في ليلة معتمة داخل دعائم صلبة، قد يظن الناظر إليها أن الجرذان ليست بقادرة على النبش فيها وما هي بمقتربة، بسبب حزم الأمن وصرامتهم في حراسة هذا المكان المنحوس، الذي كدست فيه الحكومة أتعس الخلق، عسى ولعل أن تعيد تأديبهم لكنها لم تكن بدارية عن دنائة نفوسهم ولا الأمن كذلك.
فكيف عساه للمسكين الذي غلبه النعاس في ركن المراقبة، أن يلحظ رقعة العشب جانبه التي تحركت ورفعت من مكانها لتكشف عن وفد من المجرمين ماكثين في نفق حفروه بأدوات من المستحيل أن تصل إليهم دون رشوة.
فروا هاربين واحدا تلو الآخر والحارس الذي عزم على أيقافهم تم اسكاته، إذ قدمت إليه الرشوة أيضا حاله من حال مدير هذا السجن، ليغض الطرف عن رحيلهم دون تصريح، فيبدوا كما لو أنه عملية فرار والإدارة ما هي بقادرة على فعل شيء سوى رفع يديها، كي تطلب المزيد من الدعم المادي لإعمار هذه المؤسسة.
والهاربون قد ولجوا لسيارات كانت في انتظارهم والمميز الذي امتلك خصلا صهباء قد حادث السائق، طالبا منه المرور من منطقة سكنية "وماذا يوجد هناك؟"
"وما شأنك؟ قُد ولا تثرثر معي" إلتقم بين شفتيه سيجارة وحرص على إشعالها لما وصل واستقر واقفا أمام متجر قصابة دي كارلو وهناك عاين الاسم بتمعن وفي عينيه حقد وضغينة.
"ها قد عدت لأجلك أيها الجزار، ولنرى بأي سكين ستُذبح"
ألقى بالسيجارة واختفى كأنه لم يكن، فلم يلحظ وجوده لا لورينزو ولا نيكولو اللذان خرجا من القصابة في ساعة متأخرة من الليل. ولا، السبب لم يكن دمويا إنما قد شرفهم المحاسب أخيرا، ليرصد فعاليات هذا الشهر فديسمبر قاسي وساكني المنطقة الذين قبلوا يد نيكولو معلنين له الولاء، عليه توفير احتياجاتهم قبل أن تنفذ.
قصد الرجلان البناية ونيكولو استنكر أثر عجلات السيارة والقدمان التي حفرت في الثلج أمام متجره "لورينزو، غريب أمر هذه الأثار. ألاحظت مجيئ أحدهم وتفرجه علينا؟"
"لا سنيور، لكن واثق أن من حضر وراقب سيظهر وسيكشف عن ذاته قريبا"
لم يكن نيكولو راضيا أبدا عما يراه والشك قد تملكه، فلو كان زبونا خاصا من زبائنه المميزين لما اكتفى بالبحلقة ولدخل عليه، إلا أن هذا قد دخن سيجارته ونثر رمادها على الثلج كاملة مما يعني أنه كان يراقبهم لمدة من الزمن... هكذا فكر نيكولو.
"يستحسن به أن يكشف عن نفسه قبل أن أجده أنا"
"سنيور، لا تحمل هما فالليلة شديدة البرد والسنيورة تنتظرك الآن بالتأكيد فلا نتأخر عليها"
تعابيره المتهكمة قد تبدلت ولانت لمجرد تذكره تلك ال-ميرا- التي تنتظره الآن بالتأكيد ويا له من زوج سيء لتأخره عليها، فلابد أنها الآن ماكثة في غرفة الجلوس تعد الدقائق لكن كل هذا لم يحدث، بل دخل عليها ليجدها متربعة أمام المدفأة وعلى كتفيها بطانية وفي جعبتها كتاب تقرأه بتركيز، كما لو أن لجنة ستقام لامتحانها فيه.
وما في جعبتها لم يكن رواية رومانسية كما يمليه عليها ذوقها الأدبي، إنما كتيب يحوي معلومات نافعة لأي امرأة تريد اكتشاف خيانة زوجها وعنوانه -كان كيف تكشفين خيانة زوجك في ثلاثة أيام-
"ميرا، قد عدت"
"يعود للمنزل في ساعات متأخرة من الليل وبشكل دائم" قرأت بيلا بإمعان ما كتب في يديها ثم انتقلت بطرفها إليه وقد قررت سؤاله "مرحبا بك، لكن قل لي ما بك متأخر الليلة على غير عادتك؟"
نهضت من مكانها لتحيه وكما اجبرها نيكولو على الاعتياد عانقته مرحبة. ضمها نيكولو إليه وفي حضنها وجد راحة مكنته من إلقاء تعب اليوم عن كاهله أخيرا وأردف قائلا "إنه العمل مثل كل مرة يا عزيزتي"
اتسعت عينا بيلا، فهذه العبارة التي لفظها مدونة بالحرف تحت ركن الحجج الواهية التي يبتدعها الرجال وما هز كيانها هي رائحة العطر النسائي التي تفوح منه ومعطفه الجاف.
فكيف لمعطفه أن يكون جافا والطقس في الخارج مثلج؟!
"رومان" نادته بالاسم الذي يفضل "هل يا ترى ذهبت لمكان ما؟"
"لما؟" سألها وعلى محياه تعابير ساذجة، كما لو أنه لا يتخذ طريق المراوغة ليستشف ما تلمح إليه.
"أرى معطفك جافا ومستحيل أن يبقى جافا والطقس مثلج في الخارج" حاولت برسم ابتسامة وديعة ألا تكشف عن شكها والذي بطريقة عجيبة ينخر جوفها.
"آه؟ لقد زرت منزل صوفي وبقيت عندهم لفترة وجيزة" قال وقد قرر الكشف عن سره هذه المرة فلا يتفاقم شكها وأي شيء أكثر طبيعية من زيارة الأخ لأخواته؟
"وقد تناولت العشاء عندها هذه المرة" زلق قدماه في خف المنزل وسار قاصدا الحمام كعادته ليستحم متما روتينه ولو بدى حاله عاديا إلا أن كل حركة وكل كلمة ينطق بها ما هي بالتلقائية إنما مدروسة.
"أتناولت عندها العشاء وأنا التي انتظرك في كل مرة لم تتناوله معي؟!"
"ما كنت قادرا على رفض طلبها إذ أنها اصرت"
"لكن عندما يصل الأمر لي، فرفض طلباتي لأمر طبيعي عندك!"
"ومتى رفضت لك طلبا يا عزيزتي؟"
زفرت بيلا بضيق فها هو مع الأسف ينجح بالمراوغة تماما كما يقول الكتيب ولما وجد نيكولو فيها الغضب عاد أدراجه إليها وأخذ ذراعيها يلفها حول بدنه "ميرا" نادى اسمها بصوت ودود.
"ممم؟"
"لم تسأليني"
"عن ماذا؟"
"عن الطقس في الخارج"
"وماذا فيه؟"
"إنه بارد جدا، جدا"
"وماذا أنا بفاعلة؟"
"تعالي معي لأقص لك ما انتِ قادرة على فعله لأجلي في هذا الطقس البارد جدا، جدا"
خلصها من كتابها دون أن يبالي بعنوانه وأخذها معه، لتلحق به نحو الحمام بكل سذاجة ولما أوصد نيكولو الباب خلفه، فطنت أنها وقعت في الفخ وأي نعم رغم تبسمها وضحكها ثم صياحها في بعض المواقف، إلا أنها وقعت ضحية للنوم بينما نيكولو أي نعم تظاهر بالنوم في البداية، لكنه نهض من جوارها والتقط مرآة ميرا التي تحبها ليزلقها بخفة بين النافذة والستار.
راقب الشارع ثم وجد أخيرا ما كان يتوقعه، رجل يقف على مقربة من عامود الإنارة يدخن سيجارته ولم يتمكن نيكولو من التعرف على هيئته، بسبب وشاح الصوف والقبعة التي يضعها على رأسه.
زم نيكولو شفتيه بحزم وضيق، فمن هذا المتعجرف الذي يظن نفسه قادرا على اتباع نهج الملاحقة معه؟ لذا سار نحو باب المنزل وأوصده جيدا بالمفتاح ثم التقط سماعة الهاتف والتي كانت ثقيلة، ليدير عجلة الأرقام والرنين دوى في دار اخته صوفيا التي نهضت من نومها فزعة والتقطت سماعة الهاتف لترد بالكلمة المعتادة التي ينطقها المدنيون المتحضرون -ألو؟-
"عزيزتي، آسف لإيقاظك في هكذا وقت متأخر" حادث أخته بلين فلا يشتد خوفها "لكن تأكدي من أن تقفلي الباب جيدا الليلة، فأنا أخشى عليك"
حذرها وهي قامت باللازم لكونها معتادة ولم يلحظ نيكولو كون أحد مستيقظ غيره إلا متأخرا، لما سمع صرير الخشب يأتي من ممر غرفة نومه، ليدرك أن بيلا قد استيقظت فنادى عليها مفسدا تخفيها "ميرا"
أي نعم فزعت بيلا وتسارعت دقات قلبها، فلم تسمع في أذنيها سوى بوم بوم وبقايا من محادثته الهاتفية، عزمت على صنع وجه نعس ومضت في خطواتها كما لو أنها لم تتجسس عليه "رومان ماذا تفعل عندك؟" اقتربت منه ريثما تفرك جبينها لتقف إلى جواره وتضمه بذراعيها، ملقية رأسها على كتفه "لم اجدك بجانبي والفراش بارد بدونك، لذا نهضت للبحث عنك"
توددت إليه مدعية النعاس لتغافله وأدركت نجاحها لما سايرها وعادا للنوم، هناك فكرت بيلا وفكرت كثيرا وبطنها قد فارت من غضبها، فها هو حقا يخونها بل ويتصل بعشيقته ويوصيها أن أن تغلق الأبواب من خشيته عليها.
لذا وبحكم فورانها هي التقطت الوسادة من اسفلها وهمت بخنقه في نومه لكنها اقلعت عن فكرتها لما راودها سؤال، ألا وهو؛ لما أنا مهتمة؟
"لا أدري ما بي مهمومة هكذا بمن يهوى هذا الرجل ويحب، فليفعل ما يشاء، ليس وكأني ولهانة به بل وربما ظلمته لذا لأكف عن الوسوسة"
وفي صبيحة اليوم التالي نهضت مبكرة وشغلت المسجل، لتدب موسيقى سعيدة في أرجاء المنزل بينما تعد وجبة الغداء والتي ستذهب بها لمكان عمل زوجها، فتتناوله معه هناك كأي زوجين سعيدين بالطبع وليس كما لو أنها تحاول الامساك بتلك السحلية التي تزحف لنيكولو.
"ليس لامسك بها فانتقم، إنما لأرى من هذه التي وقع في غرامها" قالت بيلا تقنع نفسها بأنها غير مبالية إطلاقا "وإن كانت جميلة فلأزوجه بها وأتطلق أنا منه فأحصل على حريتي"
وهكذا فعلت بيلا، خرجت من البناية وفي جعبتها سلة الغداء ومن كُلف بمراقبتها فر من خلف الباب والتقط هاتفا ليتصل بسيده، يبلغه بخروج السنيورة إلا أن السيد لم يرد بحكم انشغاله وأمام باب متجر القصابة قابلت بيلا هيئة رجل هي تعرفه.
"سينورة دي كارلو!" حياها أنتونيو والذي يكون زوجا لكارلينا صاحبة الأولاد الخمسة "سعيد بالصدفة التي جمعتنا" عاينها متأملا وقد أعجب بالحمرة التي تجمعت في وجنتي بيلا وأنفها من شدة برودة الطقس، لتبدوا وديعة يافعة.
"سنيور باتشينو مرحبا بك، لم يخيل لي رؤيتك هنا فقد سمعت أنك سافرت"
"وها قد عدت من السفر، ويا سنيورة ناديني بأنتونيو فنحن الآن عائلة ولسنا بالغرباء أليس كذلك؟"
"بالطبع"
فتح أنتونيو لأجلها الباب فرن الجرس المعلق في الأعلى، تنقلت بيلا بطرفها في أرجاء المتجر تعاين هذا المكان ثم سألت "يا ترى أين هو نيكولو؟" قرأت لافتة فوق باب مكتوب عليه ممنوع الدخول لغير العمال، فهمت بالبحث عنه هناك.
"ميرا؟ إلى أين؟" سألها أنتونيو قلقا من دخولها.
"لأرى نيكولو بالطبع، لابد أنه في الداخل"
هذا الحديث قد وصل لمسامع نيكولو الذي تسمرت يده وهو محكم قبضته على السكين التي كان سينحر بها عنق ضحيته، انتقل ببصره لريكاردو ابنه وسلمه العهدة "تخلص منه حالا" ليستعجل بالظهور بوجه زوجته قبل أن تلج للداخل.
"ميرا؟!" قال فجأة وتعجل بإغلاق الباب خلفه قبل أن تأخذ لمحة لما يوجد من وحشية هناك "عزيزتي ما الذي أتى بكِ لهنا؟"
"ألا يمكنني رؤية ما في الداخل؟" سألته بفضول.
"بالطبع لا، إنه دموي بشدة ويستلزم ارتدائك ثيابا خاصة بالعمل، لا ترغبين بتلويث ثوبك ببقع دم كريهة الرائحة"
عاينت صدرية العمل خاصته وقفازه الذي كان ملطخا، فأومئت مقتنعة وعادت أدراجها وفي هذه الثواني المعدودة رمق نيكولو أنتونيو بتوعد لعدم منعها من الاقتراب "أنتونيو ما الذي أتى بك؟"
"يمكن لموضوعي الانتظار قليلا، انظر الآن لما تريده السنيورة"
"أجل ميرا، لم تقولي بعد ما سبب زيارتك الجميلة جدا هذه؟"حافظ على وجه بشوش وفي نفسه غضب بسبب هذا الوضع المشين الذي وقع به.
"أحضرت معي الغداء كي نتناوله سويا"
"ميرا لكن ليس في..." قاطع حديثه صوت صياح ابنه ريكاردو مستنجدا بوالده، فشاهد تعابير الخوف على وجه ميرا ليقول وهو محافظ على ابتسامته "اسمحا لي بتفقد حاله فلا بد أن الخروف رفسه"
استأذن نيكولو ليلج للداخل مجددا، فوجد ابنه مثبثا ضد الحائط والسكين ضد عنقه "رائع، هذا ما كان ينقصني" تمتم بضيق والتقط سكينا معلقا ليهجم ببدنه على ذاك الرجل الذي ألقى بريكاردو على والده وركض هاربا.
سقط ريكاردو على والده فاستدار به نيكولو ليلقي به أيضا وعلى الفور دفع عربة العدة لتتزحلق فتعرقل عليه فراره وهب نيكولو ليحاصره لكن الرجل امسك بالسلاسل المعلق فيها اللحم والقاها على نيكولو وبينما هو يبعدها عن طريقه ظهر له الرجل فجأة وضرب نيكولو بالكرسي مسقطا إياه ثم ركض باتجاه المخرج لتبدأ أسوء كوابيس نيكولو، فخلف الباب توجد ميرا، التي حالما سترى هذا المعذب ستتخلى عنه ولن تلقي بالا لأعذاره.
ولكي لا يفُسد زواجه السعيد، اندفع نحو الرجل الذي نزع اللفافة عن فمه أخيرا وقبل أن يهم بالصياح طالبا النجدة، دس نيكولو ذراعه بين أسنانه ولم يبالي بقسوة العضة بل كل ما كان يدور في رأسه هو قتله على الفور.
كم كانت الاصوات صاخبة في الداخل وبيلا من شدة قلقها عزمت على الدخول وأنتونيو حاول منعها فسمعهما نيكولو الذي صاح محذرا "إياكم والدخول! فالثور قد فر من رباطه!"
فزعت بيلا وأنتونيو اتخذها حجة لاخراجها من المتجر، ولما سمع نيكولو صوت الجرس يرن، استخرج ذراعه الدامية وبلمح البصر، أمسك برأس الرجل ليديره كاسرا له عنقه أخيرا. تنفس نيكولو الصعداء وانتقل بطرفه لابنه الهلع الماكث في مكانه بلا حراك، ثم ألقى نظرة على ذراعه ليجدها دامية حيث أثار أسنان ذلك الوغد.
ألقى على جرحه رقعة منشفة وخرج ليتأكد من حال زوجته، التي حالما رأت المنشفة البيضاء تصبغت بالأحمر، طار عقلها وأغشي عليها فوقعت بين ذراعي أنتونيو الذي فزع في البداية، ثم شكر الله على هذه الصدفة الجميلة، فمتى سيحضى بفرصة احتضان هذه الحسناء مجددا؟
"ريكاردو أعد والدتك للمنزل وانت يا انتونيو اتبعني للمكتب" وهكذا اجتمع الرجلان في المكتب بينما السنيور لورينزو الذي ولج للمتجر لاحقا اضطر لتنظيف المكان.
"المسكينة... لم يخيل لي أنها لا تحتمل رؤية الدم هكذا، كيف ستتمكن من حمل لقب دي كارلو فانتم دوما تسبحون بالدم"
"لا تكن سخيفا، من يسمعك يظنني أجبرها على ممارسة أعمال العائلة" رد نيكولو بينما يداوي ذراعه "والآن أرني الملف في حقيبتك"
"ما أدراك بوجود ملف فيها؟"
"في زياراتك انت لا تحمل حقيبة وطالما قد احضرت واحدة وتحتضنها بهذا الشكل فلابد من وجود شيء مهم، وما هو الشيء المهم الذي من الممكن أن تحضره لي غير ملف يحمل هوية أشخاص يريد والدك أن اصطادهم؟" اجاب نيكولو بملل من أنتونيو ضعيف الملاحظة هذا وفي نفسه أشفق على أولاده الخمسة، فالأم تنسى والأب أبله.
"أكره الإعتراف بهذا لكنك محق" استخرج أنتونيو من حقيبته ملفا وفتحه بأريحية فالستائر مغلقة والباب محكم الإيصاد. إلتقط نيكولو الصور في الملف والتي كانت لرجل وامرأة صهباء الشعر "يريد مني صيد عشيقته والسائق خاصته؟"
"إنه لسر مخزي لا يعلم به أحد من المجموعة ووالدنا وجد أن أفضل حل هو إنهاء المسألة بالسر، فلو ذاع الخبر ستكتشف زوجته أمر خيانته" انساب أنتونيو بشرح حال والد آل باتشينو العسير ولقب والد لم يكن رابطا بيولوجيا بل مجرد لقب ينطق به كل من اقسم بالولاء للسنيور باتشينو. أما أنتونيو فقد كان حالة خاصة، فهو يمتلك رابطة دم مع السنيور باتشينو ذاك لكن من طرف الأب فهو يكون جدا له.
وعن ارتباط دي كارلو بباتشينو؛ فالسبب يعود لتقاطع طرقهما بسبب ثأر دم، فدي كارلو لهم عملهم الخاص ولا يقبعون تحت مظلة اسم من اسماء العوائل الشهيرة لكن وفي إحدى الليالي البائسة، قتلت فتاة من فتيات دي كارلو بطريقة وحشية وأتت والدتها تحمل جثتها راكعة، أمام قدمي السنيور دي كارلو الكبير، تزجره وتوبخه لعدم توفير الحماية اللازمة للعائلة.
والجريمة هذه جعلت من دم السنيور دي كارلو يفور، فقد تجاوز المجرم حدود القتل وتعدى عليها قبل قتلها وبعد قتلها، فأمر ابنه نيكولو بتتبع أثره لكن غضب الأم لم يهدأ فاستنجدت بالكثير ممن يحمل اسم دي كارلو وهكذا قد مات من العائلتين الكثير مما أجبر كبيرا العائلة على اللقاء وحقن الدماء بالخيار التقليدي، ألا وهو تزويج الطرفين فسقط الاختيار على كارلينا وكارولينا...
"من طلبه هذا افترض أن جدك لم يعد غاضبا مني؟"
"تسأل بسبب ما حل بالابن جوليان ترنتينو؟"
"بالطبع، فهو يظن أن لي يدا بموته"
"لم ينطق بحرف حيال هذا الأمر لذا أظنه قد اكتشف الحقيقة"
"لا تعطني ظنونا بل أعطني حقائق يا أنتونيو، ألم أبلغك أن تجس نبضه خلال مدة سفري؟ لما سافرتُ إذا أليس لأبتعد عن أنظاره مدة من الزمن؟"
"ألم تسافر للقاء عشيقتك ميرا إذا؟" سأل أنتونيو بمكر ليستشف عن حاله وزوجه إن كان يربطهما شيء قبل الزواج.
"لقد سافرت بحجة الذهاب وزيارة قبر الملعون ذاك باسم الصداقة التي جمعتنا فلا يشك بأمري"
"إذا انت لم تقتله حقا؟"
"لم أفعل فأنا لا أقتل إلا بطلب، ولو أتاني طلب من عائلة أخرى بقتله لكنت قابلت السنيور باتشينو أولا وأريته الوثيقة ثم أجعله يوقع على معاهدة تقر بأنه موافق على تصرفي ولن يتدخل بأي شكل من الأشكال في عملي. فعملي محمي بالمعاهدات والمواثيق ولا أقتل كيفما أشاء. هل تظنني همجيا أم ماذا؟"
"حشاك" حمحم أنتونيو متعذرا ثم حكى له ما يحتاجه وباسم السلطة المعطاة إليه قد وقع ثم أرسل نيكولو الوثيقة معه ليجعل جده يوقع عليها مقرا بأنه هو من تقدم بهذا الطلب ويقر بتقديم المساعدة والحماية اللازمة وعدم اعتراض طريقه.
فانتهى يوم نيكولو لكنه لم يكن مريحا، إذ قام بعقاب ريكاردو على فشله في مهمته وبعد أن أدبه جسديا، أمر فيتو بنقل حقائب ريكو من منزل عماته ليمكث عند السنيور لورينزو وهذا الإجراء اتخذه نيكولو، لحرمان ابنه من دلال عماته، اللاتي أفسدنه فبات جلده وهنا لا يقدر على القتل ببساطة.
لكن هل تحسن مزاج نيكولو؟ بالطبع لا فهو ظل الليل بطوله صاحيا لا يقدر على النوم وهو يفكر إن كان قد قسى على ابنه أم لا، إذ ترك في وجه ريكاردو ومواضع من بدنه أثرا سيتبدل للأرجواني مع مرور الوقت. تقلب نيكولو ولما ضاق ذرعا نهض من فراشه ودق باب السنيور لورينزو الذي فتح له ليستقبله "سنيور دي كارلو؟ تفضل"
"هل هو مستيقظ؟"
"لم يتوقف عن التذمر ابدا"
ولج نيكولو لغرفة الجلوس حيث ابنه على الأريكة مستلقي وقد ولاه ظهره، فقبل مجيئ والده ظل يشتمه على قسوته.
"ريكاردو" نادى نيكولو عليه.
تمنى ريكاردو الموت حينها، فالموت أهون من أن يكون ولدا لهذا الكيان الذي يسميه بالوحش ولولا خوفه لما أطاعه، فنهض كاشفا عن وجهه المتورم من التأديب. جلس ريكاردو مطأطأ رأسه ولما سمع خطوات أبيه تقترب انتفض فزعا ظنا أنه سيكمل حيث توقف، لكن نيكولو جر كرسيا وطلب من فيتو أن يجلب له ثلجا ومرهما تستعمله السنيورة كانتارا.
"تحرك" نبه لورينزو ابنه كي يستعجل فجلب فيتو لنيكولو ثلجا
"ارفع رأسك"
رفض ريكاردو رفع رأسه لكن نيكولو كرر طلبه بحزم، فاضطر لرفع وجهه دون النظر إليه، امتدت يد نيكولو ليلمس عنق ابنه وباليد الثانية مرر الثلج على مواضع الورم كي تهدأ. عاين نيكولو لوحته التي رسمها بفرشاة باطشة وفي قرارة نفسه كم كان نادما، فأي نعم هو أراد تأديب ابنه، لكن طيف والده مر حينها أمام بصره وطبق لا إراديا ما تعلمه منه، بأن يبرحه ضربا حتى يحكم ريكاردو عقله.
ولورينزو لم تكن هذه المرة الأولى التي يشهد فيها تأديب الأب لابنه، ففي كل لطمة لطمها نيكولو لريكاردو، رأى لورينزو فيه السنيور الكبير، الذي لم يكن يتقاعص عن تأديب غلامه الذي اشتراه من الميتم. فذلك اليتيم، قد تجرأ في إحدى المرات على رفض ما أمر به وأعرض عن القتل، ففرت الضحية واختفت...
ليقف نيكولو حينها مكتوف اليدين أمام بطش سيده، الذي لطمه حتى أزهق الشفقة تجاه خلق الرب في فؤاده، فبات يرى هذه المهنة ليست اختيارا كباقي المهن، إنما سبيله الوحيد للبقاء على قيد الحياة وهذا ما أراد من ريكاردو أن يفهمه. أن مهنته التي سيرثها قريبا ليست خيارا وإنما هي حياته ومهنته التي ستلازمه حتى يلج للقبر إما ميتا وإما مقتولا.
أراد نيكولو محادثة ابنه لكن الكلمات لم تكن لتشفع له والحقد في عيني ريكاردو كان ردا كافيا لجعله يلتزم الصمت، فداواه ثم تمنى لهم ليلة سعيدة وغادر عائدا لداره.
"وحش! بل إنه شيطان! وأنا الملعون الذي كُتب علي أن أكون ابنا له!" صاح ريكاردو مهتاجا فبعد أن ضربه والده حتى كاد يغشى عليه، ها هو يأتي في الليل ليرى ما تفنن في صنعه.
"يا ليتها تعلم! يا ليت الحكومة تعلم بأمره! عسى ولعل أن يقوموا بإعدامه فقد سئمت منه ومن هذا الاسم الذي احمله! يا لتيني كنت مجرد غائط وليس ابنا لهذا المسخ المريض!"
"صهه! أقلع عما تقول يا ريكاردو" زجره لورينزو فلا يسترسل بشتم والده "إن السنيور يريد مصلحتك"
"ومصلحتي تكمن بتشويه وجهي؟!"
"بل كي لا تعرض نفسك للخطر مجددا. أن يعنفك ويكسر عظامك بنفسه أهون على السنيور من رؤية احدهم وهو يقتلك"
"رباه! شكرا يا سنيور لورينزو شكرا جزيلا، ذكره أن يكسر عنقي في المرة المقبلة ويتركني مشلولا"
"ما كان ليفعلها بك أبدا، فانت ابنه وهو يخشى عليك كما يخشى على عائلته"
"فليخشى علينا من نفسه إذا إن كان بهذه الحكمة....آخ! لو لم يكن موجودا لكنت الآن أعيش عيشة مختلفة مع عماتي وأمي... سحقا لجدي الذي تبنى لقيطا ملعونا مثله"
"إن استمررت بهذا الحديث فأنا من سأكسر لك عنقك والآن نم يا ولد وكف عن الولولة، ماذا تركت للنساء؟ ولد مدلل. تتصرف كما لو أنك أول من ضرب في هذا الدنيا من قبل والده، ليرحم الله السنيور الكبير، كان يكسر العصاة على ظهر ابنه والولد صامت لا ينطق بشيء" تمتم لورينزو بضجر من صخب ريكاردو وول ذاهبا لغرفته فيحضى بقسط من النوم.
"وماذا كنت انتظر، ذاك الجلاد وهذا مساعده" زفر ريكاردو وجلس فيتو إلى جواره وفي جعبته زجاجة من الشراب "اشرب يا ولد واجعل الليلة تمضي فنحن سنراه غدا كما نفعل دوما"
"يا فيتو للناس كلهم وجهان، إلا أبي له ثلاثة أوجه! وجه لزوجته البلهاء، وجه للعامة من الناس ووجه لا يعرفه سواي أنا وضحاياه" احكم على يده في قبضة وضرب الوسادة جانبه "يا ليتها تكتشف أمره! لكن لا! فكيف لها معرفة حقيقته القبيحة وهو يدخل عليها كل يوم بوجه وخلق لين كما لو أنه سفير النوايا الحسنة!"
"كم أبغضه... آخ كم أبغضه وأتمنى لو يموت!" التقم ريكاردو بفمه زجاجة الشراب وأفرغ محتواها في جوفه عسى ولعل أن يخمد غضبه لكنه لم يتمكن من ذلك ففي الظهيرة استيقظ على طرق شديد على الباب فنهض مترنحا من شدة الألم في رأسه وفتح الباب "من؟"
"ما هذا الحال المزري يا ولد؟"
فتح ريكاردو عينيه لما أدرك أنه والده واحتفظ بالصمت، ليس احتراما بل لأنه عزم على مخاصمته ولن يكلمه بعد الآن "اسمع جيدا، تركت المتجر في عهدة لورينزو فسأذهب اليوم لرؤيتها لذا أريد منك البقاء مع والدتك فلا تشك هل فهمت؟"
تذمر ريكاردو بقهر لما وجد والده مصرا ينتظر منه ردا فأجاب باختصار "حاضر سأجالس زوجتك الصغيرة"
أراد نيكولو الرد وتأديبه لكنه أقلع عن هذا ووضع القبعة على رأسه، مغادرا البناية ومن بعده اوصد ريكاردو الباب وعوضا عن الانتباه لزوجة والده، هو قرر النوم مجددا فتلك المرأة المملة، بالتأكيد ستبقى طوال اليوم في المنزل تنتظر قدوم زوجها المصون.
لكن ظن ريكاردو لم يكن في محله فتلك الزوجة بيلا لم تكن في دارها بل أطلت برأسها من خلف الزقاق، تراقب نيكولو بعد أن قررت اليوم ملاحقته حتى تصل لعيشقته السرية.
"خالتي ميرا، هل نحن نراقب خالي؟" سألت فاليريا بشك ودست يديها في جيب معطفها لتحافض على نفسها من البرد.
"لا، على الإطلاق"
"إذا ما الذي نقوم بفعله؟" سأل دانيلو بضجر.
"لا.. نحن فقط نتسكع دون علم خالكما"
حملق بها الشابان بريبة وبحكم خوف فاليريا على بيلا هي قررت مسايرتها وعن دانيلو فقد لحق بهما فقط كي لا يضطر للذهاب للعمل اليوم.
وهذا ما حدث مشى الثلاثة على بعد مسافة من نيكولو الذي تمشى بطبيعية وحيا من حياه ثم نادى على سيارة أجرة ليستقلها ففعلت بيلا المثل واستقلت سيارة أجرة معهما.
وكم كانت بيلا ساذجة لظنها أن لا أحد سيكشف أمر خروجها من المنزل إذ أن بيانكا قد لمحتهم من خلف زجاج البقال حيث تتبضع واستعجلت تهم باللحاق بهم لكن البائع الشاب استوقفها قائلا "سنيورة دي كارلو من فضلك انتظري قبل أن انسى"
انحنى الولد ليستخرج كيسا وسلمه لها "لقد اتت اليوم شابة وسلمتني هذه الأمانة قائلة أن اوصلها لكِ سنيورة"
"ما اسمها؟"
"انها حفيدة الجدة ماريا"
همهمت بيانكا واخذت الكيس مع باقي المشتريات وبينما هي تسير قررت فتحه لتجد فيه بسكويتا من عجينة الوافل وفي غلافه وجدت اسم العلامة التجارية وقلبته فاسقطت ما في جعبتها من مشتريات من هول ما قرأت.
نادى عليها البائع قلقا وخرج لجمع ما اسقطت، لكن بيانكا لم تسمع ولم تعي ما حولها فكل ما كانت تسمعه حينها هو صوت نبضات قلبها بينما تكرر العبارة التي تقول؛
-أما افتقدتني؟-

.png)
اكثر فصل ضحكت إلى ما دمعت عيوني أتكلم عن الضحيه الي صارت ثور ولا بيلا وهي تحسبه يخونها😭، ريكاردو ينرحم+ نهاية الفصل تحمس✨✨
ردحذف