illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تخبروا زوجتي؛ الفصل العشرون


تجرعت صوفي حلقها الذي جف من هول صدمتها بمن حضر، فلم يخطر لبالها أبدا أن يقدم زائرها هذا على أن تطأ قدمه عتبة بابها، فاستدارت بكاحلها للوراء ودماغها حاول نسج عبارة لأخيها، لكنه كان هو ومساعده يقفان في نهاية الردهة بالفعل فما عاد محتاجا لمجهودها.

 

"لا عناق ولا قبل؟ أهذه الأخلاق التي تركها دي كارلو لكم؟"

 

نطقت عمتها ولم تجاهد نفسها إطلاقا، لإخفاء حنقها أسفل عباءة من السرور بذرية أخيها الخائب، الذي غادر هذه الدنيا تاركا خلفه بضع فتيات، لم تنجح إحداهن إطلاقا ببناء أسرة مدنية ذات حسب ونسب. ألقت صوفي بطرفها لعمتها، فارعة الطول نحيلة البنيان وهذا كان علامة بارزة يتناقلها دي كارلو من جيل لآخر، ورغم تجاعيدها وتعابيرها المكفهرة، إلا أنها امتلكت حِسا رفيعا في الموضة، فكانت تضم لصدرها حقيبة يد حمراء، بالكاد نزلت قبل بضعة أيام على أغلفة المجلات.

 

ارتفعت زوايا شفتي صوفي بابتسامة وجمعت اصابعها، المغلفة بقماش قفازها الأبيض ومن شدة التوتر الذي راودها من رأسها حتى أخمص اصبعها، باتت غير سوية في وقفتها، كثيرة التبديل بين قدميها "آه عمتي، أعذري قلة لباقتي فإني متفاجئة وما تخيلت مجيئك إطلاقا"

 

"ربما لأنكِ لم تكلفِ نفسك عناء إرسال دعوة؟ وأنا التي ظننتكِ أكثر أخوتك نضجا يا عزيزتي" أذنت العمة لنفسها بالدخول لما تأخرت صوفي وحركت حقيبتها، تصد صوفي عن طريقها، كي تمضي في الردهة ومن خلفها تقدمت بيانكا، بخطى متجاورة مع فرانكو بتعالي وتحدي، لعائلتها ولنفسها أولا.

 

عاين نيكولو العمة وطرقات كعبها، كانت كمطرقة تدق على مسمار، يكاد من حدته يفلق الخشب، الفوران الذي سببته في دمه كان شيئا وما فعلته أخته بيانكا به كان شيئا آخر، فلقد أحضرت معها من نصبه نيكولو لنفسه غريما.

 

"اللقيط الذي أحضره أخي من الملجأ؟ أقسم لك أني لم أخطأ بتخمين هويتك، فاسم دي كارلو لن يداري أبدا النجاسة التي انت عليها" تحدثت العمة مستنكفة وهي واقفة أمامه، وكيف لها ألا تكون، فهي دي كارلو وهو مجرد صبي حصل على الاسم كهدية.

 

الموسيقى في المسجل توقفت بالفعل، والأقدام الراقصة استقرت على الأرض بلا حراك، فطنت الأخوات هوية الزائر وريكو عرفها أيضا، لكن بيلا استنكرتها واستنكرت اسلوبها في مخاطبة زوجها، وكأي امرأة خدشت كرامتها بسماع زوجها يُهان، عزمت على الذهاب لتجاور نيكولو ولتصرخ في وجه تلك عوضا عنه، لكن ريكو قبض على معصمها يمنعها.

 

"وهل كانت العائلة قبل مجيئي تصدر الصابون مثلا؟ إن النجاسة التي تريها نجاستكم يا سنيورة" انحنى لها بظهره مرحبا واكمل "شرفتِ أمسيتنا الصغيرة سنيورة ولا أظن أني بحاجة لسؤال حضرتك عن سبب تذكرك المفاجئ لنا، فلقد فهمت المكيدة التي دارت من وراء ظهري" لم يلقي لبيانكا نظرة إطلاقا فمن شدة خيبته ما عاد يطيق رؤية هيئتها ولا هيئة الماكث إلى جوارها "إن كانت زيارتك لمباركة أختي فلك مني خالص امتناني وإن كانت لشيء آخر فلا مرحبا بكِ"

 

"إن هذه إهانة علنية لي وسط ذرية المرحوم فكيف تجرؤ؟!"

"وألم تكن مقدمتك التي دخلتِ بها عنوة بلا دستور إهانة علنية؟"

 

"لقد كانت الحقيقة ولا شيء سوى الحقيقة! ثم إني ما عدت أطيق من أفعالك شيئا" حركت رأسها للجانبين وردت باحتجاج دفع الدم للتجمع في وجهها المكفهر وشفتاها لولا اللون الأحمر الذي صبغتهما به لما عُرفت اثناء حديثها "أخي سماك باسمه ووضعك مكانه لتكمل إدارة شؤون العائلة وسلطتك محدودة عند هذا الحد فحسب!" أشارت نحوه بحقيبتها.

 

"من تخال نفسك لتحرم ابنة أخي مما تريد وممن تريد بل وتتجاوز حدك بأن تحدد مصيرها!" ثم تنهدت كالشاكرة لرحمة الله التي نزلت عليها "الحمدلله الذي أعاد لها رشدها فركضت إلي مستنجدة، الله أعلم بالتخويف والتهديد الذي اجبرن على خوضه مع متوحش لا أخلاقي مثلك"

 

"انها شقيقتي وأنا المسؤول عنها" تجاهل نيكولو محاضرتها التي ألقتها.

 

"إياك وربط دمها بدمك، انت لست شقيقا لها ولا لهن! كان علي الاعتراض حينها على أخي وأخذهن جميعا بعد وفاته، ذنبي أني تركتهن تحت رحمة وضيع مثلك"

 

حاول نيكولو جاهدا حينها لتمالك اعصابه، فدماغه لم ينفك عن تذكيره بوقوف زوجته على بعد مسافة مترين ونصف خلفه فانتقل بطرفه لفاليري وقال "خذي ميرا للداخل" لم يرق لبيلا ما أمر به أبدا وأعترضت فسخرت العمة قائلة "لا تريد لابنتك أن تسمع حقيقتك المروعة؟"

 

"لقد قلت للداخل حالا!"

 

اختض كيان بيلا وسمعت صوت فؤادها ينفطر، فعاينته بخيبة أمل بينما فاليري تجرها من ذراعها لغرفتها لكن بيلا تحررت منها ونزعت كعبيها لتسير بنفسها، حافية القدمين لتلك الحجرة.

 

"أنا أعرف هذه المسرحية سنيورة، كلها مقدمة لا نفع منها فأحفظي لنفسك ما بقي من قوتكِ وخذي هذا الشيء من أمامي قبل أن تطوله يدي فإني رافض رفضا قاطعا!"

 

هذا كان آخر ما سمعته بيلا قبل أن تغلق فاليري الباب عليهما وما بعده كان صخبا وضجيجا من خلافهم الغير ودي إطلاقا. شعرت فاليري بالذنب وأرادت مراضاة خالتها التي غلبها الحزن فجعلها شاحبة اللون، لكن الحزن لم يكن من سلبها لونها بل ألم شديد تشكل في بطنها بعد ما مرت به من رعب جراء صياحه عليها.

 

"خالتي ميرا؟"

"لقد غلبني الدوار فحسب"

 

حاولت بيلا تلفيق كذبة لكن فاليري لم تصدقها فإن كان دوارا كما تزعم، ما بها تضغط على بطنها كالتي تخوض عراكا مع مغص موجع "استلقي على سريري إذا، أجلب لك شيئا لتشربيه فيعيد لك لونك؟"

 

كادت أن توافقها، بيلا لكن عيناها المنهكة قد اتسعت من روع الضربة التي تفشت في جسدها وبؤرتها كانت بطنها، فارتمت على السرير ودست وجهها في الوسادة تعض عليها، ضربت بيلا بقبضتها على الفراش لما تفشى الألم في سائر بدنها فاشتكت "بطني يا فاليري، أكاد اتقيئ من الوجع"

 

ورغم ما تمر به إلا أن بدنها انتفض، ليس من الوجع ولكن من رعب العنف الذي شب بينهم خارج هذه الحجرة، فلقد احتد الجدال بينهم حتى ضم أدرينا، التي دافعت أخواتها نية الوصول لبيانكا فتجرها من شعرها على رغبتها بالزواج من قاتل المرحوم.

 

هي وصلت لها بالفعل وحصلت على حزمة من شعر بيانكا فجرتها بحرقة، فتدافعت الأخوات فينما بينهن، رغبة بفصلهما عن بعضهما لكن الحفرة المنحوسة اتسعت وابتلعت فرانكو، الذي تجرأ ودفع أدرينا بقسوة عن حبيبته، فتهاوت للخلف وارتطمت بطاولة المشروبات، مما أدى لإندلاقه وتفشي الشراب في الشرشرف الأبيض.

 

ورغم ندب كارولين حظها على شقتها التي افسدت، بحثت أدرينا عن خلقة أخيها، فتشتمه لسماح حقير مثل ذاك بمساسها، لكن نيكولو قد سبقها بالفعل ويده طالت فرانكو، عازما على تخليص الدنيا من خلقته الدميمة. انضم السينور لورينزو لفض النزاع وساعده أنتونيو وشقيقه مارسيو، إذ استحلفوا نيكولو أن آل بالديني كأشقياء القرى بلا نظام ولا مبدأ ولن يتركوا لهم شبرا يسيروا فيه مرتاحين إن اصاب فرد منهم مكروه.

 

كان نيكولو عالقا؛ بين غضبه الذي أججته أدرينا ونفخت فيه حتى اشتد لهيبه وبين أسرته التي استحلفته أن يقلع فلا يصيبهم مكروه، وعن يمينه كانت تقف العمة دي كارلو شامتة به، لأنه أثبت لها بتسرعة هذا وانفلات اعصابه، أنه شر خليفة لأخيها وعن شمال نيكولو كان ريكو يحاول جاهدا اخفاء فرحته. فهو كان جبانا بما فيه الكفاية ليحصل على ثأره من أبيه وكم أحب فكرة أن أباه هو من سيقتل نفسه بنفسه.

 

كل هؤلاء كانوا بكفة وفي الكفة الأخرى كانت داريا، تذرف دموع خزيها على كتف فيتو، ففرحتها بهذه الليلة لم تتم وبالتأكيد لن يقام زفافها غدا، كم كرهت حينها عائلتها ووصفتهم بوصف الأنانية، فلا أحد منهم قد قال أنها فرحة اختي الصغيرة ولتمضي الليلة بسلام، بل على العكس، كل منهم نادى بثأره يطالب به.

 

ثم ومن بين صخب جدالهم الذي احتد فوصل به لتبادل اللكمات، يبست قبضة نيكولو في الهواء حالما سمع صياحا يناديه "رومان!" ألقى ببصره ورائه فوجد بيلا مسلوبة اللون شديدة الشحوب، مستندة ضد حائط الممر واصابعها قد غرزتها في بطنها. هتفت فاليري من خلف بيلا تخبره بما اصابها، إذ أنها استفرغت ما في جوفها.

 

حينها نزع نيكولو نفسه عن فرانكو، ملقيا إياه وراء ظهره كما ألقى باخته بيانكا وأدرينا التي تزجره ألا يتخلى عن دم المرحوم.

 

"ميرا" لفظ نيكولو ثم وأمام الجميع تخلى عن منصبه بإدارة مصائب الأسرة، إذ لبس لباس الأنانية لأول مرة وصاح يهتف بالخلاص لنفسه، وراحة نفسه تمثلت ببيلا، فالتقط معطفه على الفور وبيمينه أخذ بيلا معه قاصدا الطوارئ، ليترك أسرته خلفه في الشقة، مع ما تبقى من مظاهر الأمسية التي أفسدت وباتت لوحة فنية صارخة، تفصح عن الإعصار الذي شب فيها ثم خمد في لحظات معدودة.

 

ومجددا غلب أدرينا شعور الخذلان من أسرتها، فسألت أنتونيو أن يعيدها بسيارته لدارها فما عادت تطيق النظر إليهم وبيانكا فعلت المثل، غادرت أسرتها التي لم تبالي ولم تحترم رغباتها إطلاقا. حينها اضطرت كارلين لإفراغ عصبيتها على أولادها الخمسة، فينظفوا معها الفوضى بينما داريا جالسة على الأريكة، تجهش بالبكاء ومساحيق التجميل قد سالت مسببة خطا أسودا على خديها.

 

وعن كارولين فلقد أخذت زوجها مارسيو، بعد أن تبرعت بذريتها لأختها كارلين كي يعينوها وقصد كلاهما المشفى، بينما صوفي في المقعد الخلفي جالسة تقضم أظافرها من فرط توترها.

 

كانت سيارة السنيور لورينزو التي قادها نيكولو، مستقرة بوضع غير منتظم أمام حديقة قريبة من الطوارئ ومن قادها كان واقفا على قدميه، مستندا ضد الحائط وجانب حاجبه متورم فيه خدش، إثر لكمة تلقاها من فرانكو.

 

كان نيكولو صامتا، عاجزا عن النبس بحرف وبيلا على مقاعد الإنتظار جالسة، على كتفيها معطفه الأسود مستقر وشعرها منسدل قد هبط مغطيا جلد صدرها المكشوف، إذ ما عادت تحمل أي مظهر من مظاهر سيدة كانت متأنقة قبل دقائق في حفلة راقصة.

 

قضمت باطن شفتها حتى وصل بها الأمر لقضم اظفرها ثم اشتكت من الأفكار التي لا تكف عن العصف بها، فطالت اصابها نيكولو متشبثة به، لدرجة أن قبضت على قماش قميصه بقوة ثم ألقت بجبينها على جانب معدته.

 

أغمضت عيناها بامتنان لما شعرت بيده قد نزلت على شعرها، يمسح عليه ثم ضمها إلى جانبه، يواسيها دون التلفظ بحرف واحد.

 

حينها ابصرت بيلا ما حولها بحيرة، فسألت نفسها كيف انتهى بها الحال في هذا المشفى، في روما وهي كأنها قبل نصف ساعة، كانت تراقب عناقيد عنب حديقتها، عبر نافذة غرفتها في الطابق الثاني من نزل أخيها ودوما قبل حلول الظهيرة، كانت تنزل للبلدة فتتطوع للعمل في المدرسة بصحبة ماتيو... ماتيو؛ ذلك المعلم الشاب الذي أسر قلبها وواقعها حتى ربطت نفسها به طوال سبع سنوات، تفاجأت بيلا من نفسها، لنسيانها آخر مرة فكرت باسمه حتى.

 

 

في هذه الدقائق الساكنة راجعت بيلا طفولتها وشبابها قبل أن تصل لهذه اللحظة، هذه اللحظة التي اخبرها الطبيب الماكث خلف مكتبه وعلى جسر انفه تستقر عدسات سميكة لنظارته، بأن هناك روحا تتشكل في جوفها.

 

أرادت لكمه حينها، من اللامبالاة التي حملها في صوته الغليظ ريثما يبلغها بهكذا خبر صادم، هكذا فجأة بلا دستور أو -أحم أحم- لم يراعي أبدا كونها في قرارة نفسها مجرد طفلة، قد ألبسها بثواني معدودة رداء الأمومة، التي ما خيل لها أبدا أن ترتديه. فهي لم تكن مستعدة إطلاقا ونيكولو لم يكن مستعدا أيضا للعب دور الأب مجددا.

 

"رومان"

"ممم؟"

"ماذا سنفعل الآن؟"

"لا أدري"

 

اجابها وتعابيره لم تتبدل إطلاقا، فالحيرة التي تعتريه لم تنقلب لحزن، لغضب أو لسعادة حتى ورددت بيلا مجددا "رومان"

 

"ممم؟"

"أنا خائفة"

 

اعترفت بيلا أخيرا وستارة من الدموع تجمعت فجعلت من عينيها تتلئلئ وظهرها ينكسر من العجز، أغمض نيكولو عيناه فقد لانت تعابيرة أخيرا بعد أن استوعب الخبر، فسألها "مما انتِ خائفة يا ميرا؟ لا بأس" جلس إلى جوارها على مقعد الانتظار وبيلا لم تتريث إطلاقا، إذ حاوطته بذراعيها وألقت بوجهها في عنقه، تبحث فيه عن ملجأ ومهرب من مصيبتها ونيكولو تفاعل معها على الفور، فضمها ويده لم تتوقف عن المسح على ظهرها.

 

"خائفة من المعاناة وحيدة هنا" اشتكت وصاحبتها دموع منهمرة.

"لكنك لست وحيدة إطلاقا"

 

"اقسم لك أنه في اللحظة التي أبلغنا بالخبر وروما باتت مكانا موحشا، أريد أمي يا رومان. أريدها بشدة الآن وكم بتُ أكره المسافة التي تفصلني عنها اكثر من أي شيء آخر" ترجت بيلا نيكولو أن يعيدها لديارها، فتقضي هذه الأشهر العصيبة في أرض هي تعرفها وتألف المكوث بصحبة أهلها.

 

أعترض نيكولو ورفض طلبها فورا، لكنها استمرت بالزن حتى اقنعته وحجتها تمثلت في أن صوفي لن تكون متفرغة للاعتناء بها، فداريا ستخوض ما خاضته قريبا وامرئتان ببطن كبير في منزل صوفي، سيكون مجرد كابوس لثلاثتهم بالتأكيد. أدرينا قد أعلنت عدائها للأسرة، بيانكا من المستحيل أن تطيق وجودها وعن التوأم كارولين وكارلين؟ فهما لهما ما يكفيهما من الأولاد لتبقيا منشغلات على مدار الساعة.

 

وبالتأكيد هي لن تجعل السنيورة كانتارا، شقيقة لورينزو تعتني بها، حينها تنهد نيكولو بقلة حيلة وحديثها هذا أشعره بأنه مجرد مهاجر إيطالي وحيد في مدينة نيويورك وليس رجلا ذا عائلة كبيرة في مسقط رأسه. كم كانت الموافقة شاقة عليه وبيلا لم تفطن وجعه وهو يشاهدها، تخرج ثيابها من الخزانة وتوضبهم في حقيبة السفر. إذ عادوا للمنزل بعد لقائهم البقية وعزم الاثنان على الاحتفاظ بهذا الخبر سرا، فأخبرهم نيكولو أن ما عانته بيلا مجرد مغص من الجبن في فطائر كارلين.

 

كم كانت بيلا سعيدة باقتراب ساعة اللقاء مع عائلتها ونيكولو ما كان بوسعه سوى التدخين في الشرفة وحيدا، بينما طائر الكناري يشتكي من الضوء الساطع، في هذه الساعة من الليل. ومعاناة نيكولو تمثلت في أن عائلته على وشك مغادرته، فيمسي مجرد رجل وحيد محاط  بمسؤوليات العائلة التي يحمل اسمها مجددا.

 

هما بالطبع حضرا زفاف داريا في اليوم التالي وظنت بيلا، أن الأخوات دي كارلو سيشاركنها فرحتها بمن تضمه أسفل جلدها وطبقات من اللحم، لكن ابتسامتها تلاشت لما وجدتهن مذعورات لا فرحات.

 

فالأخوات ظنن واقررن بفكرة اجتمعن عليها، دون التجرأ على نطقها إطلاقا، وهي أن بيلا ستكون مجرد نزوة عاطفية بالنسبة لأخيهن، وستمر مرور الكرام ثم تختفي في غضون أشهر، لكنها على عكس توقعاتهن، بقيت هذه النزوة، وها هي ستجلب معها ما سيقيد أخاهن بها أكثر. بالطبع تربصن به واستغللن كل فرصة من الممكن أن تنشغل عنه بيلا فيها وتغادره، كي يجالسنه على المائدة في حفل الزفاف ويناقشنه حول هذا الموضوع.

 

أي نعم هو شاركهن بعضا من القلق، بسبب المياه العكرة أسفل مركبه، لكنه لم يوافق أبدا على رأي كارولين وكارلين عندما اقترحتا عليه أن يبقي بيلا في بلدتها ولا يعيدها مرة أخرى، فتضع هناك مولودها وليكبر معها بعيدا عن هذه العائلة الخطرة.

 

صوفيا لم توافقهما إطلاقا، فالتخلي عن ولده الذي لازال قطعة لحم، أشبه بالتخلي عن عقله وقلبه مرة واحدة وعذرتهما، فهما ما كان بإمكانهما تخيل معنى الفراق. لذا ساندته صوفي وعرضت عليه أن يبقي مولود بيلا لديها إن كان يخاف عليه، فهي أيضا قد شعرت بالمياه العكرة ووعدته أنها ستكون خير عرابة له.

 

وعن زفاف بيانكا الذي أقيم رغما عن أنف عائلتها، فنيكولو قد امتنع عن الحضور، حاله من حال أدرينا وداريا أيضا رفضت الحضور، فغضبها من اختها على ما افتعلته من مصيبة في تلك الأمسية لم يزل من قلبه، لكن التوأم كارلين وكارلين ذهبن  بصحبة صوفي باسم الدم والعمر الذي يجمعهن ببيانكا. فهن ما كن قادرات لا على التفريط بأدرينا ولا ببيانكا.

 

وبينما هن يجاورن شقيقتهن في ثوبها الأبيض، كان نيكولو جالسا مع بيلا فوق أريكة مفروشة بقماش أخضر وعجلات القطار فوق السكة أسفلهما مضت بسرعة، لدرجة ما عادت معالم الغابة واضحة لهما عبر النافذة.

 

كانت التوتر باديا على بيلا وكل تارة يدها هبطت موضع معدتها، تتأكد من بقائه في جوفها وأنه لن يفر هاربا، بالطبع هي نسجت الكثير من السيناريوهات، لكنها في النهاية فرت هاربة بفتح حديث مشوق مع نيكولو، والذي كان أجبر دماغه على التفكير بحل الكلمات المتقاطعة في الجريدة وليس تفجير رأس فرانكو عندما يعود للديار.

 

"رومان، إني استحيت من سؤالك هذا سابقا فهي خصوصية عائلة لكن ما سبب العداوة بينك وبين العمة؟"

 

"إن عداوتها مع المرحوم وليس أنا، لأنه أكد في وصيته أني سأكون خليفته من بعده"

"إني لا أرى مشكلة في ذلك"

"لا ترين لأن لديكِ قلبا نقيا"

 

لم يخبرها أن لها سذاجة لا مثيل لها، وسذاجتها هذه ليست عيبا فيها، فما هي فاعلة بالفطنة وقد عاشت في عائلة أكبر مشاكلها هي الديون؟ وحياته كانت النقيض تماما، هو توجب عليه في كل خطوة التفكير عما لا يقل عن المئة مرة واستقراء من حوله، فالزلة لم تعني عنده مجرد اعتذار بل كانت تعني طيران رأسه عن عنقه، حرفيا.

 

لم يرق لبيلا ما وصفها به وهو تبسم من تعابيرها التي تثرثر اكثر من لسانها فقال مبررا "لا أعنيها كاهانة، بل إني أعنيها كهبة قد رزقتِ بها وإني لأحب رؤية هكذا صفات"

 

"ولا يحق لي أن ألومك فكيف لكِ أن تفهمي عقلية مثل عقلية عمتي، فهي مجرد شفرة صعبة لم يتمكن زوجها من حلها فودع في وقت مبكر"

 

"هذا مروع يا رومان"

"مروع بالنسبة لك لكنه الخلاص بالنسبة له وإني لأبغطه في أحيان كثيرة، فهو الآن في مكان لا أثر لزوجته فيه"

"رومان، لا تكن قاسي عليها، إنها أرملة ولابد أن فؤادها مفطور"

 

"ألم أقل لكِ أن قلبا نقيا؟ إن بغضها للوصية يا عزيزتي سببه أني مجرد غريب ولست ابنا فعليا لأخيها" عدل نيكولو جريدته وأراحها على فخذه الملقي فوق الآخر يقرأ السؤال التالي.

 

"وهل الدم مهم لهذه الدرجة؟ إني حقا ما عدت أفهمكم"

 

"إنه كذلك، فباسمه يتحالف البشر وباسمه تطير رؤوس آخرين" دون نيكولو الحروف في الصناديق الفارغة وقد كان جوابه هو اسم عاصمة مِصر "إن أمثالي ممن لا دم لهم محكوم عليهم البقاء في المؤخرة، يشاهدون من بعيد الأيدي تتصافح والمودة تشتد بين هؤلاء الذين تربطهم روابط أسرية، وهذه الروابط يا حلوتي لا تنكسر أبدا لتضمك داخلها، وإن لبستِ مثلهم وامتهنت صنعتهم"

 

تبسم نيكولو وقد تذكر موقفا طريفا الآن لكنه موجع آنذاك، عندما كان يضحي بكل ما يملك في سبيل إتمام أعمال أبيه القذرة، ثم في نهاية النهار يعود للمنزل فلا يحصل على طبطبة على ظهره، كما تحضى بها صوفي التي وُفقت بإعداد المرقة كما تفعل والدتها، بيانكا التي خاطت لأبيها الثقب في قميصه أو التؤأم، اللتان تمكنتا من ارتداء حذائهما بالشكل الصحيح.

 

كن يحصلن عن المديح، لمجرد فعلهن أعمالا سطحية لا قيمة لها وهو حصل على المزيد من العقاب، لمجرد ارتكابه زلة ليست بالمهمة حتى وهذا ما جعل أعصابه تفور على بيانكا، فلقد أجبره والده على رعايتهن كالكلب الوفي حتى بات مستعدا للتضحية بنفسه من أجلهن، ثم هي تأتي بكل بجاحة وتصفع يده التي لم تفعل شيئا سوى ضمها إليه، فلا يمسها سوء بعد رحيل والدهم.

 

"رومان، بعد بلوغك أما بحثت يوما عن والديك؟ لربما ضعت ولربما كسر المال ظهرهما، إن صديقتي المقربة قد وهبها والدها لأخيه لعدم امتلاكه ما يبني به أسرة فتكفل بها برحابة صدر"

 

"ممم" أومئ لها نيكولو ولم يكن قادرا على البوح لها بالكثير، ليس خوفا من اكتشافها شيئا بل لأنه اقسم ألا ينطق به، فإن نطق، فكلماته لن تكون كافية وحينها سيشعر بسخافة ما يؤمن به ويراه عظيما.

 

لقد كان رومان اليتيم، صبيا شديد الصبر وقوي الإيمان وهذا ما أيقن أنه عيبه، فهو يذكر نفسه أن طرفه دوما صوب مدخل الملجأ، مترقب عودة والديه لأخذه، فكان يرفض كل من يطلبه وقد فوت بحماقته عائلات مرموقة، فقد أراده أب امتهن الطب ذو جذور ألمانية وأراده سياسي من جمهورية التشيك ليكون مكان ابنه الذي فقده.

 

لقد بسطت له من الحيوات الكثير، لكنه بعناد صبي طائش أعرض عنها جميعا، ثم في النهاية جره السنيور دي كارلو من يده لخارج الملجأ، ورغم الطريق الذي رسمه السنيور له كي يكون خليفته لدرجة أن وهبه اسمه، إلا أن نيكولو بقي متمسكا باسم رومان، على أمل أن يقابل والديه.

 

وإن نفعه العيش تحت سقف دي كارلو بشيء، فهو تعلمه مهارة تقفي أثر الخيوط الرفيعة، ففي الملجأ ما كان قادرا على البحث عنهما لعدم معرفته كيف يبحث، لكنه وبفضل والده الجديد برع في ذلك "بحثت عنهما" تحدث دون أن تنزل ابتسامته الهادئة عن شفتيه "ووجدتهما"

 

تعجبت بيلا وترقبت، منتظرة منه أن يحكي لها عن هذا اللقاء الذي جمعه بوالديه "وكيف كان؟"

 

هز كتفيه "لم يحدث الكثير، لقد تغير لقبي حينها فحسب، قبل عثوري عليهما كنت لقيطا وبعد عثوري عليهما أدركت أني كنت مجرد نتاج سِفاح لا اكثر ولا أقل"  صعقت بيلا من طريقته في قولها كما لو أن هذا اكثر شيء طبيعي ثم اكمل "وقد كان سِفاح أقارب إن لم تخني ذاكرتي"

 

قطبت بيلا حاجبيها بشفقة، فعلق نيكولو قائلا أنه لم يحكِ هذا لها كي تشفق عليه، فهو قام بطي ذلك اليوم وراء ظهره ونسي تفاصيله بالفعل، ثم من بعدها نهض كمولود جديد. إذ كان حينها مجرد مراهق في الخامسة عشر، يكافح للفرار من سلطة السنيور دي كارلو وظن أنه بعثوره على والديه سيقومان بانتشاله من هذا المستنقع الدموي.

 

فعثر على والدته؛ امرأة يافعة في السن، ثلاثينية وبطنها منتفخ بحكم وجود روح قابعة في جوفها، استنكرته وهو أحبها قبل أن ينبس بحرف، لقد غمره لهيب العائلة لأول مرة وشعر بقدسيته وبطيش افصح لها عن اسمه، فاخبرها أنه رومان ابنها وأن عليها أخذه حالا من قبضة جزار ملعون يجبره على تنظيف الجثث في قصابته.

 

لم تصدقه وأغلقت الباب في وجهه، لكنه استمر في ملاحقتها يستحلفها أن تصدقه، حتى جزعت في النهاية وتوسلته أن يختفي من أمامها، فلو اكتشف زوجها أنه ولدها سيلقي بها، هذا إذ لم يتخلص منها. فلقد تزوجها ظنا منه أنها قروية عفيفة وليست فاسدة، قد باعدت بين ساقيها في سن الخامسة عشر لشقيق والدتها برضى وشغف خالص منها.

 

بالطبع اشمئز حينها نيكولو ثم تملكه السخط، لدرجة أن تجرأ عليها، ثم لحق بذلك الخال الذي انتج اقبح ثمرة على وجه الخليقة واخذ بثأره منه كما أخذ بثأره منها، لقد حملهما نيكولو ذنب جلبه لهذه الدنيا ونفذ بحقهما العدالة التي رآها مناسبة ومن بعدها بدأ بدايته الجديدة.

 

كولد مخلص للسنيور دي كارلو لكن كما يبدوا، أصله القذر كان يطفو للسطح من حين لآخر، يطالبه بحق العيش كرومان، إلى أن تمكن هذا الوسواس منه أخيرا، فكانت النتيجة هي مجالسة زوجته الحامل والتي تعرفه باسم رومان، مجرد صاحب قصابة عادية، حاله من حال غيره.

 

"كيف تطلبُ مني التعايش بطبيعية بعد الذي سمعت؟ إن الغضب اعتراني وما عدت أدري هل اكرس مشاعري حزنا عليك أم حقدا عليهما! رباه رومان! لا تقم بسرد هكذا قصص مؤلمة لامرأة حامل مثلي، البارحة قرأت في مجلة عن الأمومة أن الغضب مضر بالصحة"

 

وبخته وهو لم يقاوم القهقهة على ما تفوهت به، فلقد تقمست الدور واجتهدت في المطالعة، لدرجة أنها حقا اشترت الكثير من المجلات عن الأسرة ومزقت كل صفحة مختصة بسرد معلومات عن الحمل، فدستها في حقيبتها كي تراجع عليها كلما مرت بأعراض مريبة.

 

"ربما علي مطالعة بعض من هذه المجلات أيضا"

"إني أوصيك بشدة"

"لم اقصد تعكير مزاجكِ إطلاقا"

 

 

مالت بيلا بكتفها ليلاصق خاصته ثم عانقت ذراعه، مما أعاقه عن حل الكلمات المتقاطعة وبعد قيامها بالكثير من التأمل والتفكر أعربت "إنه لأمر موجع ومخيف" ألقت برأسها على كتفه.

 

"ما هو؟"

"وجود هكذا شياطين يمشون بيننا، رباه كل ما يسعني قوله؛ فليحفظنا الرب من أمثالهم"

"معكِ حق"

 

تبسم نيكولو ثم أراح جانب رأسه على شعرها وراح يتأمل الطريق وفي نفسه هو كان مسرورا من سذاجتها لكن حزين، فهي لم تملك الفلسفة اللازمة لتعي نزعات المرء وكفاحه مع السواد في جوفه ولم تحضى بالبصيرة، لتستقرأ الجمالية الفنية في السواد الذي كان الشيطان ينفخ فيه فتزداد عتمته.

 

استمرت رحلتهما وكادت أن تكون مثالية، لكن الغثيان رابط بيلا في نقطة ما فاضطرت للذهاب الى الخلاء وهناك قابلت امرأة اضاعت محفظة نقودها، وقد كانت صهباء الشعر ذات لكنة فرنسية. لازمتها بيلا بالطبع حتى عثرا أخيرا على ضالتها، ثم نزلت بيلا بصحبة زوجها عندما استقر القطار في أراضي بلدة جيونكاريكو. بلدتها الحبيبة...

 

رن الجرس المعلق فوق باب النزل فور فتح بيلا للباب وكما توقعت، كان شقيقها آدم ماكثا خلف مكتب الإستقبال يتأرجح بكرسيه بينما يطالع الجريدة، انزل طرف الجريدة لا لظنه مجيئ نزيل، بل لأنه كان ينتظر عودة ابنه فيليب من عند النجار وحالما استقر طرف آدم على شقيقته بيلا، فزع وتهاوى كرسيه للخلف فسقط على البلاط القاسي.

 

بالطبع كان الترحيب بها حارا من قبل أسرتها والدموع التي فاضت من مقلتيها جعلتها، تدرك كم كانت مشتاقة إليهم. في البداية توجست والدتها خيفة من سبب حضورها وفي الغرفة لما انزوت بها استحلفتها أن تصارحها بالحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.

 

"أخبريني يا بنيتي ولا تخافي فلن أبوح لأحد، ما الصيبة التي فعلتِ كي يعيدك للبيت؟"

"أهذا ظنك بي حقا يا أمي؟"

 

"لا تماطلي معي فما يدور في رأسي أسوء!" امسكت والدتها بيدها فتنطق ولا تخشاها "قولي هل فضحتِ أسراره بلسانك الثرثار؟ أم قمتِ بتبذير نقوده؟ ويلك يا بيلا من أن يكون السبب هو ماتيو!"

 

"أمي ما هذا الذي تفكرين به؟! لا أصدق أني في عينك امرأة عديمة العقل هكذا"

"يا بنيتي ما باليد حيلة فأنا لم أعهد فيك ذرة من الفكر السليم"

 

"ماما!" تذمرت بيلا وما عاد بوسعها المماطلة اكثر خشية أن تسمع المزيد من لسان أمها السليط فأفصحت قائلة "إني حامل منه"

 

شهقت السنيور لاروس وبيدها ضربت على صدرها من هول المصيبة "من ماتيو؟!"

 

"ماذا؟!" صاحت بيلا مصدومة بخيال أمها "الرحمة يا أمي! إنه حتى لم يضع اصبعا علي"

 

"بئسا! هل وقعت بغرام رجل آخر في العاصمة؟ إن لك حقا قدما تميل للفساد"

"لا أصدق أنكِ تخيلتني حاملة من الجميع إلا نيكولو! أهذا ظنك بي؟ افتح ساقاي لكل من هب ودب"

 

التزمت والدتها الصمت، ثم أدركت معنى الخبر بعد هضمه جيدا ووجها المتهكم قد ابتهج، فضمت ابنتها وبالتأكيد نزلت السلالم على الفور لرؤية نيكولو فتبارك له أيضا. كم كان السرور باديا على الأسرة، ففوق عودة بيلا، ها هو فرد جديد سينضم إليهم بعد بضعة أشهر فأقامت السنيورة لاروس على شرف ابنتها وليمة وقامت بدعوة صديقاتها من العمات في البلدة. كي تسرد القصة للجميع مرة واحدة ولا تضطر لتكرارها في كل مرة تقابل واحدة منهن.

 

اجتمعت بيلا في هذه الأمسية مع صديقتها المقربة والتي أتت للزيارة وبين ذراعيها مولودها الذي وضعته لما كانت بيلا غائبة عنهم. كان ضحكهم صاخبا وكؤوسهم كلما فرغت عادت لتفيض بالمزيد من الشراب ونيكولو شاركهم الأمسية كفرد منهم.

 

غادر ضيوفهم المائدة مترنحين، متخمي البطن وكل منهم عاد لداره، لكن آدم رفض التوقف وحث نيكولو كي يصب المزيد، ثم أقترح أن يمرر له الزجاجة بالمرة، فرفضت السنيورة لاروس وهشت ابنها آدم ثم نادت على حفيدها فيليب، كي يلقي بابيه في غرفته فلا يزعجهم بمزاجه العكر، فكلما أفرط بالشرب باشر لسانه بشتم أخيه الهارب مع زوجته.

 

"بيلا، يا بيلا دعكِ من غسيل الصحون، ستغسلها الفتاتان فتعالي وخذي نيكولو، إني اسمع شخيره من حيث أقف" نادت عليها والدتها لما استعصى عليها تحريك نيكولو، الذي سقط جبينه على المائدة من شدة إفراطه "إني لا أُقوم باصدار الأًصوات اطلاقا" تمتم ثم راوده الفواق.

 

تعجبت بيلا من حاله فهي لم تراه يسرف في الشرب هكذا إطلاقا، فنزعت مئزر المطبخ عن خصرها وجرجرت به تأخذه لغرفتها "رباه، نيكولو هيا تحرك ولا تخزني أمام أمي، ستظنك الآن رجلا مخمورا طوال الوقت"

 

"من فضلك، لست مخمورا عن الإطلاق بل إني سعيد، ألا ترين ضحكتي؟"

 

تأملتهما والدتها من الخلف، مستذكرة الوقت الذي لم تكن فيه راضية عن زواجهما وكيف هما الآن في نزلها قد حضرا للزيارة، ورغم الواقع الذي تعيشه مجبرة، إلا أنها استمرت بالاحتفاظ بعلامة استفهام فوق رأسها، تسأل نفسها هل كانت موافقتها على زواجهما أمرا صائبا؟

 

اسند نيكولو جبينه ضد الباب، ينتظرها أن تقوم بفتحه بينما يدندن بأغنية جاز كلاسيكية وحالما أدارت مقبض الباب، هوى للداخل فسارعت بامساكه وطلبت منه التريث، فلم يتبقى المزيد على وصوله للسرير "كل هذا وانت لستَ مخمورا؟" افلتت ذراعه ليسقط بدنه مترديا على فراشها فتمتم باسما "كم انتِ قاسية"

 

"المعذرة؟"

"فراشكِ، أقول أن فراشكِ قاسي"

"هذا هو المتاح سير دي كارلو، إن اردت أفضل فقم بحجز غرفة أخرى"

 

مال رأس نيكولو على الوسادة ولفائف شعره انزلقت من على جبينه كاشفة عنه، ارتفعت أنامله لتطول وجنة بيلا فمسح عليها ثم خط شفتيها وضغط على السفلية ففرقت بينهما مجبرة وقال معترفا "عندما كنت مجرد نزيل وانت مجرد موظفة هنا..." نطق نيكولو والثقل لازم لسانه.

 

"أجل؟"

"تخيلتني مرات عديدة وأنا أتجاوز حدودي معك فأقبلكِ"

"تقول أني كنتُ مخدوعة بمظهر الرجل اللبق خاصتك إذا؟"

"إنكِ مخدوعة بي تماما"

 

قطبت بيلا حاجبيها مستنكرة ما تفوه به، لكنه تركها فالنوم غلبه والإرهاق تجلى عليه أثناء شخيره، وعلى عكسه النوم لم يراود بيلا أبدا، فاستغرقت وقتها بإفراغ حقيبتها وتنظيم ثيابها في الخزانة ريثما دار شريط قصتها المفضلة في مسجلها الصغير.

 

سهت بيلا عن القصة، التي حفظتها عن ظهر قلب وراجعت الوقت الذي قضته عند نيكولو في منزله وتعجبت ففي هذه اللحظة، بدت تلك الأشهر كبضع ساعات، بل كما لو أنها خرجت بنزهة في الظهيرة وعادت لدارها للتو.

 

"بيلا؟"

 

انتقلت بيلا ببصرها نحو الباب، فوجدته فيليب والذي حالما لمح نيكولو نائما في فراشها تملكه الخجل، فللتو تذكر أنها لم تعد مجرد عمة عزباء، بل أخرى متزوجة لها خصوصية "آه، المعذرة" استعجل فيليب بالفرار وبيلا غادرت غرفتها، لتجتمع به في الممر الضيق.

 

"فيليب؟ ماذا حدث؟ هل اصاب جدتك مكروه؟"

"بل هناك ضيف يسأل عنكِ في الأسفل، كنتُ أدخن وهو حضر"

"ضيف؟ وفي هذه الساعة من الليل؟ من هو؟"

"إنه المعلم ماتيو...."





عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz