illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تخبروا زوجتي؛ الفصل التاسع عشر

 

دفع نيكولو بوابة العمارة وطرفه صوب بيانكا؛ التي سارت بخطى مستعجلة والقلق بادي عليها، تلفتت حولها خشية أن يراها أحد فيبلغ أخاها، ولم ينزل عنها هذا الجزع إلا بعد اجتيازها المنطقة التي تحت سيادة آل دي كارلو ثم مضت في طريقها متلهفة، نحو الحديقة حيث ينتظرها حبيبها فرانكو، في مكانهما المعتاد تحت شجرة مسنة، أغصانها مجردة من الورق منذ أيام الشتاء القاسي.

 

راقب نيكولو أذرعهما تلتف حول بعضهما البعض بلقاء عاطفي ودم نيكولو فار، فأخته المصون قد ألقت وراء ظهرها، جميع الرجال الفاسدين في العالم وتمسكت بهذا البغيض الذي لعن زوج أختها. أراد التصرف بحكمة في هذا الموقف وانتظار رحيلها، ثم يثقب رأس فرانكو برصاصة، لكن دموع أدرينا التي ترملت غلبته، فدهس على ضميره الذي يوصيه بالتريث وأشهر بفوهة مسدسه ضد رأس فرانكو "مكانك قف حالا يا ابن الفاسدة"

 

"أخي!" تيبست عضلات فرانكو وبيانكا انقشع عنها لونها، حتى باتت شاحبة كمن رأت الموت وهذا التشبيه في محله، فأخوها وحاصد الأرواح مجرد وجهان لعملة واحدة. وكانت تعابير نيكولو مختلفة عن عادته المهنية، فهو يتميز عن غيره من القتلة، بمزاج عالي عند ممارسة المهنة لكن هذه المرة هو لم يكن أبدا بالمزاج واتخذ من الانتقام طريقا لابد من سلوكه. هذا ما وسوست به الشياطين التي رقصت فوق رأسه.

 

"لن أهبك حتى حق التفوه بكلمتك الأخيرة"

 

عزم على ضغط الزناد لكن بيانكا ألقت بنفسها كقربان لحماية حبيبها ورصاصة نيكولو فرت في الهواء بلا هدف "نيكولو لا! أرجوك لا تفعل! أتوسل إليك!" تشبثت بذراعه مصرة على منعه، فدفعها نيكولو ومعطفها تلطخ بوسخ الأرض ليعاود التصويب "ابتعدي عن خلقتي يا بيانكا فلا أضربك مؤدبا!"

 

أراد فرانكو نجدة حبيبته لكن صوت الرصاصة وهي تستعد لثقب رأسه، جعلت من قدميه عاجزة فبقي في مكانه وهذا ما أحرق فؤاد بيانكا، رؤية فرانكو بلا حول ولا قوة أمام هذا الطاغية.

 

"نيكولو!" عاودت بيانكا الارتماء على أخيها تبعد يده، لتفر الرصاصة التالية ثاقبة لحاء شجرة بريئة من أشجار الحديقة، فزجرها بلهجة شديدة "أقلعي عما تفعلين فهذا لن ينفع! دمه ما أريد!"

 

"دما؟! تريد دما؟! إذا خذ دمي أنا!" احكمت بكفيها على يده وجعلت فوهة مسدسه صوب جبينها "خذ مني بقدر ما تبتغي من الدم، اقلتني فأنا لا أبالي لكن ليس فرانكو، لا تؤذني به فهو بضعة من قلبي!"

 

"بيانكا اهربي من هنا قبل أن يفعلها فهو رجل بلا مبدأ!" نادى فرانكو عليها ملحا، كي تفر بجلدها منه واهتز كيان نيكولو من هول ما سمع، فألقى نظرة على اخته المقبلة على التضحية وذاك حبيبها يناجيها، أن تقي نفسها شره. حينها احتدت قبضة نيكولو على سلاحه وتوعدهما شر وعيد، فلقد نصبا نفسهما منصب الخروف العاجز وهو مجددا لبس دور الذئب الظالم...

 

"انتِ فاقدة لصوابك! ما عاد لك عقل سوي! إن من تدافعين عنه هو من ترك أختك أرملة! لقد قتل قريبنا جيوفاني!"

 

سحب يده منها وألقى بها أرضا غير آبه بدموعها، فما يقدم عليه لأمر يصب في مصلحة العائلة وهذا دوما ما حرص على فعله، ضمان مصلحة العائلة. تقدم نحو فرانكو راكضا، وذاك عزم على الفرار، فجره من ياقته ولكمته القت التحية على وجنة فرانكو "تدخل مكاني كما يحلو لك وتفعل ما تشاء؟! ملعون أنا إن تركتك تعيش هذه المرة!"

 

تهاوى فرانكو وكاد أن يسقط، فعاود نيكولو جره ليستقيم، فلطمه أقوى من سابقتها، انحنى فرانكو وأيقن أنه لن يحتمل التعرض للضرب طويلا، فاتخذ خطوته وعانق جانب نيكولو، فلكم موضع جراحه بضع مرات وقد وجد فيه ألما شديدا.

 

وتخمين فرانكو في محله، فالروح كادت ان تفر من فتحتي انف نيكولو وما لقيه من ألم لم يزده إلا حقدا، لذا زمجر وفي تذمره شكوى من حاله، حال ابنه الذي لم يكن سوى خيبة أمل، من اخواته اللاتي لا يعرفن الشبع ومن هذه العيشة التي عليه التشبث بها بنواجده.

 

ففار دم نيكولو وبطش بفرانكو بطش المنتقم من غريمه وطرحه أرضا، لكماته كانت كالسيل الجارف وشدتها جعلته يبصق الدم من فمه وأنفه. خارت قوى فرانكو تحته وعيناه ما عاد قادرا على فتحها من شدة تورم وجهه "افتح لعنتك هذه! افتحها كي تراني وأنا أقتلك بكل حب" اعتصر نيكولو على فك فرانكو وزلق فوهة مسدسه فيها لاهثا، متعطشا للثأر لولا أخته، التي عادت لردعه وهذه المرة ضربته على رأسه بحجر التقطته و وجهها محمرا كما لو أنه غريمها وليس أخاها "دعه أيها المسخ! دعه ولا تؤذه أكثر!"

 

قطب نيكولو حاجبيه جراء الطنين، الذي تفشى في رأسه وبرودة انسابت من بين لفائف شعره الداكنة، فسال الدم بين حاجبيه ولم يفهم نيكولو ما اصابه حتى وقعت قطرة على وجه فرانكو "صخرة؟" لمس جبينه وصعق من اصابعه التي تلوثت "تضربين رأسي بصخرة؟!"

 

"ولو أمكنني لاقتلعت المسدس من يدك ولافرغت ما فيه في رأسك الحقير!" صاحت بيانكا بقهر وخصل غرتها السوداء، لاصقت جانب شفتيها المحمرة، بفضل نسيم فبراير والذي مهما نزل عليهما قارصا من شدة برده، أعصابهما الحامية أنستهما الألم "تفرغيه في رأسي؟! أنا شقيقك!"

 

"انت لست شقيقي" هزت رأسها للجانبين بقهر "لا نسب ولا دم يربط بيننا! انتَ مجرد يتيم نصبه أبي مقام الكلب لحراستنا!" تشبثت بيانكا بمعطفه من الخلف، تجرجره عن حبيبها، تتوسله أن ينفك عنه "لكن كبرت! باسم الرب في السماء! إني في الأربعين ولا حاجة لي لكلب يحرسني!"

 

"انت تقولين هذا كي اكف لكن لن اكف" عاود نيكولو لكم فرانكو الذي تفشت البقع السوداء والأرجوانية فيه "ولكِ كلمتي، جلده هذا سأفرشه أمام عتبة بابي كي يدهس على خلقته كل من هب ودب!"

 

"ماذا عنك انت إذا؟! إن كان هو قاتل فانت مجرد شيطان رجيم! تلومه على الجريمة التي اقترفها؟ ماذا عن جرائمك انت؟! جرائم جيوفاني؟ جرائم أبي؟! ولا واحد منكم بريء فبأي حق تمنعني عنه؟!" ألقت بنفسها على ظهر أخيها تشاجره، حتى انتزعت المسدس منه، لكن هذا لم يردع نيكولو، إذ ضغط بذراعه ضد عنق فرانكو يسلبه مقدرته على التنفس.

 

امتنع نيكولو عن الرد على توسلات بيانكا وظن نفسه سينهي أمر فرانكو هذه المرة وإلى الأبد، لكن اخته بيانكا منعته، كما تمكنت من منعه في السابق، لما صاحت به متوعدة أنها ستزهق روحها إن تجرأ ومس فرانكو. تهديدها هذا كان مختلفا عن سابقه، فلقد وجد في نبرتها صدقا خالصا فالتفت ورائه، ليجدها مستعدة لتفجير رأسها متخلية عن هذه العيشة المزرية، طالما أن حبيبها لن يعود ماكثا في الدنيا.

 

كانت الدموع فائضة في عينيها وأسنانها ببؤس تعض على شفتها، في محاولة واهية لإخفاء خسارتها العظيمة فلا يتشمت بها أحد. التقى بصرهما لبرهة ثم أغمضت بيانكا عينيها وتجهزت لضغط الزناد، فاستوقفها نيكولو وألم الخسارة كم كان مرا لا يطاق.

 

"إما أنا أو هو يا نيكولو وإن اخترته فأعدك أني سأهبك جثتين الليلة"

"توقفي عما تفعليه!"

 

"لن أكف حتى تقطع وعدا بأنك لن تمسه بضرر حينها لك مني قسم أني سأطيعك" ترجته ودموعها بللت طرفي شفتها "سأطيعك وسأفعل ما تشاء مني ولن اشتكي" اهتزت يداها المحكمة على المسدس "وسأعض على لساني حتى يفيض دمه"

 

وهكذا وضعته أخته أمام صفقة لا ربح فيها، فقط الخسارة لا غير. إما قتله وأما عنقها هي وكم كانت مراجعة القرار مرة، لذا صب في اخته غله وجرها من مرفقها، معيدا إياها لشقة كارولين حيث تمكث صوفي والبقية؛ فولج عليهن بخطى باطشة وألقى بيانكا التي تهاوت وسقطت على السجادة المفروشة.

 

تجمهر الفوج بين متعجب ومستنكر، ابصارهن بين بيانكا شعثاء الشعر ونيكولو حامي الاعصاب، الذي تفشى ألم جرحه في هذه اللحظة واعتصر بقبضتيه على ظهر الأريكة.

 

احكم نيكولو على أضراسه منصتا لنواحها، كما لو أنها في حداد، فضرب على ظهر الأريكة يخرسها شاتما ثم اجبر نفسه على التماسك فاعتدل وأبلغها محذرا ومتوعدا "صدقيني ما عاد لك مني رحمة فلقد استنفذتِ رصيدك عندي واقسم بشرفي أنها غلطتي، نعم إنها كذلك فما كان علي ترككِ تفعلين ما يحلو لكِ!"

 

"نيكولو! ارجوك تريث ولنفهم" حاولت صوفي معه لكنه لم يبالي بل اشار على بيانكا "ها انا سأجعلكن تفهمن، هذه المرأة لن تبرح ثانية بمفردها بعد الآن! إن اعينكم لن تنزل من عليها إطلاقا ولو استلزم الأمر ادخلن معها المرحاض!"

 

"هذا كثير! وعدتك أني سأفعل ما تشاء فلما لا تصدق؟! لن أراه! أقسم بشرفي أني لن افعل!"

 

"ولك عين أن تلفظي كلمة لا يوجد لها معنى في دماغك؟! قال تقسم لي بشرفها قال... صهه! صوتك هذا لن اسمعه وإلا نزعت حنجرتك بيدي!"

 

ومن بين الشقيقات زفرت داريا تحت أنفاسها بقهر، فها هي مصيبة جديدة تلوح في الأفق، دافعة موعد زفافها بعشيقها لأجل غير معلوم مجددا، لكن نيكولو اصابها بالعجب عندما ابلغهن أنه سيزوج بيانكا وموعدها سيكون قريبا من موعد داريا. شهقت بيانكا وشخص بصرها، صاحت محتجة لكن نيكولو رفع يده مهددا بأنه سيقطم عنق فرانكو، فعضت على لسانها مكرهة.

 

"لكن وعدتك أني سأفعل ما تشاء فلما ستقدم على هذا؟!"

 

"أذكر أنك اسمعتني هذه الترهات قبل ست سنوات لكن ملعون إن كررت غلطتي مرتين! ستتزوجين رجلا من العائلة وسأرسلك بعيدا عن هنا"

 

"أنا لن اتزوج مجبرة مثل الب..."

 

لكن نيكولو من فرط اعصابه وألمه قد ضرب على الأريكة لما فطن أن الكلام ما عاد ينفع معها وبيانكا ابتلعت لسانها بسبب صوفيا، التي حرصت على جعلها تلتزم الصمت إلى حين رحيله ثم بعدها سيتمكن من التفاهم فيما بينهن.

 

في هذه الليلة البائسة، أخيرا قرر نيكولو موعدا لزفاف داريا واوصاهن بتجهيز بيانكا فهو سيراسل ذلك الرجل الذي اختاره لها وسيدعوه كي يأتي للعاصمة بأسرع وقت ممكن ولما ختم حديثه وما عاد هناك ما يقال، القى بجبينه ضد كتف زوج اخته مارسيو وسأله بهمس أن يحضر له الطبيب فيرى حال جروحه.

 

وفي شقته حيث ترك أسرته الثانية، شمس الصباح ولجت منيرة زوايا البيت التي كانت مظلمة في الليل وبيلا في المطبخ مستقرة، تعد لنفسها طعاما ومن الحمام صوت غسالة الثياب تدور. قضمت خيارة في طريقها لفتح نوافذ المنزل، كي يتغير جوه وتذهب الرطوبة من جدرانه.

 

فتحت النوافذ والأبواب والباب الأخير الذي فتحته صعقت من وجود رجل ماكث في سرير ريكاردو فشهقت مرتعبة وريكو ذو النوم الخفيف افاق من غفوته.

 

وشهقتها ليس فقط من تواجده هنا، بل من الألوان الزاهية في وجهه "رباه! الرحمة" تمتمت ويدها على الفور طالت جبينها، فالدوار سفك بها وجلست بروية على الأرض، الأمر الذي دفع ريكو للنهوض فيرى ما بالها "انتِ على ما يرام؟ من المستحيل أن الصدمة فعلت بكِ هذا"  حاول مساعدتها لكنها استوقفته مشتكية من رائحة الكحول التي تفوح منه لدرجة أن اصيبت بالغثيان فركضت مستعجلة للمرحاض وافرغت مافي جوفها.

 

"هذا ليس بالشيء الطبيعي أليس كذلك؟" سأل ريكو والقلق تملكه لما أخبرته بالنفي "إني أمر بحال لم أعهده في نفسي قبلا وأظن أني حقا محتاجة للمرور على حكيم" ألقت بنفسها على الأريكة وهو خلفها يتبعها في حذائها "لكن لا توصل خبرا لوالدك، أرجوك"

 

"أوصل له خبرا؟ هو لن يسمع صوتي إلا في أحلامه الجامحة" تمتم تحت أنفاسه، مستذكرا ما مر به من عقاب ولما ابصر الساعة ضد الحائط انتابته الحيرة، أيذهب للعمل أم يبقى ملازما لها كما أمر والده. فإن الصح القول، بعد الطمة التي أكلها بسبب هذه المرأة هو ما عاد متشوقا لمجالستها، فهي توصل بسذاجة كل أقواله بالحرف لأبيه فامتنع عن اجابتها لما سألت عن هذه سبب الكدمات في وجهه.

 

"أهو والدك؟" سألت بيلا متوجسة فالمغص راودها لمجرد تخيله يُضرب من قبل أبيه "قل لي ولا تخفي عني حدثا مهما كهذا، فإن كان هو حقا، اقسم بشرفي أني لن أنجب له ولدا ولن امكث في بيته دقيقة أخرى"

 

قولها هذا مر في رأس ريكو وقد لمس في ذهنه أمورا مهمة فسأل بفضول "وهل انتِ عازمة على تركه إن وجدتِ في سلوكه عنفا؟"

 

"بالطبع! فإني لا أقوى على تحمل الغضب وأي مريض سيحتمل؟ إن لي نفسا هشة" ثرثرت ولما قفز لذهنها طيف نوبات الغضب التي تنتابها والشتائم التي تتلفظ بها عضت على لسانها.

 

همهم ريكو متفهما وقد عزف الشيطان في أذنه، موسوسا أن يفشي سر والده ويكشف لها مدى بشاعته، فتتركه وبهذا ستكون ضربته موفقة، فلقد اقسم ريكو على الانتقام مرات عديدة وعقد العزم على تنفيذ وعده لأبيه ليلة امس، ألا وهي محاولة قتله.

 

فيده ريكو على كل حال ملطخة بالدم، فلما لا يختم مسيرته بدم والده ثم يبحث عن عيشة جديدة باسم جديد وفي بلد غير إيطاليا، لربما يهاجر إلى بروكلين في مدينة نيويورك وينفذ حلم ابن عمته دانيلو.

 

سرح ريكو في مخيلته ولم يفق بسبب نداء بيلا، التي اقترحت عليه احضار ثلج بل بسبب مزهرية فائضة بأزهار النرجس، مستقرة في منتصف المنضدة. استنكر ريكو أمرها فهذه المزهرية لم تستقر فيها زهرة إطلاقا منذ أن ابتاعها والده ومن عادات والده، أنه لا يزين المنزل بالازهار بل يكتفي بنباتات كثيرة الورق فحسب "أرى أنكِ استحوذتِ على المنزل تماما"

 

"ماذا؟"

"المزهرية، وضعتِ فيها لمستك كما يقولون"

 

"آه إنها ليست لمستِ بل لمسة والدك، هو من ابتاع النرجس، لا أخفي عنك ذهولي لما اعترف لي أنه يهوى النرجس"

 

"أبي أنا؟! الجلاد الدموي ذاك يهوى النرجس؟! إني قادر على تصديق عودة الشيطان للجنة لكن هذه دعابة ثقيلة وليست بالممتعة إطلاقا"

 

"بل انت الثقيل يا ولد" ضربته على كتفه "لا تذكر والدك بسوء هكذا، حسنا إني اعترف أنه لا يملك هيئة رجل محب للورد لكن الظاهر أنه يفعل وهو يملك رومانسية في روحه"

 

"بل عنكبوتا في روحه، رباه، يا امرأة إن دماغك مغسول ب..." غضبه من والده دفعه ليفضح سره لكن المفتاح الذي دار في القفل أخرسه وكيف لا يفعل والجلاد بشحمه ولحمه قد حضر "سحقا، إنه حقا يحضر عندما تجلب سيرته، دانيلو كان محقا" تمتم ريكو في نفسه.

 

راقب ريكو باشمئزاز كيف أن مغسولة الدماغ بيلا، قد نهضت لترحب به وفعلت فعلة عمته صوفي، أنزعته معطفه، لكن ريكو وجد في بيلا شيئا ما كان موجودا في السابق، فتلك التي أتت للعاصمة روما، بدت حينها كالنادمة المتحسرة أما الآن تقف إلى جوار أبيه راضية وسعيدة بما تملك.

 

فأقر أن والده إما أغدقها بمال كثير أو أنه حقا كاذب محترف، لجعلها ترضى بالبقاء إلى جواره، بل وتنهض للترحيب به كالمشتاقة. ألقى ريكو برأسه على ظهر الأريكة، تاركا لنفسه مساحة فيتأمل هذه التركيبة الغريبة أمامه، لم يكن سرورها فائضا كعاشقة ساذجة ولم تملك أيضا نظرة ساخطة لما حولها. بل كانت ذو هيئة أخرى وطباع لم يجدها في عماته ولا في فاليري، الشابة الوحيدة حياته.

 

وما اعجبه أن شفتيها لم تكن باسمة، بل عينيها، والتي فاضت بحرارة ليس حارقة، بل بأخرى مختلفة، فكانت مثل الحرارة التي يبتغيها كل من ركض إلى داره بعد يوم قارص البرد.

 

ويا للعجب، كانت بيلا دافئة لحواسه مثل دفئ منزل مكتظ بعائلة محبة، فوجد ريكو نفسه قد نسي أمر شرور والده وظن أنهم عائلة سعيدة حقا...

 

لاحظ ريكاردو تعابير أبيه المشدودة قد تلاشت بمجرد انزاع بيلا له معطفه وبحكم انهم في وقت مبكر من الصباح عرضت عليه الإفطار "سأحب لو كانت قهوة فحسب، إن أمكنك ذلك بالطبع عزيزتي" ويده طالت جانب رأسها، ملاطفا شعرها الغير مرتب إطلاقا.

 

شعر ريكاردو بتقلب في معدته لما سمع لهجة أبيه مع زوجته، كانت مختلفة عن لهجته معه ومع عماته بل وما اثار عجبه، هو امكانية حديثه بهكذا لهجة بعد أن دس مسدسا في جيبه وخرج على عجل متوعدا بقتل احدهم هذا الصباح.

 

"ريكو، أترغب بفنجان؟" سأله والده وهو تلعثم من صدمته، فاستقر في النهاية على عبارة "لما سأرغب بواحد؟"

 

"لأننا سنتحدث بعد أن اغير ثيابي" ولما وجد نيكولو في عيني زوجته مئة سؤال اجابها باختصار "احاديث عن العمل، فلا تلقي للأمر بالا"

 

وهذا ما حدث، وجد ريكو نفسه جالسا على كرسي وبين يديه فنجان قهوة، قد دغدغت رائحتها انفه وبعد الطاولة المستديرة كان والده يحتسي قهوته ومنامة مخططة بالأخضر تعلو بدنه، بينما قدماه ممدودة على فراشه، يتأمل سقف غرفته وطائر الكناري صوته المغرد وصل إليهما من الشرفة.

 

غير ريكو جلسته في مقعده، وبدل بين ساقيه للمرة الثالثة ينتظر من أبيه صوتا ولما لم يأتي قرر أن يرتشف القليل.

 

 "أفكر بتزويجك يا ريكو"

 

وبالطبع، ريكو كأي ولد في التاسعة عشر من عمره، احترق لسانه من فرط ما اندلق لجوف فمه فسارع بوضع الفنجان على الطاولة "م.. ماذا؟! أرجوك قل أنها مزحة تتنمر بها علي لتغير مزاجك"

 

"إطلاقا" أخذ نيكولو رشفة ثم أنزل الفنجان لحضنه بإتزان، كما لو انه لم يكن يصيح في ساعات الفجر الأولى بأخته على فعلتها "لكن... لكن يا أبي إني لا اصلح" فكر ريكو بحجة فقال "لازلت صغيرا!"

 

"كنت في التاسعة عشر حينها أيضا"

 

وهل انت سعيد؟! هذا ما أراد ريكو قوله لكنه عض على لسانه ووالده اكمل "كنت أنوي تركك لتفعل ما يحلو لك، ثم كسائر الخلق تختار من تشاء عندما تجد من يلائمك، وهذا ما كنت اتمناه لنفسي حينها، لما كنت بمثل سنكَ، لكن عماتك اجبرنني على تغير رأي، بتذكيري من أكون"

 

"ماذا تعني؟ إني لا افهم حرفا مما تقول؟"

 

"وهل اتحدث بالإنجليزية كي لا تفهم ما اقول؟" استنكر نيكولو تعجب ابنه "انصت جيدا، في ذلك الوقت أبي أراد حقن الدماء مع باتشيني فزوجني وعماتك؛ كارولين وكارلين منهم لكن اليوم ما عاد بيننا ثأر دم، لذا ستكون زوجتك من آل دي كارلو، مثلي ومثلك لكن الفرق أن دمها نقي عكسنا نحن من حصلنا على الاسم كهبة"

 

اعتصر ريكاردو على جانبي كرسيه بالخفاء، فشرط والده بان تحمل اسم دي كارلو لجم فؤاده، وهذا لأن فاليري بسبب والدها ما كانت تحمل ذلك الاسم اللعين.

 

"لما؟ لما قررت هكذا فجأة الاقدام على هذا؟ اني احاول فهمك لكن لا استطيع"

 

انصت نيكولو لتذمر ابنه ومحاولاته في جعله يعدل عن قراره وهذا المشهد أعاده في ذاكرته لسنين ماضية، عندما ناقش والده أيضا في شبابه، رافضا أن يسلبه الحرية الوحيدة في حياته ويزوجه بمن لا يرغب، لمجرد هدف سخيف يخدم العائلة التي وهبها بالفعل كل ما يملك.

 

وحرقة نيكولو كانت شديدة حينها، لأن والده بقراره هذا، سلبه حب شبابه والتي كانت فردا من آل دي كارلو وقد ربطتهما رسائل كثيرة.

 

"افهمها كيفما شئت، ففي كل الأحوال عليك أن تملك ولدا يحمل دم دي كارلو يربطك بهذه العائلة قبل أن يتخلصوا منك في أقرب فرصة، فمركب عائلتنا بات يتصدع يا بني وصدقني، الموج لن يكون بي وبك رحيما فجدك ما عاد موجودا لنقف تحت ظله" فرك نيكولو اصابعه وموضع مفاصله التي تجمع بها الدم جراء لكماته "يجب أن تكون امرأة حريصة على الاسم كي تأخذ بيدك وتبقيك في كرسيك ماكثا فلا ينزلك منه أحد"

 

ثم أعطى نيكولو من وقته الكثير، ليحكي ما حدث مع فرانكو والشفافية التي جمعت نيكولو بولده كان المظهر الوحيد من مظاهر الود بينهما، ففي هذا الأمر هما لم يكونا كرئيس عمل وموظف بل كانا كلاهما يتبادلان اطراف الحديث المهم. أبلغه أيضا أنه طلب موعدا باسم لورينزو لزيارة والد العصابة التي ينتمي إليها فرانكو، كي يهتم بامر فتيته ولا يدعهم يتجولون في الجوار فيزعجون الآخرين، وحرص نيكولو على وضع تهديد صريح بأنه إذ وجد فرانكو يدخل أملاكه مجددا، فسيعيده لوالد عصابته في كيس يحوي ظفرا واحد لا غير.

 

"أبي" نطق ريكاردو "اخشى قول ذلك ومتأكد أنه لن يعجبك لكن ما عيب فرانكو؟ لنكن صريحين هو شيطان حاله من حالنا"

 

"هناك فرق بيننا، نحن أجل نفعل ما نفعل، فهذه مهنة العائلة لكن لمهنتنا قوانين تحدها وتحد علاقاتنا مع غيرنا، نحن نملك مبدأ، أما هو فلا يعرف له معنى وخذها مني وصية لك، لا أمان لمن لا مبدأ له" رفع نيكولو فنجانه لشفتيه كي ينهيه، ثم تحدث بصراحة لا خجل ولا تحفظ فيها "يقول ما أفعله هو الحب، أخبرني يا ولد أين الحب بأن تُلبس عائلة عشيقتك ثياب الحداد؟ مريض هو ومريضة هي أيضا"

 

"على جثتي، زواجهما لن يتم إلا بعد أن تتبول الكلاب على قبري" عادت أعصاب نيكولو مشدودة لمجرد تذكر ما فعلته اخته هذا الصباح "تقول لي لا بأس إني راضية به، لنرى كيف سترضى به عندما تفور أعصابه ويرفع مسدسه في رأسها، لم يخشى تفجير رأس عائلتها كي يخشى تفجير رأسها لاحقا"

 

حملق ريكو بوالده مكفهر التعابير وما يقوله من درر لا تليق برجل مثله إطلاقا فأقر في نفسه؛ أنما أصاب والده، هو نوع من أنواع تقمص الشخصية، بعد إفراطه بالكذب على زوجته، بأنه رجل صالح لم يدهس على نملة في حياته.

 

 انتهى بينهما الحديث بأن أرسله والده ليكون عونا للسنيور لورينزو وفيتو في المتجر وقبل مغادرته، أبلغه نيكولو أن يعود مبكرا، كي  يرافق أمه وعماته في التسوق فيجد لنفسه ثوبا أنيقا فزوجته المستقبلية سيدعوها لحضور زفاف عمته داريا.

 

ولجت بيلا لاحقا على نيكولو المستلقي في سريره ولمحت فيه أثرا للألم فسألته "مما انت موجوع؟" وما لفظته جعل من تعابيره تلين، فلقد فطنت أمره وقرأت دواخله التي يكبتها فأراح وجنته على يدها وسألها مرغما بسبب ما تلفظت به أخته سابقا، لدرجة أن هزت كيانه.

 

"ما أنا بالنسبة لكِ يا ميرا؟" ربت لها على الفراش كي تجلس قربه وتعجبت بيلا "أهذا نوع من التملق بعد ليلة أمس؟ أخبرتك أني غفرت لك وما بيننا عاد لسابق عهده"

 

"إطلاقا بل هو مجرد سؤال عادي، لكن أطلب منك الصدق، ولا شيء سواه" ألقى برأسه على كتفها وحرارة عنقها لفحت جبينه، أما عن اصابعه فقد توغلت بين اصابعها. فكرت بيلا فنطقت بأول ما خطر لبالها "شخص أتوق لعودته وبما أنك ألقيت سؤالا كهذا فأجب انتَ أيضا، ما أنا بالنسبة لك؟"

 

"شخص أتوق للعودة إليه" رد نيكولو بلا افراط في التفكير ثم أذن لذاته بالراحة وأغمض عيناه، فعلى الأقل هو بالنسبة لأحدهم شخص مهم وليس فقط كلب حراسة مسعور أو جلاد لا يملك في دمه رحمة.

 

وهكذا طوي نهار يوم عصيب ثم توالت من بعده أيام، كم كانت زخمة بصخب دي كارلو، وصخبهم هذا لم يكن جراء مصيبة وإنما صخب عجلة وتوتر، لأجل ذلك اليوم السعيد. كانت فرحة داريا فائضة لما فوق السماء ومن شدة تحسن مزاجها، لم تدع لغوا يعكر عليها، فامتنعت في هذه المدة عن مشاركة اخواتها، مجالسة بيانكا ذات اللسان السليط، التي لم تكف ابدا عن شتم أخيها وزوجته التي نصبها بينهن.

 

بل ومن شدة سعادة داريا، اخذت بيد بيلا كما لو أنهما صديقات منذ زمن طويل وخاضا في اتمام التجهيزات بل واستعانت بها لتشغل عنها نيكولو، كي يتسلل خطيبها فيتو فيلتقيا بالسر ويخوضا كثيرا من الاحاديث المشوقة عن المستقبل المجهول. وذاك اليوم أتى بسرعة وقبل أن يصل بليلة، أحيا دي كارلو أمسية عائلية في شقة كارلين والتي كانت اكبر الشقق لديهم.

 

لكن الدعوة كانت محصورة بين أفراد العائلة وبعض المقربين، الذين اختارهما فيتو وداريا وراجع نيكولو سيرتهم الذاتية بالطبع. إلا أن داريا لم تفرط بالتدقيق فهذه ليلة سعدها وما عاد يفصلها عن الخاتم سوى بضع ساعات، فراقصت خطيبها فيتو على وقع موسيقى عصرية لا تمت لذوق أخوتها بأي صلة وحولها أصحابهما يرقصون.

 

ولجهل أخواتها في هكذا أمور شبابية، اكتفت صوفي بالجلوس ومحاولة غض طرفها عن الأولاد، الذين يركضون في الأرجاء وفتات الطعام يسقط هنا وهناك، بينما أدرينا التي قررت الحضور لأجل اختها الصغيرة، جلست إلى جوار صوفي لكن بلا مودة تذكر بعد آخر خلاف شب بينهما.

 

وخصام أدرينا هذا، لم يكن موجها لصوفي فحسب بل لعائلتها جميعا، لدرجة أنها لم ترد التحية ومسحت القبلة التي طبعها نيكولو على وجنتها.

 

أما عن كارولين، فلقد حاولت مجاراة الشباب والرقص مثلهن مع زوجها مارسيو، فغطت فاليري وفايوليت أعينهما بخزي من والديهما ثم استقر ريكو واقفا أمام فاليري، يسألها أن ترقص معه، فرفضت ساخرة من الأمر برمته وفايوليت كادت أن توافق لكنه ول مبتعدا عنهما.

 

وعن نيكولو، فلقد كان متكئا بكتفه ضد إطار باب المطبخ، في جعبته كأس وإلى جواره كان أنتونيو مستندا ضد الحائط وكلما مر ولد من أولاده، أعطاه خلسة المزيد من الحلوى، فزوجته كارلين منعتهم بل وصاحت بهم، لما وجدتهم أفرغوا الأطباق كالفقراء الجياع، الذين لم يروا حلوى في حياتهم.

 

خاض أنتونيو مع نيكولو كثيرا من الأحاديث العشوائية والتي انتهت كل جمله بسؤال عن زوجته بيلا، وضعه معها وهل هما لربما متفاهمان رغم فارق السن بينهما لكن القلق حيال حياته الزوجية لم يكن غايته، وإنما غايته هو سماع ولو القليل عنها.

 

إذ أن عين أنتونيو طوال الأمسية، كانت مثبتة عليها لا على زوجته، التي تصيح وتزمجر كالساحرة الشمطاء بل وإنها عاتبته وجرته من ياقته لرفضه مراقصتها. وزوجته كارلين كانت كالضد لبيلا التي لم تنزل ضحكتها أبدا بل وإن قلبه خفق بضراوة لما التقت أعينهما ووجدها تسير نحوهما متقدمة.

 

لكن لهيب أفكاره خمد عندما عانقت بيديها ذراع نيكولو وسألته إن كان على ما يرام بسبب الضمادات الموجودة أسفل قميصه الأسود، أخبرها أنه على ما يرام، فسألته إن كان قادرا على الرقص.

 

ألقى نيكولو نظرة على الراقصين وجوهم لم يشابه جوه إطلاقا وتمايلهم سريع سيفتك بجروحه إن تجرء وقلدهم، حينها سيشتمه الطبيب لذا قال "أود ذلك لكن لا طاقة بي لمثل هذا، خذي ريكو معكِ فهو كالبائس كان يتجول بحثا عن من يشاركه ومتأكد أن الخزي أعتراه من عدد اللاتي رفضنه"

 

أشار نيكولو على ابنه الجالس لوحده في المطبخ يدخن وعمته كارلين توبخه فدخان سجائره سيشوه طعم الأطعمة وبالأخص الكعكة. أراد أنتونيو عرض نفسه كشريك لها لكن بيلا ولت بالفعل آخذة بريكو، تجره كالولد الصغير خلفها حيث يرقص الجميع.

 

في البداية تذمر ريكو، والخزي انتابه، لأنه يراقص زوجة أبيه الشابة، لدرجة أن ضحكت عليه عمته كارولين وزوجها مارسيو لكن بيلا لم تدع له مفرا، فراقصها في البداية مكرها لكن طرب الموسيقى التي تصيح ب-أعطني المزيد، أعطني المزيد- أنسته ما يمر به من خجل فرقص كشريك مثالي حتى تعالت الضحكات بينهما.

 

جرها ريكو من يدها تارة ثم جرته بيلا من يده تارة أخرى، حتى استقرا أمام بعضهما، يلقيان قدما هنا وقدما هناك ولم يكن أحد منتبها معهما سوى نيكولو، الذي ارتفعت زاوية شفته في ابتسامة وهو يتأمل اسرته، التي ما خيل له أن يمتلك مثلها يوما، فاعتراه الرضى لدرجة أنه ما عاد يطلب المزيد من الرب، فهذه العطايا لكثيرة، اكثر مما يستحق.

 

لكن لكل لحظة جميلة نهاية ونهاية لحظته انتهت بالجرس الذي رن مرات عديدة، اعتدل في وقفته وقصد الباب بينما خلفه لورينزو تبعه مستعجلا، لكن صوفي سبقته بالفعل وأدارت مقبض الباب.

 

حينها وقعت ابتسامة صوفي وشخص بصرها لمجرد رؤية هوية الزوار الغير منتظرين....






عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz