أدير المفتاح في القفل مصدرا صوت -تليك- مرتين قبل ان تنفتح الباب، فدفعها نيكولو متجاهلا صريرها الثاقب، ليلج للداخل بعد أن تأكد من حك قاعدة حذائه بالممسحة، ثم نزعه دون انحناء وكعادته زلق قدميه في خفه المنزلي..
تجول بطرفه في أرجاء شقته التي هجرها لمدة من الزمن، فوجدها في حالة فوضى، فاللوحات في الممر قد لوثها الغبار والحوض في المطبخ، تراكمت فيه الأواني والأكواب وما اثار الضيق في نفسه، هو زوجته المتمددة على الأريكة كالجثة المعذبة والى جوارها طبق بقي فيه من فتات عشاءها؛ الذي كان عبارة عن مكرونة، لا صلصة فيها ولا أي اضافات.
أنار نيكولو مصباح الغرفة، ليسطع النور ضاربا عينها فاشتكت بضيق ودست وجهها في الوسادة "رباه، ارحموا أمي! ما مشكلتكم مع المصابيح" فركت وجهها ولما ابصرت من يقف فوقها، كادت أن تنفلت مسالكها البولية من هول الصدمة، فاعتدلت من استلقائها "نيكولو؟ ما الذي تفعله هنا؟" سألته والذعر بدى عليها، فهي لا تراه كل مساء، واقفا فوق رأسها بتعابير تشبه القتلة المتسللين في الأفلام.
"أزور منزلي، أتودين لو أجلب لك جعة بورتو بالمرة؟ كي تكملِ هذا الجو البائس خاصتك" حرك يده متقززا من حالها الذي يرثى له "إني حقا متعجب، تمكنت من فعل ما لم يفلح به ريكاردو حتى" انحنى بتريث لرفع ما لوث المنضدة واشتكى بقهر جراء وضعها الكوب على الخشب دون مسند.
فركت بيلا وجهها، تمحو أثار النوم منه فجلست معتدلة والغطاء ضمته لحضنها "كف عن السخرية فإني امقت هذا، وعن المنزل كنتُ سأنظفه لكن لا طاقة بي" مالت بظهرها كالمتوجعة "إن بدني يؤلمني بشدة في الآونة الأخيرة وإن لرأسي يدور من الحركة" اشتكت ومن ثقل رأسها فعاودت اراحته على الوسادة "كيف حالك الآن يا رومان؟ لازالت تؤلمك؟" أشارت على صدرها وبطنها قاصدة جروحه.
رفع نيكولو حاجبيه وسؤالها البريء هذا جعل من دمه يفور، فهي ترفع عليه دعوى طلاق، ثم تسأله إن كان على ما يرام.
"بيلا" نطقه لاسمها الثاني، دفع عقدة لتتشكل بين حاجبيها مستنكرة أمره "أما انزل الستار عن مسرحيتك بعد؟ أما وصلت للفصل الأخير؟ أم أن هناك المزيد في جعبتك؟"
"ما الذي تقصده بقولك؟ إني لا افهم حرفا مما تقول"
"أحقا لا تفهمين؟" جلس على مقعده المفضل ولم يرفع قدميه على المسند كعادته، بل باعد بين ساقيه ومرفقاه ضد ركبيته، يبحلق بها وعيناه لازالت تعاينها، تعاين خيبة أمله، التي كانت في يوم حلما دافئا يضم بدنه الهش، حاول نيكولو صياغ جملته لكن عجزه عن نظم الحروف دفعه ليبتسم، فماذا عساه يقول؟ بأي نوع من العتاب سيعاتبها؟ وهل سينفع الصراخ بها؟
وإن قام بلومها لتخليها عنه في أشد أوقاته بؤسا، وإن ذمها على استمرار تمثيلها الحب عليه منذ زواجهما، فما الجدوى؟ فعتابه لها لن يجعلها تجاوره في السراء والضراء بإخلاص.
"إن سؤالك عن السبب لموجع اكثر، فانت هكذا تجعليني في موقف المدافع عن نفسه" تبسم نيكولو وانتقل ببصره لتماثيل عصافيره التي غمرها غبار إهمال بيلا.
"رومان؟"
رف جفناه لسماعه اسمه المفضل، يفر من بين شفتيها كالجدول العذب وابتسامته كشفت عن اسنانه، فبات يقهقه على حاله، يقهقه مستهزئا بحلمه السابق في سقمه، شامتا بنفسه أن هيئتها هي التي دفعت عنه كوابيسه اثناء نومه. والآن هي ليست بالنسبة له سوى كابوس تحقق.
"كم كان تصرفا طائشا مني أن آتي لرؤيتك، اكملي نومك فإني آسف لإيقاظك" نهض نيكولو من مكانه وقبضتاه اشتدت، فلقد أتى لهنا بخطى مستعجلة حالما قرأ البلاغ ولم يدرس الحوارات التي سيصنعها، لقد ظن فقط أنه سيصيح بها وسيكون هو المنتصر، لكن ما ثقب فؤاده هو ارتضاء لقب الخاسر في هذا النقاش قبل أن يبدأ...
فانتصاره لن يذيقه إلا المزيد من مرارة الخسارة وامتناعه ليس لترفعه ولعلوه عن هكذا حوارات لا نفع منها، بل لأنه لم يكن مستعدا لسماع مدى دنائته و وضاعتها في عينها، فلقد حظي بكفايته من جلد الذات السليط، بسبب اخته أدرينا وابنها دانيلو.
"رومان، انتظر" نهضت بيلا من مضجعها وسارت خلفه، فتعجبت من استعجاله في الرحيل كالهارب.
"سأخرج للتدخين وسنكمل الحديث لاحقا، اتفقنا؟ عمتِ مساء" وضع معطفه وزلق قدميه في حذائه، ثم اوصد الباب خلفه ونزل السلالم، يبتغي رؤية المخرج الذي بات شديد البعد عنه، كما لو أنه عالق في اللانهاية.
التقم سيجارة ليدخنها أمام باب العمارة، لكنها لم تسكت ما بداخله من صوت لائم زنان، فأغمض عينيه وهز رأسه للجانبين، يردعه عن الاستمرار ثم ألقى به للخلف.
رفع نيكولو بصره للأعلى، نحو الطابق التي تقطن فيه زوجته وانارة غرفة الجلوس بقيت مضاءة، تنتظره ليعود، ثم ألقى ببصره نحو الطريق المؤدي لبيت كارولين، حيث كان يبيت في فترة مرضه واخواته ينتظرنه هناك.
وبالنهاية، لا لهذا ولا لذاك ذهب، بل سار في خطاه قاصدا الكابوس الذي ورثه من والده، متجر القصابة ذاك. في اكثر مشهد سوداوي من الممكن أن يمر في حياة الانسان المعاصر، والذي بسطت له طرق عدة فرشت بالورد، لكنه ظل مصرا، ينتقي ما سيقربه للهاوية، كالخيل العمياء عما حولها...
أرادت بيلا الخروج خلفه، لكن الدوار نزل كالضربة المدوية على رأسها، فاستندت بجبينها ضد الباب وقررت البحث عنه في وقت لاحق، فالطريقة التي كان يرمقها بها وامتناعه عن مناداتها باسم ميرا...
بدى كالحاقد عليها، كما هي تحقد عليه لخيانته، لكن ما جعل الحيرة تتملكها هو سبب مجيئه، فأليس من المفترض أن يكون طريح الفراش مستمتعا برعاية اخته المهوسة؟
انتظرته بيلا أن يعود، لكنه لم يفعل وفي الظهيرة، لما استيقظت من نومها، لم تجد له أثرا في المنزل، حينها شتمته بأقبح الشتائم واقسمت أنها ستنغص عليه عيشته ليلا عند عودته، لكن الباب لم يفتح وحتى بعد عبور منتصف الليل.
وفي اليوم التالي، لما كانت بيلا منكبة في الشرفة تقوم بشر ثيابها ونوافذ البيت مفتوحة آذنة للنسيم أن يلاعب الستائر، في منظر روتيني من مناظر نهاية الإسبوع، سمعت بيلا مقبض الباب يدار مبشرا بقدوم زوجها أخيرا، لكنها لم تلقي عنها الثوب بل استكملت عملها وضبطت فضولها.
حواسها كم كانت يقظة وجل اهتمامها موجهة نحو الممر، مترقبة دخوله كي تنكد عليه عيشته، لكنها صدمت بكونه ريكاردو هو من ولج للمطبخ وفي جعبته اكياس التسوق.
"أعذريني لعدم رني الجرس، بالكاد فتحت الباب ويداي مشغولة" انهارت السنياريوهات اللتي ألفتها في مخيلتها وشاهدته بخيبة أمل، لما تقدم نحو مائدة الطعام ليضع عليها ما بحوزته بعد أن تخلص من حذائه.
"لا بأس" تمتمت بيلا وتفقدت الأكياس التي كانت فائضة بمستلزمات المنزل والطعام "ما هذا كله؟ هل كنت قاصدا منزل عرابتك كانتارا؟"
"لا بل انهم لكِ، أبي من ارسلني" دس يده في احداهم ليستخرج لفافة من الورق غلفت لحما "وأرسل لك حصتك أيضا"
"أرسل لحما؟ هل عاد للقصابة؟"
"نعم، إنه هناك الآن"
"وما الذي يفعله في المتجر؟ أليس من المفترض أن يكون في فترة راحة؟ كيف لم تمنعه عمتك صوفي"
"هو لم يكن عندها كي تمنعه"
"إذا أين كان؟" تجرعت حلقها واحست بحرارة تكتسح رأسها، لمجرد تخيله ماكث الليلة الفائتة بين ذراعي عشيقته.
"لقد قضى الليلة في القصابة"
لم تصدقه بيلا إطلاقا، فهي على علم تام بأن الولد عون لأبيه في لعبته، فسألت وفي نفسها سئمت من هذه العيشة المرة "ريكاردو، كن صادقا معي ولا تكذب، أين قضى والدك ليلته"
"لقد اخبرتك، في القصابة" فتح ثلاجتها ورص البيض كمن يتهرب، فاغلقت بيلا بابها واجبرته على النظر في عينيها "ريكاردو، إني ما عدت احتمل فانظر لعيني ولا تكذب، لن اغضب منك أعدك"
ارتبك الشاب من فعلتها، بالأخص وأنها تحاصره ضد الثلاجة ويدها مستقرة جانب رأسه، في وضع لم يعشه في حياته، لكن هذا كله لم يكن مهما أمام صعوبة ما تطلب معرفته، فمن سؤالها هو خشي اكتشافها امرهم.
"هل قضى والدك ليلته عند عشيقته؟"
"هاه؟"
رف جفناه وهو يحاول استيعاب سؤالها، بينما هي كانت تمعن النظر في عينيه الذائبة للأسفل كعيني والده، تبحث عن الحيلة لكن ريكاردو اخفى راحته لسماعه هذا السؤال وهز رأسه نافيا "لا لم يفعل، بل قضى ليلته في القصابة"
زمت بيلا شفتيها لا تدري هل تفرح أم تحزن، فتراجعت عنه وجلست على الكرسي منهكة المشاعر، فلقد أحست بالخجل لكونها افصحت عن شكوكها لريكاردو.
"ميرا" تحدث ريكاردو والتوتر بدى عليه، لدخوله دون قصد في مشاكل والده مع زوجته واردف "بخصوص عشيقته" توقف لما وجدها تنظر اليه بترقب "هل هذا هو السبب الذي دفعك لرفع دعوى طلاق عليه؟ رأيت بلاغ المحكمة في مكتبه"
انقشع اللون عن بيلا فباتت شاحبة من هول الفاجعة ويدها ارتفعت لتغطي فمها بحركة غير مدروسة منها، انزلت اصابعها بتريث وسألته متعجبة "هل وصله البلاغ؟ إلهي الذي في السماء!" لطمت جبينها بندم، فلقد نسيت امر دعوى الطلاق التي قدمتها بيد المحامي.
"وأنا أقول ما به أتاني راكضا في الليل دون أن يبدل منامته" هزت بيلا رأسها للجانبين والإعياء لجم خلدها فانحنت تسند جبينها.
"انت بخير يا ميرا؟ آسف لحشر أنفي في شؤونك"
"ما فائدة الأسف الآن، لابد أن دميمة الوجه تلك فرحة"
اشاحت بيلا بصرها عنه وولته ظهرها ولم يكفها هذا كله بل وحجبت وجهها بيدها، في محاولة واهية لتكف عنه خيبتها وريكاردو يحدق بها وبحالها مستذكرا لسان دانيلو وعمته اللائم له لأنه التزم بأوامر والده.
ورغم التزامه غادرته عمته، فقرر هذه المرة أن يفصح لبيلا عن المخفي آملا أن يرى فيها الرضى، لذا حكى لها كل ما فاتها من أخبار عن والده وعماته وبيلا انصت إليه، في بعض المواضع تعجبت وفي بعض المواضع غضبت.
انتهى بينهما الحديث واجتمع كلاهما عند الباب لتودع بيلا ريكاردو، حياها الشاب وهم بالرحيل لكنها استوقفته واخذت يدها مسارا مختلفا لتستقر على كتفه، قبل ان تنحرف وتلف ذراعيها حول عنقه، تجره إليها لتضمه ممتنة.
فلقد أشعرها ريكاردو أنها فرد من العائلة أخيرا، على عكس عماته، اللاتي استمررن بتذكيرها أنها مجرد غريبة لن تصمد هنا، وريكاردو تيبس بدنه من عناقها هذا، بل وقوس ظهره مستحيا من أن ملاصقة بطنها لبطنه.
ورغم حيائه منها، إلا أنه لم يكسر بخاطرها وبخفة ربت على كتفها من الخلف، يشكرها على مبادرتها اللطيفة، ثم غادر وبيلا بقيت تنتظر عودة زوجها ممارسة الصبر.
فشرت الغسيل، نفضت الغبار وانتظرته.
.
.
مسحت الأرضيات وجمعت الغسيل وانتظرته.
.
.
ثم انهت تجهيز العشاء وانتظرته مجددا.
.
.
ترقبت بيلا سماع صوت المفتاح يدور في القفل، لدرجة ان أي صوتا غيره افزعها وكل تارة، مرت من الممر تنظر إلى الباب فلقد مارست من الصبر ما يفوق قدرتها.
بل وكلما سمعت ضجة في العمارة، الصقت أذنها ضد الباب، ظنا منه أنه هو حتى سئمت ولم يعد في اصبعها ظفر لتقضمه، فعزمت أمرها وارتدت معطفها لتوصد باب شقتها خلفها
ولجت بيلا لمتجر القصابة وتعجبت من كونه خاليا، لا يقف أحد خلف الخزنة، رغم أن جميع مصابيحه منارة، فقصدت مكتب نيكولو، ظنا منها أنها ستراه هناك، لكن كل ما وجدته هو حزمة من الورق.
التقطت بلاغ المحكمة لتقرأه وعينها غفلت عن الرسائل أسفلها والتي كان مضمونها مهمات لنيكولو، مثل أن ينزل صهر وزير المالية من منصبه لعبثه وكذبه على والد عصابة مهمة في إيطاليا، أو الاطاحة بأربعة فتية قد قاموا بالتعدي على ابنة رجل مقرب من آل كابوني وتركها مكسورة الفك والرجلين في المشفى.
تركت بيلا البلاغ ولفت اهتمامها رسالة من تلك الرسائل، بدايتها كانت 'إلى الجزار دي كارلو' فالتقطتها، عازمة على قرائة محتواها لكنها فزعت لما سمعت دوي عويل موجوع، فجفت الدماء في عروقها وانتقلت بطرفها لخارج المكتب "نيكولو؟!"
ندائها هذا كان بعيدا عن أذني نيكولو، الذي كان ينغم لحنا في صفيره اثناء تنظيفه مطرقة اللحم، فنزع عنها بقايا نسيج لحم وعظام مهشم، ثم التقط سنا من الأسنان الذهبية الأربعة التي جناها ورفعه يتأمله بعناية "ها قد وصلنا لأجمل جزء في العمل"
فتح الدولاب جانب المرآة كاشفا عن جرتين زجاجية، واحد مكتوب عليها لورينزو والثانية كتب عليها نيكولو وما في الجرة كانت أسنانا ذهبية، فقد كان الاثنان يتسابقان، أيهما يجمع اكثر.
تبسم نيكولو برضى ثم انتقل بطرفه للمرآة، يتأمل وجنته التي خدشت بفضل ذلك الوضيع الذي قاومه واحدث جرحا بخاتمه.
رفع يده المبللة ليزيل اثار الدم المتناثر عن وجهه ولما سمع صوت فقاقيع تأتي من البلوعة، زفر بضجر من انسدادها وفيضان المغسلة بماء أحمر اللون "هذا ما كان ينقصني"
عزم على حل المشكلة واستخراج حزمة الشعر منها، لكن سماعه صرير الباب دفعه لينتقل ببصره خلفه، فهذا صرير الجزء الخلفي من القصابة، حيث يمنع لغير الموظفين بالدخول وما اجبره ليلتقط سكينا ويخفيه خلف ظهره، هو استحالة كون هذا الزائر لورينزو أو فيتو، إذ أنه قام بارسالهما مبكرا للمنزل.
أطفىء نيكولو إنارة الحمام واغلق الباب خلفه بهدوء، فلا تصدر صوتا، مشى بخطى لا وقع لها نحو الغرفة ذات الإنارة الحمراء، واجتاز جثث اللحم المعلقة من الخطاطيف، قاصدا ذلك الذي يسير في مكانه الخاص.
أدار نيكولو السكين في يده مجهزا إياها، وتفادى بسلاسة جثة الخروف ليستقر واقفا خلف تلك المرأة، التي حالما شعرت بهالة مريبة خلفها، رفعت طرفها ليستقر على مرآة، فلمحت الشيطان بالأحمر والأسود يقف خلفها. وبشطر من الثانية، التقطت يد نيكولو حزمة من شعرها، كاشفا عن عنقها ونصل سكينه الحاد كاد أن يمر لولا صياحها.
حينها تجلط الدم في شراين نيكولو، لما أدرك هويتها وهي بعين شاخصة، شاهدت انعكاس وجهه على السكين في قبضته.
"ر.. رومان؟"
ألقى نيكولو بالسكين فورا وقبضته القاسية على شعرها انفتحت، فأدارها هذه المرة وضمها إليه بسرعة "ميرا" توغلت اصابعه عميقا في شعرها واصابعه احكمت عليها، كي لا تفر منه هاربة "سحقا، سحقا يا ميرا" تمتم نيكولو لاعنا إياها من فرط خوفه مما كاد أن يقدم عليه.
وميرا أرادت الخلاص منه ودفعه، لكنه غلبها بقوة بدنه حتى حل عنها الرعب وهدأ قلبها، الذي كان يضرب بعنف من شدة الهلع "ك.. كدت تقتلني كنعجة من نعاجك" لفظت بصوت مهزوز.
انكسر حاجبا نيكولو وأغمض عيناه بأسى، بينما لسانه لم يكف عن التلفظ بكل قوالب الاعتذار والأسف. فتشبيه نفسها بالحيوانات التي يقتل ثقب فؤاده ولم يفطره فحسب.
"تعالي معي، لنخرج من هنا" جرها نيكولو لخارج هذه الحجرة الحمراء، خائفا عليها منها وأدخلها لمكتبه ولم يتركها إلا ليلملم الخطابات، ولقد وبخ نفسه لزلته هذه، بأن ترك أشياء مهمة كهذه مكشوفة.
مسحت بيلا على وجنتها لشعورها برطوبة ما وحالما رأت يدها تصبغت بالأحمر، صاحت هلعة ونيكولو التفت إليها، فوجدت في وجهه بقعا حمراء أيضا ليشتد صياحها اكثر، حتى انقلبت عيناها في محجرها وما عادت قدماها قادرة على حملها، فترك نيكولو ما بجعبته وبكلا ذراعيه ضمها إليه "رباه الرحمة!... ميرا؟ يا ميرا إنه ليس بدمي أو بدمك فأفيقي"
"ميرا"
.
.
استفاقت بيلا واستردت وعيها، لتجد نفسها على كرسي مكتبه جالسة ونيكولو ولج بملابس مختلفة ووجه نظيف لا تشوبه شائبة "ميرا؟ انتِ على ما يرام؟" سألها ولقد دنى منها، فبات اشبه براكع إلى جوارها.
"لقد خيل لي لوهلة رؤية وجهك وهو ملطخ بالدماء" تمتمت ولمجرد تذكر حاله غلبها الاعياء، فأغلقت فمها بيدها واشتكت "من بين كل الوظائف والأعمال المتوفرة على وجه الخليقة، انت تعمل جزارا، رباه أي بقرة مسكينة سبحت في دمها"
تبسم نيكولو رغما عنه وحاول كتم قهقهته فلقد سبح بدم أربع ثيران وليس بقرة ثم ذم نفسه على هكذا نكتة دموية "بماذا كنتِ تفكرين بقدومك لهنا إذا، العاقل يصدر صوتا عند دخوله ولا يتسلل كالفئران"
"أنا تشبهني بالفأر؟"
سقطت ابتسامته وحل محلها الغضب "بل وجرذ كذلك!" وبخها نيكولو "ظننتك لصا يا امرأة وكدت اقوم بعمل فظيع! ماذا لو وفقت بنحرك؟! إلى أي مستشفى كنت سأركض بك في هذه الساعة من المساء وأي طبيب كان سيتمكن الصاق رأسك بعنقك؟!"
ابقت بيلا لسانها داخل فمها وأشاحت ببصرها بعيدا عنه، لا تحتمل سماع توبيخه لها وإن اخطأت، لكن أنفاسها حبست في رئتها لما يده طالت رأسها وجرها منه ليسنده ضد جبينه..
"لو اصابك مكروه..." تمتم مغمض العينين ووجه غرق في جانب وجهها "رباه!" وهن صوته حتى بات مهزوزا "كنت لألعن نفسي حينها"
زمت بيلا شفتيها بأسى عليه، لكنها لم تتمكن أبدا من تخيل حجم الذنب الذي ينهشه، فهو قد ذاق طعما شديد المرارة، بتجرأه على تمرير السكين ضد عنقها، بعد أن مرره على أربع رجال قبلها ولوهلة خيل له أن غضب الرب وانتقامه نزل عليه.
فأي عقاب أشد وأقسى على عقله وروحه، من أن يقتل زوجته عن طريق الخطأء. هو كان سيجن حينها بالتأكيد ولن يفكر مرتين قبل أن يخلص على نفسه بعدها. عانق وجنتيها بكفي يديه وابهامه لاطف جلدها، يتأكد من كونها حية ترزق ودنى بوجهه من فرط انفلات اعصابه، فافترشت شفته فوق خاصتها وابهامه بين فاههما قابع..
فصلها واصابعه توغلت في خصلها، يمشطه للخلف كاشفا عن جبينها العريض وكل خبية. تجرعت بيلا حلقها بقلق من الطريقة التي يحدق بها ولم تتمكن من ضبط أفكارها، فلقد شتتها من فرط القبلات التي طبع، إلى أن أعلن النهاية بأن ألقى جبينه ضد كتفها وأردف مستسلما "أنا موافق"
"ماذا؟ ع.. على ماذا انت موافق؟"
"إن انفصالنا الآن، في هذه الساعة وفي هذا المكان لهو عين الصواب"
تعجبت بيلا من أمره، فها هو يدلي بموافقته بينما اصابعه قد غرزت عميقا في جلدها يأبى تركها.
"رومان هل انت جاد؟ هل ستوافق لمجرد أن رفعت سكينا في وجهي عن طريق الخطأ؟!" حاولت الخلاص منه "وإني قد أتيت لأناقشك بخصوص البلاغ، أي نعم قدمت طلبا لكن لم يخيل لي أن يصل في هكذا توقيت سيء"
"ميرا" افلتها نيكولو ونهض من جوارها ليسير في مكتبه "إن موافقتي ليست بسبب التوقيت السيء ولا لأجل السكين... يمكنك القول إنها صحوة لا أعرف كم من الوقت ستدوم وطالما هي موجودة فإني موافق، إن خلاصك وعودتك لمنزلك الآن افضل"
"رومان، لقد كان مجرد سكين وانت لم تقصد هذا!" نهضت هي بدورها من الكرسي "اسمعني إن الدعوى، المحكمة وكل هذا برمته لهو مجرد فوضى وإني ما فعلت فعلتي إلا لوجع عاطفي ضربني" طالت يدها كتفه "لكن عرفت كل شيء، ريكاردو أخبرني بكل شيء يخصك"
رف جفناه والتفت إليها بنظرات متوجسة، فعبارة -كل شيء- لا تضيء اضواء خضراء في رأسه أبدا وإنما مجرد حمراء منحوسة "كل شيء؟"
"نعم أخبرني بكل شيء"
شعر نيكولو بالهواء يحبس داخل رئتيه، ولم يتنفس الصعداء إلا عند شرحها ما وصلها من اخبار، على لسان ريكاردو وراحته هذه، اذهبت عنه تلك الصحوة النفسية بوجوب تحريرها من هذه المسرحية، فعادت إليه رغبته بالاحتفاظ بها مهما اشتدت بشاعة حقيقته. والحديث بينهما مر مرور الكرام، لكنها تأكدت من إيصال فكرة أنها ليست راضية بهربه الدائم طوال تلك المدة لأخته.
واضطر نيكولو لتقديم اعتذار صريح اللهجة وحاول المداراة على اخته صوفي، فلا تلومها، ثم عندما وصل الحوار المدني بينهما لنهايته، ولج ريكاردو للمتجر.
تعجب من تواجد زوجة أبيه، لكنه شعر بهالة مختلفة هذه المرة بينهما، فتلك الغمامة القاتمة قد حلت عنهما وما بات يحيطهما بريق والكثير من القلوب، إن صح التعبير.
لذا مر في مخيلته أفكار مقرفة، عن كيفية عالجا الخلاف في هذا المكتب المغلق عليهما فهز ريكاردو رأسه، ينفض عن دماغه أي هيئة بذيئة لوالده وزوجته على سطح المكتب.
ودعت بيلا نيكولو عائدة للمنزل، وحالما اغلق الباب خلفها انقلبت خلقة زوجها مئة وثمانين درجة، فعاد إلى تعابيره المتهكمة وأشار لريكاردو، أن يلحق به للحجرة. وعودته لم تكن إلا لغاية سامية، فلقد فتح باب الثلاجة الكبيرة كاشفا عن رجل مقيد اليدين والرجلين وعلى ثيابه بقع دم لم تكن له بل لصاحبيه من قبله.
"تركتك لتفكر بغلطتك ولتشعر ببعض من الذنب فتقرر الصياح وهد سقف منزلي؟" رفع نيكولو حاجبيه والرجل قد استفاق من اغمائه بسبب هذا الشيطان، الذي اخذ حزمة من شعره وجره فوق الأرضية الرطبة.
صاح الرجل ولعنه مرات عدة يدعوا عليه أن ينزل الرب عليه سخطه ولا يظهر له أي لون من ألوان الرحمة لكنه عظ لسانه لما ارتطم رأسه أرضا والتقط نيكولو رجليه هذه المرة "يا ولد، إن الجحيم الذي تتمناه لي ستسبقني إليه هذا المساء"
التقط نيكولو خطافا وغرزه بعنف في مربط كاحله وما جعله يصيح من العذاب هو أن رأس الخطاف لم يكن حادا بل كان صدأ يمزق ما حوله.
"صدقني كنت سأحرص على جعلك تولول اكثر لكن وعدت زوجتي بالعودة مبكرا فلدينا خلافات لتسويتها" هز نيكولو رأسه بقلة حيلة وحرك اصابعه، يطالب ريكو بأن يحضر له سكينه، فوضعها ريكو في يده وبشطر من الثانية شق الجزار عنق ضحيته وفاضت دمائه كبركة تحته.
"تخلص من البدن فالسنيور اراد الرأس تحديدا" اعتدل نيكولو بظهره ثم مشى نحو السدية الحديدية وفي جعبته رأس ذلك الشاب فألقاه وبدأ باقتلاع عينيه أولا فالسنيور تأكد من توصيته بجعل رأسه يثير الرعب في الناظر إليه.
ريثما هو يعمل وريكاردو فصل الأطراف الأربعة وألقى الجلد في آلة الثرم، نطق نيكولو بنبرة دفعت القشعريرة لتمر في عامود ريكاردو الفقري.
"قالت والدتك ميرا أنك قمت بالدردشة معها كثيرا اليوم"
"أ.. أجل أبي"
"خير ما فعلت ولا مانع لدي إطلاقا من تسليتك لوالدتك ميرا، فهي كما تعلم وحيدة هنا ولا تملك اصدقاء كالذين في مسقط رأسها"
رفع نيكولو الرأس الذي نظفه، ماحيا عنه كل معالمه بل وحرص على كسر فكه وتهشيمه، كما كسر هذا الشاب فك ابنة صديق السنيور لما تعدى عليها "لكن اتعرف ما الذي أمانعه يا ريكاردو؟"
تجرع ريكاردو حلقه وتيبس في مكانه، لما سمع خطوات والده تقترب منه وكعب حذائه يطرق على الأرضية الاسمنتية اسفله "أن تفتح فمك وتبوح بما لا أرضى" ارتجفت يدا ريكاردو وما عاد قادرا على ضبط الساطور، فألقاه وضم يداه لبعضها البعض، يفرك عليها "أصفر وازرق يا ريكاردو، هذا ما ستحصل عليه"
ولم يفطن ريكاردو بعدها صوتا سوى طنين في أذنه، من قوة اللطمة التي تناولها من والده، فعاد للوراء حتى ارتطم بجثث الخراف المعلقة من أعناقها بالخطاطيف "أ.. أبي! أب.." لم يكد يكمل لحصوله على لكمة الصقته بالحائط خلفه، فشاهد بدن والده يحجب عنه نور المصباح وظل حزامه ارتفع عاليا.
لقي ريكاردو من والده عقابا شديدا، لدرجة أن ضاق ذرعا وصاح محتجا "أردت المساعدة!" لكنه اسكت بالقوة فعاود الاحتجاج وفكه متورم لا يسعه النطق بسهولة "لقد تركتني وحيدا! لم تكن موجودا لأسالك أن افتح فمي أم لا!"
"وإن تعفن بدني في الجحيم السابع، انت لن تفتح فمك طالما لم آمرك بذلك!"
"لقد حفظت سرك ولم أبح به لأحد! لم أبح به لعمتي ولابنها!"
ارتعب من يد والده التي ارتفعت تكاد تهوي عليه، فغطى رأسه وتكور حول نفسه "شتمتني عمتي أدرينا وصفعتني لكن أبقيت فمي مغلقا... ودانيلو! ابقيت فمي مغلقا بينما هو يلومني على موت والده! فماذا تريد مني بعد؟ ألم يكف ما ذقت من ألم!"
عاينه نيكولو من رأسه حتى اخمص اصبعه وحديثه ريكاردو الموجوع، لم يهز به شعرة، فما حضي به من اصابع اتهام لائمة لهو واقع يعيشه نيكولو صباح مساء "إن سر والدك لا يفشى لأي كان، ولو رجمتك عمتك صوفي، ولو كسر أنتونيو رجليك انت ستبقي فمك مغلقا"
التقط نيكولو ياقة ولده كي يوقفه على قدميه ودمه يغلي في عروقه، فما يشاهده لهو خيبة أمل كبيرة، مهما حاول صقله وجعل معدنه صلبا هو يظل وهنا تهزه الريح كورقة رقيقة.
"تريدني أن أموت إذا حتى ترضى؟ هذا ما تريد؟" احمر أنف ريكاردو وبريق مر في عينه من شدة فيضانها بالدموع، أراد التمسك بيدي والده، عله يستذكر أنه ولده وليس عبدا ذليلا، لكن والده استنكر محاولته ولطمه ضد الحائط يهزه "لا تلعب معي يا ولد، احكم عقلك وافهم مسؤوليتك، فنحن لسنا بعائلة عادية وعملنا لا يقبل الزلة، وبالأخص كلانا"
"تشتكي لي وتذرف لي دمعتين لتقنعني؟" ضربه على رأسه ليوقف دموعه "يا ولد إنك مرفه لم تذق المر يوما، هل تظن أنك باقي في هذه العائلة لجمال عينيك؟ بحق الرب! افهم أنك واقف على ارض مفروشة بدمي، ولو لم أمشي كل يوم على الجمر الحامي هذا لما كان لي ولك اسم يذكر"
"لم أطلب منك هذا كله!"
"الجحيم يا ريكاردو!" عاود نيكولو التقاطه من ياقته بيد واحدة يهزه "لولاي لكادوا يلقون بك في القمامة وانت لازلت في المهد!"
ضرب نيكولو على الحائط جانب رأس ريكاردو، يريده أن يفهم مما أنقذه، يريده ليدرك أن سبب بقائه على قيد الحياة هو لا غير، فيتشبث به كالغريق بقشة خشب.
فمن بعد رحيل كبير العائلة، توجب على نيكولو النزول راكعا ليستقبل الرصاصة التي ستثقب جبينه وابنه، الذي لم يحمل دم العائلة سيلقى الى المجهول.
"إني اكرهك" هز ريكاردو رأسه للجانبين، متعبا من المحاولة مع هذا الذي اقر بكونه صورة للشيطان تمشي على الأرض "إني امقتك" اعترف ثم أردف والحقد يغمره "اقسم لك... وليكن الرب شاهدي أني سأقتلك، سأذيقك الألم بيدي هاتين"
"إني انتظرك إذا"
هذه العبارة التي لفظها مرت في ذهن نيكولو واستذكر شبيهتها، فما افصح عنه ريكو، لهو شيء اعترف به واقسم عليه نيكولو أيضا في مراهقته وبدنه قد تردى من قسوة عقاب والده الذي انزله. وما عكر على نيكولو مزاجه هو أنه اجاب ريكاردو بمثل ما اجابه والده حينها.
فابتعد عنه وول للحمام ليحل ما تبقى من مشاكل المتجر قبل عودته لمنزله وهناك وجد انعكاس والده في المرآة يحدق به عوضا عن انعكاسه وكم كره هذا الصوت في داخله، الذي وسوس له بلا انقطاع أنه امسى والده طباعا واسما.
ولم يقفل نيكولو باب المتجر الا بعد مداواة كدمات ابنه، فقهقه ريكاردو حينها من شدة البؤس الذي يعيشه، فمن أين سيجد أبا يقتله متى شاء ثم يداويه لاحقا...
ونيكولو صفو مزاجه ضل عكرا، أي نعم عاد لمنزله وحاول قدر المستطاع الابقاء على ابتسامة، ترضي زوجته وتبعد عنها الشبهات ولم يتنفس الصعداء، إلا عندما اراحت رأسها في حضنه وانشغلت عنه نائمة.
فلم تنم بيلا إلا بعد أن غمرها الرضى، من هذا الرجل الذي عاد إليها بباقة من الورد، تناول عشائها الذي اعدته لأول مرة وشاركها حديثا ممتعا كأي زوجين، فأغمضت عيناها أخيرا بعد أن بعثر لها ثيابها وقد اكد لها أن ليست مجرد نصف امرأة في حياته.
بل امرأة كاملة، جمالا وحضورا فلا يحتاج من سواها....
وفي نومها استغرق نيكولو وقته أخيرا، يتأمل تماثيل عصافيره، وشرد في سمكته التي تسبح بأمان في حوضها بينما شريط من موسيقى بحيرة البجع، يدب في جدران الشقة، وطيف ذكرياته مع والده، يمضي خلف الأريكة حيث يجلس، كفيلم حزين لن يشتري تذكرته أحد.
وذكرياته مع والده هذه، قد باتت كثيرة التردد على ذهنه منذ كوابيسه التي فتحت دفاتر الماضي رغما عنه، فصرعته الذكريات من اليوم الذي خرج فيه من الملجأ، الى الساعة الي خرج فيها من الحمام، تاركا المغطس يفيض بالماء وأتصل بصوفي، يبلغها بوفاة السنيور دي كارلو غرقا.
تنهد نيكولو في النهاية ليدفع عن صدره شعور الاختناق ثم اشفق على المستلقية في العراء دون غطاء أو فراش وفير تحتها فمسح على شعرها يهمس باسمها "ميرا... ميرا ساعديني لأنقلك"
فتحت بيلا عينيها ووعيها لم يكن مكتملا، فهمهمت متذمرة لما زلق ذراعا أسفل ظهرها والأخرى اسفل ركبتيها ليحملها ولما كادت تنزلق نفضها هازا إياها لترتفع فتميل نحوه وتلف ذراعيها حول عنقه ملقية وجهها في قوس عنقه "لما؟"
"لأضعكِ في فراشك، إن نومك على الأريكة مستحيل"
وكما اخبرها وضعها في فراشها وبيلا قد تموضعت في جانبها من السرير واكملت ما كانت تمارسه من الراحة وعن نيكولو فلقد كاد أن يأخذ مكانه في جانبه لولا الهاتف الذي رن في غرفة الجلوس.
فنهض بحذر ليلتقط الهاتف ويأخذه للمطبخ. رفع سماعته الخضراء ضد أذنه، بينما بيده الأخرى كان يحمل الصندوق ذو القرص الدوار "منزل دي كارلو... أوه صوفي إنها انتِ"
ثبت نيكولو السماعة بين اذنه وكتفه بينما جر الكرسي ليجلس في الشرفة اسفل قفص الكناري "نعم ميو كارو" وصف اخته بحبيبتي "إني آسف لعدم إبلاغك بمكاني لكن قد انغشلت رغما عني" تبسم لسماعه حديث اخته القلق عليه "صوفي، إن اثارة الرعب في نفسك ليست من هواياتي فمن فضلك لا تتهميني بالتهور"
وصوفي بدورها كانت في المطبخ منزوية وجميع اخواتها نيام، تدلك جبينها من شدة الصداع الذي ضرب رأسها بسبب قلقها على أخيها وابنه "وهل اهتممت بجروحك؟ إن ميرا لن تكون قادرة على ذلك"
"نعم" اكتفى بقول ذلك فلقد اهمل ما يوجد تحت الضمادات وكم كافح لتجاهل وجعها بل ولاحظ تفشي الدم فيها فقرر الليلة معاينتها.
"لما عدت لمنزلك يا نيكولو؟ أزعجتك؟ إني اعتذر لعدم تحكمي بثورة أدرينا لقد حدث كل شيء رغما عني"
"لقد افتقدته" اجابها مختصرا فهي تعلم كم ضاقت نفسه بعيدا عن منزله ومن يوجد في منزله
"بخصوص ميرا... هل حقا جعلتها تعتاد اسمك الآخر؟" اغمضت صوفي عيناها بحزن فذكره لذلك الاسم وتمسكه به يجبرها على الإيمان بأنها مقصرة في حقه "صارحني ولا تكذب علي فلقد انزلق من لسانها وكانت تلفظه عن طريق الخطأ"
تبسم نيكولو بخفة من زوجته التي لا تجيد كتمان سر ثم اردف معترفا بينما يفرك عينيه "اني اطلبه منها لانه ينسيني من اكون" تأمل السماء الفسيحة فوقه وقد كانت مظلمة لا قمر فيها ولا نجمة "ينسيني ماذا فعلت في النهار من عمل، بالأخص عندما يخرج من فم امرأة لا تعرف عني شيئا"
"نيكولو..." قالت صوفي باستياء وتمنت لو يكون حاضرا أمامها فتمسك بيده لكن صوته عبر السماعة قاطعها
"اخبريني عن البقية، كيف حالهم"
وبقوله هذا امتنعت صوفي عن الحديث في شأن بيلا وحكت له عن حال اخواته في غيابه، عن فاليري وفايوليت، عن داريا التي تشتكي وتصيح ليل نهار تطالبهم بعرسها الذي تأجل رغما عنها ثم توقفت عند بيانكا والتي كانت كثيرة الخلاف معهم لدرجة أنها عادت للشقة في العمارة.
وتزامنا مع حديثها لمح نيكولو هيئة امرأة تسير بخطى مستعجلة من مدخل العمارة وتتلفت حولها ثم انتقلت بطرفها للأعلى تتأكد من سكون منزل أخيها.
ونيكولو كان قد ابتعد عن الشرفة بخطى معدودة ليراقب اخته بيانكا من نقطة هي لن تراه فيها ولقد شعر بوخز في مواضع جروحه لما خمن وجهتها.
أغلق الخط مع صوفي ومر على الباب قاصدا شقة لورينزو. رن الجرس وفيتو من خرج بوجهه ليسأله عن ولده ريكاردو، فظهر له ومواضع من وجهه لازالت متورمة إرجوانية اللون.
"اقضي الليلة في المنزل عند والدتك ميرا"
"ماذا؟ لما؟ّ" استنكر ريكو طلب والده.
"ريكاردو تحرك الآن"
أبلغه ونزل السلالم مستعجلا ثم تفقد ما يخفيه خلف معطفه وريكو الذي لمح يد والده تتسلل لهناك، قد فطن ما يوجد.
فلقد كان مسدسا....


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة