"مايكل! بيرل!" نادى هايدن على مايكل وبيرل لما تصدعت الأرض بينهم، فاهتزت وانشقت ومن شدة اهتزازها مكثوا ساجدين، ومن بين ضجة تدافع الصخور وتحطمها، كان دوي الذهب وهو يتلاطم ببعضه عاليا، حتى حدثت الفاجعة ومن عمق الصدوع فاضت جبال من الكنور صاعدة للسطح.
وتلك العملات والكنوز قد انهمرت عليهم وقبل أن يهموا بالفرار، لطمتهم كالموج الجارف، فكانوا يناضلون بصعوبة للصعود عاليا والذهب من كل جنب يسحقهم، حتى ما عاد لهم اثر فغرقوا تحته. استمرت الكنوز بالصعود فائرة، إلى أن صنعت جبالا شاهقة، قد غطت ضوء القمر ولم يسمع في تلك الليلة سوى همسات صياح وعويل يصدر من تلك العملات اللامعة.
عم الهدوء فترة من الزمن بدت كالدهر، فظن الغراب ومن على شاكلته ممن يطير من الطيور أن أهل الأرض قد لقوا حتفهم، فنزل الغراب والسيد حمامة على قمة جبل والحزن تملكهما "هل ترى لهم اثرا او تسمع لهم هسيسا؟" سأل السيد حمامة والغراب مضى يضرب جناحيه بين الجبال الشاهقة، يبحث لهم عن اثر وطيور الدوري خلفه ماضية كالسرب.
تخلف عنهم طائر دوري ليبحلق بانعكاسه على الكأس الذهبي، إذ لم يكن وجهه وجه طائر، بل وجه صبي صغير أصهب الشعر وفجأة طار الكأس ومن خلفه برزت يد، ناضلت بزلق ما عليها إلى أن تحرر رأس مايكل ولفظ أنفاسه "مايكل! لقد عثرت على مايكل!" رفرف الطائر يبلغهم ومن بعد مايكل خرجت بيرل، من أسفل جبل ومن قمة آخر خرج هايدن، فانزلق الذهب تحته وتزحلق معه نحو القاع رأسا على عقب، فتبعه مايكل منزلقا على ظهره حتى وصل كلاهما لبيرل، التي كانت تحاول اخراج قدميها فارتطما بها وسقطت بينهما.
"ها هم! ها هم قدو خرجوا!" بشرهم السيد حمامة ثم وصله نعيق الغراب، مبشرا بخروج الحيوانات أيضا من تحت الجبال ثم نادى عليهم كي يعينو البقرة لاخراج عجلها.
"انتما على ما يرام؟" سألهما مايكل وبيرل نهضت من فوقهما، ثم ساعد كلاهما هايدن على الوقوف ولم يستطع بنفسه، فألقى ذراعا على مايكل ليسنده. تأكد من الهريرات في حقيبته وهذه المرة أخرجهم ليلحقوا بالبقية، ثم سأل مذهولا لما استوعب ما حوله "ما كل هذا؟! هل حقا ما تراه عيناي ذهب؟!"
"إنها تشبه التلال في أسطورة يانيك وتلال الذهب!" اعرب مايكل عن تعجبه.
"إنها حقا التلال من تلك الأسطورة" أومئت بيرل موافقة ورفعت كأسا ذهبيا مرصعا بالياقوت كي تتأمل انعكاسها.
"مهلا! على رسلك، تريثي ولا تستعجلي!" صعق مايكل.
"مايكل إن هذه الكلمات كلها تفيد نفس المعنى" علق هايدن.
"انت تثرثر ببلاهة لأنك لا تفهم معنى هذا الذهب!" وبخه مايكل.
زمت بيرل شفتيها وأيدت مايكل وكي لا يبقى هايدن متأخرا عنهما فسرت "إن الذهب يا هايدن مصنوع من دماء القرية، هذا تماما ما حدث في القصة وما علمه حضرته لاتباعه" لم يناقشها هايدن عن أخلاقياتها وعن سلامة عقلها، لما قررت أن تضع يدها بيد الحكيم، فلقد كان مسلوب العينين بما يبصر، تماما مثل مايكل الذي تبسم حتى فُضحت اسنانه.
"لنعن باقي الحيوانات ولنجد مخرجا" سبقتهما بيرل حتى فصلت بينهما كنوز ومن مكانها نادت تحذرهما "لا تمشيا في الذهب ولا تبحلقا به طويلا! هيا استعجلا!" ثم ولت لتعين العجل على الخروج.
"مايكل، هل ما نعيشه حقيقة؟" لم يعر هايدن لتحذيرها اهتماما "أنزلت علينا رحمة الرب فوهبنا الوقوف على تلال من ذهب؟" فرك هايدن عينيه ومايكل تبسم بالفعل وهو يعاين كل تلك الكنوز.
"لست أعلم إن كانت رحمة منه أو عذابا لكننا حقا واقفان عليه... نحن فقط ولا يوجد غيرنا" أجابه مايكل مسلوب الفؤاد.
"مايكل إن الثروة التي نقف عليها قادرة على صنع العجائب!" هتف هايدن وجثى على ركبتيه، يمرر يديه ليستشعر بجمال الذهب، الذي لم يرى في حياته بهذه الكمية "هذه الثروة ستجعلهم يخشون ذكر اسمي وليس فقط اخراجي براءة!"
"بيوت ومتاجر! لا، بل قصور سأشتري بهذا الكم!" انفلتت ضحكة هايدن كالمهوس وباشر بدس ما يستطيع في حقيبته "سويسرا! إني قادر على شراء سويسرا وجيرانها بهذا الكم!" ولما فاضت، ملئ جيوبه ومن شدة حاجته، حل زر بنطاله وألقى بالمزيد.
وبينما هو يجمع بنهم، لدرجة أن تزاحم الذهب مع اضراسه في جوف فمه، فلمح يد مايكل قريبة منه، تجمع ما تقدر عليه من الذهب أيضا باستعجال، فزجره هايدن حاقدا ودفعه ليحمي كنزه منه، فلا يلمس قرشا واحدا "إن هذا لي! هذا الذهب لي فلا تجرؤ على لمسه!"
تراجع مايكل متهاويا للخلف وسقطت العملات من بنطاله، ففارت أعصابه وأعماه الجشع ليرد الدفعة والدفعات بينهما تحولت للكمات باطشة، فارتطم رأس هايدن بالذهب ويدا مايكل شددت الخناق على عنقه، ينوي محوه من على وجه الخليقة "روحك! روحك إن ازهقتها فسأصنع جبلا آخر!"
حاول هايدن الخلاص، ليس للنجاة وردعه بل لغلبه ولقتله قبل أن يقتله فيجني من دمه الذهب. انتفض بدن هايدن واصابعه اعتصرت على وجه مايكل، فأخذت اظافره من الجلد ما يستطيع. ولما وصل لطريق مسدود لا خلاص فيه، ضغط على مقلتي مايكل بكل ما يملك من قوة، فصاح متألما وافلته ليغطي عينيه، فانقض عليه هايدن واعتلاه آخذا أذن مايكل بين أسنانه.
صياحهما قد وصل بيرل، التي كانت منهمكة بجر العجل من قامتيه الأمامية، بينما الدجاج يحفر عنه بأظافره الذهب. ضرب الغراب بجناحيه الهواء، تاركا رفاقه ومر محلقا من فوقهما ليرى أمرهما، فصعق ونادى ناهرا "هايدن! يا هايدن دعه ولا تقتل صاحبك لأجل الذهب!" هبط الغراب بمخالبه خادشا وجه هايدن، ليكف شره عن مايكل، لكن هايدن ضرب الغراب وهشه عنه. تكررت فعلة الغراب مرات عدة، فالتقط هايدن كأسا ولطم حافته المدببة بالغراب فتناثر دمه وتلطخ ريشه، حاله من حال الذهب أسفله حيث سقط صريعا.
"هايدن؟!" نادت بيرل عليه وقد عادت مستعجلة الخطى إليه وفوقها السيد حمامة، فصعقت من رؤية يده ملطخة بدم الغراب ومايكل، الذي غلبه فسال الدم من جبينه وأذنه "رباه!" غطت بيرل فمها من هول صدمتها وقدماها ما عادت قادرة على حملها.
لكن هايدن قد غلبته غريزته وهشم رأس مايكل بلكمات متتابعة لا راحة بينها، مستعيدا فعلته بجوزيف في نادي الملاكمة الذي صرعه بلا تأني ولا تفكير، فها هو هايدن، قد نزع عنه لباس الطبيب دوريان ولباس التحضر الذي أدعاه يوما وعاير به الآخرين، مشهرا عن المسخ الجشع داخله. فرغبته في قتل مايكل لأجل الثروة، لأمر سيان مثل رغبة قتله صاحبه آنذاك توم، زوج اخته، ذرية اخته ذوي الأفواه الجائعة وحتى أخته التي كانت تأكل أمواله.
لهث هايدن وصدره لم يكف عن الصعود والنزول ثم تأمل اللوحة الدموية التي صنعها بصاحبيه. دب دوي ضحكة هزت الأرجاء، ما كانت عائدة لا لهايدن ولا لبيرل، بل كانت تخرج من خلد العجوز الهرم، الذي وقف فخورا بما صنع.
شهق هايدن أنفاسه لاهثا لما ركد مايكل تحت قبضته، ثم تبسم منتصرا بما فعل. وتلفت حوله نحو جبال الذهب الذي اقتناها لنفسه، لكن ما نكد عليه فرحته، هي بيرل التي كانت واقفة على بعد مسافة منه، خائفة. فتبدلت ابتسامته لعبوس ومط شفته متضايقا "لما انت واقفة على ذهبي بقدميك القذرة هذه؟" تبدل حال وجهه لحاقد "انت ستأكلينه، انتِ ستأكلين كل ما املك" نهض بترنح للجانبين ويداه ملطخة بدم صاحبه.
"هايدن..." خرج صوت بيرل مهزوزا وتراجعت عنه خائفة، فعيناه ما عادت تلك التي عهدتها، بل أخرى خبيثة بخبث الشيطان، عازمة على ابادتها لأجل جنان الدنيا. فركضت بيرل فاقدة الأمل بمناجاة ضميره وهايدن نادى عليها، منغما فلا تخاف منه "بيرل! يا بيرل، تعالي لما تفرين هاربة مني؟"
"عودي لهنا يا عزيزتي" ركض هايدن مقاوما عرجة قدمه والضمادة في قدمه قد تصبغت بالأحمر، تعثر في خطاه وروحه كادت تفر من شدة الألم، لكنه قاوم وصفع عنه السيد حمامة الذي استمر بالزن على مقربة منه يستحلفه أن يقلع عما يفعل "هايدن إياك! اجمع عقلك فالفرج قريب لا تحوله لنقمة!"
لم يستمع هايدن والتقط خنجرا ذهبيا مرصعا بالماس والزمرد، يهش به الحمامة حتى وقعت في قبضته وعنقه الهش رهن مزاجه "بيرل، يا بيرل إن صاحبك بحاجة إليك فهيا تعالي" نادى منغما ولما لم تكف عن الفرار، قطم عنق الطائر الضعيف، تاركا فيه عينان شاخصة غابت عنها الروح داخلها. ألقى هايدن بجثة الطائر بعيدا عنه وصاح متوعدا "انتِ أيتها الساقطة الحقيرة اظهري حالا!"
غطت بيرل فاهها بكلتا يديها وابقت صوتها مكبوتا بينما تستر خلف تل. سمعت الذهب تحت قدميه يسحق ويتلاطم معلنا عن اقترابه، فظنت بيرل نفسها ستنجو لولا أن سحقت عملة تحت قدمها فاصدرت صوتا لفت اهتمامه.
أيقنت حتمية اقترابه، فانحنت والتقطت قلادة، فألقت بها بعيدا وهايدن انتقل ببصره نحو مصدر الصوت فتحرك صوبه، أطلت بيرل برأسها للناحية الأخرى التي باتت خالية، آمنة للهرب وكادت أن تتنفس الصعداء، لكن دوي صياحها هز كيان من يستمع، لما احكم هايدن على معصمها وجرها إليه "وجدتك! تعالي هنا!"
"لا! لا! دعني، دعني يا هايدن!"
ضربته بيدها الحرة وناضلت عازمة على الفرار، فألقى بها تحته وحاول تثبيتها كي يغرز بها السكين وينهي أمر غريمه الذي سيشاركه ثروته، فنزلت الضربة الأولى في الذهب والثانية اخطأت لكن في الثالثة قد اصاب، فغرزه جانب ذراعها ومزق الجلد لتتدفق الدماء بغزارة وتلوث الذهب.
حينها امتزج نحيب بيرل بضحكة الحكيم المدوية وهايدن ابتسامته العريضة شيئا فشيئا باتت تتبدد ولما كادت الصدمة أن تعلوه، عاود الضحك ليشارك الحكيم.
قاومته بيرل وفرت من تحته لما غره النصر، زحفت عازمة على النهوض، لكن قبضة هايدن طالت كاحلها ليعاود جرها وألقى بثقل بدنه عليها، انتحبت بيرل واجهشت بالبكاء كالمذعورة، من هذا الذي لا تجد طريقا لضميره إطلاقا فيصحوا "كفي! واللعنة كفي عن الحراك! بحق الرب!" زجرها هايدن لما قاومته مجددا، فأنزل يده عليها ولطم بقسوة وجهها علها تركد.
ومن قوة اللكمة سمعت بيرل صوت فقرات عنقها، فخارت قوة يديها بعد اللكمة الثالثة وما عاد بوسعها شيء سوى ذرف الدموع والاختناق جراء ذراعه ضد عنقها الهش، فاتسعت عيناها وتبدل جلدها للأرجواني، فالروح أوشكت على الفرار من بين شفتيها لكن الحكيم استوقف هايدن.
"توقف، تمهل يا ولد ولا تستعجل، إن قتلتها الآن هكذا فلن تتمكن من صنع الذهب"
تقدم حضرته نحوهما ومشى فوق الذهب الذي صنعه، استخرج من تحت عباءته دبوسا ذهبيا واردف "دعني أعلمك ما علمتني إياه الشياطين، فلا تبذر دمها" تبسم الحكيم ورفع الدبوس ليعاينه متأملا "فالذهب لن يأتي إلا إذ أزهقتها بذهب صقله الأمير مامون بنفسه" وذلك الأمير الذي أعزه حضرته وتتلمذ على يده، لم يكن سوى شيطانا رجيما، فكان يمثل الجشع بشحمه ولحمه.
"والذهب لن يأتي فائضا إلا إن كانت الروح منزوعة من الخطايا، كالغلمان في المهد، لهذا تلالي شاهقة كالجبال يا ولد" تجول حضرته بطرفه على تلاله مغترا بما فعل وبما علم اتباعه "ولن تنزل عليك الجبال فائضة إلا إن كانت روحا مؤمنة مخلصة" تبسم حضرته كاشفا عن سواد أسنانه، مستذكرا المؤمنين الذين ابادهم في بداياته لما وطأت قدمه القرية أول مرة.
"ويا للهول إن كانت امرأة عفيفة كفت فرجها عن الفاحشة أو رجلا شهما، دؤوبا" ألقى الحكيم بدبوسه الكبير لهايدن "واكثر ما يحبه أميري وسيدي؛ هو الأخ عندما يقتل أخا له كف نفسه عن قتله باسم الرب"
"وعلى هذا المبدأ يا ولدي، اخترت من اخترت، فمن هم في نفسهم نفحة من الأمير مامون، جعلتهم إلى جواري ليعينوني في عملي وليحرصوا على ابقاء القرابين قليلة الذنوب، فكلما احسوا بعصيان، أبادوه ليذهب القروي الجاهل الى مصيره نقيا ولنستفيد نحن منه"
"وهذا ما رأيته فيك يا بيرل، رأيت في جوفك نفحة من مامون، لكن لم أعلم عن التجلي العظيم لمامون فيك يا عزيزي دوريان ويا ليتني اخترتك من البداية، لذا خذ وأتمم قدرك، انجز أمر آخر قروية من القرية التي اختارها مامون ثم لنذهب لأخرى ولنعمل سويا، يدا بيد" تبسم حضرته وعلى كتفه حط طائره الأسود، الذي حدق بتركيز في هايدن ممعنا النظر ومنقاره شيئا فشيئا مال وأعوج في ابتسامة راضية، فقام بالصفير صفيرا خافتا وآسرا حاثا هايدن على المضي.
رفع هايدن بصره لطائر الحكيم مفتونا، لكن ألما عظيما تفشى في صدره وحرارة حامية عصفت بعظام رأسه لما رأى رجلا يقف وراء الحكيم، أزرق الوجه من شدة سواده وسواد بدنه العاري والذي كان غزير الشعر، وما دفع تحذيرات الصحوة لتدب في رأسه زاجرة، هو منظر قدميه والتي لم تكن قدمي آدمي لها خمس اصابع بل ظفرا ماشية متسخة، وعفنة.
انخفض هايدن بطرفه لبيرل التي علمت أنها النهاية، فأعرضت عن المقاومة وسلمت نفسها لمن آمن به شقيقها ماركو بعد هجرانه لمشرعه وإلاهه حكيم القرية، في حين أن هايدن قد تصبب العرق منه، إذ وصل كلاهما للخط الفاصل، الذي كان أوهن من الشعرة وأرفع من السيف والخطوة التي بعدها هي من ستحدد، من سيكمل بينهما المشي نحو الهناء ومن سيسقط في هاوية سحيقة، شديدة الظلمة وفي نهايتها يقبع مامون.
اهتزت يد هايدن لما لمح حافري ذلك الشيء فوق رأس بيرل ونهاية ظفيرتها استقرت عنده، فالقربان الذي سيقربه هايدن، دمه سيكون له، للشيء شديد السواد لا غير.
"هيا يا دوريان، افعل فعلتك ولا تجعله ينتظر اكثر، فسيدي هنا وهو شاهد على كلينا"
عاود الصفير دغدغة أذني هايدن الذي احكم قبضته على الدبوس ورفعه عاليا، تعلو وجهه ابتسامة عريضة. كم كانت يده ترتجف وتأبى النزول لكنه فعل فعله وانزلها فأخطئ وغرزها في الذهب، لذا عاود رفعها وهذه المرة ضحكته تجلت بينما عيناه أغرقت بالدموع.
أنزل هايدن الدبوس عازما ومجددا أخطأها، لذا عاود رفعه عاليا، حتى غطى البدر الجلي في السماع وضحكته المدوية لم تنزل عن فمه إطلاقا مهما ذرف من الدموع. فأنزل هايدن الدبوس متوعدا هذه المرة وضحكه تبدل لنحيب موجوع أفزع بيرل، ودفعها لفتح عينيها، فوجدت فوق وجهها عينا هايدن ضيقة وفيها ألم الآدمية التي نزعت منه قبل ثواني. ارتفعت زاوية شفتيه بابتسامة قبل أن يهوي فوقها مرميا، فالدبوس قد غير مساره وطعن به نفسه.
تفشى دم هايدن وأثر تلك القدمين الغير آدمية فوق رأس بيل قد ول مختفيا، بينما الحكيم شتم دوريان على فعلته وتضيعه فرصة لا مثيل لها، لصنع جبل آخر من الذهب "اللعنة، اللعنة عليك يا دوريان! حرمتني! حرمتني من الذهب بفعلتك يا ملعون! في الجحيم! تعفن في أعماق الجحيم على فعلتك تلك!" ضرب الحكيم بقدمه على الذهب متحسرا ولما أيقن ألا فائدة من الولولة على ما لا رجعة فيه، تقدم نحوهما عازما على آخذ دبوسه.
جر الحكيم هايدن من ظهر ياقته لكن الصدمة اعترته، ثم صدمته انقلبت لعويل موجوع لما تطاير الدم من وجهه الذي مزقه الدبوس من العين للعين "بئسا! بئسا لك يا أيها الحقير! اللعنة عليك!" تراجع الحكيم وتهاوى للخلف.
"بسرعة انهضي!" هتف لبيرل التي اعتدلت على الفور وتراجعت للوراء، مخفية هايدن خلف ظهرها والذي كان جريحا، فالدوبس قد غرزه في يده الظالمة التي صرعت اصحابه.
أي نعم عزما على الفرار، لكن الحكيم سبقهما فالجرح في وجهه قد تعافى وعاد الجلد متلاصقا كسابق عهده، فهتفت بيرل "الطائر، لن يموت ما لم يمت طائره!" لكن السبيل الذي عثرت عليه قوبل بعقبة منيعة، فمن خلفهما انطلقت رصاصة رست في تلة وتطايرت العملات.
وذلك الصياد كان نيليو ومائيل من خلفه ظهر وفي جعبته بندقية أيضا، لكن الموت لم يتمثل فيهما فقط، بل في الحكيم الذي أشهر بعصاته ولوح بها ينوي ضربهما، فتراجع كلاهما حتى كاد هايدن يسقط من العرجة في قدمه، لولا أن لحقت بيرل به فتشبث بكتفها الجريح والأخرى صاحت في اكثر مشهد تراجيدي.
إذ أن سبلهما قد بترت، فالموت من جميع الجهات لاح بهما وهما ما عاد بهما قدرة، فانتهى بهما الحال يجرجان بعضهما البعض، لكن رصاصة مائيل قد ثقبت ساق هايدن الجريحة، ليسقط مرميا فوق الذهب وبيرل جاهدت لتعينه "هايدن! قف على قدميك هيا أرجوك!"
والرصاصة التالية قد فرت من فوهة البندقية لتصيب التلة خلف بيرل، فاخفضت رأسها مرتعبة وهايدن دفع يدها عنه، عازما على حثها لتركض بجلدها، لكنه ابصر خلفها، ما جعله يحكم عليها متشبثا بها فلا تبتعد عنه. استنكرت بيرل تبدل حاله، فلحقت ببصره وألقت نظرة خلفها واليأس في قلبها قد تبدل أيضا لتتشبث به.
رفع الحكيم دبوسه، عازما على ثقب رأس بيرل واقتلاع مقلتها بضربة واحدة، لكنه تجمد في مكانه جراء الشعور الغريب الذي تفشى في سائر بدنه والذي كان أشبه بدب أفواج من النمل، أمعن الحكيم النظر في ذراعه فاحصا وقد شهق مفزوعا لما بدأ العمر يمضي بسرعة في جلده فالتفت ورائه وصاح بحرقة "لا! لا!"
سقط على ركبتيه جاثيا، يلعن حظه لما شهد الطيور قد تهافتت على طائره. تجرده من ريشه، مناقيرها ضربت جلده وأظافرها خدشت مقلتيه، فلما تردى هاويا ارتفعت آنوك على قامتيها ونزلت بحافريها مهشمة عظامه والحيوانات تجمهرت حوله تأخذ بثأرها.
"اقتلوهم! اقتلوهم حالا وانقذا سيدنا! فماذا تنتظران!" زجر الحكيم مهزوزا تابعيه مائيل ونيليو كي يستعجلا بنجدة الطائر سيده، فرفعا فوهة البندقية، لكن الأوان قد فات فالطائر مُزقت أشلائه وباب أحمر كتب عليه بالذهبي اسم -بدران- ظهر من العدم.
شخصت عينا حضرته وتراجع للخلف عن الباب، فالتفت نحو بيرل وهايدن ويده امتدت، ينوي أن يطول كاحل بيرل ليستنجد بها لكن هايدن كفها عنه، لتمسي ماكثة خلفه وبرجاء توسلهما. لكن رجائه انقطع سبيله، لما ظهر صوت جرس من خلف الباب ثم أدير مقبضه ومن شدة الصمت الجلي رن وقع القفل -تليك- في قلوبهم، ثم تبعه صرير انفتاح الباب، كاشفا عن ظلام ومنه تفشى تنغيم أنثوي منادي "يانيك، يا يانيك"
"انتم لا تفهمون! لقد أتت! أتت لأجلي متوعدة! فساعداني أرجوكما!"
"أيها الحطاب البائس"تبدل صوتها لآخر، تابع لعجوز هرمة شمطاء "حطمت لعبتي إذا؟"
وبعد جملتها تفشت ضحكتها، التي كانت ثبث الرعب في النفس حتى انقشع الظلام، كاشفا عن هيئتها المتهالكة بسبب العمر وظهرها الأعوج "تعال، تعال يا ولد فلقد سئمت منك ولا مفر لك مني" أشارت باصابعها الهزيلة ليانيك أن يقترب، لكن الحكيم لم يفعل بل استدار وعزم على الركض، لذا انسابت ظلال سوداء من تحت ثوبها ومضت أسفل الكنوز ليخرج من تحت الذهب أيدي ذات مخالب حادة، فقبضت على قدميه وجرته نحو الباب، الذي تبدل ظلامه لأحمر والطبول من داخله قرعت شامتة بنهايته.
والعجوز من شدة فرحتها، قفزت راقصة ثم رفعت تنورة ثوبها، كاشفة عن ساقيها الهرمة وباعدت بينهما، آذنة لمرور العجوز الذي جرجرته الظلال لكنه قاوم، فتشبث بإطار الباب يناشدهم علهم من بينهم من يساعده "آه منك، هيا ادخل أيها العجوز، كفاك توسلا، أحقا لازال فيك أمل أيها الهرم؟"
كشفت عن قدمها ودهست على يده بضع مرات، ثم ركلت وجهه وثبتتها ضد جبينه، فدفعته دفعة واصابع حضرته انحلت مرغما، ليبتلعه المجهول وما عاد له أثر، سوى صياحه ثم عم الصمت وتصاعد الدخان من خلفها "إن شويه لفكرة سيئة، رائحته رائحة حمار مُسن"
حركت يدها تبعد عنها رائحة شويه بينما تتأمل الجبال التي صنعها، فتبسمت برضى لما جنت من رأسه ثم انتقلت ببصرها نحو هايدن ورقصت حاجبيها متعجبة "انت هنا يا ولد؟ خلتك مُت لكنك حي ترزق، إن اختياري لك كان موفقا حقا" ضحكت المرأة ولما رأت علامات الاستنكار عليه، قررت مكافئته وإذهاب حيرته، لذا صفقت بيدها فانشدت تجاعيدها وعادت نظرة، كشابة يافعة.
نبت من رأسها الأقرع شعر امتد طويلا وتبدل الأبيض إلى الأصهب، وعلته قبعة حمراء ذات ريشة طاووس، فعرفها هايدن وشخص بصره من هول الصدمة، فهذه نفسها المدام من القطار والتي وصفها بالنصابة حينها لمحاولتها قراءة مستقبله "مندهش أليس كذلك؟ لا ألومك فإن الدهشة تعتريني لقدرتي على التنكر هكذا ورؤيتك هنا يا دوريان لمريح، لك شكري وامتناني، فلولاك لما كسر ذاك العجوز لعبته التي بعتها له"
"بدران، انت بدران... تلك الساحرة من القصة" لفظت بيرل مذهولة ومرتعبة، فلم يخبرهم الحكيم قط أنه يانيك من الأسطورة وإنما وعدهم أنهم سيعيدون تحقيقها فحسب لصناعة الذهب.
"لست ساحرة بل تاجرة ساحرة يا عزيزتي، هناك فرق ولقد سئمت من انتظار أن يفسد يانيك العقد بيننا، آه كم أقمت زبائني الذين يلتزمون بعقودهم، لذا أرسلت ورائه مرات عديدة من يكسر له لعبته وآخر من أرسلته، كان اسمه ماركو غلور إن لم تخني ذاكرتي"
زمت بيرل شفتيها وانكسر حاجباها، فالحزن تملكها لما أدركت أن أخاها كان مجرد لعبة تساق لغاية، مرة في يد الحكيم ومرة في يد تلك الساحرة "إني تاجرة مرموقة ولي هدايا تنفع الجميع، لكنها تهتز فوق الرف فقط عندما يحين أوانها وما دفعني للذهاب ورؤيتك يا عزيزي دوريان ليس الأحمق يانيك فحسب بل لأن هديتك اختفت من على الرف فيا ترى لما؟ هل وضعت يدك بيد واحدة من شقيقاتي؟"
استنكر هايدن أمرها ثم تبسم ضاحكا وسط المآسي، فيا للسخرية من أمنتيه تلك التي لفظها في القطار لدوريان والتي جعلت منه بهلوانيا سخيفا يتدلى من الحبل "يا مدام إنك حقا نصابة لا نفع منك"
"لازلت تدعوني بالنصابة بعد تحقق كهانتي؟!" استهجنت في صوتها مغتاضة "ألم أبلغك أنك ستعاني ألم أبلغك أنك ستقع في حب من لن تكون لك؟! فأين النصب والاحتيال فيما قلت؟! حذاري مني يا ولد فإني امقت من يشكك بي!" رفعت سبابتها تحذره من التمادي فهي مستعدة لتسخطه فينقلب لبقرة.
"ألم تفهمي بعد؟ ألم تفهمي ما هو واضح وضوح الشمس؟" كشف هايدن عن أسنانه مستمتعا والتاجرة بدران قد فارت اعصابها منزعجة من سخريته لها فصاحت "ما هو؟! ما هو الشيء الذي تعرفه انت ولا أعرفه أنا؟! ما هذا الشيء تراه انت ولا أراه أنا؟!"
"كهانتك كانت لتكون في محلها لو الماكث أمامك هو دوريان باومن لكن يا مدام لست دوريان" هز رأسه نافيا "على الإطلاق فأنا هايدن كاميرون"
"ماذا تقول؟!"
"دوريان قد أنهى حياته بنفسه في القطار، قبل اسبوع من لقائنا يا مدام"
شخصت عينا بدران وفوران أعصابها انطفئ فبات خزيا، لذا تراجعت للوراء ثم محت عنها زلتها، فقالت بغير رضى "حسنا إذا يا هايدن، أوصيك بالتشبث جيدا" تبسمت بشماتة ثم رفعت يدها لترفرف عباءتها وتبتلعها ثم من بعدها ما عاد للباب الأحمر خاصتها أثر.
"هذا كل شيء؟" سأل مائيل حائرا، فحضرة الحكيم قد ولى وما عاد لقريتهم وجود، تبادل الأربعة النظرات قبل أن يلوح مائيل ونيليو بالبنادق نحوهما، فلا نية لهما أبدا لمشاطرة هذا الكنز العظيم مع أحد.
لكن للأساطير وكنوزهم نهاية ولهذه الأسطورة بكنزها، بخدمها وعشمها نهاية أيضا، ونهايته بدأت باللحظة التي هب نسيم بارد بهم، ثم أشتد فجأة، حتى عصف بهم صارخا بصفير مهيب، نازعا عن أبدانهم اللون، كما لو أن القيامة قرعت طبولها. قاوم هايدن الرياح العاتية لكن قدماه تهاوت للخلف كالعملات والحلي التي طارت ولطمته.
دفع هايدن عقد اللؤلؤ عن وجهه وصعق من الحيوانات التي غادرت القرية معه قد مرت بهم الريح، نازعة عنهم جلودهم، ريشهم وأوبارهم ومن ثقوب أعينهم؛ فر رجال، نساء وغلمان قد تقابلوا وتعارفوا محيين بعضهم، فرحين بالأغلال التي كسرت عنهم. فما عادت الرياح جارفة لهم بل كانوا يتراقصون ويتسابقون، كما لو أنهم في جرم بعيد كل البعد عن هذا الكابوس.
وعن الآدميين ممن تبقى، مائيل، نيليو وبيرل؛ فالكنوز جرفتهم كالموج لاطمة، فإنزلق نيليو مع الكنوز التي كاد أن يزهق روح اخته لأجلها وسقط في الصدع هاويا، حينها فطن هايدن الفاجعة والتفت مناديا بيرل، فالأسطور ذاهبة بلا رجعة وفي جعبتها ستأخذ أعوان الحكيم.
ويا للهول، بيرل كانت من أعوانه الذي شربوا ما قدمه الحكيم لهم من دم واقسموا له بالولاء، أليس كذلك؟
"بيرل!" ركض هايدن فوق الكنوز العائمة نحو جرف الصدع ويده امتدت "بيرل!" اشتد ذعره وضاق صبره، مناجيا إياها أن تقاوم وتستمر بالركض نحوه، نازعة عنها هذا الوجه النادم" هايدن!"
هتفت باسمه مذعورة واللون قد سحب من وجهها، فالذهب الجاري كالنهر نحو الهاوية أخذها معه، مهما حاول الركض مهما ألقت بقدميها نحو الأمام قدما، فمرة ثم مرتين تعثرت وكل ما جال في خاطرها ندم شديد على وضع يدها بيد ذلك الحكيم.
فأين والدتها الآن عنها؟ تلك التي رفضت دعوات هايدن للهرب فقط للبقاء إلى جوارها والحفر في الحجر بحثا عن حبها، الذي ما كان خالصا لها أبدا.
فنصبت هايدن غريما صوب عينها ومحتالا آتى ليسلبها حقا لم يكن لها من الأساس وإنما لذلك الحفيد الميت دوريان.
كم كانت تحبهم، كم كانت تبتغي رضاها ورضى عائلتها التي ألقت بها فذرفت الدموع ليالي طوال، فقط لشعورها بنفورهم منها لكن الآن وفي هذه اللحظة، ما عاد لحبهم في فؤادها مكان وبقايا الحب تبدلت لغضب عارم ثم ندم لأن الأوان قد فات.
هزت بيرل رأسها نافية لما وجدته يناضل مقاوما عرجته للوصول إليها، استحلفها ألا تتقاعص وأن تكمل الكفاح، لأجله أولا، ثم لنفسها ثانيا، لنفسها التي تستحق حياة جديدة بعيدة عن ظل ذلك الظالم الذي سلبهم سنينا من عمرهم.
"اهرب يا هايدن! ابتعد عن هنا! فهذه لم تكن قصتك أبدا!"
"سحقا لك وسحقا لهذه القصة الملعونة! خذي بيدي يا بيرل!"
تلامست رؤوس أناملهما الدامية، وكادت اصابعه أن تتوغل بين خاصتها كي يجذبها إليه، فيفرا بعيدا عن حافة الصدع التي يقترب ولا يتريث ثانية لكن بيرل فضلته على نفسها، فنزعت اصابعها منه وبقسوة دفعته ثم التفت نحو الحافة وأغمضت عيناها بوهن، وكلها أمنية واحدة؛ أن يغفر لها من عبده شقيقها ماركو.
"بيرل(!)"
صاح هايدن ومن قسوة الفاجعة عليه شد شعره حتى كاد يقتلعه من جذوره ودون وعي منه أو منطق دبت الحياة في قدميه وركض نحوها، نحو الهاوية التي ذهبت إليها بقدميها مسلمة.
.
.
.
.
ظلمة؛ لا أكثر ولا أقل، فقط الظلمة ما كانت موجودة وخلفها سُمع اصوات شوشرة واحاديث صاخبة. تخلل النور الظلمة أخيرا لما فُتح باب الخزانة وأطل الموظف يحدق بما فيها، فلملم البريد ونقله مع الوظفين، ليمشي في الممرات المزدحمة بالأهالي الذين قصدوا المرور واستلام طرودهم، التي شحنت إليهم من مختلف المدن في سوسيرا.
ذلك الشوال الذي فاض بالرسائل تم وضعه في سيارة سوداء ذات طراز حديث وعجلات رفيعة. ضرب الموظف على جانب السيارة ليختم السائق وجبته ويعيد لف الجبن في خرقة، عدل هندامه في المرآة الأمامية، ممشطا شاربه الرفيع، ثم باشر بقيادة سيارته التي ما حلم يوما أن يجلس فيها لولا هذه الوظيفة. مر من بين عربات تجرها الأحصنة وأمام كل دار شد الفرامل لينزل ابنه ويوزع البريد في الصناديق معتمدا على مهارته الركيكة في القراءة.
ومن بين تلك المنازل التي توقف عندها كان هناك منزل آل كاميرون، عنوان من عناوين الرفاهية والثراء الفاحش. وخلف بابهم كان كبير الخدم ملاصقا أذنه ضد الباب ولما سمع صوت العجلات ولت ذاهبة، فتحه ليأخذ ما تركه الساعي من بريد وبخطى متزنة تسلق السلالم وعبر الممرات المفروشة بسجاد أحمر عثماني.
طرق على الباب طرقتين قبل أن يلج للغرفة، حاملا صينية فيها عقاقير مدام كاميرون، فألقى تحيته بلكنة هشة، غلبتها الفرنسية ووضع الصينية على المنضدة "أرى أن رسائلي كثيرة هذا الصباح يا فرانسوا، ممن؟" سألت المدام والتي كانت طاعنة في السن لكنها وكأقرانها الأرستقراطيين لم يغر هذا من نظامها، لا في القعدة ولا في الأناقة.
عدد لها كبير الخدم فرانسوا اسماء المرسلين، فكان أولهم البنك والثانية من المحامي خاصتها، بعضها من صديقاتها والأخيرة ارتبك قبل قول اسمها "إنها من ابنتك مدام، صوفيا كاميرون"
"ما بال صوفيا هذه؟ لم تنفك عن إرسال رسائل لا جدوى منها منذ العام الماضي. افعل بها ما فعلت مع سابقتها، احرقها ولتكن حطبا لكم في المطبخ" حركت يدها آذنة له بالمغادرة، حينها شرعت ابنتها في القانون بالحديث "أمي، أما يعتريك الفضول لمعرفة ما كتبته لك؟ لربما هو موضوع عاجل"
"وما هذا الموضوع العاجل الذي دفعها لمكاتبتِ بعد انقطاع دام لأكثر من عشرين عاما؟ أيا كان ما تعانيه فلتتدبر أمرها بنفسها وانتِ يا عزيزتي لا تشغلي عقلك بهكذا أمور لا نفع منها وأخبريني هل أبدوا كمدام ذاهبة نحو موتها برجليها؟"
"أمي! إطلاقا إنك تبدين ملائمة تماما وهذا ما يفترض أن تكون عليه لزيارة الطبيب المحترم، سيد بوتشر" نهضت الابنة في القانون من مقعدها وجاورت والدتها في الخطى، فالعربة تنتظر في الأسفل كي تقلهما. أوصت بالطبع المدام حفيدتها أن لا تتقاعص في اتقان النوتة الموسيقية، كي تستمع إليها عند عودتها ولحفيدها؛ أبلغت الخادمة أن تجهز له ما سيزيل عنه صداعه بسبب ثمالته ليلة أمس، ثم جلست أخيرا في المقعد الخلفي للسيارة وبجانبها ابنتها في القانون.
"ثرثري لأجلي" هزت المدام يدها بملل "ثرثري قليلا يا عزيزتي وليس كثيرا، فلا أفكر بما سيزفه الطبيب لي من أخبار تعيسة حول صحتي المتدهورة"
"وظف الطبيب مساعدا جديدا عنده" تحدثت بسرعة كمن كانت تكتم سرا قد افرجت عنه أخيرا "لقد بدل أخيرا ذلك الذي كنت تمقتين طريقته المهينة في تنظيفه اسنانه بأظافره"
"هذه أخبار سارة حقا" ارتفع حاجبا المدام، فإن وجد شخص تكرهه اكثر من الطبيب بوتشر فهو مساعده.
"وهو شاب رزين، رأيته مرتين لما رافقت بيتي لمتابعة حملها"
"وسيم بما يكفي لصغيرتي ماريا؟"
"إنه متزوج أمي"
"يا للخسارة، أخبريني عن اسمه إذا فإني لن احفظه على أي حال" هزت رأسها.
"لم اسأله"
"انت لم تفكري بسؤاله إطلاقا أليس كذلك يا ابنتي الفطينة؟"
ومضيا في طريقهما نحو عيادة الطبيب فريد بوتشير والتي كانت كأي عيادة، متواجدة في بناية منزله ذو الثلاث طوابق، ملاصق لجيرانه. نزلت المدام ثم ابنتها وقامت المدبرة بفتح الباب كي تستقبلهما، ويا لحظ المدام كاميرون ما كان يوجد غيرها فكان صبرها على مقاعد الانتظار مريحا.
أذنت المدبرة لها بدخول المكتب، فولجت مع ابنتها وجلست على السرير البارد، بانتظار الطبيب ليفعل ما يفعل كل مرة، لكن من كان خلف المكتب لم يكن بالسيد بوتشير إطلاقا بل شاب آخر، ثلاثيني المظهر، نظيف الرائحة وما لفت المدام هو حذائه الذي كان يلمع.
رفعت طرفها للخاتم في اصبعه وعلمت أنه المساعد الجديد الذي ثرثرت حوله ابنتها، فضايقته لتختبر مدى صبره عليها ولتلاطفه "أخبرني يا حضرة السيد المحترم، هل تنظف بقايا الطعام العالقة بين أسنانك بإظفرك؟"
تبسمت المدام لما وجدت طرفي شفته ترتفع في شبح ابتسامة، فرفع بصره نحو المدام "لست من الذين يتحملون تناول الطعام في أماكن العمل"
"هذه هي الطباع التي تروق لي، لو لم تكن متزوجا لأخبرتك عن صغيرتي ماريا، إنها شابة أنيقة، خلقا وأخلاقا"
"إنك تخبريني بالفعل عنها يا مدام، متأكد أنها على خلق عالي مثل حضرتك"
"خير ما قلت، ماذا عن زوجتك؟ هل هي تقطن معك هنا أم تركتها في الديار؟"
"تقيم معي بالتأكيد والآن مدام آمل أن مزاجك على ما يرام لأني سأقوم بمعاينة حضرتك والسيد بوتشر حكى لي عن كرهك لهذه الزيارات"
"ليس كرها" هزت رأسها "إني فقط لا اطيق سماع الاخبار السيئة، اخبرني هل تجيد الألمانية؟ لابد أنك تفعل حتى تتمكن من التفاهم مع السيد بوتشر"
"إني أفعل، مدام" وضع مساعد الطبيب السماعة في جيبه وضم دفتر الملاحظات لتحت ذراعه وما جعل السرور في عيني المدام يتدبل لصدمة هو استعانته بعصى خشبية ليمشي، فشاهدته وهو يجلس على الكرسي أمامها ثم لم تنطق بحرف.
عاينته المدام بصمت واستنكرت حال تقاسيم جبينه المألوف، محجر عينيه، تفاصيل عظام وجنتيه وفكه، الذي كان مشابها لزوجها الراحل بل ولبعض أحفادها ولو لم تعرفهم لظنته واحدا منهم.
"أخبرني حضرة السيد عن اسمك، فمن الوقاحة أننا لم نتعرف بعد"
"أعذري قلة لباقتي، إن اسمي هو هايدن غلور"
"هايدن غلور إذا"
همهمت المدام باهتمام ولما ختم هايدن فحصها، استأذنها أن يغادرها لمحادثة الطبيب، فشاهدت المدام ظهره وهو يغادرها مع عكازه الذي لم تطقه أبدا فهمست لابنتها بالقانون.
"لو لم يكن غلور لظننته ابن صوفيا، كان يدعى هايدن أيضا"
"كيف تعرفين بشأن ولدها؟"
"لأنها انجبته في فراشي واسميته بنفسي، بالطبع قبل أن تأخذه الحمقاء وتفر هاربة"
اعتصرت المدام على اصابعها ثم همست تحت أنفاسها لما عاد إليها برفقة الطبيب بوتشر "قومي بدعوته على العشاء" تبسمت المدام للطبيب وألقت عليه التحية ثم اكملت.
"لربما ليس مقتنعا بحرمه" عاينته المدام من رأسه حتى أخمص اصبعه راغبة به، كما لو أن رباطا متينا وقيود دم ربطتها به.
"حينها سأعرفه على ماريا. إنها تستحق شابا مثله"
ولما فرغ الطبيب من المعاينة وودعهما، لمحت المدام مساعده يرتدي معطفه ويضع قبعته، فأرسلت ورائه ابنتها لامتلاكها بعضا من الصحة كي تستعجل في المشي وتدعوه كما اتفقا على العشاء فوقفت ابنتها خلفه وكادت أن تنطق لكنها أغلقت فمها لما نزل السلالم.
راقبته وراقبت تلك المرأة ذات لفائف ذهبية بلون الشمس تخفيها اسفل قبعتها، تنتظره.
فأدركت أنها صاحبة الخاتم في اصبعه بسبب النظرة في عينيها اثناء انتظاره وحالما وصل وخطت قدمه على الرصيف، زلقت يدها في ذراعه وعلقتها في مرفقه ليذهبا في طريقهما.
عائدين للمنزل.
.........................
ويب هذه كانت النهاية، إذا وصلت لهذا الفصل ولهذه النقطة اتمنى أنك قضيت وقت ممتع رغم بعض التأخيرات اللي حصلت.
بالنسبة لي كانت هذه الرواية من الروايات اللي الها مكانة عزيزة في قلبي من شدة جمال التفاصيل التي صنعتها الشخصيات لنفسها بنفسها.
اعذروني على أي غلطة املائية او غلطة في ترابط الاحداث لان صارت فجوات زمنية بين كل فصل وفصل وقدر المستطاع حاولت اراجع الاحداث قبل ان ابدا كتابة كل فصل جديد.
وطبعا عندي كلام كثير لكن ما اقدر اتحلطم مثل مراهقة عن كراشها باسم البرستيج.
بالمختصر انا مغرمة بيهم وهلكت دموع يوم ما انقتل الكلب ذهبي والقطة.
لاتنسوا تشاركوني رأيكم بالاحداث الحبكات العاطفية وبالشخصيات وعن اكثر شخصية حبيتوها، بالنسبة الي هايدن وروميو لاني جدا جدا استمتعت بتجسيد هوسهم ان كان بالفلوس او الحب وجوانبهم النفسيو وحقارتهم بنفس الوقت.
ولاني مستحيل اتخطى روميو وافكار روميو لما بيرل تشتمه، هالمازوخي هذا.
ومن الاناث فهي جوان وصوفي لاني استمتعت بكتابة حقارة شخصيتهم وجوانبهم النفسية
اما عن بيرل فهي حكاية ثانية لان استمتعت بصراعها النفسي وبحثها عن الحب لدرجة ان تفقد منطقها واستعدادها ان تكون عبدة عند الحكيم اللي ضر اخوها ومستعدة لقتل هايدن لمجرد اهلها الجدد يحبوها وما يتخلوا عنها. مثل القديمين.
والشي المميز الثاني بالرواية واللي حبيته جدا، حاله من حال حدث ذات مرة في سانتا كولوما والقصر اسفل السحب وفوق القمر هو الحب الديناميكي الي نما بين الشخصيات واستمر وهما فاهمين هالشي بين بعض لكن ابدا ما نطقوا كلمة احبك اللي كلنا ندور عليها بالقصص .
والصراحة هذا شي صار من نفسه، يعني بالنسبة اللي الشخصيات قادت نفسها بنفسها وابدا ما كانوا شخصيات يقدروا يقولوها بل حسوا بيها وعاشوا الاعجاب الحب والتملك بدون ما يعترفوا فيه.
وعني، انا اللي ادور اعترافات كمان بالقصص اللي اقراها، حسيت بحلاوة رومانسية هذه الحالة وانا اكتب حبكتهم.


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة