illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد؛ الفصل الرابع والعشرون

 




"بيرل؟"

"نعم؟"

"هل تظنين أن فعل هذا صحيح؟"

"لما تسأل؟"

"أحقا لا تشعرين بألم في كتفك؟"

"إنه يؤلم لكنِ لا استعمله ألا ترى؟"

"انزلي من الأرجوحة يا امرأة، إنك حتى لا تستطيعين امساكها بشكل صحيح! إنزلي قبل أن تسقطي وتصيبي نفسكِ بضرر"


تنهد هايدن بقلة صبر وهو يشاهد بيرل تتأرجح على قطعة خشب مهترئة قد ربطت بحبل متين، بفرع شجرة مسنة في حديقة أرض صديقتها جورجينا. عاد برأسه للخلف مريحا إياه على لحاء الشجرة وعلى جانبه كان النمل يسير في طابور منتظم.


تأمل هايدن أوراق الشجر فوق رأسه وبعضها قد احترق لونها مع قدوم الخريف وانفلتت من غصنها مغادرة بيتها مع النسيم الذي مر بهم، انتقل هايدن ببصره لبيرل وهي تتأرجح للأمام والخلف ترفه عن نفسها في محاولة فاشلة كي تنسى ما مرت به في الآونة الأخيرة.


التقت عينا بيرل بخاصته وابتسامتها التي للتو رأت نور الشمس، قد تبددت وتلاشت ليحل محل فرحتها شوق مؤلم فسألها هايدن "ما بكِ؟"


"آه... لا شيء" حاولت بيرل تدارك أنفها الذي احمر وفركت عينها على الفور كي تمنع أي دمعة من الفرار وأرغمت نفسها على التبسم مجددا، كي تصوغ جملتها بصوت فرح "لقد تذكرت ماركو فحسب، كان يجلس حيث تجلس وينتظرني أن انتهي من اللعب" قضمت باطن شفتها "وذهبي أيضا، كان يجلس هنا كما يجلس أخي وينتظرني أن انتهي"


زم هايدن شفتيه لا يدري ماذا يقول وهز رأسه متأسفا على خسارتها فقالت "لا بأس، هل تعلم سير هايدن، إني حقا ممتنة لوجودك، ففي بعض الأحيان تنتابني السعادة كلما رأيتك، لأن وجودك ينسيني أنه قد رحل.. كلما نظرت إليك، أتساءل كيف يمكن للشخص أن يشبه أحدا لهذه الدرجة"


تنهد هايدن بقلة حيلة وابتعد ببصره عنها، من ثم تذكر الوقت الذي جمعهما في المكتب اليوم، لما استيقظت من نومها وبعد بعض الأحاديث الودية هي ولأول مرة بادرت بعناقه مما جعل بصيص أمل يتشكل في جوفه. بأن هذه الفتاة تحبه لنفسه وليس لأنه يشبه أخاها أو لأنه انتحل هوية من كانت تهوى.


"هايدن قل لي ما الذي رأيناه في الغابة حينها؟ هل حقا كان أخي بشحمه ولحمه؟"


"وهل للشحم واللحم أن يندثر عند هبوب الريح؟ من الممكن أن تكون انعكاسات قد سببت لنا الهلوسة أو لربما كنا جالسين بقرب نبتة ما تنشر رائحة مهلوسة" حاول هايدن صياغة جملة علمية كي يؤمن بها قبل أن تؤمن بها بيرل.


"لكنك لا تعرف هيئته فكيف من الممكن أن تهلوس به؟"


"إن هذا هو الشيء الذي اشبه به الطبيب ستينر، أني لا أحب اكتشاف المزيد من علامات الاستفهام" هز رأسه بقلة حيلة وتنهد "إن هذا الشعور بات يراودني كثيرا في هذه القرية"


"ما هو؟"

"شعور أني عاجز، إنه حقا شعور وضيع لا ينفك عن تذكيري بمدى جهلي وقلة حيلتي بل وهناك صوت داخلي يحثني على رفع بصري للأعلى والنظر للسموات فوقي، كي أرجوا من الذي يؤمن به بنوا جلدتي النجاة" فرك وجهه بكلتا يديه ثم دفع شعره للخلف.


"ولقد غلبني هذا الصوت مرة لما اصطحبتك للمدينة ومن شدة عجزي صليتُ له راجيا العون" حدق هايدن بيديه متذكرا ذلك الشعور وهو ذاته يراوده الآن.


"إنك حقا تشبه ماركو" اجابته بيرل وتوقفت بأرجوحتها لتعود بذاكرتها للوقت الذي اهتز فيه جبروت أخيها.


"ماركو لم يكن رجلا يحب الاستعانة بغير نفسه، لقد كان ذا حبٍ عالي لنفسه ولم يحتاج أبدا للصلاة -دعاء- حتى الشياطين التي نخافها والوحوش التي نهابها هو لم يخف منها ولم يهبها.... كان ينظر إليهم كما لو أنه يعرفهم وأنه قادر على لوي ذراعهم" 


"لقد كان رجلا بلا خوف، أو هكذا ظننته، إذ رأيته مهزوزا مرتين فقط في حياتي، المرة الأولى حدثت لما كنتُ في الخامسة عشر من عمري، والمرة الثانية لما سلبه الحكيم ابنه" 


"من بعد خسارته تلك بات كثير الصلاة لكن في اتجاه غير اتجاهنا ولمعبود غير معبودنا، ثم لم يدم الوضع كثيرا حتى أعلن تمرده ولقي حتفه"


انصت إليها هايدن وقد فهم سر الحادثة الأولى والخزي الذي لاحق ماركو. تنهد هايدن بقلة حيلة لوقوعه في هاوية لا نهاية لها، ومن النافذة وصلهما نداء جورجينا عليهم،ا بأن يستعجلا الدخول فوقت الغروب اقترب.


ولج الاثنان للداخل إذ قررا المبيت هنا، فلا ترى جوان وجه بيرل الليلة. جاور هايدن رجال العائلة في مجلسهم وهو لم يكن الضيف الوحيد فمايكل ونيكو قد قررا المكوث الليلة هنا أيضا.


في البداية بدى الأمر عاديا بالنسبة لهايدن لكن كل شيء تغير باللحظة التي علم فيها أنه سينام مع خمسة في نفس الغرفة والمصيبة أنهم سيفترشون على الأرض. فأرسلوا مايكل ليحضر أفرشة ولما تأخر أرسلوا هايدن الذي ضيع طريقه في الممر وعوضا عن الذهاب للغرفة التي تحوي دولاب الأغطية هو مر من غرفة جورجينا وسمع حديثا دار بينها وبين بيرل اللتان كانتا مستيقظتين وما ينير عتمة الغرفة هي شمعة واحدة.


"بيرل هل لبيتي نداء الحكيم ومررتي عليه كما طلب؟"


"لا لم أفعل، فحزني على كلبي كان شديدا، لكن لما طلبني؟ ليقدم اعتذارا لي عما حدث في مسابقة الصيد؟"


"لا لكن لأصدقك القول، قد تعجبت من بقاء والدتك ميلينا صامتة بعد الذي حدث، إذ كنتُ انتظر منها قلب القرية رأسا على عقب والنبش عن مفتعل تلك الحادثة"


"وهذا ما زاد حزني حزنا... من بعد عودة حفيدها وهي بدأت بالتخلي عني لدرجة شعوري بأنها ستضحي بي عوضا عن دوريان"


"تضحي به؟"

"لا تهتمي لما أقول" هزت بيرل رأسها نافية واستلقت على جانبها كي تنظر لصديقتها التي تشاركها نفس السرير "والآن أخبريني ما بال الحكيم يبحث عني؟ أما علمتِ شيئا من جدكِ الثرثار؟"


"نعم لقد فعلت، لقد وصله خبرٌ أن الحكيم يريد إطعامك من ذلك اللحم صانع المعجزات"


"ولما عساه يريد إطعامي منه؟ فهو لا يأكل منه أيا كان"


"لا أدري لربما أراد مداواة اصابتك كتعويض" هزت جورجينا كتفيها "أو لربما سيقدمه كهدية تقربك منه. وإن اكلتي منه  يا بيرل فأحفظي لي القليل فقد سمعت جدي يقول أنه عجيب يبقي الرجل يافعا"


"دوريان؟! يا دوريان أين ذهبت؟!" انتفض هايدن لسماعه بِن ينادي عليه فاستعجل بالولوج لأٌقرب غرفة وفتح أبواب دولابها الكثير يتظاهر بالبحث، لكن تمثيله أوصله لشيء أثار دهشته، ألا وهو صندوق محفور بنقش رأس ثور.


قرر هايدن بدافع الفضول وضع يده على الصندوق وفتحه، لكن حالما اصابعه قد لامست الرمز إلا وقد ظهرت يد سوداء مفحمة من ظلام الخزانة لتقبض على يده.


انتفض هايدن وقد شعر بأيدي حامية ذات  شر وبأس شديد تجوب سائر بدنه وتمنعه عن حتى صعق من يد قد فرت من ياقة ثوبة لتغطي عينا بكامل قوتها وعن عينيه التي ظلت مكشوفة فقد رأت في ظلام الخزانة وجه رجل دميم شديد السواد لدرجة أن بات لونه مزرقا.


صك على أسنانه مرة ثم الثانية وفي الثالثة أنسلخ جلده عن عظمه ليكشف عن عظم جمجمة ثور لها قرن كبير ومن داخل محجر العين الفارغ هو شعر بوجود عين مخفية تبصر في داخل روحه وحالما ظهرت له شيئا فشيئا شعر هايدن بحرارة مثل اللهيب تصيب رأسه كما لو أنه سينفجر.


ليدرك في داخله أنه إن رأى تلك العين سيموت لذا هو أغمض عينه المكشوفة وصاح في داخله يطلب النجدة بمن يلح عليه ضميره أن يستعين به.


لهث هايدن أنفاسه بشهيق لما شعر بقوته تعود له وابصر جانبه فوجد بِن يهزه مناديا كما لو أنه فقد اتصاله بالواقع قبل قليل "دوريان، يا دوريان هل انتَ بخير؟!"


قطب هايدن حاجبيه مشوشا مما رأى قبل قليل وبِن انتزع يد المسكين من على الصندوق محذرا "ما الذي كنت تظن نفسك فاعلا بلمسك هذا الشيء المخيف!"


"م.. م.. " لم يعرف هايدن بما يجيب لشعوره بلسانه قد اصابه الخدر وهز رأسه للجانبين، يطلب تفسيرا فقال بِن "إن كنتُ أنا من يحمل اسم العائلة وممنوع عليَ لمسه  فكيف لك أنت أن تلمسه" 


تلفت بِن حوله يتأكد من خلو المكان فهمس بفضول "هل رأيته؟ ذلك الوجه؟"


أومئ هايدن بنعم فأجابه بِن "هذا عجيب، إني عاجز عن رؤية ذلك الوجه الذي قد تمكن من رؤيته ابن عمي وماركو شقيق بيرل لما لمسا الصندوق في الماضي"


"لكن، ما معنى هذا؟"


"لا علم لي يا دوريان لكن الشيء الوحيد الذي أعلمه أنه ممنوع علينا لمس الصندوق أو الاقتراب منه، فمن يلمسه وهو ليس بصاحبه فمن الممكن أن يموت" حكى بِن لكنه اصيب بالرعب لما سمع صوت خطوات أحد قادم، فأخذ بين هايدن وخرجا بسرعة من هذه الغرفة للغرفة المقابلة وفتح الخزانة هناك متظاهرا بجمع الأغطية.


"خذ هذا يا دوريان وسأحمل أنا هذا"

"حسنا"


تحدث الاثنان ثم خرجا فوجد هايدن الجد يلج لتلك الغرفة، رسم بِن ابتسامة مزيفة على محياه وحيا جدخ الذي لم يرد له التحية بل وأوصد الباب خلفه وهايدن سمع صوت المفتاح يدار في القفل، لكي لا يدخل عليه أحد.


"تلك غرفة الجد؟"


"نعم إنها غرفته وما كان عليك دخولها، هيا بنا لنعد فقد تأخر الوقت وسيصيبنا النحس إن بقينا مستيقظين لهذه الساعة، لا أريد للوحوش أن تتحكم برأسي وتستدرجني للخارج فأموت"


لحق هايدن ببن عائدين لحيث سينامون جميعا ثم قامت الفاجعة؛ ألا وهي مشاركة هايدن لروميو الغطاء والوسادة.


كم كان هايدن عاجزا عن النوم حينها، ليس فقط بسبب شخيرهم أو تعدي روميو الغير أخلاقي لمساحته الشخصية وتبليل الوسادة بلعابه، ذو الرائحة المقرفة وإنما من هيئة ذلك الوجه المخيف الذي ظهر لهايدن.


ألقى نظرة على يده، يتأمل الاثر الحار حيث خيل له أن تلك اليد امسكت به ولما انتابه رعب من إغماض عينيه والنوم هو قرر قراءة مذكرات ماركو كي يجد تفسيرا للحدث الشيطاني الذي اصابه.


قرأ هايدن عن قبح وانحطاط أخلاق الاختبارات التي خاضها ماركو، إذ وصل به الحال ألا يشفق على عماله الذين يعملون تحت إمرته، فبات يتعدى على حرمات من يشاء من العاملات ويحرم من يشاء مِن ماله وكل هذا فعله تحت عباءة الحكيم، الذي لفق للقرويين تبريرات لجميع أفعاله. 


ووصف ماركو، حال الحكيم لما كان يأمره بهذه الأوامر، إذ أن صوته يتغير لآخر غليظ، يثير الرعشة من شدة الرعب. وقد كتب ماركو عن رؤيته لطيف وجه شديد القبح قد إنسلخ وجهه كاشفا عن جزء من عظم جمجمته.


وهذا الوجه قد كان يزداد قبحه بقبح الاختبارات، ولما وصل ماركو لاختباره الأخير وضع الحكيم يده على وجه ماركو، ليسد عينا فينظر من اليسرى وسأله إن كان قادرا على رؤيتها.


سأله ماركو إن كان يقصد الوجه، فأجاب الحكيم أن الوجه من الممكن أن يراه جميع من قد اجتازوا سِن البلوغ، وسواده يشتد بحسب أعمال من ينظر إليه، وماركو كلما اجتاز اختبارات الحكيم بنجاح، تشقق جلد الوجه حتى تمزق وكشف عن العظم.


كرر الحكيم سؤاله موضحا أكثر واستفسر عن العين في الجمجمة، إن كان قادرا على رؤيتها أم لا. أبلغه ماركو بعدم استطاعته على رؤيته،ا ليقول الحكيم أن موعد اختباره الأخير قد حان وباجتيازه لهذا الاختبار، سيرى العين أخيرا وسيقدم له من اللحم العجيب الذي يصنع المعجزات.


كتب ماركو عن هذا اللحم، الذي شاهد قلة قليلة من الناس من يأكلونه، فهو لا يقدم إلا لمن يختارهم الحكيم، فمنهم من يتذوقه بعد أن يشق طريقا صعبا من الاختبارات ومنهم من يهبهم الحكيم إياه، لمجرد أنه أراد استخلاصهم لمنافع شخصية.


قلب هايدن الصفحة بحثا عن تفاصيل اختبار ماركو الأخير، لكن ماركو لم يتكرم ويشرح عنه الكثير بل اكتفى بالكتابة عن صاحب الجثة الهامدة التي اجتمع القرويون حولها مولولين، يذرفون من دموعهم الكثير.


إذ كان فتيا لم يبلغ الحُلم بعد ولم يحمل في حياته أي نوع من أنواع المسؤولية، سوى الانتباه على الدجاجات في حديقة المنزل.


وصف ماركو عزاء تلك العائلة التي كان كبيرها رجلا أعمى، كيف ضم والده ابنه لصدره وبيده تحسس معالم وجه ابنه، فقال لهم ملحا أن هذا ليس ابنه، فلابنه انف صغير وفم وديع، عكس هذه الجثة التي لا فم، لا أنف ولا نصف وجه امتلكت.


قلب هايدن الصفحة مجددا ليجد صفحة خالية من الكتابة، ثم قلب الأخرى ليجد فيها خربشات قلم قد رسمت ملامح وجه فتاة وكُتب تحتها عبارة أختي العزيزة.


قلب هايدن الصفحة مجددا ليجد فيها خربشات قد اخفت ما كتب تحتها بالحبر وفي الصفحة التالية وجد حديثا دار بين ماركو وبيرل في ليلة من ليالي ديسمبر. إذ مكث كلاهما في كوخ مهجور وبرفقتهما كلب أسود قد اقتناه ماركو وبات مرابطا له أينما يذهب.


ومكوثهما هناك كان بسبب عدم تمكنهما من العودة مبكرا من رحلة صيد، فغربت الشمس عليهما وحل الليل والوحوش من حولهما مرت.


ضم ماركو في تلك الليلة اخته التي كانت ترتجف من الخوف وهي تسمع دب خطواتهم المهولة والأشجار التي حطموها خلال مرورهم وهمس لها، يسألها إن كانت تخاف منهم.


أجابته أنها تهابهم وتخشى أن تجد أظافرهم الحادة طريقها إلى بدنها الهزيل، فتمزق جلدها وتقتلع رأسها.


فأخبرها ماركو أن الموت لن يلوحها بسبب مخالبهم التي تخشاها وإنما سيصيبها ويخطف روحها قبل أن تلاحظ الوحوش وجودها.


ثم أوصاها أن تغط في نوم عميق وتسد أذنيها، فلا تسمع الصفير الذي سيجر قدميها إلى حتفها. بيرل حينها اخبرته أنها غير قادرة على النوم في هكذا حال وموقف لذا سرد ماركو في أذنها حكاية من حكايا القرية القديمة عن رجل أحب امرأة صعبة المنال بسبب شروط والدها


وعن أذن بيرل التي كانت بعيدة عن فم ماركو، قام بسدها بيده، فلم تتمكن اخته من سماع ذلك الصفير القادم من بعيد.


كتب ماركو سؤال بيرل الذي وقع في نفسه ووجده لحظة لابد من تخليدها، إذ سألته كيف يمكن لهذا الصفير ألا يستدرج قدميه كما يفعل بالآخرين فصارحها بأنه مختلف .. مختلف عن بقية ساكني هذه القرية.


ثم سألته بيرل بطريقة وصفها ماركو ببرائة وسذاجة صاحبة الرداء الأحمر، التي سألت الذئب الذي كان يرتدي منامة جدتها مدعيا الوداعة.


سألته بيرل عن سبب عدم خوفه من هؤلاء الوحوش، الذين يقتاتون على بني جلدتهم ويبطشون في الأرض معيثين فيها الفساد فأجابها ماركو قائلا؛ ومن كذب عليك وقال أني لستُ واحدا منهم؟


وصف ماركو في أسطر معدودة جمال الرعب الذي اكتسح تعابير بيرل ثم ابتسامتها التي اجبرت نفسها على صنعها، كي تقنع ذاتها بأن أخاها يمزح ليس إلا وماركو إلى جوارها مستلقي يحفظ هذه الساعات معها.


ثم نظم جملته موصيا نفسه، بأن اخته التي لا ذنب لها، عليه أن يحفظها منهم فلا يطالها ويحكمها سواه إلا بإذن منه.


فلقد احب جهلها بحقيقة المسخ القابع أمامها وأحب الحُب في عينيها له، كما لو أنه بطل في قصتها الخيالية.


أغلق هايدن مذكرات ماركو وتركه ليسقط على صدره ثم أغمض عينيه في محاولة لاستيعاب ما قرأه قبل قليل، فها هو ماركو قد اجتاز اختبارات الحكيم وابصر تلك العين في الجمجمة..


تأمل هايدن السقف فوق رأسه ورفع يده ليغلق عينا ويبصر بالأخرى، تماما كما فعلت تلك اليد السوداء الشيطانية به وكما فعل الحكيم بماركو كي يبصر جيدا.


وها قد تشكلت علامات استفهام جديدة في رأس هايدن اصابته بالعجز فما يعثر عليه بكفة وعقله الذي يصارعه بأن لا يسير خلف تلك الهلوسات بكفة أخرى.


فهو وبعد كل ما مر به، لازال يبحث عن ذلك التفسير العقلاني البحت، الذي إن قلت له واحد زائد واحد سيجيبك باثنان وليس بحيوانات تتكلم ووحوش تنزل من الجبل ليلا.


"يا ترى كم الساعة الآن؟" سأل هايدن نفسه واعتدل من استلقائه ليجلس ويحدق بالنيام الذين يشاركونه الغرفة ولما ألقى روميو بساقه علي تذمر بقهر ورفسها بقدمه كي يبتعد عنه.


قطب هايدن حاجبيه لسماع اصوات من يتحركون خارج الغرفة ومن صوت همساتهم علم كونهم مجرد صبية في نيتهم الولوذ للمطبخ كي يجدوا ما يسد جوع بطنهم. ابعد الغطاء عنه ونهض في نيته ملئ بطنه أيضا فلحق بهم للمطبخ ولاحظ أن منهم فتاتان لم تتجاوزا الثالثة عشر بعد مع الأربع صبية.


أراد هايدن فتح فمه ومحادثتهم لكن فؤاده لجم حالما وصل لأذنيه صوت خلاب أشبه بصفير عصفور شجي النغمة. تذكر هايدن ما أوصى ماركو به اخته وسد اذنيه بقوة يمنع الصفير من الوصول لرأسه في حين أن الفتية أمامه لم يستنكروا ما سمعوا والسعادة قد علت وجوههم فساروا نحو الباب الخلفي ودفعوه ليركضوا مستمتعين وقهقهاتهم علت.


"لا! تعالوا لهنا! عودوا حالا وسدوا آذانكم!" نادى هايدن عليهم وركض نحو الباب، في نيته امساك واحد منهم لكن صوت تفجر طلق ناري دوى في السماء وقبل أن يدرك الناس هويته علت زمجرة الوحوش عليه وشهد هايدن لأول مرة بدن صبي يطير عاليا في السماء بسبب ضربة كف يد مهولة ثم يتم تمزيق أطرافه وتهشيم عظامه.


فقد هايدن الشعور بقدميه فخر راكعا ولم يتمكن من إبعاد عينيه عن الوحشان، اللذان امتلك احدهما جمجمة كلب والآخر جمجمة جدي. ومن لم ينم من القرويين قد خرجوا راكضين من بيوتهم نحوهما بسبب ذلك الصفير الجميل...


وهكذا قد اضاف هايدن تجربة جديدة إلى حياته، إذ لم يخيل له في يوم أن يجتمع صوت صفير العصفور الشجي مع تلك الوحشية في لوحة فنية كان لونها الأحمر ولا شيء سوى الأحمر.

.

.

.


"عمي دوريان، يا عمي دوريان إن جدتي تناديك، ألن تأتي؟"

"ماذا تريد مني؟"

"تقول أن لدينا ضيوفا هذا المساء وتريدك أن تحضر"

"لا نفس لي بشيء"


طرد هايدن إليوت فحك الصبي رأسه بحيرة وعاد أدراجه لجدته وفي طريقه مر على بيرل التي سألته عن هايدن فأجاب أنه لا نفس له بفعل شيء. قررت بيرل المرور بنفسها على هاين وأدارت المقبض في الباب نية فتحه لكنها وجدته مغلقا فطرقت على الباب.


"دوريان، يا دوريان إنها أنا بيرل هلا فتحت لي؟"


أتاها صمت من الطرف الآخر فأكملت قائلة "دوريان" ولما لم يأتها رده هي اقتربت من الباب ونادت عليه بصوت خاف "هايدن"


سمعت وقع خطواته ولما وصلها صوت -تليك- انفتح جزء من الباب كاشفا عن هيئة هايدن والانهاك كان جليا عليه، إذ أن أسفل عينيه متورم وشعر ذقنه قد نبت لعدم اهتمامه به مدة أسبوع كامل.


"ماذا تريدين؟"

"بل ماذا حل بك يا هايدن"


"وتسألين ماذا اصابني؟ هل حقا لا تعلمين أم أنك عديمة الإحساس؟" أراد هايدن الحديث لكنه أغلق فمه وهم بإغلاق الباب فلا نفع من الحديث ثم وهل هي حقا عديمة الرحمة كي لا تتألم على القرويين الذين يموتون كل يوم بالعشرات. إذ أن عدد الوفايات ارتفع بشكل مخيف.


حشرت بيرل قدمها في الباب فلا يتمكن هايدن من إغلاقه بوجهها والتقطت يده لتدس بها قطعة قماش وهمست بصوت لن يسمعه سواهما "غادر في هذا الأسبوع سير هايدن قبل أن تأتي ليلة الاثنين"


امسكت بيرل بالباب وهذه المرة هي من أغلقته لتنزل السلالم مسرعة حيث ينتظرونها كي يكملوا استعدادات الضيوف وبينما هي تنقع الخرقة البالية كي تكمل المسح سألت صديقتها لورا عن سبب قدوم عائلة هوفمن للزيارة فأخبرتها بعدم معرفتها.


أما في غرفة هايدن فقد كشف عن ما تحتويه قطعة القماش ليجد فيها مبلغا من المال، تبسم هايدن ساخرا ووضعه جانبا ليعود نحو سريره حيث النافذة قريبة فجلس وجمع كفا يده يقلد المؤمنين في دعاءهم راجيا أن تصل صلاوته للأعلى كما يصل رماد المحرقة مفسدا زرقة سماء الخريف.


"هايدن، هل ذهبت؟" اخرجت غريتا رأسها من تحت السرير ثم قفزت عليه وتخطت الأوراق التي دون فيها الكثير من الملاحظات والعبارات المقتبسة من مذكرات هايدن وما يذكره من المعلومات التي يتصدق بها القرويون وإن كانت قليلة.


"نعم وقد تركت لي مالا كي أتمكن من السفر به" تنهد هايدن والتقط الورقة التي كان يكتب فيها الملاحظات.


"لم تخبريني بعد، هل تناولت بيرل من اللحم الذي قدمه الحكيم لها؟"


"ولما تسأل؟ ما شأنك بتلك الفتاة؟ نحن لدينا مشاكل أهم"


"ماركو قال أن من يحصل على اللحم إما شخص ختم اختبار القبول الخاص بالحكيم  أو أن الحكيم له مصلحة معه ومعرفتي لهذا ستسهل عليَ معرفة عدوي من صديقي" قال هايدن دون النظر إلى الهرة وفي نفسه كان يأمل ألا تلح بالسؤال وتجيب عليه بسرعة.


أغمض عينيه راجيا اجابة تجبر بفؤاده فردت الهرة "نعم، لقد تناولت منه وباللحظة التي اكلت منه شفي كتفها، هكذا قال الفأر الذي تسلل لقبو الحكيم"


فتح هايدن عينيه وأنزل بصره ليديه ثم للهرة التي قالت "والآن هل ارتحت عند معرفة عدوك من صديقك؟"


"نعم" اكتفى هايدن بقول ذلك وفي المساء هو قرر النزول بتوصية من غريتا كي لا تقلق الجدة عليه فتداهم غرفته وتعرقل عملهما بجلسات تطهيرها السخيفة. أدار هايدن مقبض الباب وخرج ليجد بيرل قد خرجت من غرفتها أيضا لكن بطلة مختلفة اصابته بالقلق.


إذ كانت ترتدي ثوبها الأزرق الذي ارتدته في حفل خطوبة جورجينا التي فشلت، عاينها هايدن من رأسها حيث كان شعرها أشعثا في ظفيرة وقدماها حافية لا تنتعل حذاء.


"هايدن"

"بيرل"


لم ينطق هايدن بشيء، لم يعلق على شعرها ولا على قدميها، ولم يتذكر منذ متى وهو بات يتقبل هيئتها ولا يبحث فيها عن شيء ليصلحه.


بيرل هي الأخرى لسانها لم يملك حروفا لينطق بها، بل رحبت به ووسات قلبه الحزين بعينيها، التي كانت ولازالت في نظر هايدن عينان وديعة حالها من حال صاحبتها.


"بيرل! بيرل يا بنيتي هيا فقد وصل الضيوف"


زمت بيرل شفتيها وأغمضت عينيها حزينة على لحظتهما الهادئة التي انتهت، جمعت شجاعتها وقالت "هل ننزل؟"


"لا أدري هل ننزل؟"


هزت بيرل رأسها بحيرة لا تدري هل تنزل أم تبقى واقفة هنا معه فقالت "أظن أنه يتوجب علينا ذلك" 


نزل كلاهما السلالم وهايدن جاب ببصره الحاضرين في غرفة الجلوس، إذ كانوا أفراد عائلة هوفمن والبقية هم بعض من عائلة آرنر، كجورجينا وأخيها بن مع بقية المجموعة السخيفة على رأسهم روميو.


أما بيرل فقد استنكرت ذلك الرجل صاحب الوجه الجديد الجالس بين الحكيم ومساعده السيد بينيت، رحبت بيرل بضيوف منزلهم وانحنت بخفة من شدة ارتباكها ثم اخفت اصابع قدميها أسفل تنورة ثوبها.


"دوريان عزيزي، كم أنا سعيدة بنزولك"

"مدام ميلينا؟" 


قطب هايدن حاجبيه مستنكرا هيئة ميلينا التي بدت اصغر سنا وتجاعيد وجهها كانت أقل كما لو أنها عادت بالزمن عشرين عاما "ما بك يا بني تنظر إلي هكذا؟"


"لا أدري.. كما لو أنكِ تبدين اكثر شبابا"

"كم انتَ سخيف يا دوريان، كما لو أنك لا تعلم"


ضربته على صدره ثم دعتهم لإجتماع حول مائدة الطعام في الشرفة المطلة على الحديقة.


تبادلوا أطراف الحديث كما لو أنه لم تقم محرقة على شرف خمسة عشر شخص من القرية وهايدن حدق بالحكيم وبمساعده مغتاضا، ففي الصباح هو يتلوا وعضا ليصبر قلوب الناس وداخل جدران منزله هو يعلمهم السرقة، الظلم والتعدي على الفتيات الصغيرات باسم الطاعة والولاء.


كل هذا كان بكفة وفي الكفة الأخرى، كرسيه الذي تم اعطائه لذلك الرجل الجديد، بحث في عيني بيرل عن تفسير لما يحدث فوجدها هي الأخرى حائرة من سبب جلوس هذا الشخص إلى جوارها عوضا عن شقيقها بل ويحاول فتح موضوع للحديث حياله.


وكل باب حاول الرجل فتحه، أوصدته بيرل في وجهه. 


قُدم إليهم اللحم واخبرهم الحكيم أن هذا لحمٌ مميز من اللحوم الشافية التي يقدمها في المناسبات وجميعهم أكلوا منه فكما هو متعارف بينهم، اللحم الذي يقدمه الحكيم لهم يشفي من جميع الأمراض وأهمها التقدم في السن. إذ أنه يبقي الرجل يافعا لا يفقد قوته.


"ميلينا قدمي لابنتك المزيد من اللحم كي يزداد جمالها، نحن نريدها زهرة بثوبها الأبيض في هذا الخريف القاسي" أوصى الحكيم مدام ميلينا.


"بالتأكيد سأفعل" قدمت ميلينا لابنتها المزيد ثم أوصت جوان أن تقدم لهايدن كي يحتفظ بصحته ولا يمرض "شكرا يا مدام لكن رجل نباتي"


"نباتي؟ وما معنى هذا؟"

"معناه أن اللحم لا يستهويني" قالها بكل بساطة فحصل على ضربة اصابت رأسه فزفر أنفاسه بقهر من هذه المرأة القاسية.


"ثوب أبيض؟" سألت بيرل وحملقت بالحكيم.


ضحك الحكيم على بلادة دماغها وقال "وأي ثوب أبيض من الممكن أن أعني؟ بالتأكيد ثوب زفافك يا بنيتي"


فرقت بيرل بين شفتيها لا تكاد تستوعب ما يقول وهايدن اختنق بالعصير الذي يشربه فباشر بالسعال "على مهلك!" ضربه مايكل على ظهره كي يستعيد ذاته وقال هايدن وسط سعاله "س.. ستتزوج؟!" 


"بالطبع، ستتزوج حالها من حال بقية البنات، أم انجبتها والدتها لتتعفن في بيتها؟"


"ممن؟" سألت بيرل وبالصدفة هايدن سأل نفس السؤال.


"من الذي قدرته لها بالتأكيد. أنظري يا بنيتي إلى مائيل، ها قد عاد إلى دياره بعد غياب طويل والوقت حان لتتما أخيرا ما وضعته لكما من قدر منذ نعومة أظافركما"






عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz