illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

لا تخبروا زوجتي؛ الفصل السابع عشر

 



سقوط حجر الملك من رقعة الشطرنج؛ هكذا استقبل دي كارلو شهر فبراير، ليرفع الستار عن الفصل الثالث من القصة، والذي حمل عنوان ما تبقى من العائلة.


وفي بداية الفصل قد جنى فرانكو نتائج لعبته التي لعبها في الخفاء، فأسقط أهم أعوان الملك أولا،  فمنهم من قتل ومنهم من تركه مصابا، حتى وصل لضالته أخيرا وأستعان بكل ما يجيد، ألا وهي رصاصات ثاقبة. فهو معتوه إن تجرأ ولاعب نيكولو من مسافة قريبة، فذاك الجزار إن كان يجيد شيئا واحدا في حياته، فهو اللعب بكل ما هو حاد.


ولولا تطور الحضارة واختراع الإنسان لذخيرة السلاح، ما تمكن فرانكو أبدا من الدهس على نيكولو وجعل عائلته في حالة من الذعر والهلع، فأدرينا التي فقدت زوجها من قبل، قد عادت للنحيب، ولكن هذه المرة على أخيها، فندبت حظها التعيس و ولولت كالأرملة التي فقدت زوجها. 


"أدرينا، يا أدرينا ارحمينا وارحم نفسك" اشتكت داريا من نحيب اختها، التي كان التشاؤم عنوان دموعها، فظلت تخبرهم أنها لن تحتمل خسارة أخيها من بعد خسارتها لزوجها. 


"رباه" تنهدت بيانكا وغطت جبينها بيدها، تأمل أنهم وصلوا لنهاية السمفونية خاصتها، لكن أدرينا صاحبة المفاجآت قد باشرت بالضرب على جانبها. وقد حرصت أدرينا على استنزاف حزنها، الى الدرجة التي يمسي بلا معنى ولا احساس، فهي مكبوتة منذ موت زوجها فحالما وصلها اتصال من كارولينا، تبلغهن أن نيكولو مصاب وهو طريح الفراش في بيتها، تحت رحمة الطبيب والضوء الاخضر في نفسها قد اضاء لتبدأ، على عكس بقية أخواتها، اللاتي فضلن الاحتفاظ بحزنهن، فداريا قضمت أظافرها التي اعتنت بها، بيانكا اعتزلتهن في ركن بعيد لا تحادث أحدا، كارولينا قد فضلت البقاء مع ابنتها فايلويت كي تجالس الأولاد في شقة تؤأمتها كارلينا. 


وعن صوفيا، التي انتظر الجميع فوران اعصابها التالفة، افسدت عليهم توقعاتهم و كانت جالسة بهدوء تنتظر خروج الطبيب، وقد لاقى صبرها ثمرته، إذ أن الطبيب شرفهم بالخروج وبصحبته السنيورة كانتارا، وزوجي أختاها التؤأم، كي يبلغهم بوضع أخيهم المصاب. 


ثم نبه على كانتارا والتي امتهنت مهنة التمريض، أن تبلغ مارسيو باتشيني إن راودت نيكولو أعراض خارجة عن المألوف، ثم رافقه مارسيو للخارج كي يوصله، فهذا الطبيب من آل باتشيني له خبرة مع هذا النوع من الاصابات الغير قانونية، وقد جلبه مارسيو حالما وصله اتصال من ريكاردو يبلغه عما اصاب والده. 


وعن الأخوات، فلقد نبهت كانتارا عليهن ألا يحدثن ضجة أو يكثرن من الحديث أو النواح ولم تسمح بدخولهن إلا بعد أن اقلعت أدرينا عن النحيب. 


"أين هي كارولين والأولاد؟" سأل مارسيو كارلينا عن زوجته ولما علم بنزولها لشقة توأمه أنتونيو، كي تجالس ابناء اخيه الخمسة، ذهب إليها وانشغل البقية بعماد عائلة دي كارلو.


فولجت صوفي أولهن بخطى متزنة ورسمت ابتسامة كي تبدوا أنها على ما يرام، لكن حالما رأت نيكولو ممدا والضمادات تغطي مواضع جروحه، ركضت مهرولة غير آبهة بخفها المنزلي المتسخ أو منامتها التي نسيت تغيرها من شدة هلعها لما علمت بالخبر، فمكثت إلى جواره وآخذت بيده "أخي المسكين، آه يا أخي ما الذي فعله بك هؤلاء الغير مؤمنون، إنهم لحقا ظالموا النفس، بل شياطين! فكيف يمكنهم فعل ذلك بأخي الذي لا يقوى على إيذاء نملة"


ارتفع حاجبا ريكو متعجبا من قول عمته وخيل له لوهلة أنه تم التبديل بين هذه المرأة وبيلا الجاهلة بحقيقة والده. 


تبسم نيكولو بوهن بسبب ثرثرة اخته الهلعة واغمض عيناه بتعب فالتنفس وحده لفعل بات يؤلمه، فكلما تمددت عضلاته شعر بغرز الخيط تحكم عليه وتجره، فما كان بوسعه لا التنهد ولا التأثر الذي سيهيج عليه انفاسه.  


امتدت أنامل صوفيا لتمسح على شعره ثم وجهه كي تواسيه، فوجدته كثير التعرق من فرط ما ذاقه من ألم واهتز صوتها "يا ليتني أخذ عنك الألم فلا تشعر به"  ولما استقرت يد اخته موضع وجنته نطق بصعوبة من شدة جفاف حلقه وتعبه "لا بأس" انتقل بطرفه لبقية أخواته وبسبب ما تجرعه من دواء بات يفقد إدراكه، فيغمض عينه ولولا اصراره لما تمكن من فتحها.


"ما هذه النظرة على وجوهكن؟ إني بخير" توقف بين كل كلمة وأخرى، يأخذ راحة ولقد بدى عليه فقدان ذاته في بعض المواضع "لن أموت على يد هاوي" حرك يده بلا مبالاة.


"فإنه...فإنه عار عليّ" 

"ويحك يا نيكولو ما الذي ينطق به لسانك؟ إياك وجلب سيرة الموت، انت ستستعيد صحتك وستعود بيننا كما تفعل دوما" 


"اتمنى ذلك" اجاب نيكولو على اخته داريا ثم اشار لأدرينا أن تقترب منه كي يأخذ بيدها، فنطق والخزي قد خيم على وجهه "آسف" 


اعتصر على يدها لما لطمه الوجع وبالكاد تمكن من فتح عيناه "ريكاردو، أوصي لورينزو أن يهتم بالمتجر هذه الفترة ولا ينخرط بعمل آخر حتى يستعيد عافية قدمه المكسورة" 


"نيكولو" تقدم أنتونيو ودنى مقتربا منه "قل لي اسمه، كي أطلب ممن يعملون تحت سلطتي أنا ومارسيو فنجلبه، إن قتله لجيوفاني ثم اسقاطك طريح الفراش هكذا... أخشى أنه مهووس يسعى للإنتقام واسقاط  دم دي كارلو، فكما تعلم زوجتي وزوجة أخي منكم" أذن أنتونيو لنفسه بالحديث يناشده أن يبلغه كي ينزله باسم آل باتشيني.


"لا تذهب خلفه"

"أجلبهُ إذا لقدميك إن كنت متعطشا الانتقام"


"لا يا أنتونيو... دعه ولا تلطخ اسم عائلتك بدماء لا تخصهم" تجرع حلقه الجاف وهز يده، يدعو أنتونيو ليقلع ولا يسلك طريق الانتقام لقضية لا تخصه "أقدر وقفتك معي ومكانتك ارتفعت عندي اكثر" طالت يده الضمادة، يرغب بدس اصابعه في جرحه كي يكف عن الزن مسببا له الألم  "لكن والدكم منذ ذلك الحادث وهو قليل الحديث معنا فلا نزد من الفجوة وعن كارلين فلن يسمها بسوء لأن غايته هو أنا "


لم ترضى أدرينا بتقاعص أخيها عن استرداد حق زوجها وودت لو تنطق، فتقنع نيكولو أن يطلع أنتونيو بهوية قاتل زوجها، كي يلاحقه ويسقطه لكن كارلين احكمت قبضتها على ذراع اختها، تعتصرها كي تقلع عن هذا.


 "ميرا؟ أين هي ميرا؟"  سأل نيكولو عنها وهذا كان آخر ما نطق به، فالدواء قد غلبه أخيرا ليغط بالنوم كالمغشي عليه، فتبادلت الأخوات فيما بينهن النظرات وتنهدت داريا بقلة حيلة. 


"لندعه ولا نزعجه أكثر" دعتهن كانتارا والجميع خرج لغرفة الجلوس، يتخذون لأنفسهم مجلسا فيها وأدرينا على الفور سألت ريكاردو.


"ريكاردو إنك تعلم بهويته، لقد كنت إلى جواره"

"لم أره عمتي، تركني والدي بعيدا"

"بل تعلم هويته! فكيف أخذك معه، أطلعنا باسمه كي يذهب خلفه أنتونيو ومارسيو"

"أدرينا!" نهرتها كارلين "سمعتِ نيكولو، هو يعرفه ولربما لو لحقا به ستتفاقم المصيبة وتمسنا جميعا"


"ألم تمسنا المصيبة لما طالت يده زوجي؟ اعترفي يا كارلين إنك تخافين على زوجك منه!"

"بالطبع أخاف عليه فلي أولاد صغار!"

"كيف تقولين هذا بعد أن تيتم ولدي دانيلو! أترضين بأن يتيتم ولدي ولا ترضينه لأولادك؟!" 

"كارلين، أدرينا! توقفا فهذا ليس موضوعا صائبا للجدال حوله!"


زجرهما أنتونيو كي لا ينخرطا في هكذا جدال عقيم وهن اخوات بالدم "نيكولو لم يكن بوعيه ومشقة الألم غلبته فجعلت منه رقيق القلب، لهذا منعنا من الذهاب خلفه، ولو كان بصحته لأوصانا بأن لا ندع لذاك الملعون ظلا على الأرض لذا اقسم بشرفي لك يا أدرينا أني سأجده وانت يا ريكاردو عليك التعاون معنا، أعرف أن والدك اوصاك بالتزام الصمت لكن للضرورة أحكام"


"أنتونيو!" نهضت كارلين من مكانها وصوفيا وبقية الأخوات وقفن بصفها، هز ريكاردو رأسه نافيا يرفض التعاون مع أنتونيو "صدقني حديثه ليس هلوسة ألم، فما ذاقه وهو هناك طريح يتدفق الدم منه لأشد"


"ألن تقف في صفي إذا؟ ألا يهمك أمر عمتك المسكينة؟"

"صدقني، إن تخيب أملكم أهون عندي من تخيب أمله، فهو يملك يدا باطشة لن يذوقها أحد منكم سواي"


"ريكاردو! أيها الجاحد" وبخته أدرينا فوقفت صوفيا بوجه اختها "احكمي عقلك يا أدرينا وامسكي عواطفك هذه، نحن نقدر حزنك لكن لا تدعيه يعميك فيطولنا الضرر، ألا تخشين على ابنك؟ ماذا ستفعلين لو عاد ذلك الشيطان لينتقم! وانتَ يا أنتونيو" وجهت حديثها لزوج اختها الذي ركبه الغرور والطيش "تصرف بحكمة فإن الزلة في واقعنا هذا ثمنها رأس بريئ، وإن السيد منكم إذا أراد اعطاء درس لعاصي افرغ ذخيرته في ذريته، لذا إني اناجي كل ذرة احترام في قلبك لهذه العجوز الواقفة أمامك، من فضلك لا تسقني وأخوتي لفاجعة يا أنتونيو" 


وهكذا فضت صوفي النزاع لكنها لم تستطع سكب الماء على قلوبهم فتخمد لهيبها، وداريا تلك الساذجة بينهم، والتي لم تلقي بالا لجدالهم قاطعت اختها، فهي لديها مشكلة أهم من هذه؛ ألا وهي كيف سيبيتون في دار كارولينا ولا قطعة منامة مريحة تملك. 


فعزمت أدرينا وداريا على العودة، كي يحزموا حقائبا لمبيتهم وبيانكا أيدتهما، فولو للعمارة حيث شقتهم وبرفقتهم الولدان ألا وهما فيتو وريكو كي يعينوهن. 


وهكذا قامت داريا وبيانكا بحزم الحقائب، وبينما داريا منهمكة بالعمل تتذمر، تأكدت بيانكا من النفخ في اللهيب واسمعتها كلاما شديد اللهجة عن بيلا، والتي لقبتها بحفارة الذهب، فزوجها مصاب وملقي في بيت كارولين وهي لا حس ولا أثر لها. 


 تلفت فيتو حوله لما وجد الجميع مشغولا وبيانكا ذهبت للمطبخ، فنده على خطيبته داريا، كي ترافقه فيسلمها هدية اشتراها لها. صعدت داريا السلالم خلفه متحمسة لشقة والده لورينزو وهناك؛ انتقلت بطرفها لباب شقة أخيها ولاحظت جزمتا زوجته المحروسة مع جزمتي فاليري مستقرة في ركن الأحذية. 


"داريا؟" سأل فيتو عندما لم يجد خطيبته خلفه بل وفزع، لما سمع صدى صياحها يهز العمارة هزا، فخرج ليجدها تشاجر زوجة السنيور لدرجة أن حاولت شدها من شعرها. 


"خالتي داريا! يا خالتي ماذا تفعلين؟! هل فقدتي صوابك؟!" صاحت فاليري التي وقفت حائلا بينهما، تحاول الابقاء على بيلا بأمان، لدرجة أنها دفعتها بظهرها للداخل فلا تصطدم بداريا.


"ابتعدي يا فاليري عن طريقي! ابتعدي حالا فاقسم لك بشرفي أني لن اعترف بك ابنة اختي وسادس اظافري في مقلتيك! كيف لك الدفاع عن حفارة الذهب تلك!" 


"ما الذي تتفوهين به يا امرأة؟! أنا تقولين عني حفارة ذهب؟! لما وهل عندكم كنز وأنا لا اعلم؟! انظري لهيئتك ولهذا البناء الذي اهلكه العفن بسبب الرطوبة!" 


"أولم تعد هذه البناية العفنة تعجبك هاه؟! نعم انت حفارة ذهب ونصف! وجدتِ أخي  عجوزا ساذجا وفتحتِ ساقيك له، فكيف ضحكتِ عليه إذا!" مثلت داريا مباعدة بين يديها وقد تفاعل في الشجار كل عضلة من بدنها "اغويته لتهربي من مكب النفايات خاصتك، ثم عندما وقع في مأزق نجدك هنا جالسة في عزه تحتسين القهوة يا ملعونة!" 


"اغلقي فمك هذا والا رزعتك بالجزمة! إياك والحديث عن شرفي!"


"نعم، نعم؟! شرفك يا صاحبة الشرف انتِ؟ وهل لديك شرف لأجلب سيرته حتى؟! يا ذات اللسان القبيح، يا ذات الخلق الدنيء! نعم اظهري على حقيقتك يا متسولة" صفقت داريا بيديها ثم رفعت يدا وحركتها بإهانة للتي أمامها "تظنين أني لا اعرف القمامة عندما أراها؟! اعترفي وانطقي، لابد أنكِ لست بعفيفة، فمن تغادر منزلها على استعجال هكذا وبزفاف نصف كم" 


"داريا! ويحك يا داريا ما الذي تفعلين؟! سيسمعنا الناس في العمارة!" وبخها فيتو وحاول جرجرتها من ذراعها بل ويده حاولت ان تطول فمها ليغلقه، فخطيبته هذه ذات لسان سليط وهو يعلم ما كانت تفعل مع كل امرأة حاولت اظهار توددها له. 


"دعني!" دفعته عنها تحاول الوصول لبيلا "ومن في العمارة غيرنا يا استاذ؟! ثم انت تستحي مني؟! لما؟ ألا تجدني على حق؟! إنها املاك عائلتي أنا! والآن دعني ولا تخرسني! فإني مغتاظة منها وسأنتف شعرها حتى تبرد حرقة قلبي!" 


"داريا! داريا ما هذه الضجة؟!" 

"عمتي انت على ما يرام؟ سمعنا صياحك!" 


انتقلت داريا بطرفها فوجدت اختاها وريكو قد تسلقوا السلالم ركضا ومن خلفها خطيبها كان يحاصرها، كما لو أنها كلب مسعور فلا تصل لميرا. 


"تعاليا وانظرا للتي جلبها، سلطها على رأسنا وأوصانا بخدمتها ومراعاتها كالعبيد ثم عندما يقع في مأزق، نجدها تضحك وتلهو في داره بينما نحن نحمل همه!" 


"هاي انتِ! اسمعي يا حلوة، صححي معلوماتك فإنه داري! إن هذه الشقة منزلي شئت أم ابيتِ ولا يحق لك إطلاقا أن تأتي لبابي كالكلب وتنبحي بوجهي!" وقفت بيلا في وجهها رافضة الاهانة.


"خالتي ميرا!" توسلتها فاليري ألا تبالغ ولا تصعد الشجار لكن الأوان قد فات، فداريا لم تتحمل الإهانة وامتدت يدها حتى وصلت لشعر بيلا المستعار، فجرته ثم لطمتها على وجهها. شهقت أدرينا واجتازت اختها بيانكا كما فعل ريكو كي يفككا الشجار، بينما بيانكا بقيت في مكانها واقفة ولقد شهدت أخيرا ثمار اتعابها. 


فكم من الوقت ظلت تقنع بأخواتها أن بيلا مجرد نقمة وليست نعمة والآن أخيرا، قد قدحت قدحتها الشرارة الأولى، فأشعلتها داريا بسذاجتها وعصبيتها المفرطة. 


وما جعل الحماس يتملكها لدرجة ان غطت فمها، هي شتائم بيلا التي القتها عليهن وعلى أخيهن الذي وصفته بالخائن، فإن لم يحقق نيكولو لبيانكا سعادتها، فيستحسن به ألا يعيش سعيدا إلى جوار من يبتغي، فأي لؤم هذا الذي عنده. أن يشتري لنفسه فرحته وأما هي فيفقرها لدرجة ألا تمتلك قرشا واحدا في جيبها لتشتري رائحة السعادة.


ولم تبتعدا عن بعضهما إلا بتدخل فيتو وريكو اللذان فظا النزاع، فالخطيب جر خطيبته والابن جرجر زوجة ابيه التي رفست في الهواء، نية الوصول لداريا والثأر لباروكتها التي تمرمطت بالأرض..


"كفى!" صاح ريكاردو بزوجة أبيه "ارحمينا!"


"بل انت كفى ولا تخرسني! اوف كم سئمت منك ومنهن ومن أبيك أيضا! ألم ترى افعال عمتك المسعورة؟! أم أنك البستني دور زوجة الاب الشمطاء؟!" 


ردت داريا عليها بأنها فعلا عجوز شمطاء وما ينقصها هو تسميمهم لتستولي على جميع أملاكهم، فصاح ريكو بعمته أيضا، في محاولة منه للحفاظ على ما تبقى من هذه الأسرة في غياب والده، وقد أبلغ زوجة أبيه وفاليري بعلة والده الذي اسقطته طريح الفراش واصطحبهما لزيارته. 


بالطبع فاليري حالما ولجت لمنزلها، سألت عن خالها وفؤادها انفطر لما وجدته سقيما وعاطفتها قد غلبتها، فذرفت دموع الحزن وألحت بسؤالها عن حاله، تطالب بمعرفة ما حدث معه. 


وعن بيلا فلقد انكسر حاجباها وفرت دمعة وحيدة لما وجدته شاحب اللون بلا حراك، لكن حزنها لم يدفعها للولولة عليه، فحقدها ضل يوسوس لها في مؤخرة رأسها ويذكرها بأنه يستحق ما اصابه لخيانته لها. 


لم ترغب بيلا بالبقاء اكثر بل وعزمت على المغادرة لكن صوفي استوقفتها، بحجة أنه سيستفيق قريبا وسيرغب برؤيتها، لأنه أفرط بالسؤال عنها، حينها ما كان بوسع بيلا الرفض والظهور بمظهر الزوجة السيئة، لذا اكرهت نفسها على الصبر جواره. 


لكن صبرها لم يتجاوز الساعتين، إذ انها في كل مرة ألقت بطرفها عليه، غلبتها تخيلات عنه وهو بين ذراعي تلك المرأة، كما كان حبيبها السابق ماتيو، بين ذراعي غيرها ولقد وجدت في نيكولو شبها لا يطاق بذلك الحقير، لذا البسته صفة الحقارة أيضا ونهضت عازمة على الرحيل. 


وجدت الأخوات في غرفة الجلوس، قد افترشن على الأرض ونمن متجاورات، فمشت بيلا على رؤوس اصابعها وكادت أن تمر من فوق أدرينا التي ضاقت جيوبها الأنفية وعلا شخيرها، لكن شخيرها توقف فجأة  وظنت بيلا أن امرها كشف بينما هي مفرقة بين ساقيها فوق رأس المرأة النائمة. 


ألقت بيلا نظرة على أدرينا، فوجدتها تقوم بهرش انفها ثم اضطجعت جانبها وامتدت يدها لصوفي، كي لا تراودها كوابيس عن زوجها وبيلا حينها القت بقدمها وعبرتهن أخيرا. 


"ميرا؟" 


فزعت بيلا ومن شدة رعبها احست بالبرود يكتسح اطرافها، فوجدته ريكو واقفا في المطبخ وفي خلفه دانيلو يقوم بالتدخين في الشرفة "لم تناما بعد؟" سألت ملطفة الجو. 


"إلى أين؟" تجاهل سؤالها وترك ورق اللعب من يده. 

"للمنزل بالطبع"

"في هذه الساعة من الليل؟" 

"إني عاجزة عن النوم هنا والكرسي آلم فقراتي لذا قررت العودة"

"حلها سهل، أجلب لك فراشا" 

"لا، لا تتعب نفسك أرجوك" 

"إطلاقا، لا تعب فيها" 


اخمد ريكو سيجارته وهم ليجلب لها فراشا من فوق الدولاب، فاستوقفته بيلا تجره من ذراعه "ليست العلة بفقراتي بل إني جائعة واحتاج مطبخي" 


"هذا مطبخ ولتعدي ما تشائي" 

"ثيابي! ثيابي ما احتاج من المنزل" 

"أجلبها لك إذا"

"ريكو! ارجوك إني احتاج للعودة ولا يمكنني البقاء هنا اكثر، دعني أذهب ولا تلح عليّ فإن اعصابي تالفة" 


"تؤ، ما تحتاجين إليه ليس العودة بل شرابا" أعادها للمطبخ مراوغا واستخرج من دولاب زوج عمته مارسيو، أفخم شراب يملك، فقام بفتحه متجاهلا الانهيار الذي سيصيبه عندما يعلم. 


"انت لن تعيدني للمنزل اليس كذلك"

"سعيد أننا وصلنا لنقطة مشتركة" 

"إذا سأعود بنفسي، إني لا احتاج ولدا جاحدا مثلك، من انت ومن أنا؟ إنك لا تعرفني فأنا بيلا لا روس، التي لم يقيدها أحد فكانت حرة طليقة، تخرج متى تشاء وتعود متى تشاء" 


عزمت على الفرار لكنه سبقها، أن انزلق من بينها وبين رخامة الدواليب وسبقها نحو الباب ليوصده بظهره "ميرا لا تصعبي الأمر علينا اكثر، إن طلبك مستحيل، خروجك في هذه الساعة من الليل غير آمن بالأخص وأبي في هذا الوضع" 


"تنحى عن طريقي يا ريكو ولا تغضبني، دعني أعود لتلك الزنزانة فهي أهون علي من البقاء هنا" دفعته، ضربته و إنهارت باكية، فلطمته مغتاظة ثم دست وجهها في قوس عنقه تترجاه أن يعتقها من هذا الحبس "إني اختنق هنا، إني اختنق يا ريكاردو ألا تفهم!" 


ارتفع حاجبا دانيلو من التقلبات الموسمية التي مرت بها في بضع ثواني وريكو تيبست عضلاته، فلأول مرة هناك حقا امرأة تذرف الدموع على صدره وتتشبث به، فاستحى منها وقوس ظهره يخشى أن يشعر ببطنها ضد بطنه. 


اشار له دانيلو أن يضرب رأسها بالزجاجة كي تفقد وعيها، فهز ريكو رأسه نافيا وربت على ظهرها بيد واحدة "لا بأس، لا بأس يا أمي" نطق أمي بصعوبة "هو سيكون بخير" اهتز صوته هلعا، لما لمح دانيلو التقم عنق الزجاجة واقترب منها يهم بإنزالها عليها كي ترى أحلاما جميلة فرمقه بحدة. 


"إن حزني ليس لأجله، بل إني حزينة على نفسي وهذا ما يؤلمني، لا استطيع ذرف دمعة لأجله وإني ابغض نفسي لأجل هذا... أنا مسخ ظالم بلا قلب يا ريكاردو" اشتكت واصابعها تحكم عليه الامساك وريكاردو حينها فطن بضعف لسانه، فهو لا يقدر على مواساة أحد، فأجلسها على الكرسي لتكون ماكثة بينه وبين دانيلو وأمام كل واحد منهم كأس "انظري لا افهم حرفا مما تقولين لكن واثق أن هذا سينفع فهل ترغبين بتجربته؟" 


"ما نفعه؟ هو سينسيني خيبتي لبضع ساعات ثم سأستعيد رشدي وأنا أشعر بخزي عظيم" ألقت برأسها على المائدة ودانيلو مد كأسه من فوقها، يطالب أن يغرقه ريكو بالشراب لأجله "حتى يفيض، فإني أود علاج صداع رأسي به"


"يا سنيورة، إن علتك هي أنك تبالغين بالتفكير" نصحها دانيلو "الخال حي يرزق، ولم تمسي أرملة مثل والدتي"


"أنا آسفة لأجلك يا دانيلو" مسحت على كتف دانيلو مواسية إياه ثم قالت "إني فقط... هل يعقل أن يبغض الانسان شخصا وهو طريح الفراش هكذا؟ هل قلبي أسود لهذه الدرجة؟" 


"حاشا، إنك بعيدة كل البعد عن سواد القلب، إنك حتى لا تعرفين له طريقا" تبسم ريكاردو لها يرضيها. فأين سواد يديها وأين سواد أيدي هذه العائلة التي تمكث معها.


رفعت بيلا طرفها ولوهلة خيل لها أنه نيكولو، من كمية الشبه بينهما وريكاردو من سذاجته وقلة مهارته في هذه المواقف، مسح لها دمعتها بإبهامه ودانيلو تعجب حينها، فلو لم يعلم أن هذه المرأة ملكية تابعة لخاله، لظنها كأي يافعة عادية وريكاردو هو حبيبها...


تبسمت بيلا بوهن وهي تشاهد محاولته، بأن يكون عطوفا عليها ويواسيها وقد رأى ريكاردو في حرقتها نفسه. فهي مثله تماما مكسورة النفس ولا يسعها مداواة روحها، فزحمة الحياة شديدة لا تكاد تترك له متسعا ليرتاح، بل تدفعه رغما عنه للمضي قدما بقدمين دامية.


ألقت بيلا برأسها على كتف ريكاردو، تبحث فيه عن دواء لعلتها وليس في الشراب، واستذكرت لما وجدت نيكولو شاحبا كالجثة، فذرفت دموعها بحسرة على خيانته، وتذكرت في دموعها والدتها التي بكت في عزاء زوجها ونحيبها لم يكن للفراق، بل لأنه رحل دون أن يهبها ما تستحق من حب ومعاملة حسنة. 


"على الأقل انتِ يمكنك ذرف الدموع، حزنا له او عليه، لذا افرحي لست مسخا، واحتفلي بجهلك حول هيئة المسخ الحقيقية" مال ريكاردو بجانب رأسه ليريحه على خاصتها، أما دانيلو فقد ألقى برأسه على الطاولة من افراطه بالشرب، فهو كان له هم مختلف عنهما. إذ أن عماد منزلهما لم يمت مثل عماد منزله بسبب تقصيره، وما جعل دانيلو يتردى في هاوية سحيقة، هي رغبة الانتقام التي غلت وفارت، متأكدا من أن ذلك القاتل يسخر منهم الآن.


"ما كان بوسعك فعل شيء حينها يا ريكاردو، اخبرتني صوفي عن العصابة التي اعترضت طريقكما وسلبتكما أموالكما. ولو تكرر ذلك الحادث لفعل والدك نفس فعلته، لسلم ما بحوزته دفاعا عنك ليتأكد من سلامتك. فانت مجرد ولد بريء لا علم لك بالسلاح وبالقتل" 


فرت قهقهة ساخرة من دانيلو وريكو، فحاول ريكو كبتها ثم همهم مكتفيا، فكيف عساه يصارحها بأنه يسلخ جلود البشر مع أبيه في القصابة؟ أو كيف عساه يصارحها بأن ذلك الشعور المريض راوده مجددا؟ فتلك النشوة العارمة من السرور والسعادة غمرته عندما تردى بدن والده وسقط راكعا...


 كيف له بمصارحة احد عن هذا الصوت الذي ظل يهلل منتصرا وشامتا لما رأى الدماء تفيض من والده. 


لم يستطع من بعدها مواجهة انعكاسه أمام المرآة وذهنه يذكره، بأنه تلفت حينها حوله خشية وجود أحد، ثم ركض هاربا يتمنى موت أبيه لكن الملعون لم يمت....


"إن الحياة حقا حلوة بالنسبة لك" تمتم ريكاردو وألقى بذراعه على ظهر الكرسي خاصتها يتأمل كأسه الفائض "وحياتك هذه إني اتمناها بشدة، لدرجة أني مستعد للتضحية بكل شيء لأعيشها" اغمض عيناه وتبسم بوهن وهمس له ذهنه، أنه مستعد بالتضحية بأبيه لأجل هذه العيشة.


"تتحدث كما لو أني ولدت وفي فمي ملعقة من الذهب" 

"هل تشتاقين لمنزلك يا ميرا؟" نزع عنها لقب أمي. 


"ومن لا يشتاق لمنزله؟ كان فسيحا وذو حديقة جميلة تنمو فيها عناقيد العنب" 

"إذا دعيني آخذك إليه في رحلة لا يوجد بها والدي، بدايتها المحطة ونهايتها هو ذلك المنزل ذو الحديقة الفسيحة" 


تبادلا النظرات ولم يفهم حينها أحد الآخر، فلم يفطن ريكاردو غلطته في استقراء هذه المرأة؛ فهي على عكس توقعه لم تكن مستميتة للتخلص من والده وإنما مستميتة لتجد لنفسها مقعدا في فؤاده، لدرجة إن ظهر لها نيكولو الآن واقسم بوفائه لها، هي لن تمانع في أن تلف ذراعيها حول عنقه وتهبه من الحب ما تستطيع طالما أنه سيبقى لها وحدها. 


وبيلا أيضا لم تفلح في فهمه، فإن ريكاردو ليس مستميتا للتمرد على والده وعصيانه وإنما كان مستميتا لشيء، هو لم يذق طعمه منذ صغره، لشيء لا يمكن لأحد أن يهبه إياه سوى والده. حتى فاليري التي يسعى للفت اهتمامها هي ما كانت قادرة على وهبه ذلك الشيء..


والمصيبة الاكبر، أن ريكاردو ما كان يعرف اسم ما ينقصه، لكنه وفي بواطن نفسه، علم أن ذلك الشيء الناقص بحوزة والده وطالما لن يهبه إياه، ما عاد يرى مانعا من التخلص من أبيه. 


"يا عصفورا الحب" قاطعهما دانيلو ساخرا وأثار الثمالة بدأت تكبت على حواسه "هل تسمعان ما اسمعه؟" 


ابتعدت بيلا عن ريكاردو محرجة، من وصف دانيلو لهما ثم نهضت واقتربت من الباب لتفتحه، فوصلها صوت نيكولو وهو ينادي باسم اخته صوفي يستنجد بها. سارت بيلا مستعجلة الخطى لكن صوفي سبقتها للغرفة ومن بعد بيلا ولج ريكاردو مستنكرا حال والده الغارق في عرقه، يهذي مهلوسا...


"نيكولو؟ يا نيكولو هون عليك، كل شيء على ما يرام" واسته صوفي ولما مسحت على جبينه فزعت من كونه ساخنا "إنك محموم" 


"صوفي... يا صوفي لما ينظر لي جيوفاني بسخط؟" تمتم نيكولو وهز رأسه للجانبين بينما تفك عنه أزرار منامته، لتلبسه أخرى "نيكولو إن جيوفاني ليس هنا، جيوفاني في مكان آخر سعيد" 


ألقى نيكولو برأسه للخلف ولهث أنفاسه كالمختنق وبيلا فزعت لما رأته يضرب جبينه بيده، يلوم نفسه ويشتمها وصوفي حاولت السيطرة عليه ومنعه خشية أن ينفتح خيط جروحه "نيكولو! نيكولو توقف أرجوك" 


"ميرا! نادي على أدرينا حالا، سأذهب لأرى ما يسعني فعله كي تنخفض حرارته" 


"كان أمامي، كان يقف أمامي لكن لم استطع قت.." اغلقت صوفي فاه أخيها بسرعة، قبل أن يتلفظ بلفظ سيكشف أمره، واستعجلت بيلا فذهبت وعادت إليها بأدرينا وبكارولين التي فزعت من نومها بالفعل. 


وصوفي لم تدع لبيلا فرصة بالبقاء إلى جواره، خشية أن يلفظ أمرا لا يجب عليها سماعه وأخذتها معها، بحجة أن تساعدها بتجهيز الدواء والكمادات. 


وبيلا عادت للغرفة كالمرعوبة تحمل وعاء الماء، فهذه أول مرة ترى رجلا كبيرا محموما، فهي دوما ما كانت تجالس ابن اخيها وبنات اختها في صغرهم فحسب وظنت أنها كأي زوجة، ستبقى إلى جواره، لكن صوفي من فعلت وأبلغت البقية بالعودة لأسرتهم. 


لكن انتفاضة نيكولو افزعتهن وعويله كالمتألم الذي يصارع رجلا، فكان يهز رأسه للجانبين ويعتصر على معصم اخته يبحث فيها عن مهرب، فما كان يهرب منه في واقعه لاحقه في كوابيسه، التي ما كان قادرا على الاستيقاظ منها ابدا مهما صاح واستنجد. 


فكلما فتح عينه وظن نفسه عاد لبيته، وجد كل طريق وكل باب يفتحه، يوصله  لمتجر القصابة الذي علق فيه، فلا باب ولا نافذة ليهرب منها ومن كل جانب كانت الجدران تصيح بأصوات من قام باغتيالهم باسم العمل. 


ووالده، السنيور نيكولو دي كارلو العظيم، كان ذو هيئة سوداء ينادي عليه من خلف مكتبه واصابعه ذات الاظافر المفطورة، ممتدة من أسفل الباب تحاول الوصول إليه، وصوته كالغريق من تحت الماء ينادي "نيكولو، يا نيكولو، تعال إلي يا بني، تعال واخرج رأسي من الحوض فماءه قد فاض" 


"نيكولو" اظلمت الدنيا بنيكولو ليجد ذاته في الحمام ومن الحوض كان الماء يفيض ووالده العجوز، عاري البدن، متهدل الجلد، جالس في الحوض يلوح له. 


"نيكولو" اظلمت الدنيا به وعاود فتحها، ليجد رأسه مغرقا في الماء القذر الذي امتلئ بالطحالب، فكان يناضل ويناطح للهواء ومن بين خصلاته العائمة، كانت اصابع والده تحكم على عنقه الخناق يمنع عنه الهواء. ومن العمق حيث السواد قاتم، خرج له وجه والده الذي تعفن ومن فمه فرت أفواج من الخنافس، الصراصير والديدان حتى غطته كاملا. 

.

.

.

"رومان؟" فتح نيكولو عينيه بفزع هذه المرة، ليجد ذاته جالسا على مائدة وفي يده ملعقة، يحتسي من مرقة الفاصولياء وهو يتأمل النافذة، التي ضربت قطرات المطر زجاجها وصوت المذياع يصدح في الأرجاء الهادئة. 


بالكاد تمكن نيكولو من السيطرة على انفاسه الهلعة ويده استقرت موضع ثيابه، ثم عنقه، يتأكد من جفافها وأن ما عاشه قبل قليل مجرد كابوس. 


"سنيور رومان، أتود شيئا آخر لأضيف؟" التفت نيكولو برأسه، فوجد التي تحادثه هي ميرا، واقفة الى جواره وفي جعبتها الصينية. عاين شعرها الذي كان معقودا في ظفيره ثم اصبعها الذي لم يوجد فيه خاتم يربطهما.


"أين أنا؟" سألها بصوت مبحوح. 


"في نزل لا روس بالطبع، أم أنك نسيت حضرة السنيور؟ لقد أتيت برفقتنا قبل قليل من محطة القطار وقمت بالحجز هنا عندنا"


"آه" 


ترك نيكولو الملعقة وبكلا يديه دلك جبينه الذي كان ساخنا، تجرع حلقه الجاف ولم يغمض عيناه براحة إلا عندما شعر بيد ميرا تمسح على ظهره تخفف من روعه "إن حضرتك تبدو شاحبا، هل كل شيء على ما يرام سنيور؟"


 "أشعر بالنعاس يا ميرا" افصح عن حاجته وهز رأسه بتعب "أحتاج للنوم بشدة" مال برأسه نحوها.


"إذا دعني أرشدك لغرفتك سنيور" 


حطت يدها فوق يده ودفئ لمستها أذهب عنه روعه،  حثته بيلا لينهض وسارت برفقته، ترشده نحو السلالم وشقيقها آدم خلف مكتب الاستقبال يقرأ جريدته، بينما المذياع يحكي عن اخبار العاصمة.


 ألقى نيكولو إليه نظرة قبل أن يكمل المشي ورائها كالمسير بلا حول ولا قوة وتوقفت بيلا أمام باب لتكشف له عن غرفته التي كانت مجاورة لغرفتها.


"تفضل بالدخول سنيور" 


ودعته ثم ولجت لغرفتها، فلحق بها نيكولو وبخطى مسلوبة الأمل ارتمى بين ذراعيها التي امتدت لأجله، ومن ثقله عادت بيلا خطوة للوراء، لكنها رحبت به، فتوغلت أنامل بيلا بين لفائف شعره برقة، أذهبت وعيه وشفتها قد لاقت قوس عنقه، لتلثمه بكل ما يكنه قلبها من شغف، ثم صعدت في طريقها لفكه ولوجنته وصولا لجانب جبينه، فقال لها نيكولو راجيا لما ألقى برأسه، يريحه على صدرها "ابقي الليلة هنا، ابقي إلى جواري ولا تغادريني يا ميرا"   


فأغمض عينيه ساكنا وهدأت أنفاسه الهائجة، داخل تلك الحجرة الضيقة من بقايا ذكراه البالية  في النزل وصوفي، كانت على الكرسي جالسة جانب السرير، تتأمل حال أخيها الذي سكن في نومه أخيرا لمجرد أن اسمعته بيلا اسم رومان. 


وما أرق صوفي وفطر فؤادها، هو حب أخيها لهذا الاسم المنسي من أيام الملجأ، حيث عاش طفولته المبكرة. 


وفي ساعات المساء المتأخرة من اليوم التالي، استرد نيكولو بعضا من صحته التي اعانته على الاستيقاظ ودس قليلا من الطعام في فمه ليمضغه، حينها سأل صوفي عن زوجته ميرا فأخبرته أنها عادت لمنزلها اثناء نومه.


وبيلا في الأيام المنقضية لم تجد حاجة ونفسا بالبقاء إلى جوار زوجها السقيم، فأخواته المحروسات كن يقمن بدورها وما بينهم من كيمياء اصابت اعصابها بالفوران، فباتت تسأل نفسها، لما عساه تزوج وهو لديه هذا العدد من اللاتي يعتنين به ويقضين له حوائجه. 


بل وإنها في بعض الأحيان، جلست على عتبة الباب تذرف دموعها، لأن بيانكا رفضت طلبها بأن يعود نيكولو لمنزله وفي فراشه حيث يحب.  وحجة بيانكا كانت أن بيلا لا نفع منها وهي في بيت كارولين محاطة بالجميع، فكيف سيكون منها نفع وهي هناك منفردة به. 


وعن أعمال المتجر، فلقد عانى السنيور لورينزو بكبت جموح دانيلو، الذي كان حامي الدم، متعطشا للإنتقام من قاتل والده وقد صارع ريكاردو ولطمه بقسوة عندما رفض إطلاعه بهوية ذلك الخسيس. 


"أطلعني بهويته! اطلعني بأي شيء يخص اسمه فإني اتعذب!" جر ريكاردو من ياقته "سئمت من العيش كأن شيئا لم يكن وذلك القاتل يتجول حرا طليقا!" 


"لن افعل! فوالدي رافض ذهاب احد خلفه"


"والدك رافض؟ نعم صحيح والدك" تبسم دانيلو وهز رأسه "انت بالطبع لن تفهم وكيف من الممكن ان تفهم ما أمر به" افلته وأشار عليه من رأسه حتى أخمص اصبعه "فالحياة جنة بالنسبة لك، لديك أب ثري يسير العائلة باصبع واحد وزوجة أب يافعة، تعاشرها متى شئت" 


"دانيلو!" هذه المرة ريكاردو من لطم دانيلو فضحك الآخر، ثم رد له الصاع صاعين وبصق عليه "إنها غلطتك انت! ألست كلب والدك المطيع؟! ألم يوكلك بحماية الاسرة في غيابه؟! أين كنت عن والدي يوم قُتل! أين كنتَ عن عمتك لما امست أرملة!"


"أجبني هيا! انطق بحرف! هيا اعترف أنها غلطتك أنت أيها الملعون!" فار الدم في وجه دانيلو فبات أحمرا من شدة صياحه، يخفي الحرقة في صوته والدموع التي توشك على النزول "انت لن تنطق ولن تعترف، فانت كلب نيكولو المطيع، لكن أعلم يا ريكاردو أن ما بيننا لهنا وانتهى. فلا تظهر في وجهي بعد الآن وإلا صنعت بك ما صنعه القاتل بأبي"


أشهر دانيلو عن السكين مهددا، أما ريكاردو فلقد وقف مكتوف اليدين أمام صاحبه لا يسعه قول حرف، فما هو بقائل؟


فأعلن دانيلو في ذلك اليوم تمرده على السنيور لورينزو وعلى العائلة بأكملها، قائلا أنه ليس بحاجة لهم وسيشق طريقه الخاص في حياته، كما فعل من قبله ابن صوفيا، الذي هجر أسرته بلا رجعة. 


حينها انهارت أدرينا ووبخت ريكاردو، تلومه على فعلته وتستره على ذلك القاتل، فلو أنه تعاون مع أنتونيو لما تمرد ابنها ثائرا يطالب بدم والده، فكانت شديدة اللهجة معه ويدها طالت وجنته فلطمته.


ولم تتحمل أدرينا طلب صوفيا بأن تبقي هذه الفاجعة سرا إلى أن يشفى نيكولو تماما ودخلت عليه في اليوم الذي كان يستعد فيه ليزور زوجته، التي افتقدها وافتقد النوم إلى جوارها. فقاطعت تجهزه أمام المرآة واستنجدت به، راكعة عند قدميه.


"نيكولو، أرجوك يا نيكولو رد ابني إلي، على الأقل افعل ما لم تستطع فعله لأجل زوجي، فإن لم تفعل، اقسم لك بعظام والدي التي في قبره أني سأدعو عليك دعوة مظلوم لربه، فلقد احضرك والدي لحماية هذه العائلة من بعده وانت ما نفذت الأمانة" 


ترجته أدرينا بعينين أغرقتها الدموع "إنه ذنبك يا نيكولو، إنه ذنبك أنك لم تنصره وتنصرني على من ظلمنا" ولقد نجحت أدرينا بجعل العذاب يشد خناقه على عنق نيكولو، فما عاد قادرا على التنفس براحة أو التفكير بزوجته.


فجاء عليهم الصباح وانتاب الهلع صوفي لما وجدت فراش أخيها فارغا. في ذلك اليوم شب شجار عنيف بين الأختين احدث القطيعة، وأدرينا اقسمت أن الذي يبقيها هنا هو انتظارها عودة ابنها وحالما سيعيده إليها نيكولو، هي ستنتقل لمنزل بعيد عنهم وستنزع عن ابنها اسم دي كارلو، ليعيش كلاهما بمأمن بعيدا عن هذه الأسرة، التي يلوح بها الموت من كل جانب. 

 

فلقد تبين لها أن دم زوجها ودم ابنها رخيص في أعينهم...


ومهمة بحث نيكولو لم تدم طويلا، ففي الليل وقف أمام شقة مهترئة بابها مكسور، والتي كانت منزل جيوفاني السابق، قبل أن ينتقل لعمارة العائلة بعد الحادث الذي اقعده، فدفع نيكولو ليلج للداخل واصوات الكلاب من الخارج تنبح. مشى فوق الحطام ووجه مصباحه اليدوي نحو ركن بين الأرائك الممزقة، فوجد دانيلو يكاد يكون غائبا عن الوعي بسبب افراطه بتعاطي الممنوعات. 


رفع دانيلو طرفه المحمر لخاله وتبسم بوهن ليقهقه قائلا بتنغيم "ها قد وجدتني" عض شفته كما لو أنه يلعب مع خاله الغميضة "لطالما تعجبت من قدرتك العجيبة هذه على ايجاد من تريد ودوما ما سألت أمي، كيف يمكن لخالي أن يفوز علينا في كل مرة نلعب الغميضة"


"كم كرهت اللعبة بسببك، لأنك اثبت لي أني الخائب بين البقية، فما كنت قادرا على الاختباء بمهارة مثلهم وانظر إلي ها قد كبرت ولازلت خائب هذه العائلة"


 "دانيلو، تعال لأعيدك للمنزل"

"صهه! لم انته من الحديث بعد! إياك يا نيكولو العظيم أن تقاطعني!" رفع دانيلو سبابته أمام شفته يحذر خاله.


"نيكولو، نيكولو" كرر دانيلو اسمه ضاحكا وفي نفسه استفزاز خاله "يا نيكولو قل لي، لما لم تعثر على أبي كما كنت تعثر علينا بسهولة؟"


"دانيلو" امتدت يد نيكولو لتطول ابن اخته، لكنه صفعها يرفض منه أي ذرة شفقة "لست أعني موته، فحضرتك لم تكن موجودا من الأساس" هز كتفيه مستهزئا "بل أعني الحادث الذي اصابه، أين كنت عنه عندما حطم ذلك الشيطان أبي! أين كنت عنه عندما لم يترك له سوى ذراعين سليمة ليمسح دموع خزيه؟!" 


"لقد كان وفيا لك!" صاح دانيلو ونهض يبتغي ضرب خاله "وفيا للدرجة التي احبك فيها اكثر مني ومن أمي! لكنك تخليت عنه" ترنح دانيلو في مشيه وتعثر ليعاود النهوض "أدرت له ظهرك ولم تنتقم له حينها ومجددا لم تنتقم له عندما قتل بأبشع حالاته!" وصل دانيلو لخاله أخيرا.


فحدق به دانيلو متأملا هيئة خاله الأنيقة، شعره الممشط ورائحة عطره التي لفحت أنفه فأغرقت عيناه بالدموع، لأن هذه الهيئة الأنيقة كانت علامة بارزة من علامات والده أيام مجده، قبل أن يخسر كل شيء ويمسي مجرد مقعد، يعيش على عقاقير لتبقي ذاكرته ثابتة "لقد مات أبي وسرواله مبلل ببوله لأنه فاقد لعقله" اصيب دانيلو بالفواق فتمسك بياقة خاله ليتزن "انت لن تفهمني، انت لن تفهمني فلا واب لك ولا أم"


"انت لا تملك أبا تذرف الدموع عليه، لمجرد عدم تذكره اسمك" غطى دانيلو خزي دموعه بيديه وألقى برأسه على كتف خاله متشبثا لما ضمه نيكولو "أنا آسف" 


"تطيح بالجميع! وتبيد من تشاء! لكن عندما يتعلق الأمر بنا، أنا وامي فانت تولينا ظهرك!" 


"دانيلو" 


"لا تلفظ اسمي على لسانك!" غرز دانيلو اصابعه في معطف خاله، يتشبث به اكثر خشي أن يتخلى عنه "إياك ولفظ الاسم الذي وهبني إياه والدي على لسانك، فانت لا تستحقه، لا تستحق شيئا من والدي" أغمض دانيلو عيناه لشعوره بيد نيكولو تمسح على رأسه.


صاح دانيلو في تلك الليلة وشتم منهارا لِما اصاب عائلته من فاجعة ونيكولو لم يكن بوسعه سوى المكوث مع هذا الشاب، معترفا بحق ذنبه الذي جرد اخته أدرينا من زوجها وابنها من والده. 


ولم يعد دانيلو للمنزل بعد استفاقته إلا لأجل والدته، التي حالما قرت عينها برؤيته أخذت بيده وغادرت أسرتها إلى الأبد. استحلفت بيانكا نيكولو أن يناشدها ويتوسلها كي تحكم عقلها وتعود لكن نيكولو رفض، قائلا أن رحيلها وأخذ ابنها من هنا لهو اكثر قرار حكيم من الممكن أن تتخذه. 


فهو لن يلوم أما تفر بابنها هاربة من أرض لن يبارك فيها الرب يوما.


وتلك الأيام كم كانت كالغمامة القاتمة على هذه العائلة، لكن الفاجعة الكبرى تمثلت بالليلة التي ولج فيها مارسيو، زوج كارولين لشقته، بحوزته البريد ومر على الغرفة التي يقيم بها نيكولو قائلا "نيكولو؟ جيد أنك مستيقظ"


 تقدم مارسيو نحو فراش نيكولو وتبسم "آمل أني لم اقاطع حلك للكلمات المتقاطعة" 


رفع نيكولو عن عينيه نظارته وقال "إطلاقا، لقد كنتُ أدعو أن تدخل علي فاليري وتقاطعني" 


"صدقني هي تود ذلك لكن كارولين منعتها، كيف هو الحال معك واخبرني لما ثيابك مطوية بترتيب على الكرسي هكذا؟"


"سأعود للمنزل غدا"

"لكنك لم تشفى بعد والطبيب أوصاك بعدم الحراك"

"يكفيني راحة، قل لي هل استقرت أدرينا في منزلها الجديد؟"

"لقد فعلت" 


أومئ مارسيو ولم يتوغل في هذا الموضوع الحساس اكثر ولما تذكر أمر الرسالة في يده مدها له "تفضل، لقد مر أنتونيو على العمارة ووجد في صندوق بريدك رسالة باسمك، لم يظهرها لأحد وجلبها على الفور لي، لربما فيها شيء مهم يخص العمل" 


"وهل يمكن للعمل أن ينتهي" ترك نيكولو من يده ما يشغله ومزق الظرف، ليستخرج ما تبين أنه بلاغ من المحكمة باسمه، فيها استدعاء موجه إليه من قبل زوجته المحروسة ميرا بيلا التي رفعت عليه دعوى بالطلاق...


وما دفع الدماء لتتجلط في شرايين دماغ نيكولو، هو تاريخ تقديم الدعوى، الذي صادف يوم تعرضه للطلق الناري...


"ويسألوني لي لما لا ترتاح، لقد ارتحت في حياتي كلها مرتين" التقم نيكولو بشفته سيجارة وباشر بتدخينها.


"في الأولى تزوجت" ابعد سجارته باصبعيه، ينفث دخانها ورفع حاجبيه من الاثارة التي يعيش.


"وفي الثانية سنتطلق. كم هذا مشوق" 





عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz