فتح نيكولو عينيه قبل أن يصيح الديك وحدق بالسقف الأبيض فوق رأسه ثم انتقل ببصره جانبه، لبيلا الغارقة في نوم عميق ولمعة اللعاب التي تسيل من فمها المفتوح كان واضحا، ووجهها المتورم كان خير شاهد على نحيبها من ليلة أمس.
اعتدل من استلقائه ودفع عن بدنه الغطاء لينهض، وأول ما قام بفعله هو التقاط المنشفة قاصدا الحمام كي يستحم، وهذه كانت البداية الكلاسيكية لصباحه. فبدأ بدعك جلده بصابون يحوي رائحة الليمون ولما فرغ، استنشق رائحة يده ليتأكد من عطره قد التصق به. ولم يخرج من الحمام إلا بعد إعادة كل شيء استعمله لمكانه، والقيام بحلاقته الصباحية، مزيلا بنصل سكين الحلاقة كل شعرة من الممكن أن تفكر بالنمو. ولج نيكولو لغرفة نومه وارتدى ثيابه وكم كان ماهرا بعدم اصدار أي صوت، ولما فرغ هو غادر الغرفة، لكنه تذكر أمرا قبل خروجه من المنزل، فنزع حذائه وعاد أدراجه لغرفة نومه.
استقر واقفا في جهة بيلا من السرير ودنى برأسه كي يقبل كتفها المغطى بقماش منامتها الصفراء ولما أتم أخيرا واجباته الصباحية، غادر المنزل وأغلق الباب خلفه.
نزل السلالم اللولبية بخطى مهرولة وقبل أن يطرق الباب، لمح شيئا مطويا ومخفيا بين باقة الزهور المعلقة على الباب ففتحها، ليجدها رسالة حب بقلم فيتو لأخته المدللة داريا. دحرج عينيه بملل من طباع ذاك الصبي الذي لن يتعقل أبدا ودس الرسالة في جيبه ثم ولج لبيت اخته التي حيته مرحبة به.
"صباح الخير صوفي" نزع حذائه عند عتبة الباب وارتدى خف المنزل الذي قدمته صوفيا له.
"ما بي أراك مبتسما على غير عادتك؟"
"أنا مبتسم؟ يا ترى لما؟"
لم يخفي نيكولو ابتسامته، وسعادته هذه سببها كان المهمة الزوجية التي نفذها هذا الصباح، ألا وهي تقبيل زوجته قبل خروجه للعمل. فهذا قد انساه نحيبها من ليلة امس.
"أين هي ميرا؟ لا أراها معك"
"هي لن تتناول وجبة الإفطار معنا، الوقت ليس مناسبا لساعات نومها"
"وكيف ستعد لك طعامك إذا؟ هل ستفسد مواعيد يومك لأجلها؟" ولجت مع نيكولو للمطبخ حيث بيانكا وداريا، كانتا تجهزان مائدة الطعام ورائحة اللحم الذي يتم تقليبه في المقلاة كان واضحا وقويا.
"أكتفيت بإخبارها أني لست من النوع الذي يحب تناول الطعام صباحا، ودون علمها سأنزل هنا كي أقوم بالنظام العائلي، فلا نفسده... بالمناسبة أين هو ريكاردو؟"
"يستحم"
"حتى هذا الوقت؟ لما تأخر؟"
"لم يتمكن من النوم مبكرا ليلة أمس"
"ما الذي كان يفعله؟"
"نيكولو لا تضغط عليه فهو يمر بوقت عصيب"
حادثته صوفي كما لو أنها زوجته، توصيه ألا يقسي على ولدهما وريكاردو كان بمثابة ابنها، إذ أنها هي التي اعتنت به بعد أن هجرت والدته الحقيقي المنزل وسافرت.
"وما هو هذا الوقت العصيب الذي من الممكن أن يمر به؟"
"المرأة التي أدخلتها لحياته بصفتها أمه ربما؟" نطقت بيانكا وأفرغت ما في المقلاة من لحم داخل الأطباق "لقد التهم الخزي وجه الولد بسبب تصرفاتك الصبيانية" وبخته.
زم نيكولو شفتيه بضيق من نفس الاسطوانة التي ستعاد على مسامعه فقال "إن ريكاردو بالغ بما فيه الكفاية ليحل مشاكله الشخصية بنفسه، لذا سيعتاد على ميرا مع مرور الوقت وسيحبها، فهي ليست بالمرأة التي لن تُحب، وقد رأيتموها بأنفسكن. إنها مرنة، يسيرة التعامل"
"رباه، ماذا أقول له وبماذا يجيبني! أخي العزيز! كيف لا يمكنك رؤية أن تلك المرأة ستضرك، ستضرنا جميعا.. إنها ليست منا ولن تستطيع أن تكون منا!"
"بيانكا، إن ميرا هي خياري" اخبرها نيكولو.
رفعت بيانكا حاجبيها من شدة صدمتها بما قال فصاحت مهتاجة "ميرا هي اختيارك؟! إذا ماذا عن اختياري أنا؟! عاندتَ وعاديتني وجعلتني أتخلى عنه! جعلتني أتخلى عن فرانكو وانظر لنفسك الآن متمسك بتلك!"
أغمض نيكولو عينيه وحرك رأسه للجانبين يُلين عنقه المتصلب، ثم حاول تمالك أعصابه وقال مباعدا بين يديه "ميو كارو" وصفها بحبيبتي كيف تحافظ على أعصابها أيضا "لا تريدين ذكر اسم ذلك الوضيع أمام شقيقتك أدرينا، فانتِ تعرفين ما فعل بنا من مصائب"
اشتدت قبضتا بيانكا وصوفي قد مسحت على كتفها كي تهدأ فلا يتشاجرا في هذا الصباح الباكر "بيانكا دعكِ من هذا فليس الوقت مناسبا للحديث حياله، هيا اجلسِ كي أنادي على ريكو"
"بل تعالي واجلسِ ولا تنادي عليه، فلا طعام له هذا الصباح"
"لكن نيكولو..."
"إنها قواعد المنزل، من لا يأتي في وقته لا طعام له. هل سأنادي وأتوسل به كي يشرفنا؟"
انضمت صوفي للمائدة مجبرة وتنهدت بقلة حيلة، لتباشر بتناول إفطارها مع اخوتها وريكاردو قد ولج للمطبخ متأخرا وقال بتحية لوالده "صباح الخير أبي"
"صباح الخير" اجاب نيكولو وريكاردو لم يحاول الحصول على لقمة، فهو له علم تام بما يصيب من يتأخر عن المائدة. لم يلبث الكثير حتى رن جرس المنزل فقال ريكاردو "لابد أنه دانيلو، سأذهب لافتح الباب له"
"انتظراني في الأسفل مع السيد لورينزو"
"حاضر"
فرغ نيكولو من طبقه وقد حرص على إتمام طعامه كاملا وترك الصحن نظيفا، فلا يسع للذبابة أن تحصل من بعده على لقمة "شكرا بيانكا، اللحم كان لذيذا هذه المرة"
أومئت له بلا بأس وانتزعت ورقة كتبت فيها ما تحتاجه من السوق وقدمتها له بجفاء "اجلبها معك اليوم عند عودتك"
"حسنا" أومئ لها ثم تبادلا النظرات وليطيب خاطرها مسح على كتفها وهم بالمغادرة لكنه تذكر شيئا فعاد أدراجه "قبل أن انسى، لتكن أعينكن على ميرا" أبلغهن وودعهن بترك قبلة على وجنة كل واحدة منهن.
قلبت بيانكا عينيها بضجر وأخبرته داريا أنها ستهتم بأمر ميرا، فتمكن نيكولو من الذهاب لعمله أخيرا بعد عطلة دامت طويلا. إذ سار اربعتهم فوق طريق مبلط وعر، كان ضيقا بسبب قرب المباني من بعضها وفي بعض الأماكن تجمعت برك ماء بسبب المطر من ليلة أمس.
تقلصت عضلات ريكاردو وفرك يديه ببعضها من برد نسيم الصباح ثم خطف السيجارة من فم دانيلو، ابن عمته أدرينا،، ودخنها كي يتدفأ. في حين أن والده والسيد لورينزو كانا يسيران بخطى متناسقة وقد كانا متكاملي المظهر فنيكولو طويل ولورينزو قصير، نيكولو نحيل والآخر بدين. إلا أنهما تشابها بالمعطف الأسود الطويل والقبعة على رأسهما.
"أنظر إليهما يا ريكو، الجلاد ومساعده يتجولان كحاصدي أرواح" حافظ دانيلو على صوته منخفضا فلا يسمعه خاله، ثم استعاد من فم ريكو سيجارته "ونحن كالحمير نتبعهما" ثم اردف متذكرا "أسمع يا ريكو، دعني أعرض على خالي ما اخبرتك به سابقا"
"إياك وفعل ذلك، هو لن يكون مسرورا بتغيير مهنة العائلة" حذره ريكاردو.
"وهل سنظل كالحمقى نفعل ما نفعل بسعر زهيد؟ أما رأيت آل بيانتشي وكيف صعدوا عاليا بسبب ما أقدموا عليه؟ ألا ترى أن هذا الطريق هو توجه العالم الجديد"
"تريد جمع كلمة جديد وأبي في جملة واحدة؟ أغلق فمك يا دانيلو ودع نهارنا يمضي" لحق الاثنان بنيكولو ولورينزوا لما تخلفا عنهما.
توقفوا جميعا أمام متجر ورفع نيكولو بصره للوحة التي كُتب عليها بالدهان الأبيض قصابة دي كارلو. بينما ريكاردو ودانيلو يقومان بفتح السياج ليكشفا عن الباب الزجاجي وواجهة المتجر.
تأملهما نيكولو واستذكر الوقت، الذي كان طوله فيه لم يتعدى بطن والده، السيد دي كارلو. إذ أنهما في كل فجر قبل أن تشرق الشمس على صوت أول صيحة ديك، كانت تعد صوفيا وجبة الإفطار لوالده، بينما هو جالس على الدرج؛ يلمع حذائه الأسود فلا يخرج والده وفي حذائه أثر للطين.
وقبل مغادرة والده للعمل دوما ما كانت بناته الستة يقفن عند الباب، ليودعهن والدهن بقبلة على وجنة كل واحدة منهن بينما نيكولو واقف خلفه لا يصدر أي صوت كما لو أنه ظله. وفي أحيانٍ كثيرة كان يسبق والده للمتجر، كي يقوم بفتحه وينير مصابيحه.
"أبي"
عاد نيكولو لحاضره بسبب ريكاردو الذي ناداه كي يتفضل بالدخول، فولج نيكولو مع لورينزو وريكاردو سارع بإنارة المكان.
نزع نيكولو معطفه وسلمه لدانيلو، الذي قام بتعليقه كما يفعل كل صباح. طوى نيكولو كم قميصه كي يكشف عن ساعديه وامرهما بمسح وتنظيف المكان قبل قدوم موعد الافتتاح الرسمي ثم دفع الباب الخشبي وقصد الجزء الذي كتب عليه لافته ممنوع الدخول لغير الموظفين.
سار نيكولو على أرضية اسمنتية تجمعت فيهابرك الماء من تنظيف ليلة البارحة في بعض أجزاءها. ومن السلاسل المتدلية كان اللحم معلقا وعليه دمغة وزارة الصحة فكل ركن وكل زاوية، تم الموافقة عليها من قبل الحكومة، إلا شيئا واحدا لم توافق عليه لا الحكومة ولا وزارة الصحة.
ألا وهو الرجل المربوط بكرسي داخل الثلاجة...
"صباح الخير، هل افتقدتني؟" حادثه نيكولو بينما لورينزو يفتح دولاب الثياب الخاصة بالعمل وقد جلب مئز سيده الطويل وجزمتيه السوداء. عقد نيكولو مئزره الأخضر وانتعل جزمتيه ولم ينسى قفازاته كي لا يلوث يديه، ولورينزو عاد إليه يدفع عربة ممتلئة بأنواع السكاكين وأدوات القصابة "تفضل سيدي"
"احسنت لورينزو، كم احب العمل معك فهو مريح ولا يتعبني مثل اللذان في الخارج"
"شكرا سيدي، من دواع سروري أن أعينك، وبخصوصهما فلا تقلق، سيتعلمان المهنة كما تعلمها حضرتك من السيد دي كارلو"
"ليسمع الرب منك، والآن أين كنا؟ آه نعم وصلنا في حكايتنا عن براعة والدي" انتقل نيكولو ببصره للرجل المربوط وتبسم ليباشر كعادته، بسرد آخر قصة يسمعها كل من يجلس على هذا الكرسي بينما ينسق عدته "لقد كان والدي رجلا شديد الحفاظ على الأمانات التي يطلب السادة منه صيدها، وخصوصا الوجه، كان يوليه عناية كبيرة، ودوما ما يوصيني ألا أقوم بمحو معالم الوجه عند سلخ الجلد. فلا يشعر الزبون بالضيق من تشوه طلبه"
لمع نيكولو نصل الساطور متأملا إنعكاسه "لكن مع الأسف لم اكتسب يد والدي الماهرة في العمل، فعوضا عن امتلاكِ يده الخفيفة، امتلكتُ يدا قاسية تفطر العظم دوما عن طريق الخطأ، ومربط الفرس مما أقصه عليك اليوم هو؛ سأحاول قدر المستطاع ألا اترك أثرا قد يشوه لحمك" حرك نيكولو رأسه للجانبين بضجر "فكما تعلم، لا نود أن يصل خبر لوزارة الصحة بأننا نعذب الحيوانات قبل ذبحها"
"بئسا لك... اللعنة عليك أيها ال.." لفظ ضحيته آخر شتائمه وفر من فم الرجل بخار أبيض من شدة برودة الثلاجة التي حُبس فيها وحدق بهذا الملعون؛ اذ عُرف باسم -الجزار- الذي يقدم لحوم أعداء من يأتي له طالبا منه العون. ككبار الشخصيات، ذوي السمعة السيئة وأمثالهم الذين يسيرون في الظلال، بعيدا عن أنظار الشرطة وحكومتها.
وما جعله وجهة تقصده العصابات بالأسم، هو تفرده وتفرد عائلته بهذه المهنة، إذ أن أيدي آل دي كارلو لم تكن ملوثة بالمال القذر إنما ملوثة بدم الضحايا، التي يقومون بصيدها وتقديمها لمن يريدها ويطلبها. هكذا كانوا يسترزقون وهذه هي مهنتهم.
بصق الرجل في وجه نيكولو الذي اشمئز، فخانته يده والتقط مطرقة اللحم ليلطم بها وجهه مفقدا إياه وعيه ولما فطن نيكولو فعلته تنهد بقلة حيلة وتذمر "اخبرته أن لي اعصابا حامية ويدا قاسية، انظر لورينزو لما اجبرني على فعله" قبض نيكولو على شعر ضحيته ونحر عنقه كما تقتضي مهنته فهو كان جزارا محترفا يؤدي عمله باتقان.
أغمض نيكولو عينيه من تلك البصقة المريعة والتي تفوح منها رائحة الثوم. فتقدم لورينزو نحو السيد دي كارلو وبالمنديل نظف له جانب وجهه "سيدي قل لي ماذا تحتاج"
"نادي على ريكاردو ودانيلو، كي يساعداني بالتنظيف"
"حاضر سيدي" نفذ لورينزو طلب سيده ونادى على ريكاردو ودانيلو وقدم لهما مئزر العمل وجزمتين كي لا يلوثا أنفسهما. تصلب جسد ريكاردو متوترا لما ولج فوجد والده منكبا في سلخ الجلد وقد بدأ التقدم بعد أن شق بطنه كاملا "سيدي ها هما" حمحم لورينزو وأشار لهما نيكولو كي يلتقطا سكينا وينظفا البدن بينما يهتم هو بالرأس. اهتزت يد ريكاردو وأغمض عينيه فلا يرى عيني الجثة التي كانت نظراتها الأخيرة هلعة، تنظر إليه وبساطوره ضرب على الكتف مكرها ليخلعه بينما دانيلو اهتم بالأقدام.
"اخبرتك أن تصارحه لكنك اقلعت عن ذلك فتحمل نتيجة أفعالك، نحن هنا نقطع لحوم البشر بسعر زهيد بينما الناس في الخارج تتاجر بالمخدرات والبشر" تذمر دانيلو من هذا العمل متدني الأجر واستذكر صاحبه الذي اغتنى بمجرد تهريبه بضاعة ممنوعات للمملكة المتحدة.
"صهه!" نهره ريكاردو خشية أن يسمعهما والده "هل تريد أن تأخذ مكان هذا الرجل؟"
شتم دانيلو ابن خاله وخاله أيضا ليعاودا الانشغال بالدم الذي يتناثر تحت أيديهما ومن خارج المخزن كانت الأصوات طبيعية، فمن عساه يظن أن صوت ضربات الساطور من الممكن أن تكون نازلة على عظام آدمي وليس جثة حيوان. وبحلول الساعة التاسعة صباحا ولج رجل يرتدي معطفا أسود ويضع قبعة على رأسه، قد كان يسير بخطى ثابتة واختلافه عمن حوله، أنه لم يكن متلفتا بل كان واضح الوجهة والهدف.
"مرحبا بك سيدي في قصابة دي كارلو" رحب به لورينزو الذي كان واقفا خلف ثلاجة العرض يلبي طلبات الزبائن.
"أريد طعاما يشبع كلابي" قال الرجل ولورينز حافظ على ابتسامته ومن الخزانة استخرج كيسا أسود وسلمه إياه "تفضل حضرة السنيور، لقد ولاه السنيور دي كارلو عناية كاملة"
بادل لورينزو الكيس مقابل بطاقة سوداء كتب عليها باللون الأبيض حرفي الفاء وال باء. استلم لورينزوا البطاقة والزبون قد غادر، لتقف مكانه سيدة مسنة استهواها فضولها.
"هل تقدمون طعاما للكلاب؟"
"نعم سيدتي" تبسم لورينزو للمرأة المسنة وحادثها بخلق حسن "إننا نعطي ما يتبقى من العظام والجلد وبعض الأحشاء الداخلية التي لا تباع"
"رأيتك تعطيه للرجل بلا مقابل فهل هو مجاني؟"
"بالطبع"
"إذا أعطني كيس عظام وأحشاء ففي الحي يوجد كلب جائع وإني اشفق عليه"
"دعيني أرى إن كان هناك ما تبقى" استأذنها لورينزو وذهب للبحث فعاد لها وأبلغها أنه لم يتبقى منه شيئا ثم أوصاها أن تمر عليهم في نهاية الاسبوع كي يعطيها. غادرت المرأة واستلم لورينزو طلبات الزبائن. منهم من أراد كبدة ومنهم من أراد لحم ببيرزولا.
رن الجرس فوق الباب معلنا دخول احدهم ولم يكن بالغريب، إنما كان فيتو متأخرا عن عمله، وعلى الفور نزع معطفه، وضع مئزر العمل وارتدى قفازاته ثم سأل "هل لاحظ السيد تأخري؟"
أومئ لورينزو له بنعم بينما يقوم بوزن قطع البيرزولا "وليكن بعلمك أني عثرت على رسالتك التي كتبتها لأخته في جيب معطفه، فاحذر منه ولا تظهر أمامه"
"سحقا" لعن فيتو حظه فهو كان يأمل بقراءة حروف نظمتها حبيبته وقد عزم التسلل لرؤيتها في القريب العاجل، وهكذا طويت صفحة يوم جديد، انتهت بتناول نيكولو العشاء في بيت اخته صوفي وكي لا تتكرر حادثة القميص الدامي من ليلة امس، بات يسلم ثيابه لأخته كي تغسلها وهناك يرتدي ما يحتاجه.
سألهن عن حال زوجته اليوم فحكت له داريا عن رحلة التسوق وقد نبهته على ملاحظة حدثت اليوم، ألا وهي ترحيب بعض من سكان المنطقة بها وبيلا بشكل طبيعي استنكرت هذا الوضع "وماذا اجبتها؟"
"اخبرتها أن عائلتنا لها أعمالٌ خيرية كثيرة لهذا لنا سمعة والكثير يسأل عنها، ما كنت قادرة على اخبارها أن هذه المنطقة لدي كارلو وأن المسؤول عنها هو انت"
"خير ما قلتِ، إنه كافي"
"وإلى متى تنوي الكذب عليها؟"
"بيانكا" لفظ اسمها يأمل أن تكف عن تكرار نفس الحديث.
"بيانكا ماذا؟! قل إلى متى تنوي البقاء على هذا الحال؟! ألن يأتي يوم وتكتشف حقيقتك؟ حقيقتنا القبيحة؟" اخذت صحنه الذي فرغ من أمامه وألقته في الحوض لتغسله مع باقي الأطباق أما نيكولو فقد ضاق ذرعا منها وقرر الخروج عائدا لداره حيث تنتظره زوجته الوديعة.
"نيكولو!" لحقت به صوفي لما رأت على وجهه معالم الضيق وأرادت مراضاته لكنه ودعها بجفاء وغادر المنزل، فعادت صوفي مفطورة الفؤاد على أخيها وجلست حائرة. لا تدري أتسانده أم تساند بيانكا في رأيها.
"بيانكا أكان عليك فتح هذا الموضوع مجددا؟" عاتبتها صوفي.
"إني اكرره ليفهم دماغه البليد خطورة ما يفعل بنا، ما معنى أن يحشر لعائلتنا امرأة مثل تلك!"
"أعلم، وأفهم! لكن لابد من وجود طريقة أخرى"
"لا تدافعي عنه كولد لك يا صوفي! يجب عليك الوقوف في صفي لا في صفه!"
"بيانكا إنه... إنه أخونا الصغير و.. "
"وأنا أكبر منه! ثم له الحق بالزواج ممن يريد وأنا يمنعني؟! إني لا أبالي بتلك المرأة القروية! بئسا لها ولعائلتها! إني مقهورة على حالي هنا واتألم لما أراها مدللة تحصل على ما تريد، في حين أني الأكبر من بينكم ولا يحق لي فعل ما أشاء!"
تجادلت الأختان وعلا صياح بيانكا حتى اغرقت عيناها بالدموع من شدة قهرها وبغضها لتلك المدعوة بميرا، فهي لا علم لها ولا فطنة في الآداب العامة أو الموضة ورغم عيوبها وتدني حالها هي وأسرتها، إلا أن كل ما تتمناه تحصل عليه.. بل ولها زوج مثل نيكولو يعاتب أخواته إذا عكرن من مزاجها!
أما عن بقية ساكني المنزل كريكاردو وداريا، فقد ولج الشاب لغرفة عمته التي كانت ماكثة أمام المرآة تمشط شعرها وتهذي باسم حبيبها الذي نسيها ولم يرسل لها رسالة تطفئ لهيب قلبها المشتاق له.
"لازلن يتجادلن في المطبخ يا عمتي" جلس على طرف سريرها.
"لابد أنه حزين غضبانٌ مني"
"ما رأيك بما تقوله عمتي بيانكا؟ إني أراها محقة"
"لربما والده وبخه"
"من الذي والده وبخه؟ جدي؟"
"جدك؟ جدك وبخ فيتو؟"
"فيتو؟ ما الذي تهذين به يا عمتي؟ أقول لك أن القيامة قامت في المطبخ وانت هنا تحلمين بفيتو؟"
"إني امرأة زفافها يقترب ولا طاقة لي بالخوض في الجدالات، يقول الأطباء أنه يضر بالبشرة ولا نية لي لأبدو عجوزا تملئها التجاعيد" ضربت داريا بالفرشاة على وجنتها لتزيد منها حمرة "وهل تعرف ما سيزيد من نضارة بشرتي؟ أن تجلب لي خبرا من عزيزي"
"رباه! هب لي بعضا من مزاجها هذا" تنهد ريكاردو بقلة حيلة من عمته هذه وارتمى على فراشها، يفكر بوالده وزوجته التي وضعها في هذه العائلة رغما عن الجميع، غير مباليا برأيه أو برأي عماته. وهذا لم يكن طبعا من طباع أبيه، فهو يقدس الروابط العائلية ولا يمر ملف إلا بنظام رجعي قديم، ألا وهو الشورى وانتظار موافقة البالغين.
"يا ولد إن لم تساعدني فلا عون لك مني، فهي هناك في الأعلى"
"من التي في الأعلى؟"
"انتَ تعرف"
"من؟ أتعنين هي؟"
"ومن غيرها"
"كنتِ ترغبين برؤية فيتو أليس كذلك عمتي؟"
وفي الأعلى ولج رب هذه الأسرة لداره فاستقبلنه بنات اخته فايوليت وفاليريا، رحب بهن نيكولو وكما اعتدن من خالهن قد حصلن على قبلة ترحيب "هل والدتكن هنا؟"
"لا بل نحن من أتينا، فقد خرجنا للتبضع مع الخالة داريا وبقينا عند خالتي ميرا" أبلغته فايوليت وإلى جوارها فاليريا ومن شدة الشبه بينهما كانتا تبدوان كالتوأم "والآن السؤال الأهم، أين هي خالتكن ميرا؟" تجاوزهما وهما من خلفه قهقهتا من الولع الظاهر في هيئته، فولج للمطبخ ليجدها تغسل صحون العشاء والمذياع إلى جوارها يسرد حكاية رومانسية تروي جفاف روحها.
"لقد عدت"
"آه... مرحبا"
جففت بيلا يديها بمئزر الطبخ وهي كانت تعلم بقدومه، إلا أنها من شدة توترها قررت أن تدعي الجهل بمجيئه، وارتباكها بما يمكن أن تفعل استمر، إذ بقيت في مكانها تبحلق لا تدري ما تقول.
"تأكل؟" تذكرت بيلا سؤاله متأخرا ولم تفطن إلا بسبب فاليريا التي اشارت على خالها ثم مثلت من خلفه وكأنها تأكل طعاما بالملعقة.
"لقد تناولته بالفعل"
"حسنا" اكتفت بقول ذلك ثم تظاهرت بمسح الدواليب التي تلمع بالفعل.
"أنا سأستحم"
"بالطبع"
"حسنا إذا"
انسحب نيكولو من المطبخ مرتابا من الجو الغريب، وذهب لتجهيز ثياب نومه تاركا إياها وهذا النمط قد تكرر واستمر مع تساقط الورق اليابس من على أغصان الشجر ومع بداية الشتاء، أي بعد مرور شهر كامل من حصول ميرا على دروس تثقيفية من الكتب التي استعارتها من السنيورة كانتارا، فطنت أخيرا أن امتناع زوجها عن مشاركتها الطعام لشيء مريب.
ففي كتب الاستشارات العائلية وفي الأعمدة الجانبية الخاصة بالجرائد، تكررت شكوى النساء وطلبهن المشورة في أمر زوجهن، الذي يمتنع عن الانضمام لمائدة الطعام وفي كل مرة يتحجج إما بالعمل أو بالأصدقاء.
وعن الردود فالبعض رجح كون الأمر عائدا لفضاعة ما تعده الزوجة من طعام وهذا الجواب قد رفضته بيلا فالجميع يشهد بلذة ما تعد.
ثم وجدت ردا من مختص في شؤون الأسرة، رجح أن العلة لربما تكون في أناقة الزوجة لحظة مضغها للقمتها، إذ أن له كثيرا من المراجعين، لا يطيقون النظر إلى شريكاتهم من قبح حالهن وقت الطعام والأصوات التي يصدرن.
كادت بيلا أن تشك بقبحها وهي تمضغ لقمتها فزوجها وأخواته مهوسون بالآداب ولربما ما تراه عاديا يرونه مثيرا للإشمئزاز، لذا عملت على مراعاة آداب المائدة والمضغ بأناقة، لكن هذا لم ينفع ويجبر نيكولو على الجلوس معها وقت الغداء.
ومن شدة يأسها هي بدأت تحرص على تبديل ثوبها وارتداء ثوب آخر نظيف بل ووصل فيها الحال في بعض الأمسيات أن استحمت، لربما رائحتها هي من تصرفه عن هذا النشاط المهم من اليوم، لكن مجهودها الذي بذلته لم يجعل نيكولو يشاركها لقمة العشاء بل انحرف الوضع وتردى فبات يأكلها هي على مائدة العشاء....
"ما رأيك بهذا يا ميرا؟... ميرا؟ أين ول عقلك يا امرأة؟" نادت داريا لتجذب اهتمام ميرا التي شردت بعقلها لشيء أهم من ثوب الزفاف الخامس عشر والذي عاودت ارتدائه مرتين.
"آه، المعذرة داريا ماذا كنت تقولين؟"
"كنتُ اسألك عن رأيك في هذا الثوب؟ هذا أم الذي قبل... ميرا؟ ما بك بائسة الحال هكذا، بما تفكرين؟"
احتارت بيلا لا تدري هل تبوح لها أم تكتم سرها في جوفها لكن طبيعتها الثرثارة غلبتها ومنعتها من التطور وحماية خصوصيتها فأفصحت لداريا عن مشكلتها مع نيكولو وداريا وقفت مكتوفة اليدين.
فكيف تصارحها بأن نيكولو يأكل عندهم دون علمها كل صباح ومساء ولأنها داريا ليست بالساذجة مثل بيلا لتبوح أسرار العائلة، واستها بأن أخاها مجرد رجل قديم ممل، نذر حياته لعمله السخيف واضافت المزيد من المصادقية، بقولها أن زوجته السابقة تخلصت منه بسبب هذه العادة البغيضة.
بالطبع داريا رممت الوضع لتحمي عائلتها ثم في المنزل حكت لأخواتها ضاحكة عما جرى بينهما، كما لو أن ما قالته بيلا هو اكثر نكتة مضحكة.
"ليتكن رأيتن وجهها وهي مهمومة به بل وتبحث عن الحل في كتب سنيورة كانتارا! تلك العجوز العزباء!" ضحكت كارولينا وكارلينا شاركتهن القهقهة، أما فاليريا فقد جالستهن أجل لكنها لم تكن راضية أبدا فاستأذنت من امها وفرت من المنزل قاصدة منزل بيلا لتقف إلى جوار تلك المرأة التي تؤمن بأنها مظلومة.
فوجدت ريكاردو في طريقها وتفادته غير مبالية دون أن تعير لمحاولاته في فتح حوار معها أي اهتمام ويا ليتها بقيت لربما فطنت مكيدة بيانكا التي قررت نصبها لبيلا.
فعوضا عن أن ترمم بيانكا الوضع لتحمي العائلة كداريا، هي قررت هدم الوضع لتحمي العائلة وفي يوم بينما هي تتبضع مع بيلا سردت لها حكاية عن صاحبة لها امتلكت نفس مشكلة بيلا، ألا وهي زوج هارب لا يطيق تناول الطعام معها.
"وماذا فعلت؟" سألت بيلا بيأس علها تجد في هذه القصة نفعا.
"بحثت عن السبب فوجدته"
"وما كان سببه؟"
أشارت بيانكا لبيلا كي تقترب كما لو أنها تخشى أن يسمعهما أحد رغم وقوفهما بين أرفف ضيقة في بقالة على قارعة الطريق.
"لقد كان يخونها يا عزيزتي"
أي نعم بحثت بيلا عن نفع من تجارب الآخرين إلا أنها وعن طريق الخطأ تجرعت سما وهذا السم كان بداية لنهاية هذه الأسرة...

.png)
ديييم أخواته فقعوا المراره عندي😭
ردحذفاحتاج الفصل الجاي😭😭😭
ردحذفالأحداث تحبس النفس✨🤍