illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد الفصل الثامن



تملّكَ المرضُ هايدن بعد رحلتهِ إلى القرية واستلقائهِ على السّرير دام طويلا، إذ أنّ حرارته ارتفعت والكوابيسُ أهلكته، كلّما تقلّب وأراد إغماض عينيه قفز كابوس آخر مفسداً نومه، بدنهُ كان ضعيفا منهكا وكل ما كان يدخل معدته هو الحساء الذي تطعمهُ إياه جدّته بينما جوان كانت تلعنُ اللحظة التي وطئت قدمهُ منزلها وحاولت جمعُ خيوط لغزِ مرضه، فتارة ترشُ المنزل بالملح وتارة تنثرُ الطحين كي تتقفى أثر هذا المرضِ الشّرير الذي دخل منزلها مع هايدن وجلب الهم..

في المرة الأولى فتح هايدن عينيه ورأى عمتهُ تهزُّ الأجراس وجدته تتلو صلواتِ لم يفهم منها شيئاً كونها تضربهُ برأس المكنسة، تنفضُ من عليه المرض الملعون "جدتي! جدتي ما الذي تفعلينه؟!" رفع هايدن ذراعه لحماية وجهه وهمّ بالنّهوض لكنها انهالت عليه برأس المكنسة.

"ارحل، ارحل، ارحل من عليه أيها المرض، أُترك هذا الشاب المسكين، انهض، انهض، انهض" كررت جدته كلمات لا معنى لها.

صاح هايدن "لن ينهض، لن ينهض!" ونزلت المكنسة على رأسهِ هذهِ المرة، فالجدةُ ميلينا كانت منغمسة بإخراجِ المرضِ منه ولم تبالي بتوسلاتهِ فهي تشفيه الآن.

حرّكت جوان رأسها بينما تهزُ الأجراس "يا أجراس أخيفِ هذا المرض، أسمعيه واطرديه، هو ليس مرغوباً بهِ هنا!"

وفي المرّة الثانية أفاق هايدن على ليمونة تُوضع في فمه من قبلِ سيّدة في عقدها الخامس شقراء الشّعر، ذات وجهِ أحمر "سيموت المرض من قوة الليمون الآن، أكملي الرش يا جوان" قالتها السّيدة وانضمّت إلى الجدّة، تقفزان معا قفزة واحدة ويقمن بتلاوة صلواتٍ تطردُ من على هايدن المرض وجوان ترشّ وجه هايدن بعصير الليمون ثم بيدها كاملة وفركت وجهه.

قالت الجدّة والسّيدة يرددان كلمات عديمة المعنى إلا أن ايمانهما بأنها ستشفيه دفعتهما ليكملا دون خجل من سنهما "اووه بوكا، بوكا، غم، غم نمم" قفزتا وتحت قدميهما أوراقُ شجر "نمم، غمم، بوكا بوكا" صلّت جوان معهما وضفيرتاها تدلّت، أبعدت الغطاء عن هايدن ومسحت صدره بعصير الليمون تلوثُ قميص نومه.

 "مدام، مدام ما الذي تفعلينه؟!" أبعد يديها لكنها عادت أقوى من ذلك تفركهُ رغماً عنه فما كان منه سوى أن دفع الغطاء وهرب من عُشِ المجانين.

"إذًا لوّثتَ المنزل بالمرض أيها الشاب سوف..." لم تُكمل جوان كلماتها كونهُ رحل وصوتهُ بالكاد كان واضحا من أنفهِ المحتقن.

أفاق هايدن في المرة الثالثة على محاولة جديدة منهم وانتفض مُرتعبًا من السّحلية الميتة التي تدور والفأرُ الميّت يدور في الجهة المعاكسة فوق رأسه "لقد انتفض المرض وهو يتخبطُ الآن" قال الحكيم وهو يجلسُ على الكرسي جانب سرير هايدن.

 "ابتعد عني!" صاح هايدن وأراد الفرار لكن مساعد الحكيم قفز فوقهُ لتثبيته وقال "أيها المرض فارق هذا الشاب، بالسّحلية الخضراء المباركة وبفأر الجبل المبارك أُتركهُ أيّها المرض وارحل من قريتنا" ضرب الحكيم السحلية والفأر ببعضهما فوق هايدن الذي يتخبّط ويتلوّى يريد الفرار "دعوني وشأني أيها المجانين! ألا يوجد عقلٌ سليم بينكم(!)"

"إنّه يُشفى، أُنظري يا جوان إن المرض يخرج!" فرحت الجدّة وأمسكت بهايدن هي وجوان وتقومان بتثبيته "اخرج، اخرج، اخرج منهُ أيّها المرض" كرّر الحكيم ضرب السحلية والفأر ببعضهما البعض فوق رأس هايدن، حرّك الحكيم رأسه للجانبين ثم دحرج عينه السّليمة إلى الأعلى وقال كلمات مبهمة "أرو، فام، مو، با، إينديفم!" صاح في الأخيرة ولطم وجه هايدن بالسحلية والفأر.

انقطعت الأصوات من حول هايدن وعيناه اجتمعت يُحملقُ بالقذارة فوق جبينه، أطلّ الجميع برؤوسهم حاضرين، يترقّبون علامات الشفاء عليه "دوريان؟" لكن هايدن دحرج عينيه إلى الأعلى ثم أطلقَ العنان لوعيه بأن يفِرَّ هارباً، فلقد أغمي عليه من شدة قذارة الموقف.

أي أجل هو غط في كوابيس لا نهاية لها، تارة يجد نفسه في منزله لكن دون أسرته وتارة يجد نفسه محبوسا في المقطورة وإلى جواره دوريان الذي تفيض الدماء منه وأسوء كابوس حضي به أو كما ظنه كابوسا هو فتحته لعينيه في الليل، مستلقي في السرير غير قادر على الحركة ومن تحت الباب هو رأى ظل قدمين تسير ومن قفل الباب شعر بأن هناك عينا تراقبه وفي أذنه طنين. هو أراد الحديث لكن صوته لم يخرج وما رآه لاحقا كان جمجمة جدي ملقية على الوسادة جانبه...

أفاق هايدن من النوم فزعا ومسحَ بعينيهِ الغرفة، يتأكدُ من خلو المكان. أفرج عن ثقل صدره بتنهد ثم لاحظ شيئا مبللا موضوعا على جبينه ولما لمسها وجدها كمادة منقوعة بخل التفاح فألقى بها في الوعاء جانب سريره. بحث عن ثيابه في الحقائب الخالية وتعجّب أنّ كل مستلزماتهِ موضوعة في الخزانة والكتب مرتبة على الرفوف.

 غسل وجهه في الوعاء بعد أن حلق كل شعرةِ ظهرت في ذقنه وارتدى ثياباً أنيقة، متناسيًا أنهُ في قرية تفوحُ منها رائحةُ روث البقر وقبل أن ينزل خطرت في باله فكرة دفعته للعودة إلى الرف حيث الكتبُ موضوعة وعلى الفور التقط مذكرات دوريان يأمل أن يعثر على الصورة إلا أنها لم تكن في مكانها بل مختفية لا أثر لها وكل ما عثر عليه هو خصلة شعر صفراء اللون وصفحة ممزقة....

"اللعنة! اللعنة على حالي! بئسا ما أنا بفاعل الآن!"

لعن هايدن حياته وجاب الغرفة ذهابا وإيابا عدة مرات يفكر بما هو فاعل، فلربما علموا بهويته والآن هو ما عليه سوى الهرب لذا امسك بالحقيبة وكشف عن جيب مخفي خبأ فيه أموال دوريان وقام بعدها ليرى إن كانت تكفيه للهرب.

"عمي دوريان"

انتفض هايدن في مكانه والتفت ليرى إليوت واقفا يحدقُ به والملاعق في كلا قبضتيه، لم يفطن إليوت المبلغ الكبير في يدي هايدن فلا علم له بالنقود وهايدن دسها في الجيب السري وعلى الفور أخفى الحقيبة أسفل الفراش "ماذا هناك يا ولد؟ لما ناديتني؟" حاول جاهدا المحافظة على لسانٍ طيب كي لا يذهب ويشي لعائلته.

"أرسلتني جدتي لتفقد حالك فلو لم تكن بخير كالأيام الماضية قالت أن بيرل ستأتي لتمر عليك ككل مرة"

"بيرل هي من كانت تدخل غرفتي؟"

"أجل.. أمي أخبرتها أن تجلس إلى جوارك عوضا عنها وتبدل لك تلك القماشة"

"آه، فهمت"

"إذا هل انت بخير؟"

"أجل وسأنزل هذه المرة"

"من الجيد سماع ذلك، أعني كنت سابقا لا تكف عن الصياح في نومك بل ولا تستيقظ أبدا.. ظننتك ستموت"

"آسف لتخييب آمالك لكن حي أرزق"

"لكن لم اتمنى موتك إطلاقا"

"كانت مجرد مزحة... لا تهتم"

خرج هايدن وتمنى لو يتمكن من إقفال الباب خلفه بمفتاح، هو لعن اللحظة التي مرض فيها وسقطت دفاعاته فبات الآن حائرا مهددا بكشف هويته في أي لحظة. عبرا الممرّ وقُرب مخرجِ الشّرفةِ بحث عن أفراد العائلة الرجعييّن ذوي العقول المتأخرة، فلم يجد أحدا وإليوت أكمل عمله إذ كان يضعُ ملاءة المائدة وفي جيبهِ أربعُ ملاعق "يا ولد، أين الجميع؟" سأل هايدن وإليوت قال "سيأتون قريبا.. انت ستأكل معنا أليس كذلك؟"

"أجل"

"أوه.." أومئ الصبي ثم فر مسرعا إلى المطبخ فإليوت لم يضيف ملعقة لهايدن ظنا منه أنه لن ينزل هذا الصباح أيضا لذلك احس بالخجل وركض خشية ان تعاقبه والدته..

"هذا ما كان ينقصني، صبي معتوه" زفر بضيق وعبر النافذة المطلة للمطبخ وجد المدعوة بالجدة ميلينا تقوم بالعجن، حدق بها متذكرا ما فعلته به لما كان مريضا لذا هو اتخذ اكثر قرار سليم ألا وهو الهرب من أمامها.

نزل من الشرفة متجها إلى خلف المنزل عله يجد نقطة مريحة ليفكر بخياراته المتاحة لكنه وعن طريق الصدفة لمح -اخته- بيرل وهي تجمع حبات الطماطم من العناقيد ثم تلقيها في سلة تضمها إلى خصرها. كان سيكون منظر الحديقة آمنا لو لم تكن متواجدة على منحدر فبيت الجدة ميلينا بُني فوق تلة وأسفل التلة كانت حقول الذرة ممتدة.

رفعت بيرل بصرها إلى الأعلى لما احست بقدوم أحدهم وتعجبت من رؤية دوريان، فلقد كان طريح الفراش لخمسة أيام متواصلة، لكنها عاودت إنزال بصرها والعمل بصمت ثم انتقلت إلى باقي المزروعات تقطف منها ما سيكفيهم للإفطار.

لوح لها بيده مُدعيا الترحيب ثم بشطر من الثانية عاد لحاله المتهكم وتمتم "مصيبة أخرى لكن هذه المرة شقراء.. لربما هي من دخلت غرفتي، الجحيم الدموي هل يا ترى فهمت معنى الصورة؟ بالتأكيد لا فلا أحد منهم رأى دوريان سابقا" استخرج من جيب سترته الداخلي سيجارة وأشعلها يأخذ جرعته الصباحية وتمنى لو أكمل باقي حياته في ذلك القطار. لقد كان في نعمة دون أن يدري.

دس هايدن يده في جيبه واسترسل بسحب النيكوتين يملئ به صدره ثم يعاود زفيره ليتصاعد دخان كريه الرائحة مُفسدا اللوحة الطبيعية. فكر بشأن الخيارات المتاحة له، ألا وهي الانسحاب من القرية إن شعر بحياته مهددة...

احس بشيء يلاطف ساقه ولما أنزل بصره إلى الأسفل وجده ذيل القطة غريتا "بئسا، ابتعدي عني!" رفع قدمه منزعجا يهشها وريثما هو يبتعد عنها انزلقت قدمه في الطين وقطع نصف التل تزحلقا عن طريق الخطأ.

"يا للمصيبة!" ألقت بيرل سلتها وركضت من بين المزروعات كي تمنعه عن التزحلق أكثر وبكلا ساقيها هي حبسته أسفلها "انت بخير؟" مدت يدها تعرض عليه المساعدة وهايدن قبلها فهو لم يملكِ خياراً آخر. جرته بيرل بقوة عجب منها فلقد ارتفع على قدميه مجدداً ثم دلته على معبر آمن ليدخل الحديقة خلفها.

"تلك القطة البغيضة" تذمر مشتكيا ونفض سترته "لقد افسدت ثيابي الجديدة!"

اكتفت بيرل بالإيماء له وأكملت عملها، هنا الوساوس نهش دماغ هايدن وليريح ضميره قرر سؤالها "أخبرني إليوت انك من كنتِ تلازميني في مرضي"

"ماذا؟ آه.. ليس تماما، كنا نتناوب فليلة أنا وليلة عمتي وأحيانا أمي ميلينا"

"فهمت.. لقد لاحظت أن أغراضي مرتبة بشكل راق لي فيا ترى هل انت من له هذا التنسيق المتقن في الترتيب؟"

قطبت بيرل حاجبيها بتفكير وبنفس الوتيرة دون تكليف نفسها عناء النظر إليه قالت "ساعدتني الفتيات بترتيب حاجياتك"

"وهل كن شقراواتٍ مثلك؟"

"لما تسأل؟"

"لقد رأيت في حلمي أن هناك بضع نساء شقراوات في غرفتي لذا وددت لو أعلم إن كان حقيقة أم لا"

"كان هناك منهن شقراوات أجل"

"اخبريني... هل تجيدين القراءة؟ لدي قصة انتهيت منها منذ مدة وعوضا عن إلقائها فكرت لو أعطيها لك"

"مع الأسف لستُ ملمة بالقراءة والكتابة"

"وهل يوجد هنا من يجيد ذلك؟ كي اعطيه القصة بالطبع"

"لدي صديقة تدعى . لورا وهي جيدة في القراءة"

"من الجيد سماع ذلك كي أعيره لها... لكن أخبريني هل هي شقراء أيضا؟"

استدارت بيرل ببدنها وتقابلت أعينهما، شعر هايدن بأنفاسه تحبس فلم يلحظ المسافة الضيقة بينهما إلا عندما التفتت إليه وكاد أن يمعن النظر في الجمال الذي تملكه لكنها افسدت خطته إذ دفعته من صدره ولم يشعر هايدن إلا وبنفسه يكاد يسقط من التل فأمسكته من ياقته دون أن تعيده لبر الأمان بل تركته معلقا هكذا مربوطا برحمتها عليه "هل انت مهوس يا هذا؟! ما بك تسأل عن شقراوات القرية!"

تمسك هايدن بمعصمها وترجاها أن تتعقل فالمنحدر خلفه نهايته مروعة فالحجارة فيه كثيرة "ما الذي اصابكِ يا امرأة! عن أي هوس تتحدثين! كان ذلك مجرد سؤال عابر!"

جرته من ياقته مقربة إياه ولوهلة أنفاسها الحارة لفحت وجهه ونبرتها الحازمة دفعته ليرتبك "أي سؤال عابر هذا! اسمعني يا -أخي- إن كنت تريد البقاء هنا بسلام فإياك ثم إياك ارتكاب أي تصرف سيء... عيناي عليك لذا تصرف وفقا لذلك"

افلتته وتجاوزته مع سلة الخضراوات خاصتها، هو بالكاد جمع أنفاسه من هول ما اصابه لكنه لاحظ اهتزاز قبضتها المرتجفة ليدرك أنها كانت تدعي قوة ليست بمالكتها، وهذا شيء أعجبه بشكل هو لم يتخيله أبدا فمن قوة تمثيلها لوهلة صدق أنها امرأة قادرة ذات قبضة من حديد.

لكن السؤال الذي راوده هو؛ ما بها تكن هذا الكم من الحقد تجاهه؟

عند حلول موعد الإفطار، جلس هايدن على رأس المائدة المربّعة ولم يُكلّف نفسهُ بفتحِ حوار مع فردٍ منهم بل متّعَ عينيه بمنظرٍ لم يتخيل رؤيته طوال الاثنين وثلاثين عامًا التي عاشها، سحبُ الربيع في الأفقِ البعيد محمّلة والزرعُ من حولهم فاحت رائحته، رغم الطريق الوعر والدلاء الصدأة التي شقّت النباتات فيها طريقها وتلكَ الجزمة القديمة التي تفتّحت منها الأزهار إلا أن حديقة جدته لا تملُ العين من النظر إليها، ففي كل تفصيل أعادت تدوير شيء عتيق.

حلقَ ببصرهِ خلفَ سور منزل، إلى البيوت البعيدة عن بعضها البعض، كل بيت كانت تجاورهُ أراضي زراعية والمواشي شقت طريقها مرتاحة البال والكلاب حولهم يحرسونهم..

حرّكت الرياح أجراسًا معلّقة لفتت اهتمام هايدن، فقد كانت تشبهُ تلك التي وضعوها في الزنزانة، خيوطٌ معقودة داعبتها الرياح حتى سقطت عينهُ على ما قلب معدته، سحليّة معلقة من ذيلها.

انتقل بصرهُ بسرعة إلى مدام ميلينا، والتي أحضرت أطباقا وقامت بتوزيعها على مائدتها الصّغيرة، عجوزٌ ذات مظهرٍ جميل مقارنة بما تعلّقه من أمور غريبة، دقّت على الطاولة بيدها ثم جلست وفعل الجميع مثلما فعلتْ "آملُ أنك قمت بالدقِّ على المائدة قبل جلوسك دوريان، لا نريدُ بأن تكون اللقمة سماً، دقْ على المائدة بيدك اليسرى يا بني" هي لم تزحزح بصرها عنه، نظرتُها حازمة بينما صوتها كان آمرًا.

أراد هايدن الحديث وإخبارها أنهُ ليس مضطرًّا لفعل ما تقولهُ لكن ظهور مدام جوان قلّب الموازين.

"آه! آه يا ظهري آه!" رفعت صوتها وفي جعبتها دلوان ممتلئان بالماء جاءت بهما من البئر، انتفض إليوت يعين والدته لكنها أبعدتْه وأكملت شكواها "آه من هذا العمل المنهك!"

"آه!" رفعتْ صوتها وحصلت على كلمات ميلينا وبيرل الحنينة وحبّ ابنها إلا هايدن، لم تتحرك مشاعرهُ تجاهَ جوان، انضمّت إليهم ودقّت على الطّاولة ثم باشرت بتناول الطّعام فاستغل هايدن انشغال ميلينا معها وباشر بتناول الطّعام، رمقتهُ جوان بحنق وقالت "آه يا أمي، نحن نسهر ونشقى ثم عندما يأتي اليوم لا نرى منهم سوى ظهورهم".

"لا عليك يا ابنتي" وضعت ميلينا في طبقِ إليوت المزيد من الخبز "يا أمي انظري إليّ، كبرتُ قبل عمري وانظري إلى نفسك، لا زلتِ تقومين بالأعمالِ الشاقة، أنا أقول بما أن هذا الشاب دخل عنوة وسيمكثُ عندنا إلى أجلٍ غير معلوم لينفعنا بشيء، لا تخدعي نفسكِ فكلُ واحدة من الجدات لديها الكثير من الأحفاد وانظري إلينا مقطوعي النسل بالكاد نملكُ من يعيننا"

امسكت جوان بذراع بيرل تهزه "حتى هذه الفتاة هزيلة لا خير منها"

"ما الذي فعلته أنا؟!" سألت بيرل وحررت ذراعها من أصابع جوان.

"كم أنت ذكية لكنك متأخرة يا ابنتي جوان" تبسّمت الجدة ثم رفعت أنفها بثقة وظهرٍ معتدل "أنا ودوريان تحدثنا في الأمر وتبادلنا أطراف الحديث بكلٍ ودّية ولو تريهِ كم كان متلهّفًا للنزول والعمل، أليس كذلك دوريان؟"

حدق هايدن بها وفكر هذه السيدة العجوز لا تدعُ لهُ مَفرًّا كمصْيدة الفئران "بالتأكيد" تمتم وحرّكَ الملعقة "كم أنا متلهفٌ وأكاد أحَلّقُ في السّماء".

"هذه هي الهمة اللازمة" أنهت ما في طبقها وقالت "سأذهبُ لمنزلِ السّيدة فلود مع الجدات لفكِ النحس عن ابنتها، المسكينة تطور الأمر لدرجة أن نعجة نفقت في الحضيرة" نهضت الجدة وألقت وشاح الصّوف الأرجواني على كتفيها وقالت "ساعد عمتك واختك يا دوريان" أوصته ولم تضيّع الوقت فتنتظرها مهمة سامية وهي تخليص فتاة من نحسها..

تمتم هايدن "يعالجون الأمراض ويطردون النحس كذلك! ماذا بعد؟" ثم نهض وهمَّ بالرحيل لكنّ صوت مدام جوان استوقفه "تؤ تؤ تؤ، إلى أين تخال نفسك ذاهبا يا ابن اخي الحبيب؟ لديكَ الكثير من الأعمال الشاقة".

جوان لم تكن تكذبُ أبدًا عندما قالت إنها أعمالُ شاقة، بل تكاد تفلقُ أعصاب ابن المدينة هايدن كاميرون.

"كل هذه العضلات وأنت لا تعرف قطعَ الخشب؟!" سخرت جوان منه وبينما هي تقوم باستخراجِ الفاصولياء وفرزها في وعاء مستقرِ في حضنها رفع هايدن الفأس عاليا ثم نزل بهِ بقوة يريد فلقَ الخشبة إلى نصفين إلا أن محاولاته باءت بالفشل والكثير من القطعِ غير منتظمة تحيطه كبرهان "أخجل أن أشبّهك بالنساء فكلهن يعرفن الاحتطاب، إليوت الصّغير هذا أكثر مهارة منك"

"سامحيني يا مدام لأني لم أولد والفأس بيدي!" أنزل الفأس وضرب طرفها فجعل الخشبة تطير عاليا تُحلّقُ في السّماء "انظر كيف تعلمتْ الخشبة الطيران وأنت لم تتعلم شيئا بعد" رمقها بحقد كما يرمق خصمهُ في حلبة المصارعة.

"لا تُحملق بي هكذا" حركت جوان السكين في يدها "عد للعمل فكومة الخشب لن تقطعَ نفسها بالتأكيد" لفظ هايدن أنفاسه يكادُ أن يتمنى الموت لمّا رأى جبلاً من الخشبِ ينتظره.

لم يَرقَ قلبُ جوان عليه بل مهام المنزل والحديقة كانت أهم من مشاكل هذا الشاب المتعجرف، جرّتهُ خلفها نحو منزل السيد آرنر ونادت عليه بعلو صوتها ليخرج، الأمرُ الذي جعل هايدن يريدُ دفنَ رأسهِ في الأرضِ كون هذه المرأة من المفترض أن تكون عمته "أنت مدينٌ لي بهذه الخدمة أم نسيت فضلنا عليك؟!" تخصرت جوان والحزمُ في صوتها تكاد ترفعه لتسمعُ الأهالي فالسيد آرنر لا يرغبُ بإهداء ما يجنيه بالمجان.

كتم السيد آرنر تعابير ضيقه من هذه المرأة التي لا تكف عن الإلحاح والصّياح بوجههِ "وهل يُنسى فضلكم؟ لكن ابني عندَ السيد فلود الآن" فرك يديه ببعضها يبحثُ عن حجةٍ تنقذهِ من هذه الصفقة الخاسرة.

"لا نحتاجه لديك هذا هنا، بالرغمِ من فشلهِ لكن شدّ أذنهُ مرة، تلو الأخرى وسيتعلم" ثارت أنفاسُ هايدن وشعر أنهُ سيفقدُ تحكّمه ويقوم بخنقِ المدام التي بالفعلِ لا تكفُ عن الصّياح وإهانتهِ أينما توقفا، عاينهُ السيد آرنر وحملقَ بحذائهِ الأنيق "إن كنت ترى ذلك، اتبعني يا بني" تبعَ هايدن الرجل إلى حضيرة مرتفعة قليلاً عن الأرض وقبل أن يدخلها ثقبت الرائحة أنفه تماما..

"ما هذا؟!" اشتكى هايدن عندَ دخولهِ إلى الحضيرة الفارغة فالخراف ذهبوا للرعي "أقل ما يمكنك قولهُ أنهُ كنزٌ يا بني وستأخذه عمتك مجاناً" فتح الرجل بوابة في الأرضية ليكشفَ عن تلال كبيرة من مخلّفاتِ الخراف.

ألقى السيد آرنر المجرفة إليه وأمرهُ بالنزول إلى تلال الفضلات ودفعها عبرَ البوابة الصغيرة من الخشب إلى خارج الحضيرة كي يتمكن السيد آرنر من ملءِ عربتهِ وإعارتها إلى جوان التي ستغذي حديقتها بهذا السّماد.

كل ثانية مضت في مهجعِ القاذورات، كانت أشبهَ بسنين عذابٍ لهايدن خاصّة عندما غُطست قدمهُ عميقا واتسخَ بنطله "تبًّا للحديقة ولكل ما تريدين زرعه!" تفاقم غضبُ هايدن إلى حدٍّ لم يعد يستطع كبحه وأكمل عملهُ مُجبرًا يريدُ فقط الخلاص من الرائحة.

"هذا يكفي يا بني!" تنهد الصعداء لما سمع نداء السيد آرنر يستوقفه.

ألقى هايدن المجرفة وجلس على الصّخرة خارجا يلفظُ أنفاسهُ منهكًا قرب عربة الحصان ولاحَ بصرُه هيئة يعرفها، لقد كانت تلك الفتاة بيرل بصحبة صديقاتها بحوزتها عصى وما يقارب عشرون من الخراف يسيرون أمامها بينما كلب الرعي -ذهبي- يحوم حولهم.

صديقاتها انتبهن لوجود هايدن الذي كان ملحوظًا من قبل الجميع، فهو فرد جديد أتى من ماضي ميلينا المنسي "أليس حفيد الجدة ميلينا؟" سألت لورا اصغرهن سنا.

"أجل إنه حفيدها" أومئت بيرل والفتاتان من كلا الجانبين التصقتا بكتفيها.

"سمعتُ عن مرضه من والدتي" همست جورجينا ودلو ماء مستقر على رأسها.

"لقد نجا من الحرق ومن المرض.. لكن هل تعلمان شيئا، رؤية المتعجرف وهو منهكٌ من العمل منظر لا يعوض" تبسمت بيرل بشماتة وفي قرارة نفسها اعترفت بمدى وسامته وهو جالس بعد أن أهلكه التعب وخصل من غرته الطائشة هبطت على جبينه فدفعها بذراعه.

"ما كل هذا الحقد يا بيرل؟"

"عن أي حقد تتحدثين؟ إني لست حاقدة عليه ولا مهتمة" تجاوزتهما ومن خلفها هما تهامستا "إنها ليست حاقدة إنما تغار منه"

"لي نفس الفكر يا جورجينا"

"ما بكما تتهامسان؟!" صوتها الساخط دفع الفتاتين لابتلاع لسانهما وسارتا إلا جوارها يغيرن الموضوع.

أحس هايدن بنظرات الفتيات نحوه وارتسمت ابتسامة جانبية على محيّاه، فأقصى طموح هؤلاء القرويات هو شاب وسيم متعلم مثله عكسَ رجال القرية الذين لا يبدوا عليهم سوى التخلف، لذا اعتبر نفسهُ ملكا نزل ليزور حاشيته، أشاح بنظره كأنه لم ينتبه لوجودهن والغرور أنساهُ تعبه.

في تلك الأثناء ضرب السّيد آرنر على قفل العربة المعطّل وقال "ما بال هذا القفل لا يُغلق!" وكعنادٍ من العربة، اتفق الزمان والمكان وانفتحت البوابة فانزلقت تلة من مخلّفات الخراف على رأس هايدن ليشهد على هذا كل من مرّ بالقرب من منزلِ السيد آرنر.

"لقد قلتُ لأمي أن هذا الشاب بائس لا نفع منه" 




 

عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz