مسح هايدن العرق عن جبينه بالخرقة على كتفيه ولعن تحت أنفاسه سكان القرية من صغيرهم إلى كبيرهم فبعد ما جرى نهار أمس، أنزل الحكيم في حقه عقابا ألا وهو الخدمة في دار كل عائلة، قرار يشبه الخدمة الاجتماعية التي تلازم المجرمين ومن اليوم هو بدأ أول خدمةٍ له في دار السيد بوسارد.
إذ أتى مايكل إلى منزل الجدة ميلينا يجره بالحبل كدليل واضح على أنه مجرم يؤدي الخدمة الاجتماعية وبالطبع مايكل حرص على أخبار الجميع بينما يتجول به كما لو أنه فرمان ملكي.
نادى في طرقات القرية عمن يبحثُ على مساعد وأول من طلب هايدن بالاسم كان السيد بوسارد فلم يكن أحد يثق بهايدن ولا بمهارته في العمل..
"هاي انت، يا ابن المدينة لم يحن وقت الاستراحة بعد. لازال عليك حراثة الأرض"
"وكيف عساي أقوم بحراثتها؟"
"هل ترى تلك الأداة هناك؟ استعملها في الحراثة، هيا أكمل ريثما أجلب لنفسي طعاما فلقد انتابني الجوع وأنا اشاهدك"
زمجر هايدن بحقد على مايكل ذاك وتمنى لو يختنق في لقمته، حدق بالمحراث القديم والحبال كانت معقودة به، فكر وفكر كيف عساه يستعمله حتى توصل لحل ألا وهو جره من الحبال ريثما يحرث الأرض خلفه كي يتسنى له دس الحبوب فيها لاحقا. وهكذا فعل هايدن، احكم قبضته على الحبال وباشر في سحبه بخطى بطيئة فالمحراث كان ثقيلا لا يقدر عليه والحبال كل تارة تنزلق منه إلى أن انتهى به عقد بعضها حول بطنه والأخير من كثرة انزلاقه احكم عليه بأسنانه وأكمل الحراثة لما يقارب الساعة.
تمنى هايدن حينها لو أنه فرغ لكن كل ما تمكن من قطعه هو النصف لذا انتهى به الأمر منهكا تحت أشعة الشمس وقميصه النظيف أضحى قطعة قماش بالية يضعها على رأسه كي يقي نفسه شر أشعة الشمس.
"من هذا الذي يرتاد مزرعة إليو بوسارد؟"
"سمعتُ أنه ابن ماتياس الراحل، دوريان"
"حفيد الجدة ميلينا إذا"
"أجل، أجل لقد عاد إلى مسقط رأسه كما فعل والده من قبله"
استمع هايدن إلى حديث امرأتين وصوتهما كان قريبا منه كما لو أنهما تمران قرب المزرعة، تلفت حوله بحثا عنهما إلا أنه لم يرى أي هيئة انثوية فكل المتواجدين كانوا رجالا يجلسون تحت ظل الشجرة.
"لا بد من أنها أشعة الشمس" فرك هايدن جبينه ولمح اثنان من الإوز تمران على مقربة منه "ابتعدا عن هنا!" ركل الهواء ورفرفت الإوزتان بخوف منه ففرتا هاربتين. سمع هايدن هذه المرة صوت ضحكات مايكل الذي عاد وفي يده فطيرة.
"يا ابن المدينة ما الذي فعلتهُ بحالك!"
"ألم تخبرني أن أحرث الأرض؟!" صاح هايدن بنفاذ صبر.
"يا رفاق، أنظروا لابن المدينة كيف حرث الأرض!"
نادى مايكل على القرويين كي ينظروا، في البداية تعجبوا لكنهم جميعا انهالوا بالضحك عليه وهايدن واقف لا يفهم أين أخطأ.
"توقفوا، هذا يكفي. ماذا عساه يفعل فهو لا بالنهاية لا يعرف من الزراعة شيء" نهض من بينهم رجل تخلل الشيب شعرهُ يدعى إيثان بوسارد وهو يكون عم إليو بوسارد، الرجل الكفيف صاحب الأرض. قصد الحضيرة في طريقه ومنها جر ثورا قوي البنية وقال "نحن نحرث الأرض مستعينين بهذا يا ولد"
شعر هايدن حينها بجسده ينهار وألقى إلى مايكل نظرات ساخطة، أي أجل انتهى عمل هايدن عند اقتراب المساء إلا أن بدنه اشتكى من الألم وضل يتقلب في السرير طوال الليل بسبب أن ظهره لم يسمح له بالنوم. في صباح اليوم التالي مر هايدن بنفس الروتين وعمل عند السيد إليو بوسارد لكن هذه المرة تحت توجيهات السيد إيثان الذي قرر تعليمه.
السيد إيثان لم يكن بالشخص الذي يفضل هايدن التعامل معه فلقد كان حامي الأعصاب كثير السُباب إلا أنه وعلى الأقل فهم ما عليه فعله لأول مرة وهكذا أنقضت أيام هايدن الثلاثة وفي يومه الرابع أجلسه إيثان إلى جواره تحت ظل الشجرة. ذلك المكان الذي لم يقترب منه أبدا بسبب سيطرة القرويين عليه.
"أنت سريعُ التعلمُ أيها الشاب، لست كالبقية هنا.. إنهم كالماشية أينما ضربْتَ بالعصى لتنهشهم أطاعوك" تحدث السيد إيثان وقبعة من القش تعلو رأسه.
"أنت كذلك الكلب" أشار على كبير كلاب الرعي، حيث يجلس على أعلى صخرة ويراقب بينما باقي الكلاب ترافق الأغنام تُوجّهها "فأنت لك القدرة على القيادة، يمكنني رؤية ذلك بمجرد النظر إليك"
حدق هايدن بذلك الكلب ينبح على البقية لما لم يتمكنوا من ضبط مسار الأغنام وقال في نفسه؛ يا لهذه التشبيهات القروية.
"ماذا عنك يا سيد إيثان، بماذا تُشَبِّهُ نفسك؟ اتحفني طالما أنك وجدت لجميعنا حيوانا يشبهه"
"أنا؟" تبسّم السيد إيثان وجاب ببصرهِ الأرض "أنا الراّعي الذي يُسيركم جميعا"
قطب هايدن حاجبيه لا يفهم مقصده إلا أن جوعه كان أهم وتلهف لما رأى زوجة السيد إليو بوسارد تأتي نحوهم متمسكة ببيرل وفي جعبتها سلة محملة بالطعام.
"سلمت يداكِ سيدة بوسارد على هذا الطعام، لكن لما اتعبتِ نفسكِ"
قال بِن وعلى الفور أفرغ ما في الأطباق من طعام في فمه غير مباليا بالبقية ونيكو ضربه كي يتأدب ويبقي لهم.
"يا سيدة بوسارد ما بالكِ اتعبتِ نفسكِ بالطبخ؟! لا أدري ما فائدة هذه الحمقاء عندك، عجبا من أمرها فلما كانت اخت زوجتي هنا البارحة انجزت من العمل الكثير" نيليو من تحدث هذه المرة يدهس على شقيقته أمام الجميع، أي أجل باشر الجميع بتناول الغداء دون أن يرى أحدهم نظرة العتاب في عيني بيرل، فلقد كانت تحدق بأخيها دون أن تضع لقمة في فمها كمن خاب أملها ولم تشعر إلا وبشوكة تضع في الطبق بين يديها فطيرة.
انتقلت ببصرها لصاحب الشوكة فإذا به هايدن ولما رآها تبحلق به غمز لها، هنا هي دحرجت عينيها واكلت مما في طبقها وفي داخلها حزنها كان كالحريق يأكلها.
ساعد هايدن بإعادة الأطباق، ليس رغبة بالمساعدة إنما ليستريح بضع ثواني بعيدا عن الشمس وفي طريقه وجد بيرل تقوم بغسيل الصحون، هو رأى اهتزاز كتفيها لذا حمحم قبل دخوله وهي سارعت بمسح دموعها لتقول "تفضل"
ولج للمطبخ وقال ساخرا "لا تفرحي، لازال لديك هذا الكم لتغسليه" وضع الأطباق ثم سألها "أين الماء فحلقي جاف"
مررت بيرل كأسا بطشت الماء ووضعته جانبها كي يسكب لنفسه وهايدن جلس على الكرسي يتجرعه بكميات كبيرة "غداء اليوم كان جيدا لذا شكرا لك"
"لما تشكرني؟"
"يا امرأة أنا اعلم حواف الفطيرة المحروقة أينما أذهب، من غيرك يحرقها بهذا الشكل"
تبسمت بيرل رغما عنها واسترقت النظر من زاوية عينها ثم عاودت اكمال عملها وقالت بامتنان "سعيدة أنها اعجبتك"
"هل ستعودين معي للمنزل؟"
"لا، سأبقى قليلا هناك كثير من أعمال المنزل"
"آه... حسنا إذا أنا عائد للمنزل فلقد انتهى عملي"
"حسنا"
خرج هايدن وغادر أرض السيد بوسارد برفقة بعض من صبية القرية من بينهم بِن فهؤلاء جمعهم شيء واحد ألا وهو أن طريقهم للمنزل مشترك، هم كانوا يتحدثون فيما بينهم وهايدن فمه كان مشغولا بشيء آخر غير الثرثرة ألا وهي سيجارته التي يدخنها.
"كلما أذكر ليلة الاثنين التي افسدها علينا روميو اشعر بالحقد عليه، أي أجل إن الحقد ذنب علي التخلص منه لكنه حقا معتوه. لأجل بيرل افسدها علينا"
"إن دماغ صاحبنا معطوب، لازال مغرما بتلك المرأة بعد كل ما حدث"
"أجل، مجنون أنا إذ احببت امرأة مثلها تسببت بموت احدهم"
"احيانا اتساءل لما الحكيم تركها دون عقاب شديد بعد أن قتلت ماركو ذلك المسكين"
ارتفع حاجبا هايدن من هول ما سمع ولما أراد سؤالهم صوت منادي قاطعهم من الخلف فإذا بها بيرل في جعبتها سلة من التفاح تلحق بهم فهؤلاء هم اصدقائها الذي كانت تلعب الغميضة معهم، حالما وصلت تبدل حال الفتية وكلهم رحبوا بها كما لو انهم ينهشوا في لحمها قبل قليل.
اعطت لكل واحد منهم تفاحة ولما التفت لهايدن قالت "التقط" ألقت التفاحة وهايدن افلت سيجارته محكما عليها بين شفتيه ليلتقط التفاحة وبعد أول قضمه هو ضل يحدق بها فهذه الفتاة أمامه تخبأ سرا كبيرا...
لكن هايدن نسي كل ذلك لما وجد سريره قد تمت اعادته لمكانه السابق قرب النافذة لذا هو وككل مرة دس ورقة في ثقب الباب والقفل ثم ترقب حضور ذلك الذي يختلس النظر إلا أنه وككل مرة سقط نائما من التعب وفي الصباح وجد ثقبا جديدا في الباب.
مر أسبوعان وهايدن في كل ليلة يزوره ذلك الزائر ويختلس النظر يراقبه طوال الليل ومهما فعل من تغير مكان سريره او سد تلك الثقوب يستيقظ في اليوم التالي وثقب جديد في بابه لدرجة أنه وجد ثقبا في الحائط.
خدم هايدن مُكرها في منزل السيد بوسارد طوال تلك المدة ومع حلول اليوم الأخير أكرمتهم زوجة السيد بوليمة تسدُ جوعهم، هناك تجرأ هايدن أخيرا وسأل مايكل عن حال السيد بوسارد فالأثر الذي في وجهه دليل على أنه فقد بصره في حادث.
لذا سرد مايكل له القصة وهي أن السيد إليو بوسارد كان الوريث الوحيد لجميع هذه الأراضي وبسبب منصبه هذا وكلت إليه الكثير من المهام فجده أخبره أنه إذ لم يحسن زراعة الأرض سينقل الأملاك لعمه، السيد إيثان. حرص حينها السيد إليو حرصا شديدا وفي إحدى الأيام غفل الراعي عن نعجة ومن شدة خوف إليو من جده تجاهل تعاليم الحكيم بعدم الخروج ليلا وبحث عنها في الغابة. حينها قيل أنه سمع صوتا شيطانيا يتربص به وحالما رفع فانوسه آخر ما رآه كان جمجمة كبش. لقد سمع الأهالي صراخه تلك الليلة ولحسن الحظ أنه نجى لكن عيناه لم تنجوا.
تلك القصة أصابت هايدن بالحيرة لكنه أفرط في الشرب لدرجة عجز فيها عن التركيز، وعندما حان موعد الرحيل طلب السيد بوسارد من هايدن التأكد من بوابة الحضيرة موصده فنهض هايدن وذهب لتفقدها.
كان يترنح في خطاه إلا أنه سمع صوتا يأتي من الحضيرة لذا فتح البوابة فوجد السيد إيثان جالسا على برميل خشبي ويحادثُ كبشاً أسود اللون "سيد إيثان هل أفرطت في الشرب أيضا؟"
"أغرب عن وجهي" دفع السيد إيثان عن طريقه ولحق به كبشه إلى خارج الحضيرة "سيد إيثان إلى أين تأخذ الكبش معك؟ لا تقل لي أنك تنام إلى جواره؟ سينطحك" قهقه هايدن مع نفسه واسند جبينه ضد البوابة.
حاول جمع شتات نفسه ولعن القرية بأهلها وقبل أن يهم بإيصاد البوابة قال للخراف "عمتم مساءً"
"عمت مساءً أيضا أيها الشاب"
اتسعت عينا هايدن وحدق بالخراف الواقفة أمامه بطبيعة "لا بد أني أفرطت بالشرب" فرك شعره وهم بالرحيل لكنه سمع "أنظر كيف أخفته"
التفت إليهم مجددا وبشكل هو لم يتخيله باشر بالضحك عاليا "آه لقد سمعت الخراف تتحدث.. يا للمصيبة" تبدلت تعابيره وسقط مغشيا عليه.

.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة