illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد؛ الفصل الثالث والعشرون



"بيرل!"

"بيرل!"


نادى هايدن بعلو صوته لاهثا يبحث عنها وما أثار غضبه هو المصباح الذي لم يكن قادرا على إنارة ما يكفي من الطريق أمامه فيعثر عليها "بيرل!" 


وهذه المرة، كانت مختلفة إذ بحث هايدن عنها بفؤاد يرتعش خوفا عليها وخطوات عازمة عكس المرة السابقة التي تم طرده للمنزل واجبر على البحث عنها مكرها "بيرل اجيبيني!" 


دفع الشجيرات عن طريقه ولم يبالي بالأغصان التي خدشت جلد وجهه لما مر من جانبها. توقف هايدن يلفظ أنفاسه منهكا وتلفت حوله، بحثا عن طريق قد يدله عليها فسمع صوت خطوات تركض مبتعدة.


فاتخذها هايدن بصيص أمل ولحق بذلك الذي يجري حتى وصل لنقطة لمح فيها نور مصباح زيتي في الاتجاه المعاكس، فقرر هايدن الذهاب نحو مصدر الضوء في الغابة.


"ب.. بيرل؟" اهتز صوت وعقد لسانه لما رأى المصباح ملقيا  وشعرها مبعثر على  العشب وظهرها كان ممدا على الأرض ينتفض وثوبها الأصفر الذي تعشقه، قد تفشى فيه لون داكن محمر هو فطن معناه. 


شعر هايدن بحرارة بدنه قد انعدمت وتقدم نحوها بخطى وهنة، سقط جاثيا على ركبتيه جانبها وقال "بيرل؟" همس باسمها وامتدت يده ليلمس كتفها وعقله لم يكن مستعدا لتفسير معنى هذا الدم.


انتفض لما تحرك رأس بيرل وأدارته باتجاهه ليرى جانب وجهها وشعرها ملطخا بالدم ومن عينيها كانت الدموع تنهمر بلا توقف. 


اهتزت شفتاها التي اطبقت عليها باحكام وهي ترى هذا الغريب الذي أتى لقريتهم منتحلا هوية من احبت قد كان أول الواصلين إليها لما اعتازت احدا ومن خلفه هي لم ترى والدتها أو أيا من اصحابها.


قطبت حاجبيها بقهر وكشفت عن صف أسنانها، ليس لصنع بسمة بل لتجهش بالبكاء واعتدلت بظهرها لتريه هول مصيبتها.


هبط هايدن ببصره لما يوجد أسفلها وسقط قلبه في اخمص اصبعه حالما رأى شعر كلبها الذهبي لم يعد ذهبيا إنما مشوها باللون الأحمر وقوائمه تهتز بارتجاف. أي نعم هايدن لم يكن محبا لكل ما هو مشعر ويسير على أربعة قوائم لكن عيناه أغرقت بالدموع متأثرا بدموع بيرل وهو يسمع أنين الكلب.


"أنقذه" همست بوهن ثم صاحت به تترجاه "أرجوك أنقذه! إني لا أقوى على فراقه!" 


اعتصرت على كتفه تهزه من معطفه، تستحلفه أن ينقذ كلبها ذهبي. اقترب هايدن منه بحيرة من هول صدمته ودفع بيده الشعر فوجده العديد من الطعنات قد مزقت جلده في مواضع كثيرة. 


فرق هايدن بين شفتيه مصدوما بما يرى وبيرل إلى جواره تتوسل كلبها أن يتشبث بهذه الدنيا ولا يتركها لكن كلبها قدر رفع بصره إليها وقطب حاجبيه من ألمه مصدرا أنينا قد طعن قلبها بنفس عدد المرات التي مُزقَ جلدُ كلبها فيها.


عانقت رأسه وضمت بدنه إلى حضنها لتتمايل به للأمام والخلف كأم تهز ابنها فيخف عليه الوجع فجسده كانت الروح تنزع منه ومع كل نزعة اختض بدنه وسالت الدماء من أنفه.


تقلصت بطن ذهبي وانتفض ثم فر عويل متألم، لهث أنفاسه بتسارع بعدها ثم عاود العويل وتكرر الأمر بضع مرات وفي كل مرة كانت اطرافه تنتفض. شاهداه بعجز لا يسعهما فعل شيء وهايدن أشاح بصره غير قادر على مشاهدة المزيد، وفي المرة الأخيرة قد هرب عويل متألم من فمه ثم ركد بلا حراك ورأسه تدلى بين ذراعيها.


"ذهبي؟" همست بيرل لما وجدته لينا تحت يدها كاللعبة فنظرت لعينيه لتجدها شاخصة لا روح فيها ومن فمه فر نفسه الأخير.


"بيرل" لفظ هايدن اسمها بشفقة على حالها وجرها من كتفها، ليضمها إليه وكلبها ذهبي ماكث بينهما داخل ذراعيها، لم يعرف بما يواسيها ولم يعرف ماذا يفعل بعد هذا سوى الاستمرار في ضمها لكن بيرل اخاتفه لما همست قائلة "ماركو؟" خشي هايدن من كونها فقدت صوابها وباتت تهلوس.


"بيرل، تماسكِ" فصل هايدن العناق فوجدها كالمبهورة تحدق خلفه كما لو أنه هناك شخص ثالث في هذه الغابة غيرهما ، التفت هايدن خلفه وصعق من رؤيته رجلا واقفا على مقربة منهما تكسوه ملابس نظيفة وتفوح من بدنه رائحة زكية.


كان شابا حسن الوجه ذو لفائف بلون القمح وقت الحصاد وزوج عين خضراء اللون تبث الراحة لصدر من يراه.


كل شيء فيه كان مثاليا للدرجة التي تبث الرعب وكيف لا يخشاه وبدن من تدعوه بيرل بماركو يتوهج وبريق لامع ذهبي اللون يتساقط منه.


تقدم المدعو ماركو نحوهما ومع كل خطوة يخطوها توهجه كان يخفت، تملك الرعب هايدن ومن شدة خوفه على بيرل اخفاها خلف ظهره، لكن ماركو استقر واقفا أمامهما ومد يده لتطول وجنة بيرل الملطخة "توقف عندك، ماذا تظن نفسك فاعلا!" دفع هايدن ذراع الشخص فصعق من رؤية يده تخترقه كما لو أنه لم يوجد لحم ولا عظم للشعور به.


اصيب هايدن بالشيب من شدة الجزع  وبيرل لم تشعر بحرارة لمسة أخيها، لم تشعر لا بجلد ولا لحم، لم تشعر بشيء سوى برودة اشبه ببرودة نسيم الخريف، تلاطف وجنتها الملوثة بدم كلب يابس. 


راقبت شفتي شقيقتها التي تبسمت لأجلها وخيل لها أنها سمعت صوته يبوح داخل رأسها عن اشتياقه لها.


لكن اللحظات الجميلة لا تدوم، إذ هب نسيم من الشمال وضرب بدن ماركو الذي انتثر فجأة وسبح البريق المتلئلئ في الهواء ليغادر مع الريح ويتلاشى مودعا إياها.


حدقت بيرل بهايدن ومن هول صدمتها دموعها قد جفت أما هايدن فمن هول صدمته لم يعد لسانه قادرا على الحديث وما كان بينهما هو جثة كلبها ذهبي الهامدة.


قطبت حاجبيها بأسى فكم كان هايدن يشبه شقيقها وهايدن بنفسه لم يصدق الشبه بينهما إلا بعد رؤيته ماركو، لمح هايدن يدا بيرل ترتفع مناجية له أن يأخذها ولم يدعها تنتظر، إذ عاود سحبها إليه وضمها بقوة، ليس لأجل مواساتها فحسب بل لمواساة عقله وردع نفسه عن السماح لذاته بأن يفقد صوابه.


فالشعور بعظمها ولحمها أعطاه الأمان بأنه ليس وحيدا فلو كان شهد على هذا وحده لأصيب بالجنون ولبات يجوب الشوارع بنصف عقل..


تلك الليلة البائسة لم تفارق ذهن هايدن، الذي ظل حائرا في أمرها ومشفقا على بيرل التي اعتزلت الطعام والشراب وجميع ساكني منزل آل باومن.


لكن حدادها لم تسمح له جوان أن يدوم لأكثر من ثلاثة أيام وفي يومها الرابع، دخلت علي غرفتها فجرا وأمرتها أن تخرج لتجلب علفا للأغنام ودلوي حليب، كي تقدمه لوالدتها هذا الصابح ففطور ميلينا لا يكتمل إلا بكوب حليب.


استيقظ هايدن من نومه وكم كان مزاجه عكرا فلم يعد قادرا على النوم قرير العين بسبب كم الكوابيس التي تراوده كلما أغمض عينيه فبات غير قادر على النوم ساعة إلا واستيقظ فزعا مرتين. شطف وجهه وحملق بالمرآة يعاين وجهه الشاحب وقد نمى شعر ذقنه ليزيد من بؤس وجهه اضعافا مضاعفة.


"ها قد استيقظت أخيرا، أخبرني هل وجدت شيئا مهما في مذكرات ماركو ذاك؟"


أنزل هايدن بصره للأسفل فوجد الهرة غريتا واقفة إلى جوار قدمه وذيلها ملتف حول ساقه ترحب به. اصابته القشعريرة بسبب كرهه للحيوانات واستأذنها ألا تقترب منه مسافة متر واحد.


"لم أجد، كل ما وجدته فيها هي تفاصيل مملة في حياته، يحكي عن عائلته وفي بعض المواقف يحكي عن المناسبات التي حضرها في القرية"


"عجيب وأين وصلت؟"

"لم أًصل للصف بعد فمذكراته ذات صفحات عديدة وبين كل صفحة وأخرى تسقط أما صورة المرأة التي احب أو مراسلاته السرية معها. إني قادر على انهائه لكن ما يمنعني هي المهام الملقاة على كاهلي. فتلك البغيضة جوان لا تترك لي الفرصة للراحة"


تنهد بقلة حيلة واستخرج من جيب بنطاله صورة قد جمعت بيرل بشقيقها في برلين. تأمل هايدن وجه بيرل اليافع، فكما يذكر من التفاصيل التي ذكرها دوريان سابقا، كانت  بيرل تبلغ من العمر تسعة عشر عاما لما سافرت لأول مرة وتبسم دون أن يشعر. 


فهذه الصورة حصل عليها في أول صفحة من مذكرات ماركو. ولم يحتاج هايدن لمفسر كي يفهم الحب الجم الذي كان يكنه ماركو لشقيقته، فقد تأكد من تدوين يوم ولادتها والمآسي التي مروا بها، حتى تفضلت ميلينا عليهم أخيرا وانقذت بيرل من بطش والديها.


والعجيب أن ميلينا لم تكن صاحبة فكرة تبني بيرل وضمها لآل باومن، بل ماركو من عرض عليها الفكرة قائلا أن تربي اخته كي تقر عينها على فراق ابنها وبالمرة تستعين بها لتخدمها عندما تكبر وتكون عونا لها.


"غريتا" نطق هايدن باسم الهرة ليجذب اهتمامها.

"نعم؟"


"ما بكِ تساعديني انت واصدقائك الحيوانات؟ ما دوافعك؟ فأنا لا أجد لها تفسيرا مهما فكرت" سألها هايدن واستذكر حالها الذي ارتعب عندما سمعت بطيف ماركو الميت الذي إلتقيا به لما حان أجل الكلب ذهبي.


التزمت غريتا الصمت لبرهة متأملة الفراغ أمامها فهذا السؤال هي لم تجد له جوابا مهما فكرت به ثم رفعت بصرها إليه وقالت "أظن أنه، لشعوري بشيء غريب يحدث بنا وبمن حولنا"


"فليس جميع الحيوانات هنا ناطقة ولأصدقك القول، أنا لا أذكر الوقت الذي قضيته قبل أن انطق كلمتي الأولى... كما لو أن هناك جزءا من حياتي مفقود" هزت رأسها بحيرة.


"كما لو أنني عشت لما يزيد عن الثلاثين عاما لكن عاجزة عن تذكرها"


"إن هذه كلمات مؤثرة من هرة برتقالية" سخر هايدن لكنه فزع من أسنانها تعضه بخفة فقفز من مكانه.


"إني جادة في حديثي وإن كنت مهتما، فجميعنا نحمل شعورا غريبا وهو أن هناك شيئا كبيرا داخل صدرنا ولكنه وبشكل غريب مقيد... كالسجين ربما.. هل تفهمني"


هز هايدن رأسه نافيا واستأذنها أن ينزل فلديه عمل يتوجب عليه الذهاب إليه وقبل مغادرته هو نزل السلالم فشعر بهالة من الغم تأتي من المطبخ.


فميلينا كالمهمومة ترتدي جزمتها وجوان تصيح بها أن تبقى كي تتناول افطارها فالحليب لم يتبقى له الكثير ويسخن.


"قلت لكِ أني لن أدس لقمة في فمي! سأّذهب للقاء الحكيم حالا"

"أمي دعكِ من هذا ولا تلحي عليه فيغضب علينا!"


"وأنا لا أبالي فحفيدي أهم عندي من غضبه ومن خططه! لقد وعدني وعدا وأخلفه بل وعاد في كلامه، فكيف لي أن أدعه مرتاحا يتجول في حديقته، بينما أنا هنا جالسة وقلبي يحترق على ما تبقى لي من ولدي"


تجادلتا وهايدن انصت لما يدور بينهما لكنه فزع لما لمح ابن جوان واقفا في نهاية الممر يشاهده. تذكر قول غريتا بأن ابن جوان هو من ينقل الأخبار فرسم ابتسامة له مدعيا بأن شيئا لم يحدث وولج للمطبخ عليهما.


"صباح الخير"


توقفتا عن الصياح وتبادلتا النظرات فيما بينهما، تبسمت ميلينا بود حالما رأت حفيدها وحييته "صباح الخير يا بني، هيا تعال لتتناول طعامك فتذهب للعمل"


"ماذا عنك؟"

"أنا لدي عمل مهم ولن اشارككم الطعام"

"حسنا... أين هي بيرل؟"


راقب تغير تعابير ميلينا لآخر متهكمة وقالت بلا نفس "في المزرعة تضع العلف للغنم"


"ماذا؟ الفتاة حزينة فلما عليها العمل؟!"

"وهل على الغنم أن يموت كما مات كلبها؟" قالت جوان "حياتنا ورزقنا أهم من حزنها"


"يا مدام، الفتاة علتها ليست فقط في حزنها بل في كتفها المصاب، أما رأيتي الرصاصة التي انتزعتها قبل ثلاثة أيام؟! ثم ما هذا الهدوء الذي تحتفظان به رغم معرفتكما بأن هناك من حاول انهاء حياة ابنتكما!"


"اخبرتك سابقا أنه بالتأكيد كان مجرد اصابة خاطئة فلا تجعل من الهفوة مصيبة"


"وهل الاصابة بطلق ناري أمر يستحق هذا الكم من اللامبالاة؟!" 


"دوريان!"


"دوريان ماذا يا مدام؟! هل كنتِ ستظهرين نفس التعابير هذه لو كان المصاب هو ابنك!" ثم التفت لميلينا وقال "أو المصاب كان حفيدك!"


"إياك والتلفظ بهكذا ألفاظ! أفضل الموت على أن يصيبك شر يا بُني!" اجابته ميلينا غير قادرة على تخيل حفيدها مصابا.


"إذا ما بها بيرل قد ألبستماها دور البطة القبيحة؟!"


"هايدن كف عن الجدال!" وبخته ميلينا ثم أوصته ألا يتأخر عن عمله وغادرت هي المنزل ومن بعدها ولجت بيرل مع وجهها الشاحب.


"أمي ه.."

"ليس الآن فلدي عمل مستعجل" اجابتها باختصار وتجاوزتها. استنكرت بيرل حال أمها القاسي معها وتنهدت، فمنذ القرار الذي أنزله الحكيم بحق سير هايدن والمرأة العجوز لم تعد تعيرها اهتماما، بل وتعاملها كما لو أنها هي من أنزلت ذلك الحكم بحق حفيدها.


ولجت بيرل للمطبخ حيث العداوة كانت بادية، بينه وبين مدام جوان "اختي، لا أشعر أني بخير لذا سأقوم بتأجيل عملي في الحديقة وأعود لغرفتي" ابلغت بيرل جوان وهمت بالرحيل لكن جوان صاحت عليها كي تكف عن التكاسل وتنجز ما عليها من أعمال فقد تراكمت بالفعل بسبب حدادها السخيف على كلبها.


"ماذا سنأكل إن أعرضتِ عن العمل! كله بسبب أمي! أطعمت الخنزير فبات يظن نفسه سيداً علينا، يرغب بالطعام والشراب دون عمل! ألا ترين الشتاء قد اقترب ولا نملك ما يكفي من الحطب؟!"


"أقول لكِ لا طاقة لي بالعمل!" صاحت بيرل بوجه من مِن المفترض أن تكون اختها "أوف! سئمت من الغنم ومن هذا المنزل ومن تلك الحديقة التي اعمل فيها بلا توقف ليل نهار! ألا تفهمين؟!" صاحت ودفعت جوان من كتفها لتمرر المدام السكين على جلد اصبعها بينما تقطع الجبن فصرخت جوان متألمة ومن شدة غيضها لطمت بيرل بالمغرفة التي كانت مستقرة في قدر الحليب.


اتسعت عينا هايدن واسرع ليرى حال بيرل، دفع عن وجهها شعرها ليجد وجنتها محمرة ومن خلفه جوان صاحت بها وشتمتها بلا توقف ولم تنسى تذكيرها بأنها مجرد فتاة والدتها اشفقت عليها، فعليها أن تقبل يدها وتلعق حذاءها شكرا وامتنانا.


"ولا تخدعي نفسك بظنك أن لك مكانا عند أمي فالغائب قد عاد وهي باتت قادرة على استبدالك إن تطلب الأمر" اخبرتها جوان بينما تعتصر على اصبعها المجروح الذي كان الدم يتدفق منه.


حدق هايدن بجوان لا يفهم حرفا مما تقول وقد ضاق هو الآخر ذرعا من ثرثرتها فجادلها وبيرل أبقاها خلف ظهره، فهي من هول ما سمعت ما عادت قادرة على الرد.


أخذ هايدن بيرل معه ولما اعترضت جوان على قراره بأن عليها التنظيف رد عليها قائلا "فليحترق المنزل هذا بما فيه!" 


ترك الباب خلفه مفتوحا وغادر معها المنزل حاملا معطفها كي يلبسها إياه. رفعت بيرل بصرها لهايدن محدقة به، فالمحزن المضحك هو أن هذا الحفيد الذي تهواه ميلينا ميت تحت التراب ومن يقف أمامها ليس سوى غريب قد انتحل شخصيته.


كم احست بيرل حينها بالغيرة، فالحب الذي ناضلت هي للحصول عليه واكتسبته بعرق جبينها قد خسرته بغمضة عين بسبب ذلك الحفيد الذي يشارك أسرتها الدم.


"سير هايدن" نطقت باسمه كي تجذب اهتمامه فالتفت إليها قلقا.

"ماذا بكِ بيرل؟ هل هناك ما يؤلمك؟" امتدت اصابعه لوجنتها التي لازالت محمرة من أثر المغرفة وتمنى لو منع تلك المدام المجنونة حينها قبل أن تقدم على فعلتها هذه.


هزت رأسها نافية ثم قالت "إن كنت ذاهبا للعمل فلا استطيع مرافقتك فإني حقا متعبة، دعني أذهب للمكوث عند جورجينا فهي معتادة على استقبالي كلما تعكر الجو بيني وبين اختي جوان"


"بعد كل ما حدث ولازلت تنادين تلك الشمطاء بأختي؟!" زفر بضيق وهز رأسه "بل تعالي معي إلى حيث أعمل"


"هايدن" لفظت اسمه "إني متعبة ولا طاقة لي بفعلٍ سوى الاستلقاء"


"إن كانت المعضلة هذه فبإمكانك الراحة على الأريكة في المكتب حيث أعمل" لم يدع هايدن لها سببا آخر لترفض المجيء معه. وكما وعدها هايدن وجدت بيرل تلك الأريكة لتستلقي عليها وأما عن قلقها من أن يلج أحد وهي غافية طلب هايدن لأجلها غطاء وكي لا تبرد وضع فوق الغطاء معطفها.


"أفضل؟" سألها فأومت له بنعم.

"حسنا إذا، إني ذاهب الآن ولن أطيل الغياب"


غادر هايدن المكتب واغلق الباب خلفه لكن مع شيء اضافي ألا وهو إدارة المفتاح في القفل ليقفل عليها المكتب. دس المفتاح في جيبه وغادر ليمر على العمال في البساتين وسبب إقفاله الباب هو وجود احتمالين في رأسه.


إما أن مجهول الهوية ذاك اطلق النار عليها عن طريق الخطأ حقا وهذا الاحتمال كان ضعيفا لا يميل إليه وما يميل إليه، هو احتمال أن الدور سيحل على بيرل وسيشطب اسمها قريبا.


فلو كان الذي اطلق النار عليها مخطأ ما باله قد ألح بطعن كلبها مرات عدة لدرجة أن شق جلده ثم فر هاربا؟ 


وما جعل هايدن يوقن أن الدور آتي بيرل، هو الرصاصة التي استخرجها من كتفها ومن بدن الكلب ذهبي، إذ كانت من الذهب ومحفور عليها نفس الإسم الذي كان محفورا على الرصاصة التي استخرجها من جثة ابنة عائلة هوفمن..


تنهد هايدن بقلة حيلة فبيرل مهما سألها هي لم تملك اجابة واضحة لعدم تذكرها ما حل في تلك الليلة وهو لم يكن شجاعا بما فيه الكفاية ليخبرها أن هناك من حاول قتلها.


وبما أن محاولة القتل تلك باءت بالفشل فستتكرر بالتأكيد وهايدن هذه المرة كان عازما على إيجاد الفاعل. لذا هو جمع أخبارا من العمال بحجة الدردشة والفضول البريئ لكنه لم يجني شيئا من أفواههم سوى مهمة اضافية ألا وهي الذهاب لأخذ العلف من دار آل غلور.


وفي طريقه لمح مدام ميلينا خارجة من منزل الحكيم ووجهها غضبان فتذكر أمر نقاشها الحاد مع ابنتها هذا الصباح بخصوص سلامته وهو لم يفهم ما هذا الشيء الذي سيهدد سلامته.


هل ربما سيحين دوره؟


قصد هايدن مع بعض من العمال دار آل غلور لجمع العلف منهم وهناك هو سأل عن  نيليو، شقيق بيرل الأكبر، إذ لم يخرج هذا النهار لاستقبالهم كعادته، فقال لهم ابنه الصغير أن والده اصابه السقم بسبب جرح في ذراعه. عرض هايدن رؤيته لكن زوجة نيليو رفضت وأرسلت ابنها ليكمل عمله ويكف عن تضيع الوقت. 


لمح هايدن أفرادا جددا من عائلة آل غلور يرتدون ثيابا نظيفة كثياب أهل المدينة وعلم من العمال معه أنهم أفراد العائلة قد عادوا من سفرهم. بل وأكرموه بالمزيد من الأخبار قائلين أن كثيرا من المسافرين الذين غادروا القرية منذ سنين طويلة قد عادوا كما عاد دوريان..


استنكر هايدن هذا الوضع المريب ولما فرغوا من أعمالهم عادوا لأرض هوفمن كي يكملوا هناك وفي ساعات العمل الأخيرة ولج هايدن لمكتبه فوجد بيرل لازالت نائمة  ومعطفها مع الغطاء قد انزلقا من عليها بسبب حركتها.


عاود هايدن تغطيتها جيدا وقرر قراءة المذكرات على مقربة منها، مستغلا كل لحظة من الممكن أن تجمعهما، كما لو أنها ستفترق عنه قريبا. فجلس هايدن إلى جوار الأريكة أرضا واعتكف على اتمام ما بيده.


فقرأ عما دونه ماركو عن نظام الأسرة في القرية، بأن لكل رمز أسرة ولكل أسرة سيد ولكل سيد عين تحفظ لأجله النظام وتطلعه على ما يدور في الغرف المقفلة.


فالرموز كانت حيوانات، ولآل غلور كانت جمجمة الكلب المعلقة في الحضيرة هي رمزهم. ظن هايدن أن ماركو سيحضى بدور العين المراقبة بسبب البساط الأحمر الذي بسطه والده لأجله، إذ حرص على تعليمه الكثير عكس بقية اخوته، إلا أنه لم يفعل بل حصل على دور أهم من المراقبة، ألا وهو خلافة أبيه.


ولأجل هذا، قد جلس أمام الحكيم في تلك الحجرة السرية وحفظ الكتاب الذي كتبه الحكيم، ولما أتم حفظه بعد عام كامل بات يتعلم عن تلك اللفائف التي تحمل أسماء ساكني القرية ففيها أعمارهم وفيها أقدارهم -كما يدعي-


وكلما اجتاز دوريان اختبارا قضاه له الحكيم، حصل على المزيد من العلم والمزيد من الاختبارات. ذكر دوريان أول اختبارين فحسب، أولهما كان تمرير حصة من أموال آل هوفمن من تحت الطاولة، دون علم كبير العائلة واستعمالها في تعمير حضيرة آل بوسارد ليعم الخير والتراحم بين أهالي القرية بمساعدة بعضهم بعضا ولو كانت بأموال مسروقة.


والاختبار الثاني كان عن إقامة العدالة إذ عاقب عاملا يعمل تحت يده بما يقتضيه نصُ الكتاب، فأقيمت المحرقة لأجله وعن عائلته التي تبقت من بعده، فقد أدرج اسماء ابناءه ليعلموا عشر سنين بلا راتب كالعبيد، تحت إمرة آل هوفمن.


قطب هايدن حاجبيه مستنكرا، لما قرأ عن اسم تلك الزوجة التي توسلته ألا ينزل هذا العقاب على ذريتها وقد كانت تدعى غريتا..


وعن الاختبار الثالث فقد كان مدرجا تحت عبارة سامية ألا وهي الولاء المطلق، إذ أن الحكيم قد ظهر له في مياه قدره العكر، هيئة فتاة يافعة من فتيات القرية ومن بعدها ظهرت هيئة طفل رضيع يبكي ودموع غزيرة انهمرت من عينيه، فقضى الحكيم أمره بأن تلك الفتاة ابنة الخامسة عشر، عليها أن تلد ومولودها ذاك، فهو من سيرفع عنهم لعنة عامين من انقطاع المطر.


قطب هايدن حاجبيه بحيرة وعاود قراءة الصفحة، يبحث عن أي ذكر لمن سيتزوج الفتاة لكنه لم يجد واستنكر ما بال الحكيم قد أبلغ ماركو بهذا الموضوع، الذي لا يمد له بأي صلة، سوى أن الفتاة تعمل تحت إمرة ماركو.


لم يكتب ماركو شيئا عن ذلك الاختبار وما جرى فيه، سوى أن الفتاة المعنية تدعى أنوك وباقي الصفحة كانت فارغة وفيها أثار لقطرات يابسة.


ولما قلب هايدن الصفحة وجدها فارغة وفيها جملة واحدة فحسب؛ أنا لم أعد أعرف انعكاس صورتي في المرآة، أهذا وجهي أم وجه شيطان دميم؟


قلب هايدن الصفحة فقرأ عن تدهور علاقة ماركو بأخته بيرل، التي كانت تبلغ من العمر خمسة عشر عاما حينها، إذ أنه ما عاد قادرا على مشاهدتها وهي تلعب مع كلبها الذي يدعى جو في الحقل، وحكى عن شعور يشبه وخز الإبر، يراود بدنه كلما همت اخته لعناقه أو مجاورته في الجلوس. وذكر الخوف الذي بدأ ينتابه كلما نزل إلى الحقل ومن بعدها أقلع عن حراثة الأرض ورعي الماشية واكتفى بالأعمال الورقية.


وعن اخته فبات يرغمها على البقاء أمام بصره، وفي مرات عديدة حرمها النزول للعب في الحقل، بالأخص مع روميو، الذي علم أن في صدره حبا لشقيقته وهذا كله بسبب صوت صياح امرأة لا ينفك عن مراودة أذني ماركو لدرجة أنه ما عاد قادرا على النوم.


وفي الصفحة التالية ذكر تخبط حاله من بعد الاختبار الأخير ثم حكى عن صعوبة الاختيار، فإن أقلع ولم يخض في الاختبارات التالية فهو سيقع أسيرا للندم وليس ندم التخلي عن منصب الخلافة، إنما ندما لخوضه فيما خاضه وأنه سيمضي حينها في طريق نهايته كانت أن يعقد لنفسه حبلا ويرضى بتدلي بدنه منه كي يحقق العدالة.


لذا قرر ماركو حينها المضي في طريق الحصول على منصب الخلافة وأن يكف عن النظر وراءه ثم قال؛ ما عدت خائفا من ذلك الوجه الدميم الذي أرى انعكاسه في المرآة، فلقد أيقنت أن أزرق الوجه أًصفر العينين الذي يحدق بي، لم يكن سوى إنعكاسي. وقد كان سواد وجهه يشتدد يوما بعد يوم...


أغلق هايدن المذكرة ووضعها جانبه محدقا بالفراغ أمامه، يسأل نفسه ما الذي خاضه؟ فالستون صفحة الأولى كم كانت ذات طابع مسالم كما لو أن الدنيا بخير، وأن سويسرا لا تعاني من أي تدهور اقتصادي، ثم في الأربعين صفحة التي وصل إليها بات يشعر بالاختناق من ظُلمة العالم، فلقد فطن هايدن ما حل بتلك الفتاة التي تعمل تحت إمرة ماركو وعن ابنها الذي انجبته، تم تقديمه كقربان للسماء وماركو بنفسه هو من أغرقه في البحيرة...


وهذا مشابه لما حكته بيرل عما حدث لابن ماركو الرضيع لاحقا، لقد أغرقه الحكيم في البحيرة...


"من يسمع هذا يقول أنها ليست قرية وإنما شطرا من الجحيم" التفت برأسه لبيرل النائمة ورأسها مرتاح على الوسادة. فهي لم تنعم بنوم عميق هكذا منذ أن دفنت كلبها. 


"إني أشفق عليكِ يا بيرل لإمتلاككِ شقيقا اكبر مثل ماركو" تمتم وأراح جبينه على يده يتأملها وذهنه شارد "وكم أشفق على اختي أيضا لحصولها على أخٍ مثلي" زم شفتيه بندم، فلو كان خير ابن وخير أخٍ لأسرته، لما انتهى به الحال في هذه الأرض مسجونا. 


قطب حاجبيه مقهورا على حاله وأذن هايدن لنفسه بحكم حاجته لمن يجاوره في محنته، أن يضع رأسه على صدر بيرل، أغمض عينيه مستمعا لما ينبض داخل جوف صدرها، فهذه الدقات كانت الشيء الوحيد في هذه القرية، يمكن أن يتم اثباته بالعلم. مما أعطاه ولو بصيص أمل، لليتمسك بما يملك من عقل وألا يصاب بالجنون.


حاجة هايدن لم تتوقف عند هذا الحد، بل أذن لنفسه بالمزيد وهذه المرة، هو دس وجهه في عنقها وأّخذ بذراعها يلقيها على كتفه فتضمه وفي نفسه تقبل هايدن كم كان يبدوا مثيرا للشفقة.


كي يصنع لنفسهِ ودا مزيفة من فتاة نائمة.







عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz