"هذه هي القطعة الأخيرة"
قال روميو ونفض يديه منهكا من نقل صناديق خشبية احتوت فيها مجموعة من الأواني الزجاجية زرقاء اللون، وهذا كان لونا مرغوبا به بكثيرة في البلدات المجاورة.
اومئ هايدن برضى واستخرج من حقيبته الجلدية صرة نقود واعطاها لروميو بأكملها، تعجب روميو من الكمية وقال "هذه أول مرة يدفع لي آل هوفمن هذا المبلغ من المال"
"إن هذا ما تستحقه لكن حفيد فيكتور الحقير ذاك كان يختلس الكثير"
"ذلك الولد ملعون ابغضه منذ ان كنا صغارا ويبدوا ان كرهي له منطقي.. صحيح كدتُ أنسى، انتظرني هنا فاجلب لك شيئا"
وكما قال روميو ول لمنزله مسرعا ثم عاد وفي جعبته صندوق صغير من الخشب "ما هذا؟" سأل هايدن لما سلمه روميو الصندوق.
"اوصله لبيرل ولا تفتحه، هي عندما سترى ما بداخله ستعلم من أرسله فاليوم يصادف يوم مولدها.. ماذا تفعل ألم اقل لك ألا تفتحه!"
صاح روميو بهايدن الذي فتح الصندوق بفضول وتفحص الكأس الزجاجي في داخله، زجاجه ازرق وفيه بعض المواقع مطلية بالأحمر "هذا دب؟" سأل باستهزاء.
"دب ماذا؟ إنها وردة ألا ترى!"
"تسمي هذه وردة؟ انت حقا معتوه كما تقول بيرل" اعاد الكأس للصندوق وروميو من عنده صاح به لكنه توقف وسأله كفتى مراهق ذكرته من يحب "هل قالت عني شيئا آخر؟ هل هي حقا تذكرني؟ أخبرني هل تذكرني دوما؟"
"لا. لقد شتمتك مرة في زفاف اختها ولم اسمع عنك مجددا"
اجابه هايدن بتعابير غير مبالية لكنه في داخله مغتاظ وعزم على التخلص من هدية روميو واحضار واحدة أجمل منها ستعجب تلك المرأة. لكن هايدن قطب حاجبيه مستنكرا وسأل نفسه هل هو بوعيه أم ماذا فهل حقا اصابه الهم للولوج لقلب تلك القروية؟
اتكئ روميو بذراعه على العربة المحملة بصناديق تجارته وقال ساخرا من حال هايدن وفي نيته سحق كبريائه فدوريان بالنسبة له رقيب يهدد بقاءه في قلب حبيبته"إذا أرى أنك اصبحت بشكل رسمي موظفا عند فيكتور هوفمن، كنت انتظره ان يطردك شر طردة لكن يبدوا انه لم يفعل"
"تحلى ببعض الأخلاق، قبل قليل انصفتك في أجرك" توجه هايدن لمقدمة العربة وصعد إلى جوار سائقها "لكن ما باليد حيلة الحمار يبقى حمارا"
"انتظر! توقف عندك لحظة بماذا وصفتني!"
لكن صياح روميو كان بلا جدوى فالعربة قد تحركت بالفعل مبتعدة عن أرض آل آرنر متجهة نحو أراضي آل غلور وهناك كان نيليو في انتظاره يلوح له.
اوقف السائق العربة حيث اشار لهم نيليو وباشر هو وابنائه وافراد من آل غلور بنقل الجبن الذين قاموا بصناعته وتكديسه في العربة بينما هايدن كان يعد الكمية.
"لقد فرغنا، هذه كل الكمية" نفض نيليو ثيابه ومد يده ليجني حصتهم من النقود، استخرج هايدن صرة من النقود لكنه اقتص بضع الفرنكات أمام أعينهم، ثم سلمهم الصرة حينها صاح نيليو معترضا.
"ما بك يا هذا قد قطعت من حصتنا!"
"إن الكمية ناقصة. من المفترض أن تسلموني عشر صناديق وفي كل صندوق اثنا عشر لفافة من الجبن لكن في بعض الصناديق الكمية ناقصة اثنان وفي بعضها ثلاثة"
"انتظر عندك يا منعدم الضمير! بسبب هذا لم تدفع لنا المتفق عليه كاملا!"
"بالطبع، فانا لا ادفع لك مقابل كل صندوق بل ادفع لك مقابل كل لفافة"
"إن هذا ظلم!"
"أنا ظالم يا ظالم النفس انت؟ إن كان لك شكوى فاذهب لفيكتور واخبره انك تريد نقودك كاملة مقابل كمية ناقصة"
ضرب هايدن على العربة كي تتحرك وترك آل غلور يصيحون خلفهم قاصدين قطعة أرض أخرى وفي النهاية توقفت العربة عند تلة آل باومن حيث جوان كانت تنتظره برفقة بيرل..
"ها قد أتى ابن اخي العزيز، يا بني أراك متعبا فهل تود شرب بعض من العصير البارد؟ اتيت في وقتك فجدتك هذا النهار قد خبزت فطائر لذيذة"
"لا وقت لي يا مدام، يتوجب علينا العودة مبكرا"
"ما مدام هذه يا عزيزي، نادني بعمتي الحبيبة ولا تقلق لن نقوم بتأخيرك، يا إليوت واذهب واجلب لعمك المفضل حصة من العصير والفطائر كي يقوي بها بدنه ألا تراه نحيلا متعبا"
تذمر إليوت فضربته امه على رأسه، تجبره على الركض مسرعا، أما عن بيرل فلقد حملت الصناديق وقامت بترتيبهم في العربة. نزل هايدن من مكانه وأخذ عنها ما هو ثقيل فوبخته عمته.
"يا حبيب عمتك لا تتعب نفسك، فاختك قادرة على تولي هذا الأمر بنفسها، يا بيرل أسرعي ولا تتكاسلي هكذا ألم يخبرك اخاك الموقر انه مستعجل"
"حاضر" تمتمت بيرل وحملت التالي بنفسها ثم سألته "متى ستعود اليوم للمنزل؟ أمي تنوي شوي لحم الضأن"
"سأحاول ألا أعود عند المساء هذه المرة"
تبسمت بيرل وقالت "إذا لا تتأخر علينا في العودة"
تجرع هايدن حلقه ولوهلة راوده تخيل أن هذه الشابة الواقفة أمامه هي زوجة تطلب من زوجها العودة مبكرا ورغم العيشة العفنة إلا أنها تحتفظ بابتسامة حانية وفي المنزل ينتظره ابنائه الثلاثة..
اومئ هايدن لها ثم فرك على جبينه كمن يجمع افكاره الذي تبعثرت وقام بحساب الكمية مستعجلا. احبت جوان منظر صرة النقود التي استخرجها ابن اخيها من حقيبته الجلدية وكم سحرتها صوت النقود وهي تتصادم ببعضها.
"تفضلي" سلم هايدن الصرة لبيرل ثم استأذنهم أن يفر للمرحاض وبالمرة يغير ثيابه لأخرى أنظف منها فلقد اتسخت وكمه تمزق بسبب مسمار طائش ليس في مكانه. وفي الخلف خطفت جوان صرة النقود من بيرل وفتحتها لتعدها واحدة واحدة.
لبى هايدن نداء الطبيعة ثم قصد غرفته وفي طريقه، سمع شيئا يرتطم بالأرض فلحق بمصدر الصوت ووجده كتابا معقودا بحبل كي لا يفتح، والعجيب أن الكتاب ملقي خارج صندوق جهاز مدام جوان.
"ما هذا وكيف خرج؟" تلفت حوله بحيرة ولما سمع مواء القطة ماكثة على السرير انتابه رعب شديد "تبا، آمل أنك لست ناطقة"
عاود هايدن فحص الكتاب وزلق قليلا من العقدة ليرى ما حفر عليه فتعجب لما قرأ اسم ماركو ليدرك أن ما بحوزته هي مذكرات شقيق بيرل "لكن ما الذي تفعله مذكرات ماركو في صندوق جهاز مدام جوان؟"
"دوريان! دوريان يا بني أين انت؟! هل وجدت ما ينفعك من الثياب؟!" انتفض هايدن في مكانه لما سمع صوت مدام جوان تنادي من الأسفل فأعاد المذكرات لمكانها "لازلت ابحث!"
صاح من مكانه وخرج من الغرفة ليلج لخاصته ويتظاهر بالبحث في الخزانة. سمع خطوات احدهم تتسلق السلالم وظنها المدام لكنه تنهد براحة لما ظهرت بيرل تطرق على باب غرفته المفتوحة "سير دوريان؟ لقد تأخرت"
"قضيت وقتا عصيبا في الخلاء" أرغم نفسه على صنع ابتسامة وأشار باصابعه إن كان من يراقبهم هنا.
أشارت له ينتظر قليلا ولما سمع كلاهما وقع خطوات تبتعد هي اقتربت منه كي لا يسترق احد السمع "هل حدث شيء ما سير هايدن؟"
أراد هايدن أن يفصح لها عما وجده وعزم على ذلك لكنه تراجع عن هذه الفكرة لما رأى القطة واقفة عند باب غرفته وقال مغيرا الموضوع "ما اكثر شيءتحبينه بيرل؟"
"ماذا؟ لما تسأل؟"
"إنه سؤال عادي لا غاية منه"
هزت كتفيها وقالت "هناك الكثير من الأشياء التي احبها"
"حسنا اخبريني بشيء تحتاجينه"
"سير هايدن هل انت بخير؟"
"ولما لا أكون كذلك؟ هيا بسرعة قولي أول شيء يخطر على بالك"
"بطة!"
"بطة؟!"
"إنها أول شيء خطر في بالي"
"هل حقا ترغبين ببطة لتأكليها؟"
"لا! لما عساي آكل طائرا جميلا كذاك، إني أريدها أن تتمشى معي أينما ذهبت"
"تريدين بطة لتؤدي وظيفة كلب وانت بالفعل لديك كلب؟"
تبسمت بيرل وتذمرت من السخرية البادية في صوته "لما لا"
"لما لا" كرر هايدن قولها وهز رأسه من هذه المرأة فقد ذكرته مجددا أنها مجرد قروية لا رغبات ولا طموح لها سوى الزرع والرعي.
"إني عائد لعملي الآن فأستمحيك عذرا"
"حسنا" تنحت بيرل عن طريقه كي يغادر وبينما هو يسير في الممر نادت عليه بصوت هامس واستوقفته لتدس بيده شيئا "سير هايدن، ارتدي هذه ولا تفرط بها"
فتح هايدن يده فوجدها قلادة الحظ خاصتها "شكرا لكن لا أشاركك نفس المعتقدات" أراد اعادتها لها فاستحلفته أن يبقيها لديه إلى أن يأتي الفرج ويغادر القرية، ولما رأى هايدن اصرارها ظن أن هذه هي مجرد خطوة عاطفية، تتخذها بيرل بكل شغف نحوه كما سيقدم هو على التقدم بخطوة عاطفية واحضار هدية لها في يوم مولدها.
عاد هايدن للعربة وجلس إلى جوار السائق فقال"سير دوريان، عن هذه الهدية التي اعطاك اياها روميو، لم تهدها لاختك"
"هل حقا نسيت ذلك؟ لا تبالي سأعطيها لها عند عودتي"
هز هايدن كتفيه غير مباليا ولما عادوا لأرض آل هوفمن، بقي يشرف على نقل البضاعة فاليوم سيغادر السيد هوفمن مع ثلاثة من أبنائه وبعض من عماله قاصدين البلدة وما حولها للبيع ولن يعودوا إلا بعد مضي شهر ونصف.
وبسبب هذا اليوم المميز كان السيد فيكتور مستعجلا، يسير من هنا ومن هناك يصرخ في الجميع أن يستعجلوا ولا يرتكبوا غلطة قد تعكر عليهم رحلتهم أما عن نساء هذا الدار فلقد جهزن من الطعام ما سيكيفهم الطريق.
"دوريان! يا دوريان اتبعني حالا!"
صاح السيد فيكتور بوجه دوريان الذي تبعه وفي نفسه تعجب من أمر هذا العجوز الذي يبدوا أنه يصغر في السن ولا يتقدم. ولج الاثنان لمكتب السيد فيكتور وهذا المكان لم يكن يسمح لأي كان بارتياده.
"دوريان، سوف أغادر قريبا لذا سوف أوكل إليك مهمة إعطاء العمال أجرهم لهذا اليوم"
"حسنا سأسلمها لحفيدك فِن"
"لا انت لن تعطيها لفِن بل ستسلمها بيدك لهم"
"لكن سيد فيكتور ليس باستطاعتي البقاء هنا طويلا فمنزل مدام ميلينا بعيد عن هنا ولن أتمكن من الوصول قبل المساء"
"وهل لك الجرأة على عصيان حديثي؟! أنا ادفع لك مقابل خدمتي وبصفتي سيدا عليك لا يمكنك سوى الموافقة على ما أقول"
"ان عائلتي تنتظرني في المنزل"
قال هايدن بعفوية ثم توقف، لا يصدقُ أنه لقب هؤلاء الغرباء الذي يعيشُ معهم بعائلة. لكن لا حياة فيمن تنادي، فلقد وبخه السيد فيكتور أشد التوبيخ وأما عن المسكن فلقد امر واحدةً من حفيداته بأن تجهز له غرفة الضيوف كي يمكثَ فيها.
جلس هايدن مكرها على الكرسي في المكتب وباشر بحساب حصص أجور العمال ولم يكن بوسعه اعطائهم إياها إلا في ساعات الغروب الأخيرة، وقف هايدن مكتوف اليدين يشاهد عودة العمال لبيوتهم القريبة من هذه الأرض ومن خلفه نادت عليه حفيدة فيكتور.
"سيد دوريان إن عشاءك جاهز فهلا تفضلت"
أومئ هايدن وسار خلفها مكتوف اليدين، قدمت له العشاء في مكتب جدها "جدي أوصانا أن نجهز لك غرفة الضيوف، سأنادي على حضرتك حالما تجهز"
"شكراً" اكتفى هايدن بقول ذلك وقلب بملل صفحات دفتر الحسابات لهذا العام وقد اخبره السيد فيكتور وبعض من مساعديه أنهم خلال هذا العام والعام الماضي أنه تم توظيف الكثير ثم تمت اقالتهم لعدم اتقانهم الحساب جيدا.
ألقى بالدفتر جانبا ثم تجول في أرجاء المكتب فوقع بصره على أرفف فيها كتب جلدية فالتقط واحدا ووجد على غلافهِ تاريخا يعود لستِ سنوات مضت "لابد أنه دفتر الحسابات السابق"
قلب الصفحات وتعجب من عدد العمال الكثير الذين كانوا يعملون عند آل هوفمن والعجيب أنهم يحملون أسماء عائلات لا وجود لها هنا لكنه ومع تقليبه للصفحات استنكر أسمائهم التي شطبت وحل محلها آخرون.
"أين ذهب كل هؤلاء الناس؟ لم أرى شخصا هنا يحمل اسم عائلة بوتشير من قبل"
التقط دفترا تاريخه كان أقدم وفي أول صفحة وقع اسمه على قروية كانت تعمل عند فيكتور تدعى أنوك وبينما هو يقلب وجد أسم غريتا قد شطب عليه كما شطب على أسماء عديدة بدت له في الوهلة الأولى مألوفة.
"أين سمعت باسم غريتا هذه من قبل؟"
كاد أن يلتقط هايدن دفتراً آخر لكنه غير رأيه ووصل لآخر صفحة من الذي بيده فإذا به يفزع من أسماء العمال قد شطب عليها بالكامل ولم يتبق منهم أحد...
لدرجة أن الذي كان يدون دفتر المحاسبة قد شطب على اسمه أيضا...
بحث هايدن عن اسم المسؤول عن دفتر الحسابات منذ ذلك التاريخ فوجد أن ماركو غلور قد تولى هذه المسؤولية لسنين طويلة ثم فجأة شُطِب اسمه واختفى من السجل.
لم يتوظف ماركو أبدا بعدها عند السيد فيكتور ولم يذكر في مكان آخر في مهنة مختلفة كما لو أنه اختفى من الوجود حاله من حالِ باقي عمال هذه الأرض.
شعر هايدن حينها بالخوف فلقد تذكر عدد البيوت المهجورة في القرية ولم يوجد خيار آخر سوى أنهم ماتوا جميعا أو بمعنى أصح لربما قُتلوا....
جلس هايدن على الكرسي ويداه التي قلبت تلك الصفحات كانت ترتجف ففي نهاية احدى الدفاتر وجد عبارة تقول؛
نحن هم الوحوش وكاتبها كان ماركو غلور شقيق بيرل...
"سيد دوريان، قد قمنا بتجيهز الغرفة لكَ فهلا تفضلت؟"
"آه؟ في الواقع أنا ارغب في الرحيل"
"ترحل؟ وكيف ترحل ولم يتبقى سوى خمسة عشر دقيقة على الغروب"
"من فضلك، أنا لا رغبة لي في البقاء هنا"
حاول هايدن مجادلتها لكن حفيد فيكتور تدخل وأصر على بقائه عندهم وبينما هما يرشدانه نحو غرفة الضيوف سمع الثلاثة ضجة الغلام، خادم سائس الخيل وهو يصيح بهم مستغيثا فلقد فرت أحصنة السيد فيكتور جميعا ولم يبق منها أحد.
انتاب الفزع قلب الحفيد وكثير من رجال آل هوفمن خرجوا للبحث عن تلك الاحصنة واعادتها بصحبة كلابٍ سوداء شرسة لا تظهر الرحمة. متخلين عن توصية جدهم بتنفيذ القرار الذي أنزله الحكيم بحق دوريان.
في اللحظة التالية، لم يوجد أي أحد يمنع هايدن من الرحيل، فخرج عبر الباب الأمامي وسار في المزرعة باتجاه السور وهو يراقب الشمس تغربُ خلف الجبال العالية وهنا سأل نفسه...
ما بال عائلة هوفمن لا تخشى الليل كباقي القرويين؟
"سير هايدن!"
انتاب الرعب هايدن عندما ناداه احد باسمه ولما بحث عن صاحب الصوت وجد أنها بيرل...

.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة