"بيرل؟! ما الذي أتى بكِ لهنا؟!"
"رأيتك تأخرت فذهبتُ للبحث عنك، فلربما لم تكن لتصل قبل الغروب"
"كنت سأحاول العودة للمنزل بالفعل"
"إذا هيا بنا لنعد فالوحوش لا تخرج إلا عندما يمسي الظلام حالكا وانت معك القلادة فلن يمسنا سوء"
جرته من ذراعه فقفز من فوق السور كي يتبعها وبينما هو يسير خلفها، تذكر العبارة التي دونها ماركو، كم كانت مريبة عجز عن فهمها. لربما ماركو كان يعلم شيئا مهما وبالتأكيد ما اكتشفه دونه في تلك المذكرة. لكن لما تلك المذكرة مخفية أسفل طيات جهاز مدام جوان..
زفر هايدن بضيق من الأسرار التي تحوم حوله وتتمشى أسفل أنفه، فهو لم يكن فضوليا لاكتشافها ولا يرغب بمعرفة شيء عن هذه القرية، كل ما يرغب به هو الفرار هاربا.
تأمل هايدن بيرل التي تسير أمامه واستذكر الحديث الذي جمعهما في طريق عودتهما للقرية، إذ تكتمت في ذلك اليوم على عديد من الأسرار ولازالت تفعل، فهي لا تبوح له بشيء إلا إذ احتاج هو لذلك وإن أطلعته على سر فهي تستمر بتغليفه بكثير من الغموض لدرجة أن غضبه اشتد.
لذا لم يكن بوسع هايدن سوى استجماع شجاعته وسؤالها عسى ولعل أن يخرج من حال التخبط والضعف هذا بسبب مواجهته المستمرة لكل ما هو مجهول.
"هل كنتِ انتِ الشخص الذي أطلق سراح الخيول؟"
"خيول؟ عن أي خيول تتحدث؟"
"ليس وكأنك لا تعرفين عن امتلاك السيد فيكتور مجموعة من الخيول"
قطبت بيرل حاجبيها من طريقة حديثه والتفتت برأسها ثم بكامل بدنها إليه "أعرف عن امتلاك السيد فيكتور مجموعة كبيرة من الخيول لكن لا أعلم شيئا عن إطلاق سراحهم... لستُ افهم ما الذي تنوي إليه من سؤالك هذا"
"ما الذي أنوي إليه؟ لربما أنا أنوي معرفة ما يدور حولي من مصائب!" احتد صوت هايدن "ويا للعجب انتِ تعرفين كل شيء ولا نية لكِ بالكشف عن سر من أسرار هذه القرية، لابد أنك سعيدة عندما ترين أني أبدوا كالأحمق لا اعرف ما افعل"
"سألتك عن الحيوانات فظهر أنكِ تعرفين عنهم! سألتكِ عن فيكتور فظهر أنكِ تعرفين عنه! كل شيء سألتك عنه انت تعرفين بأمره! ويا للعجب بالإضافة لهذا كله انتِ قادرة على السير كما تشائين في الليل!"
تقدم نحوها مشيرا باصبعه عليها "من هول الأمور التي تعرفينها بدأت اصدقُ اتهام اختكِ سيترين! بأنكِ السببُ في موت شقيقكِ ذاك!"
اهتز فؤاد بيرل ودفعته من كتفيه مغتاظة مما قال، والأسواء من ذلك أن اختها اتهمتها بقتل أخيها "أغلق فمكَ يا هايدن! فأنا لا اسمح لك!"
"لما أغلقُ فمي! رباه! اقسم أنكِ اكثرُ شخص مخيفٍ في هذه القرية، أنك حتى تخيفيني أكثر من ذلك الحكيم الخرف! منذُ اللحظةِ التي وطأت بها قدمي هذه الأرض وانتِ الوحيدة التي تقومين بخداعي هنا واللعبِ بي بين اصابعك! بحجة أني اشبه اخاك الملعون ذاك أيتها المهووسة!"
احتد الجدال بينهما والظلام شيئا فشيئا كان يشتد عليهما لدرجة أنهما لم يتوقفا إلا على صوتٍ متفجر كسر سكون الليل يليه زمجرة وحش جعلتهما من شدة خوفهما قادرين على بصقٍ عامودهما الفقري.
تلفتت بيرل حولها وعلى الفور أمسكت بيده مسرعة نحو بناء قديم، كان مهجورا وميزته أنه قريبٌ من أرضِ هوفمن. دفعته بيرل للداخل ثم ولجت هي من بعده واوصدت الباب ثم همست تحذره "إياك وإصدار أي صوت! فإن عثروا علينا لا انا ولا انتَ سنبقى على قيدِ الحياة"
اخذته نحو سرداب بابه كانت أسفل سلالم خشبها عتيق وتأكدت من أغلاق الباب خلفهما ليعلق الاثنان في ظلام دامس بالكاد تمكنا فيه من رؤية اصابعهما.
"كيف علمتِ بوجودِ سرداب هنا؟" سأل هايدن وهو كاد أن يجن من حقيقة معرفتها كل شيء.
"إنهُ ليس شيئا يستحق! في كل منزل من منازل القرية يوجد سرداب"
"منزل مدام ميلينا لا سرداب فيه"
"بل يوجد، هناك باب إلى جوار غرفة أمي ميلينا، إنه يوصلك لدرج يؤدي للسرداب"
تنهد هايدن بقلة حيلة حينها فهذه المرة هو لم يستطع اثبات انها امرأة مرعبة لذا اكتفى باغماض عينيه واسناد ظهره ضد الجدار منتظرا منها أن تخبره متى سيخرجان وهذا ما كره هايدن...
هو كره حقيقة أنه ضعيف غير قادر على فعل شيء وإن فعل فهو قادر على التسبب بقتل نفسه. لهذا هو احب المصارعات التي كان يخوضها في مسقط رأسه فلقد كانت تشعره بأنه قوي لا يغلبه أحد. وما جعل كبريائه يسحق كالبعوضة هو أن حياته معلقة بيد هذه القروية ذات الفكر الرجعي..
"أخي ماركو قُتل على يد الوحش صاحب جمجمة الحصان، إن كنتَ مهتما هكذا بمعرفة قصته" همست بيرل وفركت اصابعها ببعضها تحدق بالفراغ أمامها.
فتح هايدن عينيه وانصت لما تحكيه، فهو كان عاجزا عن رؤيتها.
"لقد ضحى بنفسهِ لينقذني..."
اهتز صوت بيرل ورغم محاولتها لكبح دموعها إلا أنها انهمرت وقد مر طيفه أمام عينيها، عندما اخبرها ماركو ألا تصدر صوتا وكي لا يمسها الوحش بسوء، هو ركض ونادى عليه يستدرجه بعيدا عنها فشاهدته وهو يمزق جلده ويكسر عظامه...
"أنا أخبركَ ألا تتدخل كي لا يصيبك ما اصابَ أخي، من بعد خسارته زوجته وابنه كره الحكيم وكل من في القرية وعاداهم جميعا لكنهم كانوا أكثر منه عددا وقوة لذا جعلوه يبدوا كالممسوس لا يقربه أحد وفي النهاية خسر حياته"
استذكرت بيرل حَمل زوجة أخيها، إذ حملت بوقت لم يوافق عليه الحكيم ومن أفشى سرهما كانت سيترين، فانتهى المطاف بابنهما الذي لم يجف حبله السري، يحبس بشوال وألقي في البحرية، حينها تبدلت المفاهيم برأس ماركو وبات معارضا شديدا للحكيم بعد أن كان من أقرب الناس إليه وأشدهم تأييدا له.
ومن شدة تمرده هو عاد للإيمان بما كان يؤمن به أسلافهم في القرية وعوضا عن توجيه يديه كي يدعوا للجبل والريح والغابة بات يدعوا لمن في السماء. وهذا الإيمان رابط قلبه عندما زار مدينة برلين مع بيرل بعيدا عن خرافات وأساطير القرية..
انصت هايدن لما قصته عليه وهكذا انكشف الستار عن بعض من قصة ماركو ذاك والذي كان بشكل عجيب خيطا من الخيوط المرتبطة بالحكيم.
لكن هذه لم تكن القصة كاملة وهايدن فطن ذلك. فالعبارة التي كتبها ماركو في الدفتر ومذكراته التي أخفتها مدام جوان، جعلته يدرك أن ماركو لم يكن كأي قروي عادي قد اختفى من السجل.
بل كان شخصية مهمة ولها توغلات عميقة في البنية التحتية لأسياد هذه القرية.
وهايدن قد وقف أمام خيارين، لا ثالث لهما.
إما أن بيرل حقا جاهلة بما يحدث حولها.
وإما أنها داهية، لها منصب كشقيقها لكنها تتدعي الغباء معه.
لذا قرر هايدن أنه من الآن وصاعدا سيحتفظ بكل المعلومات المهمة لنفسه ولن يشاركها مع أحد هنا، فالخطر محيط به من جميع الاتجاهات ولا يعلم من أي جنب سيلوحه لهيب المحرقة
تمكنا في النهاية من العودة إلى المنزل وفي الصباح الباكر خرج هايدن قاصدا مكان عمله وفي طريقه كان القرويون مجتمعون والذعر بادي عليهم فلما اقترب كي يرى ما جمعهم هو صُعِق من رؤيته حفيدة السيد فيكتور التي قدمت له الطعام البارحة جثةَ هامدة بالكاد يمكنه التعرفُ عليها.
"إن عدد ضحايا الوحوش يزداد يوما بعد يوم"
"نحن نفعل كل شيء ونُطهرُ المنازل فلما لازال يوجد هناك من تصطاده الوحوش؟"
تساءلت مجموعة فيما بينها وقد تزعزع إيمانهم فردت المجموعة الأخرى أن هؤلاء الذين ماتوا، هم من جلبوا الهلاك لأنفسهم.
تذكر هايدن حينها دفتر الحسابات وارتفعت يده لعنقه خشية أن يكون هو التالي.
"هل رأيت ما حدث يا دوريان" قال نيكو والحزن بادي عليه.
"قيل أن الخيول هربت من الأسطبل فأضطر عدد من عائلة هوفمن للخروج والبحث عنهم" رد مايكل وانتقل ببصره لهايدن "لقد كنتَ هناك البارحة أليس كذلك؟"
زم هايدن شفتيه وأومئ موافقا، راقبهم في نقاشهم والعبارة التي كتبها ماركو لم تفارق ذهنه..
قصد هايدن العمل وهناك قابل غلام سائس الخيل فسأله عن حادث البارحة وقال له الصبي أن الخيول قد عادت جميعها.
"من الجيد أنكم عثرتم على الفرسِ أسود، السيد فيكتور لن يكون سعيدا لو علم برحيله"
"على الاطلاق سيد دوريان، أسود لم يغادر الاسطبل مطلقا... لأصدقكَ القول، إنه فرس ذكي وفي أحيانٍ كثيرة يثير الرعب في داخلي"
"أخبرني إذا ألم تعثروا على ذاك الذي اطلق سراح الخيول؟"
"لم نفعل، في الواقع الجميع غادر المزرعة وفجأة سمعنا صوتهم وهم يفرون لكن بيني وبينك سيد دوريان"
تلفت الغلام حوله ثم أشار لهايدن أن يقترب كي يهمس بأذنه "لقد عثرت على حوافرِ بقرة أمام الاسطبل"
استنكر هايدن أمر هذه الحادثة الغريبة وظن حينها أن هذا الغلام مخبول.
"سيد دوريان إن جنازة حفيدة السيد فيكتور ستقام في الظهيرة فهل ستحضر؟"
"ألستم تقومون بحرقِ الجثث؟"
"هي لم تكن مصابة بمرض كي يتم حرقها وفي الحقيقة إنها من عائلة هوفمن وهؤلاء لا يتم معاملة موتاهم بهذه الطريقة... ان لهم منصبهم ومكانتهم"
تعجب هايدن من أمر هذه القرية ثم استغرق في التفكير يستذكر ليلة البارحة بينما يجلس في مكتب السيد فيكتور ومن خلف النافذة عند الحديقة أقامت الفتيات حفلة شاي مع عرائسهن فانضم إليهن صبي وصاح مهددا بسيفه "سوف أنهي على حياتكم وسأجني منكن الذهب!"
قطب هايدن حاجبيه من لعبهم الذي تحول فجأة لدموي ونهض كي يلقي عليهم نظرة فسألهم لما وجد الصبي يلوح بسيف خشبي مهددا به أخواته "انتن فتيات صالحات ومن كل واحدة سأصنع تلة من الذهب!"
"ما الذي تهذي به يا ولد، دعهن يلعبن ولا تزعجهن"
"أجل! استمع للعم دوريان وابتعد عن هنا" اشتكين منه وتذمرن.
"ثم اخبرني ما هذه الدموية وما علاقة كونهن صالحات بالذهب؟"
نزع الصبي قناع جمجمة حيوان صنعه أيضا من الخشب وقال "إني ألعب دور يانيك، ألا تعرفُ قصته؟"
"أعذرني لكنها مرتي الأولى مع هذا الاسم"
"هل حقا لا تعرفه؟!" تعجب الصغار من كونه جاهلا بهذه القصة الشهيرة.
"ألم تسمع بيانيك الذي يقف على كتفه عصفور أسود، يعلمه كيف يصنع الذهب من دماء الصالحين؟" سأله الصبي.
"كم مرة علي اخبارك أني لم اسمع بها وهل هي حقا مشهورة؟"
"بالطبع! يا عم دوريان إن يانيك هو حطاب احب ابنة العمدة لكنه فقير وليتزوج منها كان عليه تقديم سبع صناديق من الذهب، فقابل ساحرة في أعماق الغابة وأهدته عصفورا أسود مقابل أن تنزع منه قلبه واخبرته أن العصفور سيعلمه كيف يمسي غنيا، فكذب يانيك، ثم سرق ومع كل ذنب يرتكبه بحق الصالحين يحصل على الذهب وفي النهاية علمه الطائر كيف يصنع تلال الذهب من دماء الأبرياء، فأعماه طمعه وقتل من احب لتنضم إلى مجموعته من تلال الذهب" حكت له إحدى البنات القصة بكل شغف وهايدن لم يرغب بمقاطعتها قائلا ان القصة لا تجذب اهتمامه.
وبينما هو يتبادل أطراف الحديث مع الصغار، فجأة أتى صوت تفجر جعله يقفزُ من مكانه ويختبأ تحت المكتب خشية قدوم الوحوش...
أطل هايدن برأسه عبر النافذة، فوجد أنه احد أبناء السيد فيكتور يتدرب على التصويب باستعمال البندقية فحملق هايدن بالبندقية محتارا "تبا.. إن الصوت هذا يشبه الصوت الذي يأتي قبل زمجرة الوحش.."
قطب حاجبيه مستنكرا لكن العقدة انحلت حالما تذكر حديث بيرل فيما مضى فلقد اخبرته أنه لا يتوجب عليه الخوف من الوحش إنما الخوف من الموت الذي سيصيده أولا...
"المعذرة يا أولاد لدي عمل وعلي الذهاب"
ترك هايدن المكتب واستأذن من عائلة هوفمن أنه سيغادر كي يستحم ويتجهز للعزاء لكنه في الحقيقة، ذهب لجلب حقيبته وعاد مسرعا وبينما الجميع منشغل بتجهيزات العزاء، هو ولج للغرفة حيث كان التابوت موضوعا والشابة في داخله ماكثة.
"قد لا يجيب الموتى على الأسئلة.. لكن بدنهم يجيب"
فتح حقيبة العدة وارتدا قفازات ثم بالمشرط والملقط بحث عن أسباب موتها حتى وجد ضالته أخيراً، ألا وهي رصاصةٌ ذهبية اللون ثقبت صدرها في موضع قلبها..
كم كان هايدن سعيدا حينها بالعثور على قطعة من قطع هذا اللغز، لكن هذه القطعة اصابته بالرعب الشديد، لدرجة أنهُ عزِمَ على مغادرة هذه القرية بأسرعِ وقتٍ ممكن..

.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة