضري لي سجائري، إنها في جيب بنطالي" ولم يبقى طلبه معلقا، إذ حصل على سيجارته بين شفتيه ثم جفف يده بالمشنفة الملقية وراء رأسه ليشعل سيجارته بالقداحة. سحب نفسا عميقا واحترق عود السيجارة حتى توقف ثم ألقى بساعديه على جانبي الحوض وأخذ سيجارته بين اصبعيه لينفث الدخان فينضم لبخار الماء المتصاعد.

 

"هل انحل كل شيء نيكولو؟ أحزم الحقائب كي نعود؟"

 

"الآن؟" أراح جانب جبينه ضد يده "لا يا حلوتي لن نعود في الوقت الراهن"

 

"لما؟ على الأقل فلنهرب كي لا يعلم أحد بال..."

 

"صهه، لا تتحدثي بشجاعة فيسمعكِ أحد" عاود سحب النيكوتين كي يزيد من اتساخ رئتيه.

 

"نيكولو من فضلك! كف عن التصرف كأنك مستمتع بما يحدث، أنا مذعورة وانتَ يجب عليكَ أن تكون مذعورا! رباه هل انت مستوعب ما فعلتُه؟" ثرثرت والتوتر كان طاغيا عليها بينما نيكولو مسترخي يدخن ويده مسنِدة جانب رأسه.

 

"ميو كارو" لاطفها بلسانه وهي من فرط عصبيتها زجرته موبخة فبأي حال هي وبأي حال هو، لدرجة أن اتهمته بالاستهتار ثم في نهاية حديثها وجدت تعابير الاستياء تعلوه فأطفى سيجارته برخام الحوض الرطب والتقط منشفته، معلنا عن انتهاء سويعات استرخائه.

 

"نيكولو مهلا، أنا آسفة لم أقصد اغضابك" هزت رأسها بقلة حيلة لما نهض من الحوض وعقد المنشفة فوق وركيه "غضب؟ ولماذا سأغضب مثلا؟ إن ما أفعله هو استياء فحضرتك لا ترى للآدمي أمامها حقا بالاسترخاء " أعرب عن ضيقه بلسان فصيح واحكم على منشفته قاصدا منامته المعلقة كي يرتديها.

 

"كيف لك البحث عن لحظة استرخاء وأنا أمامك أقف هنا محترقة!" لم تكف عن جداله وهو زفر، فلقد اشتد ضيقه منها وألقى برأسه للخلف يلفظ اسم الرب بينما يرتدي بنطال منامته المخطط بالأخضر "أخبرتك أني تدبرت أمره فأي جزء من هذا لا تفهمين؟ قلت لكِ أن تنامي براحة فماذا تريدين أكثر من هذا؟"

 

"أريد أن أعرف المزيد!" ثار دمها وهاجت اعصابها عليه فجرته من كتفه كما تجر الأم ولدها الشقي وأدارته ليمسي مواجها لها "لا يحق لكِ كتم شيء وتركِ هكذا!" دفعته فارتطم ظهره بالحائط حيث علاقات الملابس مثبتة. ظنت بيلا نفسها في هذه اللحظة أفحمته وأنها أعلى منه شأنا وقوة، لكن الدوار اصابها من هول صدمتها لما وجدت ظهرها في اللحظة التالية ملاصقا الحائط الرطب والمناشف على جانبيها متدلية بينما فكها عالق بين اصابعه فما عادت قادرة على النبس بحرف.

 

شاهد نيكولو الرعب تجلى في عينيها من فعلته هذه ونفسه الواعية أنبته، فأرخى اصابعه عن فكها وهبطت يده لعنقها، هناك شعر بارتخاء عضلات بدنها التي تشنجت فلاصق جبينه بجبينها وشعره المبلل شارك جلدها رطوبته "ميرا بيلا، وقت صامت، هذا كل ما أطلبه منكِ الليلة وغدا فلنتحدث بقدر ما تشائين"

 

ابتعد عنها ويده طالت قميص منامته المعلق جانبها ليلتقطه ثم غادر قسم الحمامات الجماعية. اعوجت شفتى بيلا للأسفل ثم انزلقت منهارة لتجلس على الرخام وقبضت على شعرها بحزم نادبة حظها. فأي مخبولة غيرها من الممكن أن تفعل فعلتها هذه.

 

فلقد تزوجت نقيضها، رجلا يبتغي الوحدة في الأزمات بينما هي تبتغي من يشاركها أزمتها كي يمسك بيدها فلا يشتد عليها هلعها. وبيلا لم تكن بحاجة للرفقة إلا للهرب من دماغها لذا وبحكم حاجتها الملحة عرضت على الفتاتين مجاورتها في الفراش.غلبها النعاس أخيرا وهي راقدة بينهن في فراشها ولم تستيقظ إلا على صوت جلبة خارج غرفتها ففتحت عيناها لتجد ما حولها خاويا وشمس الظهيرة تسللت عبر الستائر.

 

نهضت بيلا غير آبهة بقدميها الحافية وأدارت مقبض الباب لتجد نيكولو قابعا يناقش والدتها التي سُحب لون وجهها باللحظة التي لمحتها، فراضاها نيكولو بأنه هو من سيصارحها لذا استأذنها بالدخول وأغلق الباب خلفه. لم تجد بيلا حاجة لسؤاله فتعابير وجهها كانت واضحة بما فيه الكفاية ليفهم فتحدث نيكولو.

 

"لقد عثروا عليه"

 

شهقت بيلا ويدها استقرت موضع فمها، حرارتها التي ارتفعت من هول الصدمة انقلبت لاحقا لتشنجات آلمت بطنها فاستندت ضد خزانة ثيابها. أعانها نيكولو على الفور ليجلسها وأخبرها أنهم عثروا عليه في المكان الذي وضعه لأجلهم وفهموا القصة كما أراد تماما حينها بحثت بيلا عن أي شيء لتضربه به "أقول لك أنا حامل! أي جزء من حامل لا تفهمه! رباه!" عادت بظهرها للخلف كي تستلقي وتمدد ساقيها "أقسم أنه كاد أن يسقط بين ساقاي" ألقت بذراعها فوق عينيها تطالب ببضع دقائق لتسترد نفسها فمن شدة انقباض معدتها ظنت أن ولدها سينزل في هذه اللحظة.

 

شعرت بيد نيكولو تستقر على ركبتها، يعتصر عليها لأجلها "طالما أنه لم يسقط البارحة فلن يسقط اليوم" دنى منها ليستلقي على بطنه جانبها بينما مرفقاه رفعا من صدره كي يعاين وجهها "فأي فاجعة من الممكن أن يعيشها اكثر إثارة من والدته وهي تفلق رأس معلم بلدتهم بفأس" تبسم بجانبية ساخرا "لم أعهدكِ شرسة تحاربين العلم هكذا"

 

"إن كنتَ تخال نفسك مضحكا، فخذ الخبر الصادم انتَ لست كذلك" أنزلت بيلا ذراعها وألقت بها جانبها "وخذ ما هو أسوء، فقدت ترقيتك لزوج هذا الشهر"

 

رفعت بيلا حاجبيها مستنكرة أمره لما وجدته مستمتعا بما تقول فراجعت قولها، لربما ذكرت أنه ترقى عن طريق الخطأ. دنى نيكولو بوجهه منها مقتربا وهي أوجست منه خيفة فنطق هامسا "لكنِ موظفُ الشهر في قسم محو جرائم الزوجات" امتدت يده آخذا خصلتها فلفها حول سبابته "كل محاولات انقلابك على رئيسك مقبولة لنهاية هذا الشهر" أعطاها من عنده عرضا مميزا لتحاول التخلص منه وقتله.

 

"لأول مرة أرى رئيسا متحمسا هكذا لانقلاب كادره عليه"

 

"يقولون في الجرائد أنه الأدرينالين"

 

"إن كنت تتوقع إنقلابي فبالتأكيد معناه أنك تعلم عن سياستك المجحفة ثم انتظر لحظة، من عينك رئيسا علي؟"

 

"نعم، هذه هي العصبية التي انتظر والآن هيا حركي هذا البدن السمين وارتدي الأسود فسنمشي اليوم في جنازة حبيبك السابق" صفع جانب فخذها ثم نهض من جوارها ليفتح بابي خزانتها ويبحث لها عن الأسود غير آبه بالصدمة التي تعلو وجهها من قوله.

 

"انت مستمتع بما تفعله أليس كذلك؟"


"ألا تملكين ملابس جنازة أنيقة؟"


"انت حقا مستمتع بما تفعله"

 

أومئت بيلا متوعدة ويدها طالت وسادتها لتلقي بها عليه فأصابته "لا تظن نفسك ستلمس مني ما تشاء فإني ساخطة عليك! تركتني ليلة امس وحيدة! ألم تفكر بالكوابيس التي قد تراودني؟!"

 

"كيف أجاوركِ في الليل وانت قد جعلتِ الفتاتان كالحصن المنيع حولك؟ اضطررت لسماع شخير فيليب الليل بطوله" علق نيكولو بينما يبحث حتى وجد ثوبا أسودا لكنه ضيق الخصر والصدر، بالكاد يسع بدنها الجديد الذي امتلئ من كل النواحي. رفع نيكولو حاجبيه مستذكرا أمرا قد تنبه له للتو فقال "يستحسن بكِ ألا تلازمكِ هذه الحالة لاحقا عندما يشرفنا إيمليانو وتنامي إلى جواره في الخلافات"

 

"بالطبع سأفعل ذلك، ألا تحب البقاء وحيدا؟ أنا سأحقق لكَ هذه الأمنية"


"عادات أمكِ هذه لن تلحق بنا للمنزل يا بيلا"


"أجل نتركُ عادات أمي فنقوم بعادات والدكَ انت"

 

جادلته بيلا وكادت أن تصفعه بعيوب أسرته لكنها سحبت فرامل أعصابها لما هو أهم "ثم انتظر عندك لحظة، من إيمليانو ذاك؟"

 

"ومن من الممكن أن يكون غير ولدنا؟" حل نيكولو حزامه وزلقه من مكانه ليفك أزرار بنطاله، لم يكلف نفسه عناء محو ابتسامته وهي تسمعه سيمفونية من الصياح على قراره هذا "اخبرتك في المرة الماضية قبل سفركَ أن أمي أرادته أن يحمل اسم جدي لوسيانو! لا يمكنك تغيره فجأة من تلقاء نفسك!"

 

"لا أذكر أني وافقت على قرار والدتك"


"اقسم انت متعطش لغضبي اليوم"

 

جلست بيلا على الفراش معتدلة وبحثت عن وسادة لتضربها به "كيف تدعوني للمشي في جنازة المعلم ماتيو! ماذا سيقولون عني؟! لن اذهب، ليس عندما يكون المرحوم هو حبيبي السابق الذي قتلته" هزت رأسها نافية ترفض الخروج "ثم انتظر عندك، ما أدراك أنه حبيبي السابق حتى؟"

 

"لقد علمت" غير ثيابه للون الأسود وقد ترفع عن ذكر تفاصيل بينما ولد هذا رعبا في جوف بيلا لظنها أنه من الممكن اكتشافه أمر تلك اللحظة التي عاشتها بصحبة ماتيو قبل قتلها له. لم تنبس بيلا بعدها بحرف آخر ورضيت بما فرضه نيكولو. فلعبت دور التعيسة أمام والدتها من خبر إيجادهم جثة المعلم ماتيو ملقية على ضفة البحيرة وعانتدها بأسلوبها المعهود أن تمشي في جنازته. رفضت والدتها قدومها ونيكولو أيضا لعب دور المجادل لرأي بيلا لدرجة أن ظنته حقيقة؛

 

"كلمة واحدة مني يا ميرا! انتِ لن تصل لتلك الجنازة! ليس وانتِ بهذا الحال!"

 

"بل سأذهب، انت لن تمنعني عنه فإني أعرفه من قبلك ولحضرته مكانة في قلبي!"

 

اشتد الجدال بينهما أمام والدة بيلا التي ضربت على جبينها برعب من ابنتها ذات الرأس السميك والتي توشك على هدم أسرتها قبل أن تحضى بواحدة، فدخلت كحاءل بينهما وصرفت كل واحد منهما بصوب، أرسلت بيلا مع ابنتي اختها كي تتجهز وهي جالست نيكولو تخفف من ثوران أعصابه فلا ينفصل عن ابنتها في هذه اللحظة.

 

"يا نيكولو تريث ولا تغضب"


"أما رأيت ابنتكِ قد ركب العناد رأسها؟! بل وتقول لي بكل بجاحة أن له مكانة في قلبها! بئسا لها ولقلبها العفن!"

 

"إنها حامل متعبة والمتعب لا يسعه التفكير بشكل سوي، اعتبره مجرد صديق طفولة وليس حبيبا سابقا لها"

 

ارتدت بيلا الأسود في ذلك اليوم تحت أشعة شمس شهر تموز الساطعة وجاورت نيكولو بينما يشهدون مراسم الدفن بصمت وفي الخلف كانت زوجته منهارة، تناجي ماتيو أن يصحو من قبره ويخبرها أن هذا كله ما هو إلا مقلب. ظنت بيلا أنها ستقف متماسكة لكن دموعها انهمرت خلف الدانتيل الأسود المنسدل من قبعتها، فلقد عصفت ذكرياته بها من اللحظة الأولى التي إلتقيا فيها حتى الفأس الذي فلقت به رأسه. وما جعلها تبغض نفسها اكثر، ذلك الشيطان الذي ذكرها بملمس شفتيه الوافرة بينما زوجها واقف إلى جوارها وخلفها زوجة المرحوم تندب حظها متحسرة.

 

"رومان" لفظت اسمه راجية "لنذهب فما عدت احتمل" وكما تمنت هو أخذها نحو السيارة كي تستريح وكلما سألهم أحد أجاب عنها، وضع بيلا في سيارة أخيها وكاد أن يجالسها لولا مقاطعة أحد الحاضرين له ووقف يحادثه ويسرد له عن أمجاد المعلم بينما نيكولو يسايره متأثرا والشفقة بادية عليه. تأملته بيلا من خلف نافذة السيارة وبرعاته في التمثيل أرعبتها، فلو لم تكن متأكدة من أنها أشركته في مصيبتها لظنته جاهلا بما حدث وحزينا على خسارة أسرته. إذ أنه لم يبدوا إطلاقا كما لو أنه الشخص الذي تخلص من الجثة.

 

ولم تزح بيلا طرفها من عليه، فلقد راقبته لما اجتمعوا في دار السنيور ماتيو، يستكملون بقية العزاء، كان نيكولو شديد التأثر واكثرهم مبادرة للخير عندما قرر الأهالي جمع مبلغ مالي يعيل الابن ويسد حاجة والدته لدرجة أن احضر له دمية وثيابا جديدة.

 

وكان متفاعلا في كل نقاش يفتح في العائلة على مائدة الطعام عنوانه ماتيو، بينما هي قامت بانهاءه راجية منهم ألا يجلبوا سيرة وفاته أمامها، فهي لم تتخطى ذلك بعد وأمها ساندتها لكونها تعلم بحقيقة مشاعرها التي لم تمت بعد تجاه ذلك المعلم.

 

وفي إحدى الأيام وصل لنزلهم نزيل جديد فعاونت بيلا أسرتها وبينما كانت منهمكة بإعداد الغداء دخلت والدتها عليها واسمعتها موعضة عن العائلة فقالت "إني أعرف بُغضكِ لي إن جلبتُ سيرته لكن ها نحن ذا يا بنيتي نجتمع في المطبخ بسببه" استنكرت بيلا أمر والدتها التي قد لان صوتها لأول مرة وأتتها كأم حنون مشفقة لا أخرى حازمة تشد عودها "ما عاد له وجود فاكسري تعويذته من عليك بيلا، تخلصي من مشاعركِ نحوه وتمسكِ بزوجكِ"

 

تبسمت بيلا ساخرة فسألتها "وهل أوصاكِ نيكولو بقول هذا؟"

 

"لا علم له بحديثنا، أرسلته لمركز البلدة فيقوم بالتسوق" امتدت يد أمها لتطول كتفها، الذي اهتز ثباته وذبل على الفور فألقت السكين من يدها وعانقت والدتها تذرف على كتفها دموع سعادتها التي لم تتحقق.

 

"لقد نسيته، أقسم لك أني نسيت هناك هيئته ونسيت سيرته لكن عندما عدت وآتى للقائي لم أقاوم" انتحبت بيلا وحكت لأمها عن هذا الشعور الذي عقدها بماتيو مجددا، فلقد ذكرها ماتيو بصباها وأيامها السابقة الحلوة حيث لا تملك مسؤولية ولا طفل وأقرت أنها ارادت رؤيته راجيا إياها طالبا عفوها كعبد مثقل بالخطايا يتوسل راهبا.

 

عزمت والدتها على تأنيبها لكن بيلا بالفعل امتلكت ما يكفيها من تأنيب الضمير فأفصحت لها عن النزعات والتقلبات التي عصفت بها فبين زوجها؛ ذاك الذي اتخذ خطوة حاسمة نحوها ونصبها فردا من عائلته لدرجة أن وهبها ابنه في احشائها وبين ذاك الشاب اليافع الذي وهبها قلبه فهو كل ما يملك. فلا بمال وفير حضي ولا مسكن لائق بل وحتى عقله لم يملكه، إذ كان ولدا مطيعا لوالدته.

 

وبالنسبة لحقيرة نفسٍ مثل بيلا -كما وصفت ذاتها- الخيار الثاني كان اكثر تشويقا، أغراها لتتشبث به مجددا ورضيت بما عرضه عليها ماتيو من خيانة. بالطبع والدتها شهقت وتراجعت عن ابنتها مستنكرة رضاها بتلك القبلة النجسة من شفتين كشفتي ماتيو "يا ليتني لم أمشي في جنازته" ضربت والدتها على رأسها من هول مصيبة ابنتها ولم تعلم كيف ستداري عليها.

 

لكن ما جعل البؤس يعتريها هو فشلها في تقويم ابنتها فتصبح امرأة سوية ذات فكر راجح "أمي..." تقربت بيلا منها بعينين فائضة بدموع الندم لكن الجرس الذي رن اخرسهما، فخرجت والدتها لترى من على الباب، والذي كان نيكولو. رحبت به والدتها مخفية توترها وشكرته على صنيعه ثم انتقلت بطرفها لابنتها "بيلا، تعالي ها هو نيكولو قد عاد"

 

وفي حين لحظة انشغاله أشارت لها أن تمسح عنها دموعها وحذرتها من النطق بحرف عن ذلك اليوم المشؤوم لزوجها أو لأي أحد غيره "هذا السر ستأخذيه معكِ لقبركِ ولن تفصحي لأحد عنه" خرجت بيلا من المطبخ مطأطأة الرأس وحييت نيكولو بلا نفس ثم انحنت لتحمل الأكياس التي كان ينقلها من صندوق السيارة للباب.

 

"على رسلكِ" أخذ نيكولو عنها المشتريات ولما فتحت فاهها لجداله هو الصق شفتيها بخاصته فلا تسمعه الهراء، سحبت بيلا ذاتها منه وقبل أن تنطق مجددا قال "اتفق معكِ فلقد اشتقتِ لكِ أيضا" لجم شفتيها بقبلة أخرى ثم فصلها قاصدا المطبخ ليضع المشتريات.

 

ألقت بيلا بظهرها على باب النزل، تمسح عن شفتيها قبلته بظهر يدها وأمها في نهاية الردهة واقفة تتأمل حال ابنتها والتي افلحت بإفساد زواجها بكلتا يديها "نيكولو عزيزي" وجهت حديثها له بينما يرتب المشتريات بسبب نفسه التي الزمته الولع بكل ما هو منظم "نعم سنيورة؟"

 

"هل سيطول مكوثك هذه المرة لدينا؟"


"تقريبا، أخذت إجازة جيدة هذه المرة من العمل"


"هذا رائع، الليلة سيذهب آدم مع الفتية لمهرجان محاصيل الطماطم فاذهب معهم كي تستمتع، أعدكَ أنهم يقدمون فطائر جيدة"


"لما لا، ستحب ميرا الذهاب معنا بالتأكيد"


"يا بني إن ميرا ستذهب معي للزيارة"


"زيارة؟ أي زيارة تلك التي تقام مساء؟"


"أقصد زيارة للأب يا بني، ما بك ألا تذهب للزيارة في العادة؟"

"آه، أجل"

 

هز نيكولو رأسه لا يصدق أنه لم يفهم مقصدها فأكملت الوالدة "سأطلب منه الصلاة لأجلك"

 

"من فضلك" تبسم نيكولو واكمل فعل ما يشغله وفي المساء انقسمت العائلة، كل منهم ذهب صوبا، فآدم أخذ الفتية ونيكولو للمهرجان بينما والدة بيلا جرت ابنتها من ذراعها تسوقها لطريق هي لم تسلكه منذ أن أقيم زواج ماتيو.

 

"أمي لما سنذهب للأب؟"


"كي تتوبي عن خيانتك يا ابنتي فإني قد سئمت"


"أمي لا أريد، إن نطقها صعب ومهين"


"ألستِ صادقة في ندمكِ؟ إذا تعالي معي كي تزول عنك نجاسة عملك وعيشي كامرأة نقية"

 

عاندت بيلا وكم كانت دموعها غزيرة وهي تقر بعملها المشين بينما والدتها ماكثة خلف الستار تنصت لحديث ابنتها مع الأب، كي تتأكد من خروجها هنا بلا ذنب، وما فعلته السنيورة ليس لأجل نيكولو فهي لها علم بالرجال يكفي حاجتها، وموقنة أن له نزواته الخاصة مثل ابنتها.

 

 زوجها المرحوم كان كذلك، ليس كثير النزوات وإنما صاحب مشاعر متينة كالكلاب، إن تطعمه يمسي لك عبدا، فيرضى بعضة الذئب المهلكة. وهذا ما حدث له، وهبته زوجته الأولى شطرا من الحب فبقي عالقا في هيئتها، لا يقوى على تجاوز تلك، حتى بعد تزوجه للمرة الثانية وحصوله على ذرية منها.

 

وهذا ما لم تطقه السنيورة في ابنتها، حصولها على الكثير جينات والدها الحمقاء وآدم امتلك منها أيضا، فها هو معرض عن الزواج منذ اليوم الذي ألقت به زوجته وذهبت لأخيه، فحرم ابنه فرصة الحصول على أمٍ جديدة قادرة على وهبه من الحب ما يستحق.

 

وبين براثين غضبها المنصب على ابنتها أغمضت عينيها بأسى على ذنبها، فهي قد علمت منذ البداية أن ابنتها البلهاء لم تتزوج إلا لتنتقم من عواطفها لماتيو، وظنت السنيورة أنه لربما مع الحياة الجديدة في العاصمة ومشاق الزواج هي ستنسى أمره وستجد لها وتدا جديدا تربط به طوق الكلب خاصتها.

 

فأي امرأة عاقلة قد تهوى رجلا غير الذي تشاركه فراشها وبدنها؟ كيف لها أن تفكر بأحد سواه؟ مريضة من تفكر هكذا وبيلا مريضة، مريضة بشدة في رأسها. هكذا أيقنت والدتها.

 

حملت والدتها ذنب ما اصاب بيلا، يا ليتها منعت ابنتها من الزواج فلا تمس مشالكها آخرين ويا ليتها أبقتها في النزل، تعمل ليل نهار حتى تنسى، فهذا ما نجح معها، هي احبت أيضا في صباها ولم يخرجها من وجع القلب سوى العمل المفرط.

 

ولأن السنيورة أيقنت عجزها عن ترويض ابنتها هي لجأت للصلاة، داعية بكل إخلاص أن يجرد الرب ابنتها من الهوس الذي تملكه في ثنايا روحها ويهبها روحا نقية لا تتعبها ولا تتعب من حولها.

 

في تلك الليلة عادت بيلا مسلوبة الروح لغرفتها ومسار دموعها يبس على وجنتيها، خيل لها رؤية نيكولو يقوم بحل الكلمات المتقاطعة ويعلوه بجامته المخططة المعتادة لكن عوضا عنه هي وجدت ورقية مطوية كتب فيها عبارة؛ أنا في السطح، انتظرك إن عدتِ.

 

ألقت بيلا الورقة آملة بالنوم لكنه لم يشرفها وقدماها ساقتها نحو باب السطح فدفعتها ونسيمه العليل هب محركا بعض خصلها الفارة من عقدة شعرها. لم تكن بحاجة للبحث عنه فهو بالفعل كان جالسا في مرما بصرها، ظهره موالي لها وكما خمنت، منامته المملة تلك تعلوه.

 

مشت بيلا حافية القدمين فوق الأرضية الاسمنتية والأفرشة تطايرت على الحبال مرفرفة حالها من حال الثياب التي نشرتها والدتها هذا الصباح. سحبت بيلا لأجلها كرسيا وجلست عائدة بظهرها للخلف  وقد فرقت بين فخذيها لتبدوا هيئة المرأة الحامل خاصتها مكتملة.

 

"الكلمات المتقاطعة مجددا؟"


"بل لعبة سدوكو هذه المرة، فيليب أعطاها لي"


"إنها لعبته المفضلة"


"مشروب غازي؟"


"خلتك ستعرض عليَ الشاي"


"شاي وفي شهر تموز؟ لا طاقة بي لأستحم مجددا، صعدت للأعلى من حرارة الغرف في الأسفل"


"لا تقلق سيزداد الحر فشهر أغسطس على الأبواب"

 

حلق الغطاء المعدني عن الزجاجة وتصاعد الغاز فائرا، التقطته بيلا لتتجرع منه ما سيبرد جلدها قليلا ثم امتدت بطرفها للسماء الفارغة، لا نجمة فيها ولا غيمة حتى البدر كان في هذه الليلة محاقا.

 

"هل تصدق أنها سَنة؟"


"مم؟"


"في مثل هذه الليلة، العام الماضي، أخبرتني أن استعجل فقطارك سيعيدك غدا"

 

رفع نيكولو قلمه عن الورقة فحديثها جعل من وعيه يصحوا، فهذا السقف ركضا فوقه بخفة حركة، كي يلاحقا كرة التنس فلا تسقط أرضا ثم يضطر الخاسر حينها لنزول السلالم لإستعادتها "أود لو أعرض عليك لعب التنس مجددا لكن وضعكِ الجديد لا يسمح بهذا"

 

"لا عليك قمتُ بما هو اصعب قبل بضعة أيام" رفعت بيلا قدميها فألقت بها على المسند حيث يريح نيكولو قدميه بالفعل. الهالة بينهما كانت مسالمة والتعب تجلى عليهما ثم امتدت يد نيكولو ولأول مرة استقرت على بطن بيلا البارزة من تحت ثوبها. مرر يده بروية يستشعر هذا الأمر الغريب بداخله كما لو أن روابط متينة قد فرت منه لتلتف حول ما يوجد داخل بطنها، لدرجة أنه تمنى حضوره في الساعة ولا يطيل الغياب أكثر.

 

"لازلت على كلمتي بالمناسبة، انتَ لن تلمس شعرة مني بعد تلك الليلة في السرداب" علقت بيلا منكدة عليه لحظته الشاعرية مع بطنها فيومها مر بشكل مريع وهو عليه أن يذوق منه قليلا. هكذا فكرت بيلا. كي يفهمها اكثر ولكي يعظم تقديره لها.

 

"ميرا، قلتها بنفسك، لقد مرت سنة بالفعل" هز كتفيه وعيناه منهكة من السهر، فلقد كان ينتظر عودتها ولم ينم "هذا أنا وعليك الاعتياد" ألقى بذراعه على ظهر كرسيها "عندما أقول أحتاج الهدوء فإني أعنيها حقا"

 

"وكيف ستمر السنين التالية علينا؟ في كل مرة أحتاجك فيها ستصيح عليَ أن ألتزم الصمت؟ ماذا عن الولد؟ ألن يبكي؟ ستضربه كي تخرسه أم ستفر مجددا لبيت اختك؟" ألقت بيلا رأسها على كتف نيكولو "لازال قلبي مفطورا من دفعكَ لي على الحائط، إني لا أطيق العنف رومان"

 

"قول سديد من التي بدأت الجر والدفع" أراح رأسه فوق رأسها.

 

"كنتُ غاضبة وانت لم تساعدني"


"كنتُ مستآءً وانت لم تتوقفي"


"مما انت مستاء؟ أنا التي فلقتُ رأسه بفأس"


"وهل يخيل لكِ حقا أن ما أوجعكِ لم يوجعني؟"

 

اعتدل كلاهما برأسه يتبادلان النظرات بلا حرف إلى أن قررت بيلا النطق مفسدة كل بصيص أمل لإقامة صلح الليلة "إن وجعك ما هو إلا غرور خدش لأن هناك من وضع يده عليَ غيرك" زمت شفتيها قبل أن ترتجف والدم تجمع في أنفها يحذرها من هبوط دموع جديدة "انت لم تذق شيئا مما عشته من الرعب والذنب" استحت بيلا من وصفه بأنه مجرد جزار عادي من العاصمة وأن أكبر أوجاعه هن أخواته المهوسات وليس هي.

 

انتقل نيكولو بطرفه للأفق الشاسع أمامه يتأمله وفي جوفه شعور واحد لا غير، أن هذه المرأة إلى جواره باتت فجأة بعيدة عنه كل البعد، كأنما بينهما ليس مجرد سنتمتر واحد يفصل بين كرسيه وكرسيها، بل محيطات، قارات وحياوات، لقد شعر أن ما بينهما عُمر مختلف وسنين مختلفة.

 

لقد أحس لأول مرة، أنهما لم يلائما بعضهما البعض، فبهت وهج قدسيتها من عينيه...


.....


في صباح اليوم التالي ذهبت بيلا لزيارة صاحبتها وبعد الكثير من الخوض في قصص أهالي البلدة عاد زوجها للمنزل فدخل عليهما وهما جالستان، تعاينان الخرز في محاولة لإختيار أجملهن، فصديقة بيلا استحلفتها أن تختار منها كي تضيفها للغطاء الذي تخيطه لمولودها.

 

"عدتَ مبكرا اليوم!" قالت متعجبة بينما عيناها مشغولة بادخال طرف الخيط في حفرة الإبرة كي تباشر بالتطريز.

 

"لقد فعلت، ألم تأتي اختي وتبلغكِ بالخبر؟"

"أي خبر؟"

 

نزع السنيور قبعته، الأمر الذي سبب تشنجات في بطن بيلا فالنظرة على وجهه لم تكن نذير خير إطلاقا.

 

"عثرت على ابنتها راكدة في فراشها بلا حركة"


-----------


مجرد تذكير بسيط؛ يا جماعة بيلا حامل فقدروا نفسيتها الزفت، هذه الملاحظة كلما انساها اذكر نفسي بيها حتى أعرف أنا ليش مقررة أنكد عليكم بالفصل 





عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz