استفاقت بيلا لاهثة والذعر تملكها من أزيز أفواج الذباب، والذي لمع باللون الأخضر والأزرق متجمهرا على وجهها، يحوم فوقها، لم تعنها الكلمات فكل ما خرج منها أنين من اللاتي تسللن لفمها وعلى الفور بصقتهن. عزمت على النهوض ودفعت القش من حولها لكن شهقتها خرجت عالية، لما فطنت أمر الثقل على بدنها والذي تبين أنه بدن ماتيو مع الفأس عالقا في رأسه...
اهتز أنينها وكادت أن تصيح لكنها عضت شفتها باسنانها لتكتمه ثم اغلقت بيدها، حاولت الزحف من تحته ولما غلبها ثقله هي استعانت بيديها فاسقطته من فوقها على جانبه والفأس حينها غرس عميقا في رأسه وتدفقت عصارة بيضاء بغزارة، مجبرة بيلا على استفراغ كل لقمة دستها في فمها هذا النهار.
ألقت بيلا نظرة نادمة نحوه عينيه الواسعة على مصرعيها والذباب مر فوقها كأنها قطعة من القذارة "م.. م.." عقد لسانها داخل فمها حرفيا وأناملها امتدت لكتفه تهزه كي يستفيق ولما لم يرف له جفن أو أن ينطق؛ أعوج فمها من قوة تشنجات الرعب، فاكملت النشيج وجبينها ملاصق للقش تندب حظها.
حثتها غريزتها البدائية على الفرار كي تنجوا بجلدها من هذه المصيبة فنهضت بوهن وعن طريق الخطأ دهست على العصارة البيضاء المتدفقة من جمجمته فاقشعر بدنها واشتد أنينها المتقزز، عضت على شفتها بقسوة كي تكتم صوتها ثم استرقت النظر عبر بوابة الحظيرة ووجدت المزرعة خالية، انتقلت بطرفها نحو جثته، هامدة قد تجمع عليها الذباب والبقرة المعقودة من عنقها انتقلت بطرفها لبيلا تحملق بها بالمقابل.
كادت أن تفر لكن دماغها استمر بالوميض يصور لها حال البلدة إن عثرت عليه، فاخذت ساقيه بصعوبة وعانقتهما بعد ان كادتا تنزلقان بضع مرات، حبست الهواء في جوفها فجرته والفأس في رأسه لاصقه، الى ان ارتطم بصخرة فخرج من الشق الذي صنع وفار الدم بغزارة "لا! لا! تبا" ألقت بيلا بقدميه ثم من قميضه موضع كتفه جرته، فتعثرت وسقطت على أردافها بينما هو استقر في حضنها وعيناه منصبة عليها.
أغمضت بيلا عينيها، غير قادرة على النظر إليه، اسقطته من عليها ثم مرت من فوقه لتأخذ الجانب الآخر فدفعته كي يلاصق الحائط وبكل ما حصلت عليه قبضتها، غطته بالقش وبالعلف. وبعد تأكدها من أن لا جزء ظاهر فيه عزمت على الفرار مجددا لو لم يستوقفها منظر الفأس الذي علق فيه نصله بقايا شعر ماتيو الملطخة بالدم.
حملقت به ولم تغادر هذه المرة إلا بعد القاء الفأس الى جوار ماتيو، حينها خرجت الهانم من الحظيرة أخيرا بخطى مترنحة، قاصدة نزل شقيقها، كان شعرها أشعثا كثير العقد والقش زاد من قبحه فبات كعش للغربان. أما عن وجهها وعنقها فقد يبس الدم عليه كما يبس على ثوبها الأصفر.
بصقت بيلا بقايا القش والتي بقيت عالقة في فمها انتزعتها باصابعها الملوثة بالدم، اكملت المشي حافية القدمين وبالصدفة هي قطعت الطريق الخلفي للمزرعة وليس الأمامي، والعجيب أنها قامت بهذا كله في حين أن ذهنها لم يحوي عبارة سوى -المنزل- فهي نفذت ولم تبصر أو تعي ما حولها، إذ أن عيناها كانت مثبتة فقط على الطريق الوعر أمامها، منقادة خلف غريزة البقاء على قيد الحياة.
كانت شمس
الظهيرة ساطعة احرقت جلد بيلا وشعرها، وبفضل رائحتها العفنة أصبحت وجهة يقصدها
الذباب أثناء قطعها التلال الوعرة، تجرعت بيلا حلقها كي تبلل ريقها بينما كان الذباب
وابناء عمومته من ذباب الجيف يسير على وجهها ومواضع من بدنها ينعمون بوليمة فاضت
بالدم والعرق.
قطعت السنيورة
الحامل، شوطا بين محاصيل الطماطم التي فاحت رائحتها من عناقيدها و شدو طيور الدوري
المتسابقة مرت كالخطاطيف، تصيد كل حشرة فكرت بالقفز من ورقة لأخرى. صنعت الشمس من
قسوة حرارتها سرابا لبرك من الماء وخوار البقر الذي تلاحم مع رنين أجراسها، أبلغ
العابيرن بوجود قطيع يستريح وعجول تقفز لاعبة، بينما كلاب الراعي على بعد مسافة
تجلس مترقبة. ومن أعالي شجر البرتقال، نعيق الغراب ذكر الناظر بوجود قطعة سوداوية تمر في هذه
اللوحة الفنية عن مزارع بلدة جيونكاريكو، ألا وهي بيلا....
فارتفعت آذان كلبين أسودا الشعر من نوع كاني كورسو وانتقلت ابصارهم نحو
بيلا العابرة، فنهضت كبيرتهم ولحق بها الصغار حتى باتت على مقربة من بيلا،
فاستنشقت رائحتها بينما تسير إلى أن تلاشى ريبها فجلست على قوائمها الخلفية وبفضول
تابعت السنيورة حتى اختفت من أمامها في الأفق.
كان خرير
الجدول على بعد مسافة منها وقدما بيلا لم تتريث للراحة أبدا، بل وخطاها بقيت
محتفظة بذات السرعة حتى بعد اجتيازها مزروعات والدتها في الحديقة خلف نزلهم. أي
نعم هي تعثرت في بعض المواضع لكن قدماها أستقرت أخيرا على الأرضية التي رُصت
بالحجر أسفلها وعيناها ارتفعت للوحة التي حملت اسم نزل لا روس فوق بابهم البنية.
"ميرا؟"
استدارت بيلا
نحو المنادي والذي كان نيكولو، معقود اللسان من هول ما رأى "ميرا..." أدرك
أخيرا ما تراه عيناه، فأسقط حقيبة سفره وهرول نحوها مسرعا، دون أن يبالي بأمر
قبعته البيضاء التي تركت رأسه.
حصل نيكولو على
وجنتيها بين يديه، فهش الذباب عنها ثم هزها من كتفيها كي تستفيق إذ كانت شاردة
العينين "ميرا!" وبيلا عزيزته قد تردى صوته في لفائف دماغها وشيئا فشئيا
عاد لها رشدها، فاعوجت تعابير وجهها من المآسي وفاضت عيناها، لتباشر باسماعه سمفونية
من مقاطع الجزع، إذ بدأت بتآوه فشيق ثم نحيب حتى وصلت للنشيج.
"ميرا؟! ميرا بيلا انطقي ماذا اصابك؟! من فعل بك هذا؟!" افلتها وسار نحو الحديقة بخطى باطشة، عازما على فلق رأس من فعل بها هذا، فحالها لم يعني إلا شيئين اثنين لا ثالث لهما، إما أنها تعرضت لحادث مريع أو هناك من تجرأ وتجاوز حده معها وبالنظر إليها كان الخيار الثاني صائبا بالنسبة له.
امتدت يد بيلا لتطوله فلا يبتعد عنها وهو لم يكن بوسعه سوى زلق ذراع أسفل ركبتيها والآخرى تحت ظهرها ثم هرول بها مستعجلا لغرفتها وتأكد من إدارة المفتاح بالقفل.
أي نعم هو سايرها
في البداية ثم قسى عليها ملحا، كي تنطق بما حدث، ففعلت لكن غصاتها جعلت من الفهم
صعبا عليه فوبخها "ميرا! ميرا إني لا أفهم حرفا مما تقولين! تمالكي اعصابك
وانظري إلي!" التقط فكها بقبضته فلا تأخذ عيناها لمكان آخر، ثم حثها على جمع
شتات نفسها وما أرعبه أن صدمتها هذه تشبه أول صدمة حضي بها عندما أزهق والده روحا
أمامه.
"الفأس
دخل في رأسه!" أخبرته والذعر لم يفارقها بينما اصابعها المرتجفة، تمثل له ما
حدث "دخل عميقا، عميقا في رأسه ودماغه تدفق للخارج" هزت رآسها بآسى لا يسعها النظر له.
"ماذا؟!
هل وقع حادث أمامك؟!"
هزت بيلا رأسها نافية وتجرعت لعابها عندما وصلت للنقطة التي استنزفت فيها جميع دموعها "ضربتهُ بصخرة... ضربتهُ بصخرة ليبتعد" توسلته أن يصدقها "أقسم لك أن نيتي كان دفعه عني وتخويفه لكن لم أقصد أن يدخل الفأس رأسه، لم أقصد قتله"
رنت كلمتها الأخيرة في ثنايا عقله، يحملق بها وكم كره أنه أصاب مرتين، الأولى بيقينه أن هناك من وضع يده عليها والثانية تأكده من أنها قتلته عن طريق الخطأ.
"إني مسخ، لا بل شيطان وضيع!" صاحت بيلا لما رأت نيكولو لا ينطق، فأدركت أن حياتها ومستقبلها الواعد لن يكون في مكان غير السجن "أمي ستنهار إذا دخلت السجن، رباه لا يمكنني ولادة طفلي الأول خلف القضبان، سأموت يا نيكولو سأموت"
"آه ميرا أرجوك" تنهد مما تفوهت به فأخذ برأسها ودسه في قوس عنقه بينما يده مسحت على ظهرها "فقط أخبريني بما جرى" سايرها نيكولو حتى تمكنت أخيرا من قص ما اصابها لكن مع الاحتفاظ ببعض التفاصيل، مثل أنها بادلت ماتيو تلك اللحظات العاطفية برضاها، فتشكلت القصة في رأس نيكولو؛ أن ماتيو لهو رجل حقير قد تجرأ على تدنيس زوجته الحامل بقذارته وهي قاومت تدافع عن شرفها.
"نيكولو
من فضلك، دعني أرى أمي قبل أن تبلغ الشرطة، أود توصيتها بأن تعتني بولدنا بعد أن
ألده هناك" توسلته بعد أن تلاشى أملها ورضيت بالواقع المرير "رباه، زوجتك
الأولى هجرتك والثانية مجرمة، اقسم لك أني آسفة فإغفر لي"
"بماذا تهذين؟ مخبول أنا إذ سلمتكِ للشرطة، تعالي لأغسل لك وجهك ولنبدل ثوبك هذا" جرها من ذراعها نحو الحمام.
"لما؟ ماذا ستفعل؟" سألته ودموعها يبست على وجنتيها فأجاب "سنتخلص مما تبقى من الملعون" أدار الصنبور كي يتدفق الماء في حوض المغسلة.
صعقت بيلا من رده واصابعها طالت فمها لتغطيه، ثم تمسكت به تترجاه أن يعدل عما يفعل فلا يمسي متهما مثلها، فهي لن تسامح نفسها إن دخل السجن بسببها. حينها دنى نيكولو من وجهها ويده استقرت على الباب خلفها حتى باتت محاصرة بينه وبين الباب "لقد قمتِ بالصواب ميرا فكفي عن الذعر، لو لم يدخل فأسك برأسه لكان الحجر بيده هشم وجهك الجميل هذا" مرر قفا اصابعه على وجنتها الملوثة بدمه.
"لا
تظني أبدا أنه كان سيدعكِ حرة طليقة" هز رأسه وهي انصتت إليه، كما لو أنه
منجاها، ففي هذه اللحظة لم يكن لديها حل سوى الانصياع له والإيمان بما يقول، فأين
عساها تجد رجلا يقف إلى جوارها في مصيبة كهذه ويأخذ بيدها نحو بر الأمان "صدقيني
عندما أقول أنه كان ليحفر حفرة تسعك فيلقيك فيها، غير آبهٍ إن كنتِ ميتة أو نصف
حية"
"كان
سينهال عليك بالضرب حتى يمحوا معالمك فلا تتعرف عليك والدتك ولكي يسعك الشوال هو
لن يفكر مرتين قبل ثني عظامك وكسرها فيكدسك" ردد نيكولو وكل ما وصفه لها قد تجلى في عينيه، فزاد من الحرقة في
صدره، لأنه لو لم تكن بيلا محظوظة بما فيه الكفاية لأتى اليوم إلى بلدتها يبحث عنها
كالأحمق.
طأطأت بيلا بصرها ومالت بوجنتها لمعصمه مؤمنة بما يقول، فلقد رأت عيني ماتيو عندما سحق عنقها الهش بيديه، وتذكرت
طعم القش الذي دسه في فمها فلا يعلوا صوتها. لقد أرادها ميتة في تلك اللحظة ولم
يرضى أن يجد حلا آخر سوى هذا..
أومئت بيلا
له واناملها طالت قميصه البرتقالي ذو المربعات الخضراء، متشبثة به، تسأله أن ينقذها، فأخذ نيكولو يدها وقبلها راضيا بتنفيذ طلبها "أرجوك لا، إن يدي قذرة" قبضت اصابعها مشمئزة
من حالها.
"بل
إنها جميلة" همس ضد جلدها فعاود تقبيل موضع البقع اليابسة، الملوثة بالتراب "أجمل
من أي يوم مضى" لم تفهم بيلا مقصده لكنها علمت أن بينهما شيئا تغير، لن يعود
لسابق عهده أبدا. فظهرها قد قُصم من قبح ذنبها وهي بالتأكيد ستبقى مدينة له العمر
كله.
أبلغها نيكولو
أن تغسل وجهها على الفور وتزيل عنها احداث تلك الحظيرة، بينما هو تصرف وفق ما تمليه
عليه خبرته؛ ألا وهي خلق مشهد خالي من أي رائحة قذرة للدم. فذهب ووضع حقيبة سفره في
الغرفة، ثم ناداها أن تدخل السيارة. فتحت بيلا باب سيارة أخيها وتعجبت من نيكولو
الذي قام بدس أغراضه في الصندوق ثم وقف عند باب السائق وأنزلقا لداخلها سويا.
أشعل المحرك ثم
تحدث يرضي فضولها "نحن سنعود لهناك ميرا، ستكونين شريكتي في العمل اليوم"
"ماذا؟!
لا، لا لن أقدر على ذلك"
"بل ستفعلين،
سندخل عليهم كزوجين فرحين بلقاء بعضهما وانت ستقصين عليهم هذا" فلقنها نيكولو
القصة التي ستقول لهم والتي كانت معقولة، فهي ستتدعي أن تعب الحمل غلبها فعادت
وهناك قابلت زوجها الذي عاد من سفر، غيرا ثيابهما فعادا للزيارة بشكل طبيعي ثم
فجأة ستصيح متألمة من الوجع ولن تكف عن العويل، حتى يعود إليها نيكولو.
ونيكولو لم
يلفق لها هذه القصة إلا بعد تأكيدها له أن أحدا لم ير ماتيو بينما يجرها للحظيرة. في البداية اقتنعت بيلا لكن بعد قليل من التفكير صاحت تسأله "وماذا عن ماتيو ما الذي ستفعله به؟!"
"انتِ
اهتمي بالجزء خاصتك وأنا سأهتم بالجزء خاصتي"
"لكن
ماذا لو طلبت أسرته التحقيق في موته؟ سيكتشفون أمرنا حتما"
"ميو
كارو" وصفها بحبيبتي لكن بقلة صبر "صدقيني هم لن يفعلوا ذلك"
"وما
الذي يجعلك واثقا هكذا؟ نيكولو إن الوضع لا يتحمل غرورك"
"انتِ حقا
لا تريدين إيصال دردشتنا هذه للغرور، فلو لم تكونِ امرأة هشة العود لأظهرت لك جزءا
بسيطا من غروري الذي خدش" قرب بين سبابته وابهامه دون ملامستهما، يريها مدى صغر
الجزء الذي قد يكشفه لها لو لم تكن زوجته. شعرت بيلا بالخزي مما ورطته به وارادت مواساته،
فطالت يدها قبضته المستقرة على المقود "لا تفكري بلمسي حتى" حذرها.
سحبت يدها فورا ورده هذا آلمها، كما لو أنه يلومها على ما اصابها وهو محق، هي تعلم مدى قبح ذنبها فألقت بجبينها على النافذة ودموعها الساخنة أحرقت وجنتيها "أعذري وقاحتي
لكن لا تتوقعي مني أن أكون رومانسيا، ليس الآن يا ميرا" حاول تطيب خاطرها
وبعد رحلة ليست بالطويلة استقر كلاهما أمام دار ماتيو.
"لما لم
تضعي أحمر الشفاه خاصتك؟" سألها ريثما ينزع حزام الآمان.
"لما
سأفعل؟"
"لأنه
يجب عليك أن تكون زوجة سعيدة"
دس يده في
حقيبة يدها فاستخرج قلمها، عض على رأسه ليقوم بفتحه ثم قبض على فكها باصابعه ولون
شفتيها بالأحمر، مزيلا عنها أي أثر لشحوبها. عاينته بيلا وعاينت عينيه المنكبة
بتركيز على ما يقوم به وبلا قسوة، فهو وإن كانت اصابعه محكمة على فكها، فهي لم تشعر
بالألم بل شعرت بحرصه الشديد وخوفه عليها.
"رومان"
"مم؟"
همهم بينما غطاء قلمها مستقر بين شفتيه، كاشفا عن صف أسنانه.
"آسفة
على ما ورطتك به"
"تبا
لقد لوثته" تمتم بضيق لما انحرف اللون لخارج خط شفتيها، فدعك عليه ثم بلل
ابهامه بلسانه ليمحو خطأه وعندما فرغ من فركِ جلدها، دعاها للنزول.
ترجل كلاهما ثم أخذها ليتفقد معها الحظيرة، حملق بحالها وهي سألته "انت لا يمكنك العثور عليه أليس كذلك؟ لا تسأل كيف لكن تمكنت من اخفاءه قبل هروبي فلا يجده أحد"
"إنه هناك" أشار لها بحاجبيه نحو كومة القش حيث قدمه ظاهرة من تحتها، ثم كيف عساه يخطأ وأثر جرها لماتيو واضح على الأرض "لكن لك مني خالص تقديري واحترامي، لم أتوقع منكِ التمكن من جر رجل بالغٍ إطلاقا" أثنى عليها كما لو أنه معلم يثني على طالبه "لن يبقى بالي مهموما بعد معرفتي أن زوجتي قادرة على اخفاء جثتي إن قامت بقتلي"
"هذا ليس الوقت المناسب نيكولو"
"إني جاد، لن أرتاح في قبري إن لاحقتكِ الشرطة"
"سأعتبر أن هذا المزاج ما هو إلا نتيجة صدمة نفسية مما حدث"
"أوه حقا؟ انصتي جيدا يا حلوة، سنبدأ الآن فلا تزيلي ابتسامك إطلاقا" أمئت له وصنعت واحدة دون نقاش، فدخلا أخيرا نحو الضيوف ورحب بهم نيكولو، مسرورا بهم ولقد تأكد من اصدار اصوات تنم عن اعجابه بالرضيع المستقر في فراشه الهزاز.
"أين
كنتِ بيلا؟" سألتها زوجة ماتيو بقلق "سألتهم عنك فقالت ابنة اختك أن الدوار
لازمك"
كادت ان
تنقلب تعابير بيلا لذعر لكن قبضة نيكولو اعتصرت عليها، يذكرها بالدور الذي عليها
تمثيله فقالت بلون شاحب "أجل... كما تعلمين إنه لا يطاق" ترددت في نطق
حروفها، فأخذ نيكولو عنها زمام الحديث وسرد لهم عن لقائهم الرومانسي في الطريق، ثم
حكى لهم عن اصرار زوجته بأن عليها رؤية ابن ماتيو، معلم بلدتهم المشهور.
"عيناك
على الساعة" همس نيكولو ضد أذنها فلقد مثل أنه دنى منها ليقبل وجنتها "خمس
دقائق ثم باشري بالعويل" استأذنهم نيكولو، مدعيا أنه نسي الهدية التي جهزها للمولود
الجديد في النزل فغادر، وقبل ذلك تأكد من المرور على مطبخهم، فوجد الستائر مسدلة
وكتطبيق احترازي، ارتدى قفازين واقفل الباب الخلفي ثم أخفى المفتاح في القمامة فلا
يخرج أحد للحظيرة.
أشعل نيكولو
محرك السيارة ومن مكانه سمع صيحة بيلا، فحرك المقود، إذ أن دقائقه المعدودة بدأت،
فغير موقع ركن سيارته نحو الطريق الحجري خلف الحظيرة وتأكد من ألا تلمس العجلات
الطين. قفز من فوق السياج على العشب مع عدته التي جلبها ثم ولج للحظيرة وفرش الشوال
الذي أخفا فيه كل ما يحتاجه.
زلق الشوال
تحت بدن ماتيو ثم ألبسه الثاني ليحفظه ولم يعقد الحبال حول بدنه فلا تظهر أي أثار
عنف وإنما ربط فاه الشوال. وبالوقت الذي تبقى لديه هو نظف الفوضى بدقة، فالقش
الملوث بالدم ألقاه للروث تحت الأبقار المعقودة أعناقها مع الحجر الدامي وعن كعبي
عزيزته فلقد رفعهما يتأمل حالهما.
وزوج الحذاء
هذا هو يذكره، قد ابتاعه لها قبل سفرها لبلدتها، كم كان أبيضا وأنيقا عليه شريط
معقود، فيه ثلاث خرز بيضاء فبدت كاللؤلؤ. أما الآن فالشريط مقلوع والحذاء ملوث
بقذارة الحظيرة تماما مثل بيلا....
فنفس بيلا السمحة وخلقها الوديع لوثه ذلك المسخ بقذارة سيصعب عليه محو أثرها،
لقد قام بتدنيسها ونيكولو كان يعلم بالتغيير الذي يطرأ على المرء بعد أن تلوث يداه
بالدم. لذا نيكولو ضم زوجي الحذاء لصدره واقفا وقفة حداد، على تلك الروح التي
يهواها فاقتلعها منه ماتيو ثم ألقاها مكسورة على قارعة الطريق.
قطب نيكولو حاجبيه بأسى، مستذكرا الهيئة التي وجد بيلا عليها، كالمشردة التي
لم تذق نعيما يوما. حافية بقدمين ملوثة بالوحل وثوب أصفر قد دنسه الدم، أزيز ذباب
الجيف لم يفارقها إطلاقا فلقد كان يمشي عليها كما لو أنها جثة نهضت من قبرها ومرت
على بيتها.
منذ اللحظة التي وضع في اصبعها خاتما وهو خشي أن يطولها سوء من مجتمعه
الفاسد لكن المصيبة قد طالتها من حيث لا يحتسب، طالتها من قعر دارها...
ألقى نيكولو برأسه للخلف، مغمضا عينيه كي يمارس بعضا من ضبط النفس ثم أكمل عمله. وفي داخل المنزل الصغير، استمرت ولولة بيلا مما دفع الضيوف ليركضوا من كل صوب كي يحلوا لها مشكلتها إلى أن صاحت بهم والدتها، رافضة كل عشبة حاولوا اجبار ابنتها على ابتلاعها ثم سألتهم أن يعثروا لها على سيارة فيأخذوها للمستوصف. نسيت بيلا توصية نيكولو لها بأن تنتظر عودته فالواقع أجبرها على الصعود مع والدتها وبعض من أقاربها، الذين تكدسوا في الخلف بينما صديقتها في الأمام إلى جوار زوجها وبحضنها ولدها.
حينها
ألقت بيلا رأسها على كتف والدتها بانهاك من الصياح، بينما الأخرى تراضيها وكلما غارت
عجلة السيارة في حفرة وبخت السائق، الذي اجبر على المجيء مكرها وختم برنامجه
المفضل على المذياع باكرا.
"آه من فيليب وأبيه آدم، عندما أحتاجهما لا أجد لهما أثرا" عضت أمها على اصبعها بحسرة "ألم يجد
وقتا مناسبا للعلب الورق مع صاحبه غير هذا؟" تذمرت والدتها ثم تعجبت من بيلا
التي ما عادت تشتكي من ألم فسألتها "انتِ على ما يرام؟"
"آه!" عاودت بيلا التآوه محتضنة بطنها لما خشيت أن يكشف أمرها وكم
تمنت لو ينتهي هذا اليوم على خير وعندما انتهى بالفعل، رقدت في فراشها رقدة عميقة حتى نامت
ولم تستيقظ إلا بعد منتصف الليل. بحثت جوارها فلم تجد نيكولو، تملكها القلق من أن
مكروها أصابه اثناء محاولته التستر عليها، فنزلت الدرجات بحذر وسمعت حديثا جمع بين
والدتها وابنتي اختها في ردهة الاستقبال حول مكتب آدم
"جدتي،
إن الخال آدم والبقية لم يعودوا بعد"
"سيأتون
قريبا"
"جدتي
لكن ماذا عن بيلا الراقدة في الأعلى؟"
"ماذا
بشأنها؟"
"بالتأكيد
ستسأل عن سبب اختفاء نيكولو"
"لن
تسأل وإن فعلت أخبراها أنكما لا تعلمان عنه شيئا"
لم تتحكم بيلا
باعصابها التي انهارت فركضت للردهة غير آبهة بالوجع الذي تشكل في بطنها، حينها فزعت
والدتها لما رأتها واقفة أمامها وقبل أن تنطق سبقتها بيلا.
"أين هو نيكولو؟!"


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة