"مدام! أخ يا مدام على رسلك تمهلي! آهه، مدام ما هذه الأصابع!" تأوّه هايدن متألمًا من أصابع مدام ميلينا القوية وحاول تحرير رأسه منها.
" ما مدام هذه يا ولد! نادني بجدتي!" ضربته على رأسه وأكملت دعك شعره.
"حسنا يا جدة أنا إنسان ولست قطعة قماش!" قالها من بين أسنانه.
"رباه، بالتأكيد سمع الجيران صوتك، سيقولون الآن دوريان يتم تعذيبه في ذلك المنزل" هزّت الجدّة رأسها وهي غير مصدّقة تذمرهِ الذي لا يتوقف.
حاول هايدن التملص من بين اصابعها لكنها امسكته "عد إلى هنا" جرّته من رأسهِ المبلّل وبِكِلا يديها فركته بقوة، كشّر هايدن على وجهه واعتصر بقبضتيه على الطِّشت الذي يجلسُ فيه مُجرداً من الثياب إلا سروالهُ الداخلي الطويل.
هذه المرة السابعة التي تغسلُ فيها شعرهُ، رائحة مخلفات الحيوانات علقت كما لو أنها عاشقة ولهانة به وبجماله، ندب هايدن حظهُ كون الدنيا أعادتهُ إلى اللحظات التي يجلس بها كطفلٍ في الثالثة من عمره ووالدتهُ تنظّفه.
"أمي أين ا... هذه الرائحة العفنة لم تزل من عليك بعد؟" قالت العمة بشماته وولجت إلى الغرفة تجلس على سريره "إياكِ" حذّرها هايدن من إعادة الحوار ذاته.
"ماذا؟ أنت المخبول الذي جلس تحت عربة محمّلة بروث الخراف" تبسّمت بخبثٍ وداعبت خصلة شعرها فهي لم تضحك في حياتها مثل اليوم، يكفيها أنها شعرت بذاتها كالملكة وهو يخدمها "سأناديك منذ الآن وصاعدا باسم الولد الأبله"
"مدام هلاّ خرجتِ فما أصابني يكفيني" قالها هايدن بقلة حيلة وجوان فقط مستمتعة.
"اضربيه يا أمي مجددا عل دماغه يعمل، ثم يا أبله ما مدام هذه أنا عمتك"
"لا أدري ما أصابه يا جوان فهو لا ينفكُ عن مناداتنا بمدام كما لو أننا غرباء"
انتم كذلك بالفعل، قال هايدن بداخله.
"أين إليوت يا جوان؟ هل نام؟"
"ليس بعد، كيف عساه ينام وهو طُرد من سريره بسبب هذا الضيفِ الثقيل" لم تتحمل جوان كتم كلماتها اللاذعة فهذا الشاب قد أخذ غرفة ابنها بما فيها.
"ماذا عن بيرل؟" دفئ الحنين ملأ قلب ميلينا المتلهف لابنتها فمن شدة انشغالها بفك النحس لم تتسنَّ لها فرصة رؤيتها، قضمت جوان من جزرة مخللة وعادت بظهرها إلى الخلف قليلا تكشفُ عن بطنها الذي ملأته في فصل الشتاء "أظن أنها خلدت للنوم فلقد كانت عند شقيقاتها يقمن بتجهيز صناديق جهاز سيترين فالعرسُ اقترب"
"لابد أن ابنتي الحبيبة منهكة الآن"
بعد مدة ليست بطويلة، خلّدت جوان وابنها إلى الفراش ليتبقى هايدن والجدة مستيقظين، فقامت بترتيب سريره بعد أن فرغت من ِتحميمه وارتدى ثيابه "دوريان بني" حركت الحطب في المدفأة تُوقدُ النار أكثر "تعال معي لأعلّمك ما نفعلهُ كل ليلة كي تقوم بهذا العمل انت من الآن وصاعدا"
أخذت بيده وذهبت به إلى المطبخ تأخذ طبَقًا حضّرتهُ مسبقًا فيه طعام، خرجا إلى الشرفة وبرودة الليل لفحتهما، قالت له "قبل نزولك من الشرفة قل "ابتعدوا ها أنا قادم، ها أنا قادم، ها أنا قادم" حملق هايدن بها فهي تريد إقناعه بل إجبارهُ على ما يفعلونهُ هنا.
"نقولها قبل أن نخطو على الأرض حتى لا ندهس على روحٍ أو مرضٍ فيصيبنا بسوء، هيّا قلْها معي" بحثت عن يده واعتصرت عليها تحثّه على تقليدها بالحرف.
"مدام، أنا لا أُؤمن بما تقولينه" أفصحَ لها عن فكره لكنها لم تقبل بل أصرَّت عليه ملّحة أن يقولها فلا تريد لمرض ولا لضررِ أن يُصيب أحد من أهلها، فقالها مُكرهًا ورافقها في طريقها لا يدري أين تأخذه.
"في خطاك احذر أن تُصيبَ حجرًا من دائرة الأمان، حجرٌ واحدٌ يخرج من مكانهُ وكل ما هو سيء سيتدافعُ إلى منزلنا" رفع قدمه ينظرُ إلى الحجارة المصطفّة لتكون حلقة كبيرة تُحيط المنزل لتحميه، كما تفعلُ الأجراس المعلقة، والسحلية.
ذهبت ميلينا إلى سورها القديم حيث يوجدُ سقيفةٌ صغيرة الحجمِ يستقرُ تحتها طبقٌ فارغ من الليلة الماضية "كل مساء قبل غروب الشمس نُبدّل الطبق، نشبعهم قبل أن يشبعوا منّا، إنّهم يخرجون مع حلول الليل جياع لذا نقدم لهم الطعام كي لا يمسوا مواشينا بسوء"
علّمَتْهُ إجراءات الليل وأرتهُ الطرق ستَ مراتٍ على الباب بعد أن تمّ إيصادها فهذه القواعد هي قواعدُ حياةٍ أو موت "بهذه السّت دقّات نحنُ نبارك على منزلنا ونحصّنهُ ليبقى صامداً طوال الليل" رأت علامات العجب بادية عليه لذا بكل مودة أوصته "أُخبرك بهذا لأنكَ الآن تشاركنا المنزل يا بني، التزم بما أوصيْتك به كي نعيش سالمين"
صعدا السّلالم توصله عند بابِ غرفته وبيدِ كل واحد منهما شمعة تنير طريقه "إنّهم يتّبعون الضوء، لذا احرص على اخماد الشمعة" نفخت على شمعتها ونزلت السلالم مجددا نحو غرفتها في الطابق الأول.
أوصد هايدن بابهُ غير مهتم واستخرج كتاب طب الأعشاب من خزانةِ ثيابه وجلس على سريره يطالعهُ، تبسم عندما قرأ توقيع معلّمهِ السيد ستينر الذي أهداهُ هذا الكتاب فقد كان ملمًّا بالنباتات الطبيّة في مدينة يصعبُ زراعة زهرة فيها.
قلّب الصّفحات حتى ثقل جفناه وسقطَ الكتاب على صدره يسترسلُ في نومٍ عميق متجاهلا تعليمات مدام ميلينا بعدم الإبقاء على نور الشمعة وعبر نافذة غرفتهِ -التي لم يُسدل ستائرها-إلى القرية التي توارت في ظلمة الليل، لا صوت ولا ضوء يصدر منها كما لو أنها لم تكن، ثم ومن العدم انضمّ إلى معزوفة صراصير الليل خطواتُ أقدامٍ ثقيلة تركت خلفها أثرًا كبيرًا ذو خمس مخالب، الأغصان اليابسة تكسّرت تحت أقدامهم والحشائش تحرّكت مع حركة ضيوفِ الليل من اتجاهات عدة.
في حضيرة السيد آرنر وبين الخرافِ النائمة حرّك كلبُ أذنيه واعتدل يشمُ الهواء الملوث بالرائحة التي تأتي كل ليلة. لا ضوء في القرية سوى القادم من نافذة هايدن النائم وكل أصوات الحركة المريبة كانت تتّجهُ نحو ذلكِ المنزل الوحيد في التلّة الغربية، فالطبقُ الممتلئ فرغَ ولا يوجد سوى صوتٍ نهمٍ يكسرُ العظام بين أسنانه. مرّ النّسيمِ يُحرّكُ الأجراس لكن الأجراس لم تُغطّ صوت تحطم السّور العتيق.
انتفض هايدن من نومهِ فجأة على كابوس لتدرك حواسه بعدها نباح ذهبي القادم من الحضيرة. قفزَ من سريرهِ مُسرعًا إلى النافذةِ كي يرى ما الذي يجري، أخرجَ الشّمعة وأطلَّ برأسهِ من النافذةِ علّهُ يرى لكن دمهُ تجّمد عندما لمحَ ثلاث هيئات ضخمة البنية يخرجون من قنّ الدجاج ورابعهم الذي بدا قصيرًا ارتفع إلى طولٍ يكادُ يصلُ بهِ إلى سقفِ منزلهم. شعر اطولهم بالنور القادم من إحدى النوافذ وتوقفَ.
نفخَ هايدن حينها على الشمعة مسرعا من شدة هلعه واختبأ في الظلمةِ جانب النافذة عندما أطلَّ عبر النافذة رأسُ حصانٍ لا يوجدُ فيه سوى العظم، يختلسُ النّظرَ بمقلة عين صفراء بحثًا عن حياة ليأكلها. تدحرجت المقلة يمينا ويسارا ولما لم تبصر أحدا تراجع الوحش ذو جمجمة الحصان عن النافذة وسار برفقة الوحوش بحثا عن طعام ليسدوا به جوعهم.
أما هايدن فالرعاش أهلك مفاصله ونزل على الأرض جالسا يحاول استيعاب ما مر به للتو، فرك عينيه عله حلم سيفيق منه ولما أدرك أن ما مر به لم يكن حلما زحف على ركبتيه مبتعدا عن النافذة وحالما خرج من الغرفة توجه للممر وسار بحثا عن الدرج. فلم يعد هناك ما يمنعه من مغادرة هذه القرية.
بحث في جيبه عن قداحة وحالما اشعل الشمعة يهم بنزول السلالم فزع من رؤيته بيرل وبجانبها كلبها ذهبي يتسلقان السلالم "ما الذي تفعله في هذا الوقت من الليل؟" سألته وهايدن التصق بالحائط جانبه وبكلمات غير مفهومة المعنى قال "و.. و.. وح.. شش"
"لا استطيع أن أفهم ما تقول"
حاول هايدن تمالك نفسه وقال "جمجمة حصان، هناك جمجمة حصان ألقى نظرة عبر نافذة غرفتي!"
ارتفع صوت هايدن لكن صوت الصرير في الخارج وتضارب الاجراس ببعضها كان أقوى، مما اصابهما بالخوف وذهبي نفسه اخفض رأسه واختبأ تحت ثوب بيرل.
ظل رأس الوحش امتد عبر غرفة هايدن وصولا للجدار وحالما رأته بيرل وبخته بهمس "الشمعة! اخمد نارها حالا!" لم تدع له فرصة إلا ونفخت على شمعته ثم اغلقت فمه بيدها والتصق كلاهما بالجدار خشية اصدار أي صوت.
انفاس بيرل التي لفحت عنقه وثقل صدرها الذي ارتمى ضد صدره انساه مصيبته لبرهة واخفض بصره لعينيها التي كانت تحدق به بالفعل. فهي رغم فارق الطول بينهما إلا أنها كانت متمكنة من التحكم به وتسييره كما تشاء، فتارة تدفعه مهددة إياه وتارة تثبته ضد الحائط خائفة عليه.
همهمة شيطانية فرت عبر حنجرة الوحش وحراشفه تلاطمت ببعضها مصدرة صوت خشخشة اخافتهما واخرجت هايدن من تخيلاته، ظل الوحش يراقب عبر النافذة مترقبا لرؤية من يأكله ولما لم يأتي أحد تنحى عن النافذة وقصد منزلا آخر بحثا عما يسد به جوع بطنه.
اشارت بيرل لهايدن بعدم الحركة ثم تسللت بخفة على رؤوس اصابعها كي تسترق النظر ولما رأته غادر نحو منزل فلود هي على الفور اطلت برأسها كي ترى ما اصاب مزرعتهم وصعقت من رؤية قن الدجاج بحالة يرثى لها، فلقد كان محطم الخشب. اغلقت الستائر على الفور ورددت كلمات عشوائية مثل؛ اذهبي يا شياطين، اذهبي ولا تمسي منزلنا بسوء.
اهتز صوتها فلا يوجد دعاء لتذكره انما ابتكرت واحدا عله ينفع ولما عادت ادراجها للممر وجدت كلبها ذهبي يحدق بهايدن الجالس ضد الحائط وكلا يديه تغطي جانبي رأسه "لقد كان مجرد كابوس، لابد أنه كابوس فلا تفسير آخر"
"لا، متأكد من أن العلة في الطعام فأنا لم أر مثل هذا في حياتي"
"كيف لك أن تنسى اخماد الشمعة! لقد اتى بسبب الشمعة"
"غيرت رأي، إن سبب الهلوسة هذه هو هواء القرية... "
"ألم تحذرك أمي ميلينا من ابقاء الشمعة!"
"انتظري... هل كانت تلك خدعة منكِ للانتقام مني؟ تنكرتِ بزي وحش كي تخيفيني"
"ما الذي تهذي به؟" رأت بيرل أن لا أمل منه فهو لم يخرج من صدمته بعد "سوف أمر على الحديقة لأرى ما حجم الخراب فيها"
تركته ونزلت السلالم مستعجلة وفتحت باب المنزل لتكشف عن ظلمة الليل، نور القمر أعانها بعض الشيء وبخطى حذرة هي تحركت نحو قن الدجاج وصعقت من الخراب فيه وريثما هي تسير ارتطمت قدمها بحجر ولما تفقدته وجدت انه جزء من حلقة الحماية قد خرج من مكانه. حينها ادركت بيرل ما الذي حصل.
"بيرل؟! بيرل أيتها المعتوهة ما تظنين نفسكِ فاعلة؟! سيأكلك الوحش!"
استدارت خلفها واشارت له أن يخفض صوته فلقد لحق بها بعد أن تركته "سيأكلني الآن بسبب صياحك!"
"أين انتِ؟"
"أنا هنا"
حاول هايدن اتباع صوتها وريثما هو يسير اصطدم بها "يا هذا، حافظ على المسافة بيننا!"
"انظروا من يتحدث عن المسافة.. ثم انتظري عندك ألا تملكون إيمانا بمعتقدات غريبة؟ كيف لك أن تخرجي في الليل؟!"
"دعك من هذه الأسئلة ومد يدك للمساعدة، إذا علمت أمي ميلينا بفعلتك فنهايتك لن تكون يسيرة!"
"ماذا ستفعلين؟"
"سنتخلص من الدجاج الميت!" حملت بيرل الدجاج الميت من أعناقهم.
"انتظري عندكِ، لما تساعديني؟"
"لست افعل، ما يهمني هو عدم معرفة أمي، لا ينقصها مصيبة أخرى"
"يا امرأة، أخبريني ما سبب حقدكِ علي؟ بل على العكس من له حق بالحقد هو أنا فلقد كنتم على وشك حرقي"
سألها ريثما يساعدها في حفر حفرة وبيرل ألقت الدجاج المشوه وليبدوا الأمر كما لو أن ابن عرس من دخل القن وقتل من الدجاج ما قتل أبقت ثلاث دجاجات ميتة في أماكن مختلفة من القن.
فكرت بيرل مليا في سؤاله وهزت كتفيها بلا تردد "لما تظن أني حاقدة عليك؟ هل فعلت شيئا يستحق الحقد؟"
حدق هايدن بها والقليل من نور القمر كان يضيء المكان حولهما، يداه كانت متسخة مثل يديها بريش ملطخ بالدم وبالمثل بادلته بيرل النظرات، لكن هذه المرة هايدن خالجه خوف فهل سؤالها كان عابرا أم متعمدا...
استيقظت بيرل على صوت صياحُ جوان في صباح اليوم التالي ولقد كانت منهكة فالنوم لم يزرها إلا متأخرا.
"أمي! الحقي يا أمي! لقد اختفت ستُ دجاجات من القنّ!"
ذلك النداء جعل الجدّة تترك الحليب على النار وركضت مسرعةَ إلى قنِّ الدجاج لترى الثلاث دجاجات الميتة، أما الكثير منهم مختفي. ندبت ميلينا حضّها ووضعت يدها على قلبها فهي لا تملكُ سوى عشرين دجاجة تُعيلها وقليلا من الخراف "لقد اختفت نِصفُ دجاجاتي!" قالت غير مصدّقة ما تراه.
"لا! لا! ثروة كاملة اختفت كأنها لم تكن! يا ويلنا لقد كانت هذه ثروتنا التي نملكها!" ضربت جوان على ركبتيها بحسرة فهم ليس لديهم شيء سوى الزرع وهذا القن وبعض الخراف، يبيعون ما استطاعوا إلى الأهالي ويكفون حاجتهم "كيف عثرت عليهم يا جوان؟!"
أشارت على ابن أخيها جالبَ النّحس "أتيت ورأيتُ دوريان عندَ القنّ!" التفت كلاهما إلى هايدن الذي استيقظ مبكرا وعزم على إعادة تنظيف كارثة البارحة لكن جوان أتت قبل أن يهُم بفعل شيء حتى. فتلك العمة حالما رأت ابن أخيها يسير في الصباح الباكر تسللت خلفه...
نادت الجدّة هايدن تطالبهُ بتفسير فقال "أتيتُ إلى القنّ ورأيتهُ في حالةِ فوضى" أجابها هايدن بما علمته إياه بيرل "على الأغلب ثعلبٌ أو ابن عرس"
" ويفر بعشرة؟! ثم ما بالُ السّورِ المكسور؟! هل تحاول خداعي يا ولد؟! انهم الوحوش ومن غيرهم، انت من جلبهم فلم تخمد الشمعة كما امرتك امي!" صاحت جوان به وامسكت به تهزه.
"الوحوش؟! آهه، ضاع تعبك يا ميلينا، ضاع تعبك!" انهارت الجدة لمّا علمت أن الفاعل ليس ببشر أو حيوان إنما هم وحوشٌ سرقوا ما تملك، وبيرل ربتت على كتف أمها تواسيها دون أن ترى نظرات الحقد في عيني هايدن فلقد أيقن أنها وشت به بعد أن وعدته بعدم الإفشاء بسره...
عادوا إلى المنزل خائبين، جوان غاضبة تصيح على هايدن وتتّهمهُ بجالبِ النحس والجدة تفركُ على جبينها لا تدري ما تفعل لتتدخل بيرل قائلة "عمتي، بإمكاننا تجاوز الأمر، لي مال ادخرته ويمكنني شراء الدجاج من أبي"
"مدخراتك؟! أنا اجمع المال طوال السنة وانت بكل بساطة تنوين شراء الدجاج به ومن أبيك! هذا رائع... لو كان فيه خير لأعطانا إياه بالمجان لكن ما باليد حيلة في بيتنا فتاة تخلص منها أهلها ورجل أول أطول مني لا يكف عن إدخال النحس لمنزلي!"
"عمتي لا تقولي هذا والداي لم يقوما بالتخلص مني!"
"اكتمي لسانك يا فتاة وإلا سألطمك لطمة تنسيك الحديث! بأي مصيبة أنا وانت تثرثرين حول أسترك تلك التي ألقتك ولم تسأل عنك!"
"يا مدام كفي عن هذا الحديث الذي لا فائدة منه الآن!"
تدخل هايدن فهو ليس في المزاج لسماع شجار نسائي لكن جوان فهمت مقصده بشكل آخر الأمر الذي دفعها لجر أذنيهما بلا رحمة وطوتها جاعلة من كليهما يصرخان من شدة الألم.
"لابد أنكما اتفقتما ضدنا، وكيف يمكن أن يكون هناك تفسير آخر! تحدثا يا لعنة حياتي واعترفا بفعلتكما! قال ابن عرس قال! كنتما تنويان بيع تلك الكذبة الرخيصة عليَ هاه! اعترفا هيا بالحقيقة قبل أن اقتلع أذنيكما يا ملاعين، كنتما عند بعضكما البعض وكسرتما قواعد المنزل هاه! لهذا الوحوش ولجت إلى أرضنا فلقد قمتما بتدنيسها بالخطيئة!"
"مدام!"
"عمتي دعي أذني!" صاح كلاهما ولم ينقذهما من شر جوان إلا تدخل الجدة ميلينا تنهرها عن عقابهما وهي موجودة
"جوان! دعيهما حالا قبل أن اقتلع اذنكِ أنا!" زجرتها ميلينا لترد الأخرى عليها بأنها لن تقدر حجم المصيبة فكل ما تهتم لأمره هو حفيدها وابنتها الروحية، احتد الجدال بين السيدتين لينتهي الأمر بوقوع هايدن وبيرل في مصيبة فلقد تم توكيلهما بالمهام الشاقة كعقاب.. فهما حقا التقيا لما كان الجميع نيام وهذه الخطوات التي تبدوا صغيرة ستهلكهم لاحقا فالخطيئة هو اكثر شيء خطير في هذه القرية.
وأول عمل قد وكل لهايدن هو توفير الماء والطريقة الوحيدة كانت بالذهاب للبئر وهو يجر عربة محملة بالدلاء ولكي لا يضيع، إليوت كان مرشده. أحس إليوت بثقل المسؤولية الملقية على كاهله ومن شدة تركيزه في إطلاع دوريان على الطريق نسي كيفية الحديث وريثما هو مركز كان هايدن شاردا يفكر بفعلة بيرل الدنيئة فلقد وشت به والعقاب الذي حل بها لأمر تستحقه..
اشتكى إليوت من بطء هايدن "لنسرع فالطريقُ إلى البئرِ طويلٌ بالفعل ولا زلنا سنساعدُ السيد بوسارد كي نحصل على قليل من المال!"
" قادم، أنا قادم" تذمر هايدن وتبعَ إليوت إلى البئر كي يملؤوا الدلاء، عشر دلاء محملة بالعربة أفضلُ من دلوين تحضرهما جوان بيديها العارية فالطريقُ كان وَعرًا ممتلئا بالحجارة وقريباً من الغابة.
رأسُ الجدي الذي رآهُ سابقاً والآن رأسُ حصان، لا بدّ من وجودِ تفسيرٍ آخر غير أنهُ عصى كلمة مدام ميلينا ولم يُخمِد الشمعة. هكذا فكر هايدن وسار نحو تجمّعِ الفتيات عند البئر وكل الأعين تُحملقُ بهِ والفتيات، تهامسن فيما بينهن بالأحرى الجميع تحدّث عنهُ في هذه اللحظة.
"أخبريه"
"لا بل أخبريه أنتِ" تهامسن فيما بينهن.
لاحظَ هايدن غرابة الجميع فلم يُعرهم أي اهتمام وإنهما اعتبره فضولاً وأفواهاً متحمّسة للثرثرة حوله فهو رجل مهم هنا لذا إدعى تجاهلهم وأمسك بالحبل مناديا على إليوت "تعال إلى هنا يا ولد ولنملأ هذه الدلاء"
أخفى إليوت وجهه بالدلو مُحرجاً وتعالت الضحكات من أفواه هؤلاء القرويين الذين يَصغرون هايدن سنًّا "يا حفيد الجدة ميلينا!" تشجّعت المدعوة لورا والتي تكون صديقة مقربة لبيرل "أنت تقفُ مع الفتيات، عندما نملأ الدلاء يقفُ الفتية هناك بعيدا عنا" أشارت عليه حيثُ يقفُ الفتية منتظرين وفي نيتها احراجه.
حملقَ بها هايدن مطوّلا فهو لم يستوعب ذلك مسبقا وقال مخفيا خزيه "وماذا في ذلك، أحسنتم صنعا، هيا تعالَ إلى هنا يا إليوت لنملأ الدلاء!" تقدّم إليوت مُحرجًا وعقدَ الحبل كونهُ يعرف الطريقة من ثم قاما بمليء دلائهما أمام الجميع منتهكا نظامهم في القرية.
"إنهُ مخبول" همست لورا أثر رده هذا، فهي لم تقابل وغدًا هكذا في حياتها من بعد شقيقها.
مهمة الاثنين استغرقت من الوقت الكثير ولما ظن هايدن أنه سيرتاح وجد نفسه يساق كالماشية من قبل العمة جوان.
"سيد بوسارد!" نادت جوان على الرجلِ كفيف البصر بجانبِ ابن أخيه الذي يبلغُ من العمرِ ست سنوات، تبسم السيد بوسارد عندما تعرّف على صاحبة الصّوت القوي ولوّح لها "مرحبًا بكٍ سيدة دوريغ" حياها باسم عائلة زوجها "أظنُ أنك أتيتي لمّا سمعت بخبرِ احتياجي للمساعدة" وريثما هما يتحدثان، تفاجأ هايدن من النُدبِ الأربعة التي حُفرت في وجه السيد بوسارد وجفناهُ المغمضتان لا يفتحهما.
"أجل سيد بوسارد، أحضرتُ معي إليوت والأبله ابن أخي ليقدّما المساعدة لك" حياهما السيد بوسارد في الاتجاه الخاطئ "شكرًا لحضوركما لكن أودُّ السؤال، سمعت أنّ دوريان جاء من المدينة فهل لفتى من المدينة معرفة العملِ في الحقل؟" فرك السيد بوسارد يديهِ ببعضها يستحي من هذا السؤال.
نفس السؤال الذي أرق جوان فحقيقة أن ابن اخيها فاشل اتعبتها "سيتعلمُ بسرعة سيد بوسارد وإذا لم يفعل يمكنك ضربه" ضحك كلاهما إلا هايدن.
تركتهما جوان كي تقدّمَ يد المساعدة في جمعِ محاصيل أحد العائلات وجني بعضِ المال، وانطلق إليوت نحو أصدقائهِ الذين يعملون بجمعِ الحصى والحجارة فهم سيصنعون أرضًا زراعية أما السيد بوسارد فحك رأسه يفكر "يا ترى أين قد أضعك؟" تساءل حائرا فهو لا يستطيع رؤية هيئةِ هايدن ليقرّر "لمَا لا تأخذُ المجرفة وتعمل مع نيكو في الحضيرة؟ نيكو! تعال إلى هنا يا بني!"
خرج نيكو مسرعًا يلبي النداء "أجل سيد بوسارد؟" حملقَ نيكو بهايدن لا يصدقُ أنه يراهُ هنا "خذ حفيد الجدة ميلينا ليساعدكَ في أعمالِ الحضيرة"
"ماذا؟ آه! نعم بالتأكيد سأفعل!" سعادة نيكو وهو يقولها لم تكن تبشرُ بالخير...
"يا ابن المدينة هل هذا أفضلُ ما يمكنك فعله؟!" صاحَ نيكو وهو يسخرُ من هايدن ذو الثيابِ والهندامِ النظيف يعملُ في حضيرة قذرة ينظفها من المخلفات، جز هايدن على أضراسه وغرفَ الروث بالمجرفة ينقلهاَ إلى العربة حيث يقفُ الحمارُ مستعدًّا.
أحس هايدن بالتعب من العملِ القاسي بينما البقية يحضون بقسطِ من الراحة على رؤوسهم قبعات تَقيهم حرارة الشمس وخرق من القماش ملقية على اكتافهم تجففُ عرقهم، بينما هو حصل على لا شيء سوى أن اتسخت ثيابه.
"هلاّ توقفت عن الصّياح وقمت بالعمل؟" ثبت هايدن المجرفة يرمقُ نيكو.
ضحك نيكو وقال يحركُ يده "يا صاحبي سأنقلُ القش بعد أن تنتهي انتَ" وذهب إلى أصدقائهِ الثلاثة مع بعضُ الصّبية الصّغار يحضون بالظل تحت شجرة بينما يأكلون من الفاكهة.
"وغد" تمتم هايدن ثم نظر إلى الكبشِ الذي يمضغُ الحشائش دون توقف "ها أنا أُنَظّفُ قذارتك أيّها المزعج، أغرب عن وجهي" حرّك هايدن المجرفة يبعد الكبش، لكنه لم يحرّك ساكنا وأَكمل ما يفعله.
من منزل السيد بوسارد خرجت بيرل وهي تنادي على شقيقها في جعبتها سلة محملة بثياب الزوجين، فهما كفيفان وقد حصلا على مولودٍ جديد لم يكمل شهرهُ الأول، بعد ذلك تناوب أفرادُ القرية في تقديمِ المساعدة إلى هذه العائلة التي لم يروا منهم سوى الود والخلقِ الحسن.
"أخي نيليو! يا نيليو!"
"ما بكِ تصيحين؟! صوتك اصابنا بالصمم"
القرية صغيرة لهذه الدرجة؟ حادثَ هايدن نفسه وملأ المجرفة بالروث، فلم يخيل له أن يراها هنا واختلس نظرة أخرى لها خلال عمله فثوبها الأزرق وشعرها المنسدل من أسفل الخرقةِ البيضاء جعلها مُلفتةً للاهتمام.
نهض شابٌ في منتصف العمر أشقر الشعر ذو شارب كبير يدعى نيليو، ضَبَط بنطاله وهو ينتظرُ قدومها "ماذا تريدين؟!" أبعد قبّعتهُ وحكّ شعره ومن قميصه كانت بقع عرقه كبيرة.
"أتيتُ لأخبركَ أني ذاهبة لغسيل الثياب ولن يبقى أحد في المنزل إلى جوار السيدة بوسارد" قالت بودٍ عكس عادتها وتوقفت قرب أخيها ثم لاحظت وجود هايدن بعيدًا "ما الذي يفعلهُ أخي هنا؟"
اجابها نيليو وهو غير مبالٍ "يعمل" فآخِرُ ما سيهتمُّ به هو ابن المدينة.
"نيليو لما لا تساعده فهو ليس فطينا بالعربات... آخر مرة أصابه حادث مروع"
"هذا ما كان ينقصني، أن أترك عملي وأساعد ابن المدينة ذاك ثم ما بالك مهتمة بأمره؟" رمق نيليو أختهُ الصغيرة بشكٍ من فضولها تجاهه وبيرل تجرعت حلقها ليس بسبب تشكيكه بها إنما بسبب حدة صوته في محادثتها كما لو أنه لا يطيقها...
"لستُ كذلك أنت تتوهم من العمل الشاق تحت الشمس" كتمت الود الذي كانت تكنه لأخيها ولبست قناع اللامبالاة "قبل أن أنسى" كشفت صحن موضوع فوق الثياب في السلة "السيدة بوسارد ترسل لكم هذا" خطفَ بِن السلّة منها متلهّفًا لما فيها من طعام وتهافت البقية لشدِّ السّلة قبل أن ينهيها كاملة لوحدهِ ذلك الشره.
"انظروا لهذا" قال شابٌ بينهم يدعى روميو وأخذ حصاة من الأرض، استدارَ إلى هايدن المنهك من محاولات إيصاد باب العربة التي لا يعرفُ تدبرَ أمرها "هاي أنت يا ابن المدينة!" رمى الحصاة على هايدن ليجذب انتباه "حذار أن تستحمّ بالروثِ مجددًا فهذا مهم !"
ضحك الجميع مستذكرين ما حدث البارحة، حصل روميو على حصاة أخرى وألقاها مصيبا ظهر هايدن "أيها الشيطان ما بك لا تجيب! هل تقوم بالشعوذةِ عندك؟!"
لم تعجب بيرل بتصرف روميو وأمسكت بمعصمه تصده عن رمي التالية "كف عن ذلك روميو، لست مضحكا" بينما البقية استمرّو بالضحك وشقيقها الكبير تبسم من الموقفِ الطريف.
تجاوز روميو حده مع بيرل ودفعها من كتفها "لمَ هل يخصكِ في شيء؟ ثم ما شأنكِ انتِ اذهبي لغسل الثياب مع بقية الفتيات، هيا اغربي عن هنا" سخرَ روميو منها، ثم وفي حين غفلة منها، جرها من شعرها يغيظها فهذه التي تقفُ أمامه هو معجبٌ بها منذُ الطفولة وطريقته الوحيدة للتواصل معها إما عن طريق دفعها أو جر شعرها.
"آهه!" صاحت بيرل من قسوة يده فهو لم يعد أبن العاشرة إنما رجل يبلغُ من العمر أربعة وعشرين عاما "نيليو انظر للذي فعله!" استنجدت بيرل بشقيقها رغم مقدرتها على إعادة روميو لمنزله باكيا إلا أنها أرادت رؤية شقيقها يدافع عنها.
"ما الذي فعله؟ إنه محق، اغربي عن هنا قبل أن اضربكِ أنا"
رف جفنا بيرل لا تصدق قسوة نيليو عليها وكادت أن تسترد حقها من روميو لكن مادة باردة مقززة التصقت برأسهِ من الخلف وتناثرت على البقية، تبادلوا النظرات فيما بينهم يحاولون استيعاب الروث الذي لوثهم ومن بينهم زمجر نيكو "تبًا!" فهو الذي حصل على النصيب الأكبرِ بعد روميو..
"سأجعلك تأكل هذا الغداء أيّها الوغد(!)" استدار روميو نحو هايدن الذي يحملُ المجرفة بثقة، همَّ بالهجوم عليه لكن هايدن ضرب وجههُ بالمجرفة مُسقطًا إيّاه، وضرب رأس نيكو الذي ظهر بعده أما بِن ابتعد هايدن عن طريقهِ وانزلق من تلقاء نفسه ليلتقي وجههُ بالروث.
قال هايدن ساخرًا "ما بكم مستلقون على الأرض؟" نهض روميو ولوّح بقبضتهِ مهدّدا ينوي ضربه لكن هايدن تجاوزها وانحنى ليحصل على فخذي روميو بين ذراعيه وبحركة واحدة رفعه عاليا وأسقطهُ على كومة القش لتفرَّ الخراف هاربة، متضايقة من إزعاجهم.
صرخ نيكو صرخة حربٍ وجرى نحو هايدن ليحبسهُ بين ذراعيه معانقا إياه" أمسكتُ به، هيا تعالوا لضربه فلن يتحركَ هذه المرة" دحرج هايدن عينيه من هذه الحركة المبتذلة التي قيّدت ذراعيه وقال "لابد أنك تمازحني"
" سأضربكَ أيّها الوغد!" نهض روميو وهمّ بلكمهِ هذه المرّة فأبعد هايدن رأسهُ وأصاب وجهَ نيكو.
"نيكو!" سأل روميو بقلق على حال نيكو الذي تضرر من اللكمة ولم يشعر إلا وقدمي هايدن تدفعه معيدة إياه ليسقط فوق الروث " روميو؟!" صاح نيكو.
"نيكو!"
"نيليو!" انضم هذه المرة شقيق بيرل إلى القتال ولوّح بقبضتهِ يريدُ لكمَ ابن المدينة، احكم نيكو ذراعيه حول هايدن ليثبته لكن هايدن سبقه وركل ما بين ساقي نيليو مفسد حماسته.
دخل بِن بنية هذه المرة للدفاعَ عن اصدقائه وارتمى على هايدن فقابل نيكو الأرض وخرجت روحهُ من أنفه "بِن أيها الخنزير الضخم!" صاح نيكو بصوت مختنق.
"ما الذي يحدثُ هنا؟!" صاح بهم السيد بوسارد قلقًا فتوقفوا كلهم عن الحركة وكتموا أنفاسهم كي لا يراهم. هنا دَوتْ ضحكةُ بيرل عاليا ورأسها عاد إلى الخلف "ما الذي أصابها؟" حكّ السيد بوسارد رأسه وعاد أدراجه الى المنزل وتركها تُكمل ضحكها الذي لم يُفهم سببه.
"ابتعد عني!" تخلص هايدن من بِن الذي فوقه وكاد أن يُفلت منهم، لكن نيليو المتألمُ أمسك بقدمه "إلى أين تظنُ نفسك ذاه.." لم يكمل نيليو جملته إلا وحصل على ركلة في وجهه ليرتمي أرضا بشكلٍ كامل هذه المرة.
"تعالَ إلى هنا!" ركض الثلاثة خلف هايدن نحو السّور الخشبي العتيق حيث توجدُ بيرل لا تتوقفُ عن الضحك، فقفز هايدن على السّور وكاد أن يفرَّ لكن الثلاثة أمسكوا بقميصهِ من الخلف.
"لا بدّ أنكِ مستمتعة بهذا" قالها هايدن وهو متمسّك بالسور وابتسامةُ ارتسمت على شفتيه مستمعٌ برؤيتها تضحكُ دون توقفٍ كما لو أنه أكبرُ انجاز فعله في حياته.
أومأتْ بيرل برأسها عاجزة عن إيقاف ضحكها وقالت "كثيرًا، أنت مسلّي حقًّا يا أخي" لم تكد تُكمل كلامها إلا وقاموا بشدّهِ وطار من جانبها فجأةً، فانتفضتْ فزعة ووضعتْ يديها على رأسها.
"أخي!"

.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة