كان صباح بيرل مختلفا عن أي صباح عاشته منذ أن بلغت العشرين، وبشكل أدق بعد أن تجاوزت الرابعة والعشرين، فهي لم يخيل لها أبدا أن تجلس على فراش ليس بفراشها، في غرفة ليست بغرفتها، وعلى الفراش يجلس إلى جوارها، رجل هي تخشاه، قد أتى لقريتها منتحلا هوية حفيد والدتها الذي انتحر، يقوم بتمشيط شعرها.
كل هذا فكرت به وهي أيقنت في نفسها، أنها تعيش ذروة الإثارة، فأين عساها تجد هذه الحزمة من العجائب، مجتمعة في مكان واحد...
"آهه! إنه يؤلم!"
"شعركِ هذا سأقوم بقصه"
"لما؟"
"ما فائدته طويل وانت لا تمشطينه أبدا، إنه أشعثٌ كثير العقد"
"فقط قم بضفره ولن تضايقني عقده"
زفر هايدن منها، فهو يكره عدم التنظيم والعقد في شعرها أيقظت الوسواس القهري في داخله، لذا هو عزم على فكِ عُقد شعرها عقدة، عقدة وهذا النشاط أمر لم يتخيل هايدن أنه سيمارسه بهذه الكثرة.
فهو ليس بالرجل الخدوم لعشيقاته وبقول عشيقاته، يقصد واحدة فحسب، فهو رجل خائب لم تقبل امرأة بالنظر إليه، سوى ابنة الطبيب ستينر...
وقد كانت تلك المرأة، تجربة فاشلة في حياته ووصمة عار في تاريخ رجولته، إذ كانت امرأة تمارس أعمال الرجال ومن هواياتها أخذ بندقية والدها وصيد البط، في البداية ظن هايدن أنه سيتقبل طباعها الخشنة، لكن عندما وصل الأمر بها، لمشاجرته كلما خرج مع أصدقائه كما لو أنها رجل المنزل، قرر الانفصال عنها.
بالطبع حينها لم يحظى بحياة هانئة، فلقد لاحقته وأهانت من كرامته كثيرا أمام الناس، حتى شعر بنفسه كما لو أنه امرأة تهرب من زوجها المهوس، ولم يحصل على الراحة إلا بعد أن أرسل السيد ستينر ابنته لمنزل زوجته، فهو أيضا قد ضاق ذرعا من تصرفاتها المشينة.
إذ اصطحبها والدها مرة في أمسية، وابن صديقه اشتكى له من ابنته التي اعترضت طريقه فجأة وقامت بمعاكسته، في محاولة رجولية لإلقائه في السرير وما كان بيد الشاب سوى الهروب كفتاة عذراء وطلب العون من والدها.
"سير هايدن، أود سؤالك شيئا"
"تفضلي"
"هذا الثوب ليس بثوبي فأين خاصتي؟ وكيف قمتُ بتدبيله دون أن أشعر؟"
سألت بيرل بشكل غير مباشر، لتعلم من غير لها ثيابها، فهي قلقة من أن يكون هايدن من غير لها ثوبها بحجة أنه زوج لها..
"اضطررت لشراء ملابس لك والممرضة من قامت بتغير ثيابك، في البداية أخبرتني أن أفعل ذلك لكن أخبرتها أني لستُ زوجك"
"اخبرتهما الحقيقة؟!"
"أجل، اخبرتهما أنك فتاة من القرية التي اسكن بها ضاعت في الغابة واصيبت لذا اضطررت لجلبكِ للمدينة كي تتلقى العلاج... ما بكِ تنظرين لي هكذا؟"
"لقد لطخت سمعتي بالطين، ماذا سيقولون عني الآن! أسافر بين المدن مع غريب"
"ما بي أراك متحمسة لكذبة أننا زوجان؟"
"لستُ كذلك! أفضل عيش حياة عفيفة على أن اتزوج برجل مثلك... لا تظن أنه لمجرد شكري لك فقد غفرتُ لك، لا زلت رجلا مشكوكا في أمره بالنسبة لي"
"من المؤسف سماع هذا، كنتِ تروقين لي لدرجة أني لم أمانع الزواج منك"
"هل حقا ما تقول!"
تبدلت تعابير بيرل لأخرى خجلة فهي لم تنتظر منه هكذا رد، ولما أرادت منه تفسيرا مفصلا، هو نهض بعد أن فرغ من ضفر شعرها وتجاهل عيناها الفضولية يخبرها أن تستعين بالعكازين.
"سير هايدن، متى اشتريت كل هذا وقد نمت هنا ليلة واحدة فحسب"
"ليلة واحدة؟ لقد كنتِ طريحة الفراش لثلاث ليالي متتالية"
صعقت بيرل من المدة التي قضتها نائمة وأول ما خطر لبالها هي والدتها التي تنتظرها في القرية، لا بد أنها حزينة على فراقها الآن...
حاولت بيرل النهوض وهايدن ساعدها على استعمال العكازين، في النهاية هو أعاد ترتيب الغرفة بشكل دقيق ومسح على الغطاء فلا يظهر فيه أيُ أثر للاستعمال.
هنا آمنت بيرل بأن هذا الرجل مهوس، وكم أحست بالراحة عندما غادرا المنزل بعد أن كشف الطبيب عليها للمرة الأخيرة وأخبرها بكثير من التوصيات للحفاظ على سلامة قدمها لكن ما جعل الريبة تنتابها هي الممرضة لما ودعتهما وأوصت هايدن بأن يعتني بزوجته...
ألم يخبرها أنه أطلعهما على الحقيقة؟
هما ابتعدا عن دار الطبيب نحو موقف العربات، قرب محطة القطار، وهنا بيرل سمحت لنفسها بالحديث قائلة "سير هايدن، أنا ممتنة لكل ما قدمته، فلقد حملتني على ظهرك وقطعت مسافة طويلة دون الاكتراث بالوحوش، أي أجل كنت أخشاك وفي احدى المرات وضعت السكين ضد عنقك لكنك كنت شخصا طيبا والاهم من هذا كله أنك اعدت السرور لقلب والدتي ميلينا، لا تقلق سوف أختلق الأعذار لها... أنا سيئة في الوداع لذا لنفترق الآن دون اطالة في الحديث"
صوتها كسر من شدة تأثرها ودون أن تدع له فرصة هي أخذت نفسها وذهبت في طريق لن يتقاطع مع طريقه أبدا، شعرت بيرل حينها بحزن شديد وانفها تصبغ بالاحمر معلنا عن اقتراب موعد نزول دموعها الباكية...
بالنسبة لها كانت هذه النهاية ومعزوفة حزينة لكمان وحيد عزفت في اللامكان معطيا للمشهد حالة من البؤس...
"إلى أين انتِ ذاهبة؟"
"اذهب يا سير هايدن ولا تنظر خلفك، سوف اعود للقرية وانت عد الى حيث تنتمي"
"ما الذي تتحدثين عنه؟ يا امرأة تعالي لنتناول وجبة الافطار قبل ان نعود للقرية فإني اتضور جوعا"
ذلك الكمان قد قطع وتره كحزنها الذي انطفأ، وبيرل استدارت ببدنها مستنكرة قوله ثم هي فطنت مقصده، فبعد أن جلس كلاهما في مطعم وجاءت الأطباق ممتلئة بالطعام هي أدركت مدى جوعها. رمقته من تحت أهدابها محرجة مما فعلت قبل قليل فلقد تبين انه أتى لهذا الجزء من البلدة قاصدا المطعم الوحيد فلا يوجد غيره ومكانه عند محطة القطار.
"بعد أن ننهي طعامنا سيتوجب علينا شراء ما سيكفي رحلتنا، فالمرة السابقة جئت دون أن استعد وقد ندمت ندما شديدا... ما بكِ تبحلقين بي؟"
"هل حقا ستعود للقرية معي؟"
"لا يوجد حل آخر في الوقت الراهن"
"اوه.. صحيح قلت لي سابقا أنك ركبت نفس قطار دوريان عن طريق الخطأ فأي قطار كنت تقصد ركوبه حينها"
"كنتُ قاصدا سانت غالن حيث تقطن جدتي" دون هايدن عنوان جدته على منديل كانت قد اعطته إياه مدام ميلينا سابقا كما لو أنه يذكر نفسه وكتابته كانت ملولة فهو ينتظر انهاء بيرل لطعامها.
"هل هي بعيدة عن هنا؟"
"إنها في الجزء الآخر من البلاد"
"أعطني المنديل إذا"
"ماذا؟ لما؟"
"لقد سكبت عن طريق الخطأ بعضا من المربى على ثوبي"
"ما بكِ امرأة فوضوية هكذا، دوما ما توسخين ثيابك كما لو أنك مجرد فتاة في الرابعة من عمرها.. خذيه ولا تعيديه"
"لا أفهم سبب تذمرك هذا، لما أخاف على ثوب ويمكنني خياطة غيره"
أخذت منه المنديل وتظاهرت بأنها تنظف البقعة لكنه لم توجد أي بقعة وبيرل دست المنديل في كم ثوبها تحتفظ به. انتظرها لتكمل طعامها ثم خرجا يقصدان متجرا لكنهما اختلفا في أي واحد يقصدان، هي اخبرته أن يأخذ خبزا وهو أصر على أخذ فاكهة. هي أخبرته أن يشتري جبنا وهو أصر على شراء النقانق فكيف للجبن أن يسد جوعه طوال الرحلة...
وبحكم أن بيرل تعثرت مرتين ودهست على قدمها المصابة مرات كثيرة هو أبقاها جالسة على حافة النافورة وجعلها تمد ساقها المصابة ريثما ينهي التسوق وبيرل لم ترحمه ولم تدعه يذهب إلا بعد أن قطع وعدا عليها بأنه سيشتري ما اوصته به.
"آخ من هذه القدم المصابة، لو كانت سليمة لسبقته واشتريت كل شيء قبل أن يرف له جفن... كنت ذات فائدة اقضي حوائج الناس والآن أنا أحتاج من يقضي لي حوائجي"
تذمرت في نفسها وانتقلت ببصرها لمياه النافورة التي تنصب من جرة سيدة نحتت من الصخر، تجولت ببصرها على سكان البلدة والذي عددهم كان يفوق عدد سكان قريتها. وما جعلهم ملفتين لاهتمامها انهم كانوا مختلفين عنهم بالثياب وبالهيئة..
ففي قريتها الجميع يرتدي ثيابا بالية فالحقل يهلك كل قماش جديد في حين أن الأهالي هنا يرتدون ثيابا حسنة ونظيفة، انتقلت ببصرها لزجاج المطعم الذي كانا يجلسان فيه سابقا وعبر زجاجه هي رأت أسرة بدت السعادة عليهم وابنائهم الثلاثة إلى جوارهم يتناولون طعامهم والضحك كان مؤنسهم...
حاولت بيرل تذكر آخر مرة هي اجتمعت مع أسرتها على مائدة واحدة ودون أن تشعر خيم الحزن على تضاريس وجهها إلا أن لحظاتها العاطفية افسدت بسبب ثلاث شباب يافعين قد سخروا من جبيرة قدمها..
"يا حلوة ما بكِ تجلسين هنا"
"ما هذه الجبيرة، هل تحاولين التسول بها"
اشاحت بيرل بصرها عنهم علهم يذهبون لكن واحدا منهم قد جعل دماء بدنها تجتمع في رأسها من هول ما أسمعها.
"تعالي معي للبيت وسأسعدك بعشر فرنكات... هيا يا فتاة اسمعي الكلام ولا تعاندي فلا أحد في المنزل وساصنع لنا جوا مناسبا"
"إنها فكرة موفقة، تعالي معنا ومن كل جيب ستحصلين على عشر فرنكات"
تلفتت بيرل حولها تبحث عن مهرب من هؤلاء، ولما اقدم احدهم على جر ضفيرتها، هي التقطت عكازها لضربه إلا أنها ضربت هايدن عن طريق الخطأ والذي ظهر فجأة وفي نيته إعادة تربية هؤلاء الحمقى..
"سحقا!"
"لم أكن اقصد!"
انتقل هايدن ببصره للشاب العالق من ياقته في قبضته والشاب كان يحدق به متأهبا لأي لكمة ستهشم وجنته، إلا أن هايدن ضربه بجبينه مصيبا إياه في أنفه لتتفجر أوعيته الدموية وينزف بشدة...
الدوار أصابه وتراجع بخطى وهنة ثم فر هاربا يلحق بصديقيه وبيرل عيونها كانت تذرف قلوبها لا دموع فهي منذ مدة طويلة لم يدافع عنها أحد ويبهرها بقوته كما لو أنهما حمامتان في موسم التزاوج...
"سير هايدن، لما الرأس... يدك كانت متاحة"
"أردت الاحتفاظ بعنصر المفاجأة ثم أخبريني اتركك بضع دقائق، فأجد كل من هب ودب يتجرأ عليك بلسانه"
"لا تبالغ، لقد كانوا مجرد ثلاث فتية وهم أصغر مني سنا، كنتُ سأتدبر أمري"
"بأن تدغدغيهم بعكازك هذا؟! هيا لنعد لقريتك تلك... تبا لكِ ولجمالك! ملعون أنا إذ اخرجتك من القرية مجددا"
"ماذا قلت للتو؟"
"لقد قلت تحركي أمامي قبل أن ارتكب جريمة"
اعانها هايدن على النهوض وبتريث هي حاولت مسايرة العكازين، سألته عما اشتراه واخبرها أنهما لن يجوعا في طريق العودة. وكالمرة الماضية دفع هايدن مبلغا من المال لقروي يقصد المرور قريبا من قريتهم، حينها شعر هايدن بأنه حمار أحمق فها هو يعود للمكان الذي كان يحاول جاهدا الهرب منه وسبب إعراضه عن الرحيل هي فكرة أرقته.
فلقد خشي أن الشرطة اكتشفت هوية دوريان الحقيقية بالفعل وهم الآن يبحثون عنه بتهمة قتل دوريان، فيكفيه ما فعله بجوزيف والبقية...
"بيرل"
"مم؟" اجابته وعيناها تجوب السهول الخضراء أمامهم فأموال هايدن وفرت لهما عربة نقل مكشوفة السقف يجرها حمار عجوز...
"أخبريني عن قريتكم تلك اكثر فلم يعد هناك ما يخفى"
"أوه... انت تسأل عن ذلك، سير هايدن كما رأيت فسيد قريتنا والمشرع فيها هو الحكيم، وهو رجل له عمر طويل، إذ مات والد جدي ولم يمت هو بعد"
"هل عاش كل هذا الوقت؟! لا يبدوا هرما على الاطلاق"
"هذا هو العجيب في الأمر، لذا يقولون عنه أنه مبارك ويقال أنه اختار قريتنا لينقذ أهلها من الظلام"
"وكيف يكون هذا؟"
"لا اعلم، فأنا مهما شرحت لي والدتي ميلينا لا استطيع فهم عقيدة قريتنا، لقد اخبرتني أن قريتنا في السابق كانت آمنة لكن وحشا من الجبل نزل إلى القرية دون سابق انذار، أهلك مواشينا وسفك دماء أهلها، ثم القرويون قاموا بالاستعانة برجل اشتهر عنه انه له علم سينفعهم وهكذا احضروا الحكيم، اخبرهم حينها وبعد الحديث لأحجاره أن قريتنا ملعونة سكنتها الأرواح الشريرة وسبب استيطانهم لقريتنا هي ارتكابنا للذنوب... سارع الجميع حينها بالتوبة لكنه اخبرهم ان الرب الذي ندعوه هو غير حقيقي وأنه يعرف الطريق الصحيح لذا ومقابل تخليصنا من الوحش علينا اتباعه"
"اخبرتني أمي أن هناك من القرويين من تمسكوا بإيمانهم الخالص تجاه ربٍ في السماء واتهموا الحكيم أنه خادم للشيطان، حينها ترك الحكيم القرية والوحش الواحد بات اثنين فأزهقا كثيرا وأراقا الدماء حتى تشكلت منها برك"
"ترجاه الجميع حينها وقبلوا يديه وقدميه ليخلصهم من الوحوش، فوافق الحكيم وأقر الكثير باتباعهم له ومن رفض اتباعه لقبهم بأنهم هم الشياطين التي جذبت الوحوش، فأمر اتباعه المخلصين أن يمسكوا بكل من لا يؤمن به وجميعهم احرقهم كي يطهر الأرض منهم.... فترى الزوجة تشي أمر زوجها والأخ يكشف أمر أخاه، لذا لم يتبق في قريتنا من يشكك بحضرته"
"وهكذا قام الحكيم بتعليمنا قواعد جديد وكتب لأجلنا كتابا يقول إن الخلاص فيه، ثم أقر أن كل مولود جديد يكون في بدنه شيطان، لذا هو يقوم على الفور بأخذ مشيمة الرضيع ويسكب عليها ماء مبارك ثم ينقع فيه صوف خروف ويعلقه في حجرة خاصة، هناك هو يقوم بالنفخ عليه وقول امور لا يعلمها أحد غيره، هكذا نحن نحصل على عافيتنا وحظوظنا في الحياة كالمال والسعادة"
"هذا ضرب من الجنون!"
"لذا أهم شيء في القرية يا سير هايدن هو عدم ارتكابك لأي ذنب، فالذنوب تدنس البدن وتسوقه لميتة شنيعة، فكل من يذنب ذنبا عظيما يسوقه ذنبه للهلاك إذ يمسي فريسة سهلة للشياطين، فتغيبه عن وعيه وتستدرجه للخارج في الليل فتأكله الوحوش حينها...لهذا كل من قتل على يد الوحوش هو في الحقيقة مذنب"
"وما هو هذا الذنب"
"هو لديه في الكتاب خمسون ذنبا ممنوع ارتكابه وما علينا فعله هو الانصياع لما يقول، حتى في اختيار الزوج ومواعيد الانجاب، فهو من يختاره وهو من يخبر الزوجين متى يختليان ببعضهما لانجاب طفل والاطفال الذين يولدون بغير تحكم من الحكيم يعتبرون تهديدا لأمن القرية فبأي لحظة قد تستولي الشياطين على رؤوسهم"
انتقلت بيرل ببصرها لهايدن الذي كان يحدق بها مذهولا من هول الجنون الفاخر الذي يعيشونه.
"اخبرتني أمي ميلينا أن والداي اذنبا لما اختليا دون أمر من سيادته... فحملت بي أمي عن طريق الخطأ، والدي أخذني منها وكاد أن يلقي بي في النهر كي لا تؤذي الشياطين باقي اخوتي لكن أمي ميلينا منعته وتوسلت الحكيم أن أعيش... قالت لي أنه وافق وقام بطقوس غريبة لتطهير بدني ثم ألبسني هذه"
كشفت بيرل عن قلادة فيها حجر قد حفر فيه خط "طالما أضعها فمن حولي في مأمن مني، وإذا نزعتها فالخطر سيصيبهم"
"لا بد أنك تمزحين"
"إطلاقا أنا جادة في ذلك، ألم تسأل نفسك لما أنا محظوظة أسير في الليل دون أن تمسني الوحوش بسوء؟"
"ألم تخبريني أن حواسهم ضعيفة؟"
"لو لم أكن محظوظة لما تمكنت من ملاحظة ذلك على الاطلاق... لا تضحك يا سير هايدن إني اتحدث بجدية، لقد جربت هذه القلادة ورأيت تأثيرها العجيب"
"انت فاقدة لصوابك" ضحك هايدن عليها وبيرل قد تملكها الغضب فكيف له أن يسخر منها.
"هل تعلم أني عندما اضعتها مات أخي ماركو؟ لذا إياك والسخرية من قلادتي"
توقف هايدن عن الضحك وزم شفتيه فلأول مرة هي افصحت عن جزء من تلك الحادثة الشهيرة ألا وهي قتلها لأخيها ماركو..
"أنا آسف... ليس لسخريتي من القلادة، بل لأجل خسارتك"
"شكرا..."
توقفت بيرل عن الحديث فالحزن تملكها ثم قالت تحذره "سير هايدن إياك ثم إياك الخروج في الليل، أي نعم اخبرتك سابقا أن حواسهم ليست بالقوية للعثور عليك فورا... فانت لا يجب أن تخافهم، بل أن تخاف من الموت الذي سيصيدك قبل عثورهم عليك"
"ماذا تعنين بذلك"
"الذي فهمته، انظر انت لن تقطن في قريتنا كثيرا وستغادرها قريبا... لذا كل ما عليك فعله هو عدم الخروج في الليل حتى يحين موعد رحيلك، هل فهمت"
تنهد هايدن واومئ لها لكن عقله ظل شاردا بحديثها عن الموت الذي يصيد القروي قبل أن يصيده الوحش. من بعد تلك المرة لم تحادثه بيرل ابدا عن معتقدات قريتهم ولا تقاليدها وقد حرصت على التكتم عليها موقنة أنه إذا أراد العيش عندهم بسلام فكثرة المعرفة لن تنفعه وستضره لذا كلما سألها عن شيء له صلة بمعتقداتهم هي غيرت محور الحديث.
وهكذا مرت رحلتهما وانتهت لما عثرا على اللوحة الخشبية التي ترحب بهم في القرية خلف التل، قطع هايدن الطريق وبيرل على ظهره فالعكازان لم يعيناها ابدا على تسلق التل وحالما وصلا إلى القرية كان إليوت أول من يراهما وعلى الفور عاد أدراجه للمنزل يبشر جدته التي سقطت طريحة الفراش من شدة حزنها.
مرض مدام ميلينا تحول لسرور ونهضت من سريرها متشوقة لرؤية ابنتها وحفيدها العزيز، هي خرجت من الدار مسرعة وجوان من خلفها تصيح عليها أن تحذر ولا تؤذي نفسها.
"بيرل! بيرل!"
نادت الجدة باسم ابنتها ودفعت القرويين عن طريقها فهم قد تجمعوا حولهما، منهم المستنكر الذي ظنهما روحا قد تلبست جسدهما ومنهم من كان قلقا لما رأى الجبيرة قد غلفت ساق بيرل.
"أمي!"
فرحت بيرل برؤيتها والدتها ميلينا والمدام قد اخذت وجهها تقبل كلا وجنتيها "انت على قيد الحياة يا بنيتي، أين كنتما و مالذي اصابك!"
"سير هاي.. اعني أخي دوريان أخذني للبلدة بعد أن وقعت من المنحدر وكسرت قدمي"
"بني العزيز، كم أنا شاكرة ممنونة... من كان ليعينها لولم تكن موجودا "
تفاجأ هايدن من ذراع المدام تلتف حول عنقه تضمه وذراعها الأخرى كانت حول ابنتها ولم تنفك عن تقبيل كلاهما "كم أنا سعيدة بكما، إياكما.. إياكما والاختفاء هكذا، الموت أرحم علي من أن اضطر لحمل نعشكما"
كان الترحيب بهما حارا إلا أن الأهالي لم يكونوا راضين، فاحتمال كونهما شيطان أمر وارد لذا لم يتم السماح لهما بالدخول إلا بعد أن تم سكب ماء مبارك عليهما وهايدن زجرهم موبخا فجروح بيرل وجبيرتها ممنوع أن يمسها الماء وهكذا بعد أن لعنهم هايدن وشتمهم مرات كثيرة اضطر لتغير ضمادات بيرل...
"إن هذا الغباء لا ينتشر إلا فقط في هواء هذه القرية! أقول لهم لا تسكبوا الماء فيعاندوا أكثر!"
صاح هايدن والغضب يعتريه ريثما يقوم بتبديل ضمادات بيرل والجدة إلى جوارهما تجلس، فلقد عادوا للمنزل وبيرل تم اجبارها على الاستلقاء في سريرها وعدم مغادرته مدة شهرين.
"هون عليكَ يا بني، هم لم يقصدوا ان يمسوا أختك بضرر"
"وأدعهم يفسدوا مابذلته من مجهود بغمضة عين! إنفلق ظهري نصفين من حمل ابنتك والهرب بها من بين انياب الوحوش وسهرت ملازما سريرها حارما نفسي لذة النوم! ثم بسبب مجانين القرية يذهب جهدي سدى!"
عضت بيرل على لسانها تكتم أي كلمة قد تهرب من فمها وأشارت لأمها أن تدعه وشأنه فهو هكذا يثور مع نفسه ثم يهدأ.
تبسمت ميلينا وبيدها مسحت على كتف هايدن ريثما يلف لها جبيرة جديدة وقد اشترى مستلزماتها من الطبيب قبل مغادرتهم البلدة.
"أوف منكم!"
لم تتمكن بيرل من تدارك قهقهتها التي هربت لكن الضحك تحول لصيحة ألم عندما احكم الاغلاق على الجبيرة واشتكت منه
"بروية فحتى العجل لا نقسوا عليه هكذا"
"أغلقي فمكِ فانتِ عجل يحتاج التأديب!"
"ما الذي فعلته أنا؟!"
"لازلتما على عادتكما القديمة؟ هايدن يا بني عندما تفرغ تعال للمطبخ فلا بد أنك جائع"
"حاضر"
خرجت مدام ميلينا من الغرفة ولحقت بها جوان كي توسوس بأذنها عن قصتهما المشكوك في أمرها وتقنعها انهما يكذبان.
في تلك الاثناء أعصاب هايدن قد هدأت لما وصل لنهاية عمله فلف الجبيرة ليس النشاط الذي يفضله إذ يستلزمه الأمر مجهودا كبيرا لدرجة أن العرق تصبب من جبينه وعندما رفع بصره لها وجدها تحدق به كمن قتل له عزيز، قطب حاجبيه مستنكرا طريقتها في التحديق ثم انتفض من قدمها السليمة التي ضربته "ما الذي تفعلينه!"
"احتفظ بعنصر المفاجأة" اقتبست من حديثه سابقا وابتسامة لعوبة ارتسمت على شفتيها فهي قد تمكنت من تأديبه "أنا تناديني بعجل! في البلدة كنت ملعونة جميلة والآن أنا مجرد عجل" اقتبست من حديثه السابق عندما كانا في البلدة.
"تؤ، لقد كانت -تبا لكِ ولجمالك، ملعون أنا إذ اخرجتك من القرية مجددا-" تبسم هايدن ودنى من وجهها مقتربا فحبست الأخرى أنفاسها وتصبغت بالحمرة من شدة قربه منها.
"استمتعي في فراشك شهرين دون حركة يا -أختي-"
ابتعد عنها منتصرا وقال "سأبقي الباب مفتوحا لأجلك كي لا تشعري بالوحدة وانت تسمعين أحاديثنا"
ترك الباب مفتوحا وبيرل قد أدركت أخيرا معنى ألا تغادر سريرها مدة شهرين، فها هي ستحرم من حياتها وستبقى كالسقيمة محتاجة عون احدهم...
"أخي! أخي عد إلى هنا ألست طبيبا!"
"تعال وقل لي أن شهرين كانت مزحة!"
"انا لا يمكنني البقاء هكذا مدة شهرين!"
"يا ناس سأموت!"

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة