متجر العائلة مر بنزاع روتيني عقيم، كانت نهايته أن تشجع جون وطرد هايدن من العمل للمرة العاشرة، أمام والدته وشقيقته، لم يكن بذلك التصرف الحكيم جدا، فقد حصل جون للمرة العاشرة أيضًا، على غضب زوجته وحماته، فالتعبير البادي على وجه زوجته، بعد أن غادر غير آبهٍ بصياحها وهي تتوعده، ذلك الخائب سيعود في نهاية الطريقِ إلى الدار حيث تنتظره.
كانت تلك معركةٌ فاشلة جديدة يخوضها جون ضد هايدن، المدعوم من قبل حماته وزوجته بل وحتى من قبل ابنه الذي كان من المفترض أنه خليفته من بعده.
فهايدن كان معززًا مكرّمًا رغم تصرفه السيئ، إذ جلس في واجهة محلِّ الخياطة، على الكرسي المهترئ ذو القماش الممزّق، يتأمل شارع حيهم الفقير حيث الجرذان منتشرة والكلاب الضّالة تجوب الشوارع، بحثًا عن لقمةٍ لم يعثر عليها حتى المتسول.
اعتصرت صوفيا على ثوبها بيدها تندب حظها، فابنها البالغ وشاربه جعل النساء يتجنبن الدخول، فتوعّدت جون بداخلها "أحسنت جون، تعال لأرى وجهك النحس عليَّ هذه الليلة وسأريك"
وكما قالت صوفيا، حلّ الليل وحان وقت عودة جون إلى البيت، رغم صلواته المتكررة بأن لا يأتي المساء، لكن لسوء الحظ لا الشمس ولا القمر يعملان لأجله ولأجل مصائبه العائلية. ولج جون إلى البناء متدني الحال وألقى التحية على قطة برتقالية الشعر، نائمة داخل صندوق، وضعه ساكنوا البناء لأجلها وقال "أنت نائمة هنا وأنا ينتظرني-اليوم الموعود- في الأعلى"
اشتكى لها ثم تأكد من جيب معطفه، إذ أخفى داخله قطعتيْ حلوى اشتراها لزوجته، كي ترضى عنه بعد أن حشت حماته رأسها "لنراجع الاستراتيجية العسكرية" حدّث جون نفسه وهذه عادة اكتسبها منذُ أن ناسب عائلة كاميرون.
فبعدما مرّ به، جنّ جنونه إلى مرحلة الحديث إلى نفسه، تسلق السلالم اللولبية إلى شقّتهم وبيده فانوس صغير، يبعد الجرذان عن طريقه فعقله المتوتر من نتائج الحرب أغناه عن تقززه من الجرذان.
"عندما تُلقي حماتك عليك الكلمات اللاذعة، التزم الصّمت كي تكسب شفقة زوجتك وإذا تَدخّل هايدن ليُظهر سيئاتك، قل له؛ لم أتوقع هذا الحقد منك كي تكسب مجددًا صف زوجتك" أوصى نفسه واستقر أمام الباب أخيرًا، ملأ صدره بالهواء وقام بالطَّرق منتظرًا أن يفتحه أحد.
دقّ عدة مرات لكن لم يستجب له أحد، فندب حظه مدركًا هذه الحركة، لقد تركوا له الباب مفتوحا ليخدم نفسه، إذ كانت هذه الطريقة الإستراتيجية ليست بالجديدة على هذا الزوج المظلوم.
فتح جون الباب وولج إلى الشّقة البسيطة التي بالكاد تكفي عددهم وقال يُسمعهم بقدومه "لقد عدتُّ!" علّق معطفه ووشاحه، والتفت ليجد ابنه واقفا في منتصف غرفة الجلوس يقضم أظفاره.
"دينيس، كيف حالك بني ألن تأتي وتُلقي التَّحية عليَّ؟"
لم يعرف ما يفعل وقال متوترا "جدّتي تقول لك أن العشاء جاهز" هرب مسرعًا إلى المطبخ الرثّ، حيث العائلة تجلس حول مائدة الطّعام في المطبخ معتم الجدران، ورائحة حساء الملفوف فاحت.
تنهد بقلة حيلة فها هي حماته تستعمل حفيدها مجددا لجلده، أمعن جون النظر إلى الجدران البالية ومرّر يده على أريكتهم الخضراء ذات رقع التعمير الصفراء، في محاولة واهية لتضيع الوقت قبل أن يذهب إليهم.
دخل جون المطبخ وأعجبتْه رائحة حساء الملفوف المفضا لديه، فتبسّم متناسيا أمر الحرب بينهم وجر كرسيًا ليجلس معهم حول المائدة الدائرية، بجانب زوجته وابنته دورثي في حضنها تلعب بالملعقة وقال "رائحته زكية، سَلمت يدا الذي أعدّه فأنا أتضور جوعًا"
باشر باحتسائه ولم يجبه أحد، ليدركَ حينها أن الحرب لازالت قائمة واللقمة باتت في حلقه كالشوك. أكملَ بصمت يترقّب، فهذا هو الهدوء قبل العاصفة، لذا قرر التصرف وإغاظتهم مستغلاً الفرصة "حبيبتي دورثي"
حادثَها وذراع زوجته ملتفّة حولها، استجابت دورثي له وتبسمت بحماس لوالدها وهي تُصْدِر الأصوات ردا على حديثه معها "لازلتِ مستيقظة، أميرتي الجميلة" وثبت دورثي وحاولت الوقوف في حضن والدتها، ظنا منها أنها ستذهب إلى أبيها فقال "تريدينِ المجيئ والجلوس في حضنِ بابا؟"
"افتقدتك كثيرًا أيتها الأميرة، هيّا تعالي" صفَّق لها وتحمّست أكثر، لم تقدر كلوديا على ابنتها لذا سلَّمتْها لوالدها الذي لاعبها على مائدة العشاء أمام الصّامتين أولئك، اعتصر دينيس قبضته بغيرة واقترب يريد الانضمام كذلك لكنه وعن طريق الخطأ متورط في فريق جدته.
"أرى أنك لا تملك مشكلة مع الصغار جون" قالت صوفيا ووضعتْ ملعقتها "جيد، إذا لن يكون لك حجّة بعد الآن كي تلقي حمل الأطفال على ابنتي كلوديا"
لم يصدق جون هذا الاستنتاج الذي ظهر وانتقل ببصره لزوجته، يشير لها بحاجبه إن كانت في صف والدتها.
"أجل" انضمت كلوديا "تبدوا متمكّنًا كثيرًا مع الأولاد يا جون، ليتك متمكنٌ في عملك أيضا وتعرف إدارته جيدًا، حتى لا تخسر زبائنك وتلقي اللوم على شقيقي هايدن مجددًا" رفعتْ حاجبيها دون النّظر إليه.
"ابني العزيز هايدن لا عيب فيه" نهضت صوفيا لما رأت وعاء ابنها هايدن قد فرغ "هذا الشاب ذكيٌ منذُ الصّغر، ماهرٌ في الحساب. جون هل أنت تجيد في الحساب حتى؟" سكبتْ لهايدن الحساء.
تنهَّد جون فها هي الضربات تصيبه من كل جانب وباستسلام قال "هلاّ سكبتِ لي يا حماتي؟" مد لها وعاءه وهو يصنع ابتسامة متكلّفة، ففي النهاية هو زوج عامل وجوعه يغلبه في كثير من الأحيان. صبت صوفيا كل المتبقي إلى هايدن بقصد ومسحت يديها "لم يتبقَّ المزيد، في المرة القادمة شارك في مصاريفِ المنزل حتى نصنع طعامًا وفيرًا"
أصرَّ جون على أضراسه بغيضٍ من حديثها وأردف "ما باليد حيلة حماتي، نحن نَصرفُ من جيبنا ما يأتي إلى أن يحصل ابنك -نابغة زمانه- على وظيفةٍ تجعلكِ تعيشي في السرايا الملكية"
قال هايدن مدافعا عن نفسه "لمَ التكبر وكأنك تطعمنا من جيبك، لا تنسى أني أضع في المنزل أموالي كذلك!"
"أموالك التي أصْرِفها عليك في عملك تحت يدي؟ أم تقصدُ أموالاً أخرى هاه هايدن؟" غمز جون آخر جملته يحبس هايدن في الزاوية فهو يعلم سرّه الذي يخفيه عن عائلته، تجرّع هايدن حلقه وأخفى توتّره ليرد عليه قائلا "الخيرات لم تأتِ مع ظهوركَ يا هذا، فنحن من قبل أن تُناسبنا كنا نصرف على أنفسنا ولا زلنا نَصرفُ على أنفسنا"
"هل تسمعين ما يقوله زوجك لنا؟ يظن أنه صاحبُ فضلٍ علينا وقد نسي أننا تغاضينا عن مشكلته في توفير شقة لك وإسكانك فيها كباقي النساء بل واستضفناه في منزلنا، يشرب من مائنا ويأكل من طعامنا كأننا خدمه" ذكرت صوفيا ابنتها كلوديا "عوضًا عن شكرنا وتقديرنا أننا وافقنا عليه وهو بهذه الحال الفقير"
"آه أين أنت سيد روجر، رفضناك ورفضنا صَنعتك ومقامك المحترم ووافقنا على صانع الأحذية الفقير هذا" رفعتْ صوفيا رأسها بحسرة على ابنتها التي لم تتزوج بغني وكان حضُّها مع هذا الفقير "ما فرق ابنتي عن ابنة روزالينا تلك؟ ما فرق ابنتي عن ميري؟ كلهن كانت قسمتهن فيها حظ... إلا ابنتي أنا! زوجتها لكنها عادت لي بزوجها وخلفتها البائسة"
رفع دينيس عيناه إلى والده، فهو دومًا يشهد على هذه الخلافات وكيف يهينون والده بسبب ما يجنيه من مال.
"سيأتي يوم وأعملُ بوظيفة حكومية وأحصلُ على ما أريد، لكن ماذا عنك جون؟، ستظلُ صانعًا للأحذية؟ تنزل لتصنع أحذية الآخرين؟" انتقده هايدن ورفع رأسه يريه مدى علّوه بينما هو مجرّد فقير.
مسح جون على ظهر ابنته بتريّث وحدّق بها ثم بابنه دينيس ونهض "سلمت أيديكم على السمِّ الهاري " حمل معه دورثي وأخذ دينيس وترك أفاعي المال -كما سمّاهم- يُكملون فحيحهم.
"هل رأيتِ كيف جلبتي لنا سلطانا يعيش على رؤوسنا؟ ليت قلبك العفن أحبَّ غيره يا كلوديا لكن ماذا أفعل بك، وبقولك: أحبه أمي أحبه، تفضلي هذا هو حبّكِ" نهضت صوفيا وجمعت الأطباق لتغسلها، عضت كلوديا شفتها وهزت قدمها بغيضٍ من زوجها لا تدري كيف وقعت بحبه وتزوجته وقالت في نفسها -كم كنتُ عمياء-
نظرت إلى شقيقها هايدن "كم كنت محقًا أخي، ليتني استمعتُ إليك ولم اتزوج به، آه يا روجر أين انت... أين عساي اذهب ومعي اثنان والثالث في طريقه قادم؟"
"طول عمركِ خائبة، منذُ أن كنتِ صغيرة... لا أدري من أين لكِ هذا العقل؟ انظري لشقيقك الأصغر...أنت أيضًا لا تحزن هايدن" قالت صوفيا ومسحت على كتف ابنها وعانقته واضعةً وجنتها على ذراعه فقد تعدّاها طولاً
"جون غبي لأنه قام بطرد شخصٍ مميزٍ مثلك، وذلك العجوز الذي آذاك بلسانه مجرّد وضيع لا يعلم أن الذي أمامه هو رجل يساوي الدنيا بما فيها"
شعرت صوفيا بالضّيق الذي خيّم على هايدن بالأخص عندما ذكَّرت الوظيفة الحكومية التي حاول كثيراً لأجلها ثم لم يحصل عليها "هايدن بني" كوبت وجنتيه بيديها "لا تحزن ستحصل على وظيفة الأحلام هذه، ستحظى براتب محترم وسنخرج من مكبِّ النُفايات هذا قريبًا، أنت ذكي مثل والدتك لذا اصبر ولا يحزنك جون، مكانك ليس في محلِّ صنعِ الأحذية بل مكانك الحقيقي هو في مكتب نظيف"
"حسنا يا بني؟" تأمّلَ هايدن عيني والدته الحالمة وأومأ لها برضى لما تقوله رغم شكّه في نسبة تحققه، إذ اليأس غلفه ولم يعد يصدّق هذه الأحلام الوردية.
"هيا تعال لتكتب لي رسالة إلى جدتك، فابن كلوديا ذاك غبي لا يجيد كتابة جملة مفيدة" احتضنت ذراع ابنها واخذته معها لغرفتها، تاركة كلوديا تنهش في نفسها، فمهما فعلت هي لا تستطيع أن تصل لتوقعات والدتها كما يفعل هايدن.
قضمت كلوديا باطن شفتها بغيض مستذكرة طفولتها، لما كانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما، كانت متعلقة بفتى أصغر منها سناً، يدعى دانيال، ولقائهما الأول حدث عندما ولج ذلك الصبي البالغ من العمر عشر سنوات، إلى محل والدتها وطلب أن يصلح أحدهم زر قميصه، خشية أن تكتشف والدته مصيبته فلقد أفسد قميصه الجديد.
صوفيا لم تكن موجودة في ذلك اليوم وكلوديا عرضت عليه المساعدة وخياطة الزر، وريثما هي تغرز الإبرة في القماش وتخرجها مراتٍ عديدة، أعجب بها الصبي وبات يفسد نفس القميص في كل أسبوع مرة، كي يتسنى له رؤية كلوديا.
ودانيال ذاك كان من أصدقاء هايدن في الحي، لذا دوما ما يسأل على حال كلوديا. ولما علمت كلوديا سؤاله المتكرر عنها من اخيها هايدن، آمنت أنه حبيبها الذي سترتدي لأجله الأبيض وفي يديها ستمسك باقة زهور.
دانيال كان يبادلها نفس الحلم وفي إحدى الأيام، نادى عليها أن تقابله اسفل سلم البناية وهناك أفصح لها عن حبه السرمدي ووعدها بالزواج عندما يكبر، وسيجني من المال الكثير لأجلها وكلوديا وافقت وأعلنت نفسها زوجته، لكن شريرة قصتهما ألا وهي صوفيا امسكت بهما وضربتهما حتى تأدبا ومن بعدها تحاشت كلوديا النظر إليه رغم محاولات دانيال المستمرة في لقائها.
دوما ما كانت كلوديا تحاول كسب صف والدتها علها ترضى عنها، إلا أن صوفيا لطالما اتهمتها بقلة الحيلة ودناءة النية، ظنا منها أن كلوديا فتاة ذات روح قذرة تبحث عن الخطيئة كباقي المراهقات. ولما وصلت كلوديا لسن الزواج بشكل فعلي، ظنت كلوديا أن اختيارها سيكون صائبا، لكن الحال الذي وصلت إليه اجبرها على الاقتناع بأن والدتها كانت على حق، عندما اخبرتها أن تأخذ روجر ولا تلتفت إلى جون.
فجون كان جيرانهم في الحي وقد أبدى اعجابه بكلوديا لما بلغت من العمر السابعة عشر وهي بادلته الإعجاب لما رأته يحبها بلا شروط عكس والدتها التي جعلتها توقن أنها إذا ارادت حبها عليها الاجتهاد لكسبه..
نفضت كلوديا عنها تجارب الماضي وشقّت طريقها إلى عائلتها الصغيرة التي في بداياتها، فتحت باب غرفتهم ودخلت لترى جون يلاعب دورثي ودينيس يحكي له كيف أنه كتب لجدته رسالة، بالطبع دون ذكر أخطائه الإملائية. مجرد غرفة صغيرة تضمُّ هذه العائلة الكبيرة، حيث دينيس يشاركهما السرير ودورثي لها سرير بسيط، صنعه جون بما يملكه من قدرة. مسحت كلوديا على بطنها، لا تتخيل أن هناك فردًا ثالثًا سيشاركهم هذه الغرفة، وكلما نظرت إلى زوجها تذكرت عيبه ألا وهو أنه عاجزٌ عن تأجير شقة ليسكنوا فيها.
"كلما تجيد فعله هو إلقاء ثيابك أرضًا" اشتكت بصوتٍ عالٍ وهو تجاهلها..
التقطت بنطاله وسقط منهُ كيس ورقيٌّ، انحنت لأخذه وتفحّصت ما بداخله فوجدت قطعة الحلوى التي اشتراها لها، زمّت شفتيها متذكرة أيامهما الحلوة سابقًا، لكنها قد باتت عاقلة بفضل والدتها وألقت الكيس "هذه لن تشفع لك جون، عوضًا عن إهدار مالك في هذه الحلوى عديمة الفائدة قم بادخار ثمنها للانتقال إلى شقة أخرى! لما لا يمكنك أن تكون جيدا بما فيه الكفاية؟! انت لا تعرف كيف يسود وجهي في كل مرة توبخك أمي!"
"أنا كان لي حلمٌ عند زواجي بك يا جون! وهو العيش في شقة مستقلة تضمني أنا وأبنائي! أنظر إلى بطني سيأتي الثالث ونحن لا زلنا عالقين في هذا الصندوق!" ضربت ساقه ببنطاله واليأس تملكها. أنكرت كلوديا خيره الذي جاء معه، فلما تزوجها جون ساهم في توفير مالٍ عن طريقه انتقلوا إلى هذا البيت الذي يعتبر قصرًا مقارنة بسابقه. أغمض جون عينيه في محاولة واهية للصمود، لكن لم يستطع أن يتحمّل أكثر من هذا التوبيخ أمام ابنه، كما لو أنه طفل صغير، لذا نهض وصاح كما تصيح به هي. وهذه الليلة السوداء صنعتْها حماته لأنه تمادى مع ابنها العزيز.
"ألم تجعليني اصرف جميع مدخراتي لأجل هذه الشقة التي كانت ستكون لنا وحدنا؟! أم أنك نسيتِ انت ووالدتك الوقت الذي كنتم تدقون به باب متجري تطلبون العون؟!"
"ستقوم بمعايرتي الآن؟! يا رجل تتحدث بثقة كما لو أنك اشتريت شقة تستحق! ألا ترى العفن في الجدران؟!"
صوت شجارهما هز سكون المنزل وأمسكتْ صوفيا بابنها قبل أن يتدخل قائلة "اهدأْ هايدن، دعها تجني ما حصدته.. علها تتعقل وتترك ذلك الرجل، حذرتها مراتٍ كثيرة لكنها لم تستمع" تنهّدت صوفيا ومسحت جبينها، هي كانت على يقين بفشلِ زواج ابنتها الغبية، فعوضا عن استعمال عقلها هي تزوجت عن حب ولتنقذ صوفيا ابنتها من ذلك الرجل وتلك الخلفة التعيسة كان عليها جعلها تدرك ذنبها.
"هيا أكمل الكتابة، كم أود زيارتك لكن الدنيا أثقلت عليّ، فلا أملك سوى دعوات أقولها في صحوي ونومي" كتب هايدن خلفها على ضوء شمعة تنير غرفة الجلوس، كانت تلك اللحظة ستوصف بالشاعرية والجمال إلاّ أن صياح الزوجين في وجه بعضهما وبكاء الطفلين أفسد كل وصف.
"بالمناسبة، أمي ما الذي ذكّرك بجدتي؟ بالكاد تذكرين اسمها أمامنا"
"إيه.. ليس شوقًا بالماضي، أنا فقط أقوم بهذا لتكفَّ عن دعواتها عليّ، رأيتُ نفسي هذه المرة في المنام أنّني أسقط من جسرٍ" تبسّمت وهي تُحدِّق بابنها هايدن الذي ينظر لها غير مصدّقٍ ما تقوله "ما بكَ تنظرُ إلي هكذا؟"
"أمي لما العداوة مع جدتي؟"
"لقد كانت امرأة مزعجة، تتدخل في كل تفاصيل حياتي... لقد احبت أخي أكثر مني ومهما فعلت لم ترضى عني لذا وافقت على أول رجل تقدم لطلب يدي وسافرت بعيدا عنها" مسحتْ صوفيا على شعر ابنها ولما سطع نور الشمعة على خضراوتَيه تأملت صوفيا جمال تفاصيله التي أيقنت أنه ورثه منها لا غير "هايدن، عزيزي ماذا تحب أن تأكل غدا؟" إلا أن اللحظة العائلية الممتلئة بالعواطف لم تدم لوقت طويل فالقنبلة التي صنعتها صوفيا انفجرت أخيرا.
خرجت كلوديا من غرفتها تحمل دورثي وتجرُّ دينيس خلفها، حنجرتها كادت أن تتعطل أسلاكها من شدّة صياحها على جون، وجون خرج بعدها وهو يصيح بها ويضرب كل ما أتى في طريقه ثم امسك بيد دينيس يجره "انت لن تأخذي ابني مني!"
نهض هايدن بكل شهامة يدافع عن شقيقته من هذا الزوج واشتبكت أيديهما بينما كلوديا تبكي مستندة إلى الحائط، تشتكي من أنها لا تتحملُ العيش معه أكثر من ذلك "لا أريدك! لا أريد رؤية وجهك بعد الآن! أنت مجرد وغد حقير!"
وكبيرةُ العائلة شاهدت الخلاف برضى، فطلاق ابنتها بات أقرب ممّا تصورت "يا لها من ليلة مبشّرة بالخير"
في النهاية بيت كاميرون لم يكن الوحيد الذي يمر بمصيبة، فبالنظر إلى نوافذ المباني الأخرى، الأزواج كانوا يَصيحون على بعضهم البعض، منهم من ضاقت به المعيشة البائسة ومنهم من يشكي قلّة كفاءة الآخر في العمل وتوفير لقمة تكفي الأطفال الجياع، فاقتصاد البلاد في تدهور ومعدل البطالة يرتفع باستمرار، بينما الملصق المنافق الذي يملأ الشوارع ويقول -لأجل غدٍ مشرق-يبيع أملاً مزيفًا إلى الطّبقة الكادحة، كي تجتهد أكثر في عملها في هذا العام، في عام ألف وتسعمائة.

.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة