illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد الفصل الخامس


 


أنزل هايدن الجريدة وقام بطيها ليلقيها إلى جوار كأس امتلئ بعصير التفاح، هو كان سيتبع التقاليد السويسرية ويحرقُ جوف حلقه ببورتو على الإفطار لكنه أعدل عن الشرب بعد أن أفرط فيه لمدة أسبوع ونصف الأسبوع. كانت العجة والجبنة في حالة ممتازة إلا أن عقله لم يكف عن الوسوسة له. إذ ذاع بين الركاب خبر أن دوريان أو كما يظنه الجميع -هايدن- قام بالانتحار منهيا حياته قبل دخوله السجن.

أراد هايدن الإيمان بأن دوريان أنهى حياته بنفسه فلو كان سبب الوفاة أمراً آخر لشعر بالذنب الشديد والجرح في معصميه كان اكبر شاهد عليه لكن لما قد يهم شاب رزين باتخاذ هكذا قرار؟ بحث هايدن في مفكرات دوريان عن سبب، لربما خانته عشيقته أو علق في دين أهلك كاهليه، فما الذي قد يحطم رجلا سويا غير هذا؟

كان العيش بهوية أحد آخر شعوراً غريبا بالنسبة لهايدن إلا أنه ولحسن حظه كما يقول انتحل شخصية رجل ثري، لكنه وفي قرارة نفسه أدرك أن هذه اللعبة لن تدوم فقريبا سينكشفُ أمره لذا وبعد تفكير دام طويلا وهو يحدق بالنافذة لأيام قرر أن يفرَ إلى القرية التي حكى دوريان عنها بعيدا عن أيدي الحكومة.

لم يفطن أحد ويرى اصبع سيدة مغلف بقفاز يدور في الهواء ليعلو من بعده صياح اثنان من الصبية يلعبان.

"توقف! انت لن تهرب مني!" ارتطم صبي بكتفِ هايدن وهو يفر هاربا من شقيقته التي تلاحقه وعن طريقِ الخطأ اندلق العصير في الكأس على قميصه ملطخاً إياه.

"أيها الجرذان القذرة!" صاح هايدن وأنظار من في المطعم انتقلت نحوه، بحث عن منديل ليجفف به ثيابه لكن المنديل أتى إليه وهو بين أصابع سيدة ترتدي قفازات سوداء "تفضل أيها السيد المحترم"

زفر هايدن بضيق واستدار نية توبيخ الصغيران لكنهما اختفيا كأنهما لم يكونا موجودان حتى "أين ذهبا؟"

"دعكَ منهما سيد باومن" أذنت السيدة لنفسها بالجلوس على الكرسي المقابل له على نفس الطاولة وجمعت اصابعها اسفل ذقنها تراقبه وابتسامة تعلو وجهها.

أراد سؤالها إن كانت تعرف دوريان لكن لو كانت على علم بأمره لكشفته لذا أيقن أنها سمعت عن دوريان دون أن تراه "هل أعرفكِ؟"

"لا"

"من أين علمتي باسمي إذا"

"يمكنك القول اني ماهرة بالتخمين"

لم تنزل السيدة ذات الشعر الأصهب عينيها عن هايدن ابداً، شعر حينها بالضعف وأن جميع أسراره مكشوفة لذا وفي محاولة واهية لإخفاء توتره أشاح بصره عنها محدقا بالنافذة. تجاهلها علها تمل وتذهب إلا أنها بقيت محافظة على عينيها عليه ثم قالت وصوتها كان مريحا بشكل مريب "صباح الخير سيد باومن، يا ترى ما المصيبة التي هربت منها؟"

اتسعت عينا هايدن وزجرها "ما الذي تعنيه بكلامك يا امرأة؟! عن أي مصيبة تتحدثين؟!"

تلفت حوله والجميع كان يحدق به من شدة غرابة انفعالاته وتصرفاته "ألن تطلب لي فنجان قهوة؟"

"قهوة!"

"سيد باومن، لما لا تحافظ على اعصابك فحضرتك تحرجُ نفسك، اتيت قاصدة حضرتك لبعض التسلية، رأيتك وحيدا متهكم الوجه فقلت لأمر عليك وأسليك"

زفر هايدن بضيق ولما رأى أنها مصرة على البقاء وأشار للنادل أن يأتي "اجلب لي فنجاني قهوة، لي وللمدام"

"المعذرة؟" استنكر النادل طلبه لكن هايدن عاود تكرار طلبه فلم يجد النادل حلا سوى التنفيذ.

"مدام مرة واحدة؟ هل ابدوا كبيرة في السن هكذا؟" انزلت السيدة قبعتها الحمراء والتي استقرت فيها ريشة طاووس طويلة "أنجزي، ما سبب قدومك إلي"

"على رسلك أيها الوحش الضاري" قالت السيدة بتدلل ثم مدت يدها على الطاولة "لما لا تعطيني يدك"

"لماذا؟"

"لأدلكها لك، رباه بالطبع لأقراء لك الطالع ولنرى ما سيحكي لنا"

"نصابة مرة واحدة؟" اقتبس من حديثها "هل أبدوا معتوها يصدق هذه التفاهات"

ضحكت السيدة لدرجة أن ألقت برأسها للخلف ثم قالت "لديك حس دعابة عالي الجودة يا سيد باومن.. انظر ها قد جاء طلبك" حدقت السيدة بالنادل الذي كان تركيزه منصبا على السيد باومن ولما فرغ من وضع الفنجانين سأله "هل يطلبُ حضرتك شيئا آخر؟"

"لا، يمكنك الانصراف"

"لم تكلف نفسك عناء سؤالي إن كنتُ أريد شيئا آخر"

"لا حاجة لذلك"

"لديك أخلاق عالية الجودة أيضا"

"ما الذي تريدينه مني؟ ليكن بعلمك لن أصرف مالي عليك فحضرتكِ لستِ من نوعي"

"إذا ظللت عدوانيًّا هكذا لن نستمتعَ بوقتنا، أعني سنكون عالقين هنا لمدة حتى ينزل أحدنا فرحلتي طويلة"

"فكري بنفسكِ فلستُ من عرض عليك الجلوس"

سحبت السيدة الجريدة من يديه وقامت بفردها تطالع عناوينها "لن تعطيني يدك؟ حسنًا إذاً لنرى ماذا ستقوله لنا الجريدة" مررت اصبعها على الأحرف أمام عيني هايدن الساخرة.

"تدعى دوريان وتبلغُ من العمرِ ثلاثين عامًا، تخرجت من كلية الطبِ وعملت في ألمانيا بضع سنين" استرقت النظر إلى تعابيره المنذهلة من معرفتها هذه الأمور وتبسّمتْ حتى ظهر صف أسنانها البيضاء "يا للهول إن حضرتك تحبُ تحنيط الحيوانات وتبديلها إلى تحف فنية"

قطب هايدن حاجبيه فهذه التفاصيل كان قد وجدها في مفكرة دوريان "أي أجل حضرتك لك صفات حسنة لكن الخوف داخلك يسيطر عليك منذُ أن كنتَ فتيا.. لربما الأمر عائد للمرة التي سقطت في البحيرة ولم ينقذك والدك بسبب إنشغاله عنك مع زوجته الجديدة؟"

صدّها هايدن وصدّ كل فكرة قد تراودهُ بأنها محقّة، فلو كانت حقا تعلم الغيب لعلمت أنه ينتحلُ هوية دوريان، حافظ على صمته ينتظر بصبر كي يرى أين سينتهي الحديث "إني أقرأ المكان الذي ستذهبُ إليه، يا عزيزي أنت َذاهب بقدميك إلى نهايتك كما فعل والدك، ستعاني ولن تحصل على راحة البال فأنت ستخوض معركة.. نعم ستخوض معركة فكرية أشعلها العشق، ستقع أسير عشقٍ، لفتاة يرفضها عقلك، فتاة كاللؤلؤِ تملك قدمين قذرة... ستعشقُ فتاة لن تكون لك يا دوريان"

تبدل وجهه هايدن وقطب حاجبيه مستنكرًا "حقا؟ وماذا بعد؟ يا مدام لقد وصلتي لمستوى فاخر من النصب"

"أنت بغايةِ اللّطف يا دوريان"

لم يبالِ بها، بل وضع ساقًا على الأخرى واستخرج نظّارته مستطيلة العدستين، فتح كتابهُ أمامها وباشر بالقراءة يتجاهلها تماما علها تنقلع من أمامه. تبسّمت -المدام- واستخرجت من حقيبتها علبة السجائر ومررتها على شفتيها الرفيعة.

"لن تقاوم شفتيها يا دوريان"

قلّب هايدن الصفحة "أجل وما الذي سأفعله بعد؟ أقبل قدميها؟ ألم تملي يا مدام؟ إني لا أصدق دجل العرافات"

"لن يدوم هذا طويلاً أنت ستخسرُ يا دوريان"

"الفائزُ فقط من يخسر، بينما أنا لم أفز بشيء لأخسره"

"ألم أقل لك أنك لطيف؟ أشعلِ لي هذه السيجارة مقابل ألا تدفع لي فأنا لا اقرأ بالمجان"

"انت غير قابلة للتصديق يا مدام"

"وهذا يعجبك أيها الخسيس" غمزت له آخر حديثها فلقد لمحت فيه خيط اعجاب بجرأتها.

أشاح هايدن بصره عنها واستخرج قداحتهُ مشعلا سيجارتها فقط لتكف عن الحديث معه لكنه تفاجأ من السيجارة التي ألقتها له ليشاركها.

عند وصول القطار إلى محطةُ ساسبيرغ، أبلغهم الموظف والصّافرة علت كأنها تسمعُ من في البلاد الأخرى، نزل هايدن حاملاً أمتعته من القطار -أو بالأحرى امتعة دوريان- وبحث حوله عن عربة قد توصلهُ إلى القرية المنشودة، لكن كل من أخبرهُ بالعنوان رفض من شدة طولِ الطريق، تملكَ اليأسُ هايدن لكن صاحب أحد العربات وافق على اصطحابه لكنه بالكاد سيصلُ إلى نصفِ الطريق وسينزله حيث يوجدُ قصبة ثم من هناك سيستقلُ عربة تعبرُ به الجبال ثم تنزله على مقربة من تلك القرية. طريقٌ شاقٌ ومكلف إلا أنهُ لا مجال للتراجع.

استقل هايدن العربة الأولى ثم التالية وكل تقلبات المناخِ أصابته فتارة الشمسُ ساطعة أهلكتهُ وتارة البردُ آلم عظامه، لا سيما الغيوم قد أفرغت حمولتها فوق رأسه في رحلتهِ التي دامت يومين وليلة.

وفي أثناء طريقهما غطِست حوافرُ الحصان في الطين، وعجلاتُ العربة عانت في الدوران ولما بدا الطريق مستحيلاً تعذّر صاحبُ العربة من هايدن الجالس وسط أربعِ خراف "لن أستطيع الاستمرار، الطريقُ موحلٌ من أمطارِ أمس" أبعد هايدن وجهه عن الجدْي الذي يشمّهُ وترجاه "ألا يمكنك المحاولةُ أكثر؟ الليل سيحلُ ولا أعرفُ الطريق"

مد المزارعُ مصباحًا زيتيًّا صغير الحجم "خذ هذا معك وأكمل طريقكَ يا بني، استمر في استقامة وستجد لائحة قديمة، هنا سيتوجّبُ عليك عبورُ التلِ الكبير وستصلُ إلى القرية لكن عليك الاستعجالُ في الخطى قبل حلول الليل، فقد تفترسك الوحوش"

"ذئاب تقصد؟"

"لا، بل وحوش بالمعنى الحرفي"

نزل هايدن ولم يصدق ما سمعهُ من المزارع الخرف، وحوش؟ لابد أنه لازال عالقًا في أساطير القرون الوسطى وما قبلها، سار هايدن في الوحل وغربت الشمس فوق رأسه سامحةً لليل وقمره أن يأخذوا مكانها، رفع المصباح حالما رأى اللافتة في الأفق، خشبها متكسرٌ يتأرجحُ مع الريح، دبّ الرعبُ في قلبه ليس من الوحوش بل من الذئاب أو الدببة التي من الممكن أن تعترضَ طريقه وتأكله، تسلّقَ الهضبة بشقِ الأنفس ثم أكمل السير في الظلام لا يعرفُ أين هو وما يحيطه إلى أن رأى نارًا تشتعلُ في الأفق لذا قرر الذهاب إليها فأينما توجدُ النار يوجدُ الإنسان.

صريرٌ وصل إلى أذنيه من بعيد امتزج مع حفيف الأغصان شتتْ تركيزه لكنهُ أصرّ على الاستمرار، سمع صوت البوم، وضجة حشرات الليل واستمر رغم ذلك إلا أن الصوت الذي يليه جعلهُ عاجزًا عن الحركة، فتكسرُ الأغصان اليابسة والأنفاسُ الثقيلة القادمةُ من خلفهِ تشبهُ الحيوان، أراد التخمين بأنهُ دبٌ لكن لا وجود لضربات أربع أقدام بل فقط قدمان، من يمينه ومن يساره واقترب وقعُ خطواتٍ كذلك لكن أصواتُ أنفاسهم قلبت موازين عقله فلم يعد يعرفُ إن كانوا حيواناتٍ أم بشر.

علا صوت صياحٍ أفزع هايدن، وجعلهُ يلقي كل ما في يديه ويسابقُ الريح نحو تلك النارِ المشتعلة، سارع في الركض مع إسراعِ الذين حوله وتعطشهم لِلَحاقه، استنجد هايدن بالرجل التي اقترب من النار لكن قدمه تعرقلت إذ تعثر بشيء مرتفع عن الأرض لتعلوا معهُ ضجةُ أجراس وتصادمُ الزجاج، سقط هايدن أرضًا وناضل لتحرير قدمه لكنه أكمل زحفًا خائفًا من الذين يلحقون به.

"أنجدني!" مد هايدن يده يطلب العون من الرجل الذي يقف قبالة النار المشتعلة ولما استدار إليه طار عقله من رأس الجدي المستقر فوق بدنٍ أسود شديد النحل وقامته امتد طولها أكثر وأكثر آخذة عقل هايدن.

علت أصوات الهلهلة والحيوانات كصهيل الحصان، خوار البقرة ونباح الكلاب ثم جماجمٌ مضيئة ظهرت من العدم في الظلام وطافت حوله فلم يعد من هايدن سوى إغماضِ عينيه والسقوط مغشيًّا عليه من الرعب...



عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz