illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد الفصل السادس عشر




 كتمت بيرل أنينها واغمضت عيناها من شدة ألمها مستسلمة، فالليل جن عليهم لتكسوا ظلمته القرية.


هي سمعت ضجة الليل قد أتت، حاملة رائحة الوحوش النتنة، لتدرك أن نهايتها اقتربت، كانت الأرض تهتز تحت أقدامهم حيث يسيرون وابدانهم الطويلة اجتازت طول الأشجار العالية. منهم من كان له فحيح ومنهم من كان لهم خرخرة، وأحدهم مر من فوق المنحدر حيث بيرل ملقية لا حول لها ولا قوة.


اغمضت عيناها بشدة وانكمشت حول نفسها، لما تساقط بعض الحصى عليها، بسبب خطواته الضارية ولما أيقنت أخيرا أن الموت أتى ليلقي التحية عليها، هي قررت تسليم نفسها لكن بدنها انتفض عندما شعرت بثقل يوضع عليها وكادت أن تصرخ، لولا يد هايدن التي اخرستها.


اتسعت عيناها بصدمة لما رأت هايدن إلى جوارها، يراقب بتوجس المنحدر أعلاهم، هو حركها بحذر وضمها إليه ليلتصق بظهره ضد المنحدر، منتظرا رحيل ذلك الوحش ولما انقشع ظله هي همست مستغلة ضجة المطر في هطوله كي لا تسمعهما الوحوش..


"قدمي... قدمي تؤلمني"


انتقل هايدن ببصره لقدمها وجردها من الجوارب والحذاء، يقارن قدميها ببعضها ليجد اليمنى قد بدأت بالتورم والاحمرار، ضغط على كاحلها وحركه يتفقده إن كان سليما وحالما شعر به في مكانه هو جردها من خرقة رأسها وقام بلف قدمها ثم مزق الجوربين ولفهما يعزم على إعاقة حركتها قدر الإمكان. كل ذاك فعله هايدن وبيرل كانت تلفظ أنفاسها تتمنى الموت على هذا الألم "نحن لا يمكننا البقاء هنا، علينا الذهاب"


"هناك بيوت مهجورة قريبة من هنا"


حدق هايدن ببيرل ولم يكن بوسعه سوى تنفيذ ما تقول، فهي وبشكل عجيب دوما ما تخرج في الليل ولم يمسكها وحش، في حين أن هناك كثيرا من الأهالي من خرجوا ولم يعودوا.


 حملها على ظهره، غطاها بالمعطف المطري كي يكف المطر عن تبليلها، واوصاها ألا تحرك قدمها أبدا وهي أوصته أن يحرص على عدم اصدار أي صوت عالي، قد يجذب اهتمامهم.


سار هايدن تحت جنح الليل متسللا، ومن خلفه شعر بقدوم وحش فالتصق بالشجرة مستعجلا وكتم أنفاسه من شدة هلعه. راقب من زاوية عينه مرور الوحش وحالما تجاوزهما، ركض هايدن مسرعا لذلك الكوخ المهجور.


أبعد الباب عن طريقه فقد كانت شبه مكسورة وبحث عن مرتبة كي يمدد بيرل عليها، حدق بالجروح في بدنها بقلة حيلة لكن المصيبة لم تكن هذه الجروح بل الكسر في مشط قدمها فهذا الكسر سيلتهب عما قريب.


 شد هايدن شعره بحيرة، لا يدري هل يبحث عما يجففها به فهي مبللة كمن قفزت في بحيرة، لها جروح في مواضع كثيرة من بدنها والأسوء من هذا كله الكسر في قدمها "لما، أخبريني فقط لما خرجت! هل كانت تلك النعجة الملعونة تستحق!"


وبخها وقام بأول ما يجيد فعله ألا وهو تنظيف جروحها فبعض من الطين والورق قد دنسته وجعلته قذرا، انتفضت بيرل من شدة الألم وترجته أن يتوقف فالجرح الذي مزق جلد جبينها كان حارقا وكثير مثله في مواضع مختلفة كركبتيها وباطن يدها.


"آهه! .. خِفت من سخط عمتي جوان"


حدق بها لا يصدق أن هذا هو سببها وشتمها، يوبخها على تصرفها الغبي، فساعات من سماع صياح جوان أهون من معاناة ألم الكسر. ضمد لها جروحها لكن هذا كله لم يكن بالكافي، فهي ستحتاج للدواء وهو لا يملك في حوزته أي شيء له علاقة بالدواء...


"أوقفه.. أوقف هذا الألم فإنه لا يحتم..." 


كادت أن تصيح لكنه كتم فمها وترجاها أن تقاوم، إلا أن مقاومتها ستكون بلا فائدة فالحل الوحيد هو الذهاب للبلدة والبحث عن طبيب يمتلك في دولابه الأدوية...


هذا الحل كان خطيرا ولما قرر الانتظار، حالتها ازدادت سوءا ليدرك أن كل دقيقة تضيع ستهدد حياتها لذا سألها إن كانت تعرف طريق الخروج من القرية وهي أومئت له تخبره أنه قريب من هنا... 


"ماذا عن الوحوش؟ ألن يعثروا علينا؟"

"لقد نزلوا للقرية ولن يشعر أحدهم بنا...  فالمطر سيضلل رائحتنا عن أنوفهم"

"تبا.. لا أعرف إن كان علي الثقة بكِ! انظري إن قامت الوحوش بقتلنا فسأبحث عنك في الجحيم لضربك!"


حملها على ظهره مجددا وسلك الطريق الذي ارشدته إليه، مع كل خطوة كان قلبه يصارع لتمزيق أضلعه والفرار، وحالما خرج بها من الغابة وسار نحو أطراف القرية، بدأ الدم يضخ في أوردته أسرع فها هو بات مكشوفا سهل الصيد، إلا أن حديث بيرل كان صحيحا، فالوحوش حواسها كانت محدودة بسبب العاصفة ولم تفطن بأمر هايدن، الذي اجتاز آخر تل من تلال القرية، وفي الأفق ظهرت له اللوحة الخشبية، التي رآها عندما دخل القرية سابقا.


"لقد اقتربنا من المخرج" لفظ أنفاسه بانهاك "أخبريني إلى أين سنذهب الآن" سألها لكن جوابها لم يأتي وقبضتها حول كتفيه ارتخت فعاود مناداتها "بيرل؟"


"أ.. أه" استعادت بيرل رشدها وتمسكت بهايدن أكثر تقاوم الخمول في رأسها وحدقت بالطريق بوهن "خلف ذلك التل... يوجد طريق تمر فيه العربات"


"أيُ تل منهم؟! هناك الكثير منها أمامي!"

"ذاك..." 

"لما عليه أن يكون بعيدا!"


تذمر هايدن بقهر وأكمل السير نحو ذلك التل، الذي لم يصل إليه إلا في ساعات الفجر الأخيرة، والشمس أشرقت عليهما أخيرا، معلنة نهاية العاصفة. كانت العصافير تزقزق وتقفز من غصن إلى آخر فحياة الصباح عادت، لتجد الأشجار والنباتات تفوح منها رائحة المطر. 


كل ذلك الجمال، لم يزن مثقال ذرة في عيني هايدن الذي كان يلفظ أنفاسه بتعب، ومن شدة انهاكه ألقى قدمه بشكل عشوائي، لكن خطوته لم تكن موفقة فلقد خانته الأرض تحته لما أنزلقت قدمه في الطين ونزل التل تزحلقا.


انقلب على بطنه ودس يده في الطين، كي يوقف انزلاقه وبيرل صرخت أخيرا بقوة، فالوغد وقع على قدمها المكسورة، صاحت بيرل بقهر من شدة الألم ودموعها أغرقت وجنتيها تشتمه على فعلته الطائشة تلك...


هو صرخ عليها وهي ردت عليه بالمثل وفي داخله كان مرتاحا، فها هو الصباح قد حل عليهما دون أن تمسهما الوحوش بسوء "لقد نجونا، لقد تمكنا من الهرب يا بيرل!" 


اخبرها فرحا وهي كانت جالسة على العشب تبكي من ألم قدمها، تلفت هايدن مسرورا لما رأى نفسه خارج القرية 'لقد خرجت، لقد خرجت من تلك القرية المنحوسة أخيرا!' حادث نفسه ثم انتقل ببصره لبيرل وامسك برأسها يقربها مقبلا  كلا وجنتيها بشكر فلولاها لما تمكن من مغادرة القرية. 


افاق من فرحته بسبب صفعها له، كي يستعيد رشده ولا ينسى حدوده معها، فبأي حال هي وبأي حال هو. نزل جاثيا على ركبتيه ليحملها على ظهره مجددا وهذه المرة هو كان يقض الحواس، متشوقا لمرور عربة لكن كل حماسه تبدل لتعب لما قطع شوطا طويلا من الطريق دون أن تأتي عربة.


في النهاية هو توقف وأنزلها ليجلس إلى جوارها عند قارعة الطريق ينتظر مرور عربة، كانت شمس الصباح دافئة والهدوء حوله جعل الخمول يتملكه، آخر ما تذكره حينها هي مشاهدته لأرنب، كان يمضغ العشب دون توقف ولم يشعر بنفسه إلا ورأسه يسقط إلى جوار بيرل التي نامت من شدة الألم. 


أي أجل راوده حلم جميل، عن تجوله في طرقات العاصمة يحمل في يده باقة بقدونس، وكم كانت فرحته جلية لما ولج للشقة ووجد والدته تجلس قرب النافذة، تقوم بخياطة ثقوب معطفه لكنه صعق عندما التفتت اليه والدته ومن فمها خرج صوت رجولي يقول "يا ولد، يا ولد استيقظ حالا" 


انتفض هايدن من حلمه والذي يستحق لقب كابوس ليفزع من وجه رجل عجوز يقف فوقه "يا ولد هل انتما بخير؟ توقفت بعربتي حالما رأيتكما، ولم أعرف إن كنتما تقومان بشيء مشين أم انتما بحاجة للمساعدة" 


"أجل! أجل نحن نحتاج للمساعدة! خذنا للبلدة فورا فهي تحتاج أن يكشف عليها طبيب!" انتقل ببصره لبيرل الملقية إلى جواره بالكاد تتنفس من أنفها فلقد احتقن، كانت ترتجف من شدة البرد في حين أن بدنها كان يتعرق بشدة ليدرك أن الحمى غلبتها. 


"بيرل، أستيقظي يا بيرل" 


هزها هايدن كي تفتح عينيها وتقاوم المرض، إلا أنها كانت أشد ضعفا من ذلك ولم يكن بوسعها سوى التمتمة بالهلوسات فهي من كابوس لآخر كانت تنتقل غير قادرة على الاستيقاظ. 


"لقد وقعت من منحدر وكسرت مشط قدمها لذا نحن علينا الذهاب ورؤية الطبيب فالحمى تمكنت منها" 

"انتظر لحظة، تذكرتك يا ولد، ألم تكن الطبيب الذي اوصلته للقرية خلف التل قبل مدة؟" 

"أجل واحتاجك ان توصلني للبلدة مجددا" 


حك العجوز صلعته، وأخبره ان يصعد للعربة ذات السقف المكشوف الى جوار شوالات من العلف، فهو سيذهب لبيعها في البلدة، وبالفعل لم يضيع هايدن الوقت وحمل بيرل بين ذراعيه ليصعد بها للعربة ويجلسها إلى جواره واضعا رأسها في حضنه.


"أخبرني، متى تمكنت من الزواج حتى، إني منذهل فالبارحة كنت عازبا واليوم ظهرت لي متزوجا" 


لم يكن هايدن في المزاج ليناقشه واكتفى بموافقة العجوز على كل شيء يقوله


"أخبرني يا حضرة الطبيب هل ستتمكن زوجتك من الصمود فالطريق سيطول يوما وليلة مع هذا الحصان العجوز".


"انت فقط اوصلنا للبلدة وكل شيء سيكون على ما يرام"

"أخبرني كيف تزوجتها"


دحرج هايدن عيناه بقهر فهو أيقن حينها أن هذه الرحلة ستكون طويلة..


لم يكن بوسعه طوال الرحلة سوا مسح العرق، عن وجهها وعنقها بقماش مبلل جعل منه كمادة، فكل سنين تجربته خانته فلا عدته بحوزته ولا دولاب أدوية السيد ستينر كان في متناول اليدين. جرب هايدن الدعاء حينها فكما ظهرت له تلك العربة من العدم لربما ينفع الدعاء بجعل بيرل تعيش...


كانت تلك الرحلة أشبه بالدهر بالنسبة لهايدن، لكنها انتهت أخيرا لما أوقف العجوز عربته أمام دار طبيب البلدة، شكره هايدن وكي لا يضيع المزيد من الوقت حمل بيرل بين ذراعيه، لكنه تعجب من كرم العجوز إذ نزل من عربته وسبقه للباب يضرب عليه بقوة كي يوقظ الطبيب من نومه.


انتفض الطبيب من نومه فزعا على نداء العجوز وزوجته لحقت به في نزوله السلالم، فكلاهما معتادان على قدوم المرضى في ساعات متأخرة من الليل كهذه، وحالما فتح الطبيب الباب سمح لهايدن بالدخول وأرشده للغرفة حيث يستقبل فيها الحالات العاجلة أما العجوز فلقد أذن لنفسه بسرد حالة الفتاة؛


 "يا حضرة الطبيب هذه الشابة تكون زوجة ذاك الرجل، أتيا من القرية وهذه الفتاة وقعت من منحدر وكسرت قدمها... أه.. على ما اذكر وقع الحادث قبل يومين فالطريق لهنا كان طويلا ولم نتمكن من الوصول أسرع من هذا" 


“حسنا سأتدبر الأمر من هنا، من فضلكما هلا خرج كلاكما في الوقت الراهن" ولج الطبيب للغرفة وزوجته التي كانت تتخذ وظيفة ممرضة اخذتهما لغرفة المعيشة ثم عادت لزوجها كي تعينه. 


"يا ولد، لقد اتممت مهمتي لذا سأذهب الآن" 

"شكرا لك أيها السيد، إني آتي معك لتوديعك" 


رافق هايدن العجوز للخارج وقبل صعوده لعربته دس في جيبه ثمن أتعابه، شكره العجوز دون تفقد جيبه وأخذ عربته بعيدا، راقب هايدن رحيل العجوز ثم انتقل ببصره لمباني البلدة حوله ولسماء الليل حيث كان البدر واضحا للعيان...


انتفض قلب هايدن، عندما سمع صوت عجلات القطار فوق سكة الحديد ولما مر بالمحطة اهتزت الأرض تحتهم كما لو أن وحشا من وحوش القرية قد أتى، شاهد دخانه المتصاعد وحلمه بالهرب قد راوده مجددا فلوهلة هو نسيه بسبب مرض بيرل... 


‘ها هي البلدة وها هو ذاك القطار' حادث نفسه وكشف عن مال دوريان في حقيبته، كان المبلغ كبيرا يكفيه لشراء تذكرة والسفر أينما يشاء... 


حدق هايدن بالمنزل خلفه حيث بيرل تتلقى العلاج في إحدى غرفه وقال "ها قد اتممت عملي، اوصلتها سالمة للطبيب فما الذي يمنعني من الرحيل" احكم على حقيبته وسار مغادرا المنزل قاصدا في طريقه محطة القطار... 


خرجت زوجة الطبيب من الحجرة، كي تنادي على زوج الشابة وتعجبت من باب منزلها ترك مفتوحا، وعلى المنضدة يوجد مبلغ من المال، هي التقطته وقامت بحسابه لتجده أكثر من رسوم العلاج وعادت لزوجها حائرة. إذ كان زوجها يقوم بتجبير قدم بيرل وهي ساكنة فلقد أعطاها حقنتين من الدواء وفرغ من مداواة جراحها.


"عزيزي" 

"أجل؟"


 سألها الطبيب بتعب ولفظ انفاسه منهكا، فهو كان يحكم لف الجبيرة وبيرل أي أجل كانت تنتفض من حين لآخر إلا أن أغلب آلامها قد خفت وثقل مريح خيم على رأسها، يدفعها لتغط في نوم عميق. هي رأت الممرضة وتعابير وجهها المرتبكة لكن لم يكن بوسعها سؤالها عن شيء. 


"لم أجد زوجها في المنزل، أظن أنه ترك ثمن العلاج ورحل" 


تبسمت بيرل بوهن على فعلته وأغمضت عينيها مسلمة أمرها لنوم عميق، حيث شقيقها ماركو ينتظرها في حلم جميل، لا يوجد فيه وحوش ولا خوف من الليل، فقط هو وهي وعائلة محبة غير عائلتها. 


كان نيليو في ذلك الحلم أخا لا يقسو عليها، وشقيقاتها كن فرحات لرؤيتها، لا يخفن منها وقد نادينها كي تنظم الى مائدة العشاء. أما والداها فقد طبع كل منهما قبلة على وجنة وقدمت لها أمها الفطيرة التي تحبها قائلة؛ صنعتها خصيصا لك فأنا أعلم أنكِ تحبينها. 


وما جعل بيرل مسرورة أكثر هو الطرق على الباب، هي علمت هويته ونهضت من على المائدة متلهفة لاستقبال شقيقها ماركو الذي كان يحمل في يده هدية لها وإلى جواره كلبها ذهبي. 


"كعادتك، انتِ دوما من يفتح الباب لي"


اخذها بذراعه حول كتفها وعادا لمائدة العشاء حيث اجتمعت العائلة فلا حزن ولا شقاء قد مس وجوههم المسرورة.. 


حينها سألت بيرل نفسها، يا ترى هل هي في الجنة؟ وإن كانت هذه هي الحياة ما بعد الموت، فهي أرادت اللحاق بالضوء نهاية النفق. فلقد انكشف لها ضوء خلف باب منزلهم وهي ذهبت لفتحه كي تعبره عسى ولعل أن تذهب إلى جوار أخيها، لكن الباب اختفى قبل أن تلمس مقبضه وأسرتها من حولها تلاشت، لينتفض بدنها رغما عنها معيدا إياها للحياة حيث وجدت نفسها مستلقية في فراش وفير والشمعة الموضوعة جانب رأسها قد ذابت وخمد لهيبها. 


تجرعت حلقها بصعوبة فقد كان جافا ولما ألقت نظرة على النافذة وجدت أن الليل حالك، لكن ما حبس أنفاسها ليس ليل البلدة إنما ذلك الرجل، الذي أتى إلى قريتهم مدعيا ان اسمه دوريان مستلقي على الأريكة وبين يديه كتاب يقرأه... 


"لقد عُدت"


انتقل هايدن ببصره نحو بيرل وتنفس الصعداء فلقد استيقظت أخيرا بعد أن كادت تموت هذه الليلة، إذ توقف نفسها ودقات قلبها لم تعد مسموعة فاضطر الطبيب وهو لإجراء الاسعافات الأولية وملازمتها الليل بطوله فوق رأسها. 


"أخيرا سأتمكن من النوم بسلام" نزع هايدن نظارته وفرك وجهه من شدة تعبه. استنكرت بيرل وجوده فلقد سمعت زوجة الطبيب وهي تقول أنه رحل تاركا إياها.


"لماذا عدت مجددا؟ لقد قالت حرم الطبيب أنك رحلت بعد أن دفعت مصاريف العلاج" 

"لا بد أنك في صحة جيدة إذا لتسألي عن هذا" 

"لست كذلك... إن حلقي يابس وأشعر بالعطش" 


تنهد هايدن ونهض من على الأريكة، متجها نحو الطاولة حيث إبريق الماء موضوع، فسكب لها في كوب وقدمه لكن بيرل فضلت أخذ الإبريق وشرب ما فيه من شدة عطشها. لما احست أخيرا بالراحة هي ألقت بنفسها على الفراش مجددا واحتضنت الغطاء. 


"شكرا" 

"لا بأس" عاد هايدن أدراجه للأريكة فقالت بيرل تصحح سوء فهمه. 

"ليس لأجل الماء فقط، إنما لأجل إنقاذك لي.. رغم كونك غير مجبرا على ذلك فلا رابط دم يجمعنا ولا قرية" 


احتفظ هايدن بحقه في الصمت ليأتيه سؤالها "ما اسمك؟" 


انتقل ببصره لها ونظرتها هذه المرة مختلفة عن المرات السابقة، فهو يذكر بوضوح الخوف المشبع بالحقد في زرقاوتيها كلما نظرت إليه لكن هذه المرة هي كانت هادئة وممتنة. 


"لما تسألين عن اسمي؟"

"لأني لن أناديك باسم دوريان أبدا وكلانا بات يعلم، فلا داعي للكذب بعد الآن، لقد رأيتك في الحضيرة تلك الليلة وانت تقرأ الصفحة التي خبأتها" 

"كنتِ تتجسسين عليَ" 

"عن طريق الصدفة" 

"إن اسمي هو هايدن، هايدن كاميرون" 


جلس هايدن على الكرسي الموضوع جوار سريرها وأشعل الشمعة فلم يعد هناك وحوش ولا قانون ليل يمنعه من ذلك. في البداية بيرل فزعت وكادت تخبره ان يخمد الشمعة لكنها تذكرت ان القرية باتت بعيدة الآن... 


حدقت بيرل بهايدن وفي نفسها كثير من الأسئلة لذا سمحت لنفسها ونطقت بأول سؤال كان يؤرقها "ه.. هل قتلته؟"


"مم؟"

"هل قتلت دوريان وانتحلت هويته؟" 

"آه تسألين عن هذا... انظري لا اتوقع منكِ تصديقي لكن كل ما حدث كان غير قابل للتبرير، فأنا كنت مساعد طبيب عادي لي عائلة وانتظر التوظيف الحكومي لكن وفي ليلة وضحاها امسيت هاربا من العدالة.. عن طريق الصدفة ركبت نفس القطار مع دوريان ذاك فالشرطة كانت تلاحقني وهناك التقينا" زفر بضيق لعدم نظمه كلامه بشكل جيد.


دس هايدن اصابعه في شعره متضايقا ثم ضرب الفراش بقبضتيه وصاح من شدة غضبه "أنا الغبي الذي التقيت به وحادثته! لو كنت اعرف انه مريض مختل لبصقت في وجهه! وسلكت طريقا منفصلا عنه!" 


فزعت بيرل من غضبه الذي تفاقم فجأة وضمت الغطاء تتمنى لو تختبأ منه فهذا المدعو بهايدن صعب الميراس ذو مزاج حاد. 


"هل تعرفين ما الذي اوصلني لهذا الحال؟! لساني الملعون! الجحيم الدموي ليتني قتلت نفسي ولم اخبره أني اتمنى حياته! تقمس المعتوه الدور وبدل تذاكرنا دون علمي ثم وجدته قد انهى حياته في مخزن القطار! الشرطة وجدت في جيبه تذكرة باسمي لذا اجبرت على انتحال شخصية دوريان مرغما!"


"دوريان من أنهى حياته بنفسه؟ ..." 


هدأ هايدن وزم شفتيه فهذا لم يكن بالشيء الذي يجب عليه قوله "يا ليتني اعرف سببه، فهو رجل له أملاك في برلين وله من الخدم الكثير والأفضل من هذا كله أنه يعمل في أكبر مشافيها فلما عساه يفعل ذلك" 


لم تعرف بيرل ما تقول وزمت شفتيها لا تصدق أن رجلا سويا وناجحا مثل دوريان قد يقدم على هذا التصرف..


"هل يعقل أنه فعل ذلك بسببي؟" اخفضت بيرل بصرها واعتصرت على الغطاء بقبضتيها.


"لا أظن ذلك، ففي مذكراته كتب أنه ارتبط لاحقا بشابة ألمانية وكانا مخطوبين لمدة من الزمن وفي نيته الزواج لكنه انفصل عنها قبل عودته لسويسرا" 


"حقا فعل ذلك؟" حافظت بيرل على تعابير هادئة


"المعذرة لم اقصد قول ذلك" 

"ماذا؟ آه لا لا على الإطلاق، أنا سعيدة لأجله ولست حزينة أبدا... أعني ... بالطبع أنا حزينة على موته بتلك الطريقة" أرغمت بيرل نفسها على التبسم لكن شفتيها اعوجت للأسفل ودمعة طائشة فرت هاربة من مقلتيها سامحة للبقية بالإنهمار.


"أنا آسفة... ليس بارادتي" مسحت دموعها ترغم ذاتها على التماسك فهي قد احبت دوريان من أعماق قلبها ولما ظنت أنها نجت اهتز صوتها وعاودت ذرف الدموع.


ففي تلك الليلة هي وافقت على الزواج منه، وبكامل قواها العقلية كادت أن تذهب لدير فيعقدا زواجهما لكن أخاها رفض وأعادها للقرية، فلم تسمع عن دوريان من بعدها وهو لم يلحق بها كما كانت تتمنى وتدعوا في كل ليلة.


حدق هايدن بها وقد راوده ضيق في صدره لم يفهمه. أراد الحديث لكنها قاطعته قائلة "لا أعرف كيف أقولها... أنا سعيدة أنه لم يُقتل، فلما رأيتك أول مرة وانت تقول ان اسمك دوريان باومن اصبت بالهلع خوفا من ان تكون قتلته، لكن حزينة على موته بتلك الطريقة... من الصعب عليَ تقبل ذلك"


"آسف لنقل هكذا خبر"


هزت رأسها بلا بأس وقالت "لابد أن أمي ميلينا ستصاب بالحمى إن علمت بوفاة حفيدها العزيز، هي كانت تنتظر عودته بفارغ الصبر... لو ترى كم هي سعيدة بوجودك" 


تنهد هايدن بقلة حيلة وشعور الذنب راوده فقال "صدقيني لم أرغب بأي من هذا" حل الهدوء بينهما لبرهة من الوقت لكن هايدن كسره بسؤاله لها "أود معرفة امر" 


"ما هو"


"لما انقذتني في ذلك اليوم؟" 


"ماذا؟" جمعت بيرل شتات نفسها وجففت دموعها..


"لماذا انقذتني من المحرقة؟ لست افهم ما الذي دفعك لمساعدتي في حين أنكِ كشفتي خدعتي من البداية؟" 


"هل تصدق أني في كل ليلة قبل النوم أسأل نفسي هذا السؤال، ما الذي قد يدفعني للإبقاء على سرك وجميع الأدلة بحوزتي" هزت بيرل رأسها بحيرة "لن أكذب عليك فأنا أخاف منك، خشيتك في اللحظة الأول وفي كل مرة التقينا فيها خشيت على الأهالي منك..."


"ربما احتفظت بسركَ آمنا لأنهم أخبروني أنك ستمسي أخي أو ربما لأنك تشبهه؟" انتقلت بيرل ببصرها لهايدن الذي كان يذكرها بشقيقها ماركو صورة وطباعا "كان أزرق العينين، أشقر الشعر وله مزاج صعب مثل مزاجك.... لقد افتقدتُ امتلاكَ أخ وانت اعدت لي هذا الشعور في كثير من المرات"


أومئ هايدن رغم عدم تفهمه سببها فمن المستحيل أن تكون يائسة للحصول على أسره لدرجة أن تبقي على رجل انتحل شخصية حفيد والدتها، أراد التفكير بسبب منطقي لكن أي شيء لم يكن يشفع لها. لذا هو قرر مسايرتها وقال؛


"ربما معك حق...لقد افتقدت أختي كلوديا أيضا عندما مشطت شعرك في ذلك اليوم" تبسم هايدن مستذكرا اخته التي كان يتمنى في كثير من الاحيان لو تموت، ها هو الان يتمنى رؤيتها مجددا "كنا سعداء أكثر قبل أن نكبر"


"ماذا عن زوجتك؟" سألته بحيرة وبفضول.

"زوجتي؟"

"ألم تقل أن لديك عائلة؟"

"لا، لست متزوجا إنما اعيش مع والدتي، اختي وزوجها في بيت واحد"

"انتظر، كم تبلغ من العمر بلا مؤاخذة؟"

"اثنان وثلاثون، لما تسألين؟"

"يا رجل الذين في عمرك ابنائهم الان يذهبون للعمل"

"ماذا عنكِ يا آنسة، اللواتي في عمرك لهن بيت وعائلة"

"إن تقليدك سيء" 


تبسمت بيرل وهايدن بدوره تبسم لها والشمعة بينهما كانت تذوب شيئا فشيئا، لا تدري أمن حرارة اللهب أم من المودة بينهما... 


فرك هايدن عينيه واستأذن لما شعر بالتعب "تأخر الوقت والنعس قد أرهقني لذا اسمحي لي أن اذهب للنوم" 

"آه.. بالطبع يمكنك ذلك" 

"عمتِ مساءً إذا" 


نهض من جوارها وذهب للأريكة كي يستلقي ويسمح لنفسه بالنوم قليلا، فلم يتبق الكثير على قدوم الفجر، كل هذا مر أمام عيني بيرل والتي وبخت نفسها على فكرة خطرت في بالها لما نهض من جانبها وهي امكانية حصولها على ما يسمى بقبلة ما قبل النوم. 


في البادئ تخيلتها قبلة بريئة على جبينها لكنها تذكرت انهما بالغان وهذه التفاهات لا تحدث بين البالغين، إنما تحدث أمور أكثر سوءا وحالما تخيلت احتمالية نزول شفتيه لشفتها، هي اغمضت عيناها على الفور وشتمت نفسها فقبل قليل هي كانت تخبره أنه يشبه شقيقها. 


'ما به لم يتزوج بعد' هذا السؤال راود بيرل طوال الليل فهي بالنهاية شعرت بالتعافي من آثار الحمى وصحتها أعانتها على هكذا اسئلة وجودية. 


اختلست النظر اليه من زاوية عينها وقد كان نائما وكلا ذراعيه معقودة ضد صدره، كمن يلزم مناوبة ليلة ثم رفعت رأسها كي تتأكد منه ولما وجدته بلا أي غطاء، هي كلفت نفسها عناء النهوض، امسكت بالفراش ونزلت من السرير إلا أنها نست أمر قدمها وداست عليها عن طريق الخطأ...


ذلك الألم الذي تفاقم من قدمها صعودا لرأسها دفعها للصراخ، وسارعت بكتم أنفاسها تشتم حياتها وتلك النعجة التي ذهبت للبحث عنها، بالطبع هايدن فتح عينيه فزعا ووجدها جالسة على الأرض ووجهها قد دسته في الفراش.


"ما الذي اصابكِ؟! كيف وصلتِ لجانب السرير؟!"

"كنتُ أقوي الرابط الأخوي بيننا!" 


التفتت إليه ووجهها أحمر من شدة الألم "رأيتك بلا غطاء فأشفقت عليك!"


"أنا لا أتغطى في نومي من الأساس!"

"لما لا تتغطى في نومك!"





عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz