illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد الفصل الرابع


 


تلهف الجميع لاستغلالِ الساعات القليلة من الليل، عسى ولعل أن يُريحوا أجسادهم قبل العودة إلى العمل، لكن بعضهم استغل هذه الساعات في القيام بالخبائث بشتى أنواعها؛ كالسّرقة، وقضاء الوقت مع عشيق سرّي أو كحالِ صوفيا التي جلست على طرف السّرير، تراودها تخيلات سوداوية عن ابنها هايدن وهو في السّجن بعد قتله ذلك الرجل.

 انقبض قلبها وعُصر من الأميال التي تفصلها عن والدتها في مدينة سانت غالن البعيدة، ليس شوقًا بل لأنّ الرسالة ستستغرقُ الكثير حتى تصل إليها وهي لا تملكُ كل هذا الوقت، ولأول مرة تضرعت بالدعاء "يا من في السماء أتوسلُ إليك، أعرف أني سيئة لتضرعي إليك فقط في المصائب، أرجوك أنقذ ابني كما أنقذتني قبل ستة وعشرين عامًا، عندما تركت سانت غالن"

فتحتْ نافذتها وأطلّت برأسها تحدّق بالسّماء المظلمة ودموعها تسابقت في النزول وهي تردّد "أرجوك أنقذه وأعدك بأنّي سأكون امرأة صالحة، سأنفق من مدّخراتي وأعطيها للأطفال المشرّدين في الشوارع... بل وسأتوقف عن محاولة التفريق بين كلوديا وزوجها لكن فقط لينجوا ابني من هذه المصيبة" 

رهنت صوفيا أعز ما تملك مقابل نجاة ابنها من أيدي الشّرطة، وظلت تتوسل حتى جفّت دموعها وهدأ حالها، ثم استدارت برأسها إلى حفيدها دينيس، الذي يشاركها السرير وعلى المنضدة الرسالة المنشودة، تبدلت ملامحها مع الفكرة التي قفزت إلى ذهنها وأحسّت أن أبواب الفرجِ فُتحت لها، أخرجت صندوق ذكرياتها العتيق وبحثت فيه حتى عثرت على صورة لها في شبابها، صورة قد تتذكرها والدتها بالنظرِ إليها "ستتعرفُ أمّي عليَ بالتأكيد" ثم أغلقته وحملته مسرعة إلى غرفة هايدن.

دفعت الباب ووجدتهُ مستيقظًا يقرأ كتابًا على سريره والشّمعة بجانبه، في محاولة واهية ُليخفف من توتره "أمي؟ هل غيرتِ رأيكِ بإرسالي إلى جدتي؟" شعر هايدن بالأمل لكنها حطمته بِقَولِها "بل أنا مصرّة، وسأرسلك في هذه اللحظة، هيّا انهض ولملم امتعتك"

وضعت الصندوق على سريره، نزع هايدن نظارته وفرك جبينه بخيبة، فهو الآخر لا يريد التعفن في السّجن بعد هذا العمر لذا كما امرته وضب اغراضه. حركتهما وضجتهما تلك أيقظت المنزل بأكمله إذ دخلتْ كلوديا إلى غرفة شقيقها لتجده مع والدته قد افترشا على الأرض وأغراض هايدن حولهما "هذا الكتاب عزيز عليّ!"

"لقد أخذتَ ما يكفيك من الكتب! ثم هذا كتاب فلسفة لن يفي بالغرض خذ معك كتابًا عن تلك الاشياء الطبية التي تقوم بها مع ذلك الطبيب ستينر" وضعت صوفيا المزيد من الثياب الثقيلة حرصًا على تدفئته، انزعج هايدن وألقى كتابه وبحث بين أدراج خزانة كتبه حتى عثر على المنشود.

تقدمت كلوديا تشدّ رداء نومها "ما الذي تفعلانه؟ ما كل هذه الحقائب؟ أمّي أنت لستِ جادة" دحرجت صوفيا عينيها بضجر من حديث كلوديا عديم الفائدة "لو لم أكن هل كنت ستريني أفعلُ هذا؟ أنا أُنقذه! ماذا ستفعلُ بعدَّتك هذه؟!" وبَّخته على العدة الطبية التي يأخذها معه.

"قد يصيبني مكروه هناك وأحتاجُ لها ثم انها هدية من السيد ستينر ومتأكد انكم لن تعتنوا بها" وضعَ عدّتهُ التي تحوي مشرط، مقص والكثير من المستلزمات الأخرى.

"أمي لنجد حلاً غير إلقاء هايدن هكذا! لنهرّبه مثلا إلى بلدٍ آخر" بحثت كلوديا عن حلّ وجلست على طرفِ السّرير.

"أغلقي فمكِ، كل ما اصابني بسبب زوجك المنحوس!"

"زوجي أنا يا عديم الفائدة! هل نسيت الذي قلته عني!"

"لم أكن اكذب فتلك الحقيقة! تعففي قليلا فسوف نختنق من كثرة الأولاد!"

"يا ملعون، أمسك لسانك فانت تهينني هكذا! هؤلاء الأولاد الذي تشتكي منهم انت تكون خالهم الوحيد! دينيس لم يتوقف عن البكاء بعد الذي قلته، لا ينطق بشيء سوى قول أن خاله يكرهه!"

"لا تغيري الموضع!"

"صهه! إذا سمعت صوتا آخر فاقسم لكما بقبر أبيكما أني سأخرج من المنزل العفن هذا دون رجعة ولن تعثرا علي أبداً" هددتهما والدتهما بذلك التهديد الذي كررته سنين طويلة لتفض النزاع وقالت " ثم لِما أُرسله إلى بلدٍ آخر وجدتكم موجودة؟ أنتما فقط لا تعرفان شيئا، إن جدتكما امرأة محظوظة لها ورث كبير، فهي ابنة والديها الوحيدة وكل املاكهما وأملاك زوجها انتقلت لها... امكما كانت تعيش برفاهية قبل ان تلتقي بوالدكما الفقير ذاك" شرحتْ صوفيا لهما وهي تُغلقُ حقيبة السّفر.

"أمّي الرسالة لم تذهب إلى جدتي حتى الآن! من سيأتي لأخذي؟ من سيتدبّرُ أمر وصولي لها؟! أنا لم أرها في حياتي!".

"ستتدبرُ أمرك كرجلٍ وتعثرُ عليها!" فتحت صندوق ذكرياتها وأخرجت صورتها التي التقطتها في أيام شبابها وبحضنها هايدن الذي يبلغُ من العمرِ أربعة أعوام وكلوديا ذاتُ الستة "أمّي ستعرفني من هذه الصورة فلقد ذهبنا لالتقاطها معا، فقط اعطها لها وهي ستعرفني"

"امي، حسنا يمكنني استيعاب هذا لكن قولي لي بأي مال سأشتري التذكرة؟"

تبادلوا النظرات فيما بينهم حائرين وسألته صوفيا عن النقود التي ربحها في الرهان، ليجيبها هايدن بأن النقود ليست معه إنما مع توم ودانيال. عزمت كلوديا على اقناع زوجها بإعارة هايدن مبلغا من المال يكفيه، لكنه هو الآخر لا يملك ما يكفي فلو صرف مدخراته جميعا على خيبة هايدن، فمن أين سيطعم عائلته ويبقي متجره مفتوحا.

عزم هايدن حينها على الذهاب لدار دانيل، إذ قام بالضرب على باب غرفة قام دانيل بتأجيرها في سطح أحد المباني، وحالما خرج دانيال بمنامته ومعطفه الممزق سأله هايدن عن النقود "يا صاحبي لا ادري كيف اعينك، عندما افترقنا كل واحد منا ركض في اتجاه بسببهم فلقد عثروا علينا وبالكاد ضللتهم"

"إذا تقول أن حقيبة المال بقيت مع توم؟"

“أجل" حك دانيل خلف عنقه ثم سأله "ما الذي ستفعله؟"

“سأمر على توم" وكما قال هايدن، بالفرنكات القليلة في جيبه استقل عربة توصله إلى مركز المدينة، حيث الأحياء السكنية الفارهة وإيجاد منزل توم لم يستغرقه الكثير من الوقت، إذ دق هايدن الجرس مرات عديدة وظهرت الخادمة بوجهه.

"ألا حياء عندكم؟! كيف تدق الجرس في هذا الوقت من الليل؟!"

"أحتاج لرؤية توم بسرعة"

"الميسيو الصغير؟ لكن من عساك تكون؟!" سألت بلكنة ركيكة تخللتها الفرنسية.

"ليس وقت التعارف! اخبريه أن هايدن كاميرون ينتظره في الاسفل"

لم تقتنع الخادمة لكن هايدن اجبرها على الذهاب ولما عادت له كان بيدها دلو ماء سكبته عليه "انقلع عن هنا ايها المحتال، فالميسيو الصغير قال انه لا يعرف احدا بهذا الاسم!"

“ما الذي تتفوهين به يا امرأة؟! متأكدة انك ذكرتي اسمي بشكل صحيح؟!" احتد الجدال بينهما للدرجة التي نزل بها والد توم بثياب نومه ورداء احمر على كتفيه، سأل عن سبب الشجار وحاول هايدن اقناعهم بانه صديق لتوم. لكن توم لما سأله والده إن كان يعرف احدا من هذه الأشكال الوضيعة هز رأسه نافيا والتزم بقول أن لا علاقة تجمعه بهايدن. حينها اشتد غضب هايدن وتهجم عليهم من هول المصيبة التي وقع فيها.

"اعطني المال الذي اخذته ايها اللعين!" انقض هايدن على توم نية ضربه لكن خدم المنزل دفعوه عنه، سقط هايدن على الأرض والحقد تملكه، فتوم سينام براحة وهو عليه القلق حيال السجن الذي ينتظره. ولم يكن الامر فقط بسبب النقود، فتوم هو كان اول من عرض على هايدن فكرة الدخول في مصارعات غير شرعية لكسب المال وها هو يتخلى عنه عند اول مصيبة.

 "خذ هذه يا ابن الساقطة!" التقط هايدن حجرا في يده وبكل ما امتلكه من قوة ألقاها على توم لكنها اصابت عين والده عن طريق الخطأ والدماء تدفقت بغزارة "دادي!" صاح توم بالإنجليزية "دادي لا!"

صياح توم كان آخر ما سمعه هايدن فلقد فر هاربا على الفور وتوم لم يتقاعس عن ابلاغ الشرطة رغبة في أخذ ثأره. ركض هايدن وركض فلم يملك في جيبه فرنكا واحدا يعيده للمنزل وريثما هو يسير ويندب حظه قفزت لرأسه فكرة ستجعل منه شيطان هذه الليلة.

إذ قصد في طريقه منزل الطبيب ستينر والذي كان خاليا فلقد سافر صاحبه والخدم جميعهم اخذوا إجازة من العمل، التقط هايدن مزهرية نحاسية كانت موضوعة للزينة، عند باب الاستقبال واسقط الورود منها، نفضها جيدا ثم ذهب لنافذة غرفة المعيشة وبعدة ضربات حول الزجاج الى فتات.

تسلل هايدن لداخل المنزل ولم يشعر بالضياع، فهو يعرف كل ركن وزاوية في الدار بسبب عدد المرات التي دخلها، ولج إلى مكتب السيد ستينر وكرر ارقام الخزنة التي حفظها، بحكم ان السيد ستينر ابلغه مرة ان يجلب له نقودا من الخزنة لسداد دين كان يطوق عنقه.

كشف هايدن عن المال ودس يده آخذا جميع مدخرات السيد ستينر "سامحني يا سيدي"

هرب هايدن دون ان ينتبه لأمر جارة السيد ستينر، التي قررت في هذه الساعة الخروج للحديقة ومقابلة عشيقها السري ولما رأته فزعت وسارعت بطرد حبيبها ثم ابلغت والدها خشية ان يأتي لصوص لمنزلهم أيضا.

جرى هايدن لمدة يتخفى بعيدا عن تلك الأحياء وتوقف عن الركض في لحظات الفجر الأخيرة، لما اشرقت الشمس واشعتها تسللت في الافق من بين الغيوم، أيقن حينها أن لا رجعة له للمنزل لذا تخلى عن فكرة العودة وشق طريقه نحو محطة القطار تاركا خلفه عائلته العزيزة دون وداع.

كان هايدن أول من قصد شباك التذاكر والموظف فزع لما وقع بصره على هذا الشاب، الذي امتلك كدمات متورمة في وجهه "اعطني تذكرة لمدينة سانت غالين"

“لا يوجد تذاكر متوفرة ل.." هز الموظف رأسه وحاول التهرب من بيع تذكرة له فحاله يثير الشبهة، لكن هايدن لم يدع متسعا للرفض، إذ ألقى في وجه الموظف من النقود ما جعله ينسى اسمه حتى ولأن المبلغ أرضاه، على الفور سلمه التذكرة وتمنى له نهارا سعيدا.

 اتخذ هايدن مقعدا وجمع ذراعيه ضد صدره في انتظار قطاره، تمنى لو يتوقف عن التفكير لكن لحظات هذه الليلة المشؤمة استمرت بنهش ذهنه، فلا يكفيه ما فعله في نادي الرهانات بل واضاف تعديه الغير مقصود على والد توم واقتحامه لمنزل الطبيب ستينر.

"احسنت صنعا يا هايدن، احسنت" ضرب هايدن على جبينه لكن جبينه المتضرر دفعه للتأوه. انتظار هايدن دام طويلا والزحام وصل ذروته فالساعة اصبحت الحادية عشر وقطاره لم يأتي بعد.

هز قدماه ثم نهض وقطع المحطة ذهابا وإيابا مرات لا تحصى، لكن ما افسد عليه خطته وجعل ركبتيه ترتعش من شدة الخوف، هي هيئة الشرطة الذين ولجوا لمحطة القطار. تراجع هايدن للوراء وحالما اعلنت صافرة القطار عن اقتراب موعد المغادرة، ركض مستعجلا لركوب قطار ليس بقطاره، دفع عن طريقه الناس وحالما اقترب من السلالم تمسك بالعامود وقفز للداخل، تاركا خلفه رجال الشرطة الذين لاحظوا وجوده.

سار هايدن في الردهة والعرق يتصبب من جبينه، فأينما وضع قدمه كانت أنظار الناس تحلق نحوه بسبب هيئته المخيفة، تحاشى الاقتراب من موظفي القطار وعند أول حجرة في مقطورة الدرجة الأولى ألقى بنفسه واوصد الباب خلفه "بئسا"

اسند جبينه ضد الباب الخشبي وبالكاد تمكن من جمع انفاسه "اللعنة عليكم جميعا" همس لنفسه.

"المعذرة أيها السيد"

انتفض هايدن من شدة فزعه واحس بنفسه يكاد يبصق عاموده الفقري، استدار خلفه فإذا به يرى شابا يملك من العمر بضعا وثلاثين ينطق بلسان ألماني "رباه، ما الذي اصاب وجهك؟ تعال هنا ودعني اداوي جرحك"

استنكر هايدن حديثه ولما انزل نظره ليديه اكتشف انه امتلك جروحا جف الدم فيها، لم يكن يملك طاقة ليماطل لذا جلس على الأريكة ذات القماش الأخضر مقابل الشاب، وذلك الشاب لم يتقاعس عن انزال حقيبته من الرف وعلى الفور فتحها ليستخرج بعض الضمادات "انت طبيب؟" سأله هايدن بالألمانية فقد كانت الألمانية هي المستعملة بين أوساط الطبقة الراقية واكثر تداولا بين المتعلمين والأساتذة الجامعيين.

"آه؟ أجل انا كذلك" نقع الشاب القطن بالمطهر وكاد ان يضعه على جرح طفيف كان جانب عين هايدن، فقد تشكل هو وبضع جروح في يده لما حطم نافذة منزل السيد ستينر.

امسك هايدن معصم الشاب قبل ان يلامس القطن جرحه وقال "قم بحله في الماء، على هذه الحالة نسيج جلدي سيموت وسيطول شفائه"

"ماذا؟"

"إن المطهر قوي وسيؤذي نسيج الجلد"

"من أين تعلم بهذا؟ هل انت طبيب؟"

"لقد كنت أعمل عند طبيب لبضع وعشرين سنة" قال هايدن فهو منذ التاسعة من عمره وهو ملازم للسيد ستينر في عيادته وها هو الآن يبلغ من العمر اثنان وثلاثين.

"يا للعجب، هل تدري أنها اكثر من المدة التي قضيتها في دراسة الطب" تبسم الشاب ولأجل هايدن قام بحل المطهر ليخفف من قوته رغم عدم تصديقه ثم عقم جروحه وتعجب لما رأى شظية زجاج "قل لي هل حقا كان يستحق الأمر تشويه وجهك ويديك؟ إنه لشيء مؤسف يفطر الفؤاد"

"لا شأن لك"

"تبدوا حامي الأعصاب، لكن بالطبع كيف كنت ستحصل على هذه الجروح كلها لو لم تكن كذلك، بالمناسبة أدعى دوريان باومن وأعذرني إن أطلت الحديث فأنا لا احب تفويت فرصة طيبة للدردشة"

احس هايدن بضيق، فأسلوب الرجل الحسن جعله يشعر بالخزي من نفسه لذا قال "هايدن كاميرون"

"سعدت بلقائك سيد كاميرون لكن اخبرني إن لإسم كاميرون هذا طابع انجليزي صارخ فهل لحضرتك اجداد من الانجليز؟" 

"لا" 

"أوه.. إذا ما رأيك لو أخبرتني إلى أين يتجه حضرتك؟"

"إلى آخر محطة في هذه الرحلة، سوف أزور اقاربي"

"يا للصدفة، إني ذاهب لزيارة اقاربي أيضا" قال دوريان ريثما يعتني بيدي هايدن، تعجب هايدن من الهدوء الذي يحافظ عليه هذا المدعو بدوريان والراحة التي يبعثها صوته في صدره لدرجة أنه نسي ملاحقة الشرطة له "إني قاصد في رحلتي قرية وهي بعيدة خلف سكة الحديد، إذ وصلتني رسالة بأن علي العودة إلى هناك"

"علمتُ أنك لست ألمانيا من البداية، فهم ليسوا مفرطين في الكلام لهذه الدرجة، لكن أخبرني ما الذي يدفعك للعودة إلى القرية في حين أن الجميع يتجه للمدن" تحدث هايدن هذه المرة بلغته الأصلية ألا وهي الرومانشية.

تبسم دوريان لما كُشفَ أمره وقال "يا للعجب، هل هذا أمر واضح حقا؟ في ألمانيا قالوا لي نفس الشيء، أني لا أبدوا ألمانيا وأما بخصوص القرية فهي مسقط رأسي وموطني، وكل من ينتمي لها في يوم عليه العودة لهناك فلا مهرب من القدر. أليست تقال هكذا؟"

"لست ملما بهذه العبارات الدينية"

"ما أقوله أني علي العودة عاجلا أم آجلا، فوالدي قبل موته توجب عليه العودة وأنا كذلك، يجب علي العودة، فالموت احب للإنسان إن كان في تراب ارضه، أليس كذلك؟"

"لما تتحدث كما لو أنك توشكُ على الموت"

تبسم الشاب دوريان وانتقل ببصره نحو النافذة يتأمل الطريق كمن في جعبته سرٌ لا يمكنه البوح به.

"على الأقل انت تملك منزلا بإمكانك العودة إليه، أما أنا فلا" ألقى هايدن بصره نحو النافذة أيضا شاردا بالسهول الخضراء.

"لما؟" ارتفع حاجبا السيد دوريان وعيناه لم تفارق النافذة كهايدن.

"لقد تورطت في مصيبة والعودة للعاصمة لم يعد خيارا متاحا لي بعد الآن" قال هايدن وتأكد من الافصاح عن القليل.

"لابد أن مصيبتك كبيرة" زم دوريان شفتيه بشفقة على هايدن فبالنظر للكدمات لم يملك أي شك بكبر حجم المصيبة التي وقع بها.

"إني احسدك يا سيد باومن"

"لما؟ لن ترغب بعيش حياتي ابدا فقدري مشين"

ضحك هايدن ساخرا وقال "صدقني مهما كانت مصائبك فهي أهون من خاصتي"

همهم دوريان ورفع بصره لهايدن يحدق بعينيه كما لو أنه يحدق بروحه "هل تود لو تعيش حياتي؟"

"بالطبع! لو كان هناك طريقة لأخذ مكانك لفعلتها"

"هل انت متأكد مما تقول؟"

"أجل، سأدفع أي شيء لأتخلص من حياتي مقابل حياة أخرى افضل، كخاصتك مثلا"

"لن تغير قرارك أليس كذلك؟ إذا دعني احكي لك بعض الطرائف عن مسقط رأسي" قال دوريان فجأة وسرد لهايدن الشيء القليل عن تلك القرية التي يقصدها، فوالده قبل بضع سنين عاد لمسقط رأسه ومن هناك تم تشيع جنازته.

كانت تلك الثرثرة خير أنيس لهايدن التي تمكن من الهروب ولو قليلا من أفكاره السوداوية، وبمناسبة صحبتهما قدم دوريا بعضا من البسكويت لهايدن "تفضل بتناوله معي" أخذ هايدن من البسكويت مجموعة وتناولها بنهم فهو لم يأكل شيئا منذ عشاء ليلة امس لكن راحته افسدت لما سمع صوت قاطع التذاكر يدعوا الركاب لإظهار تذاكرهم.

"الجحيم الدموي!" انتفض هايدن من مكانه لا يدري ما يفعل، فنهض دوريان وربت على كتف هايدن يدعوه ليتماسك "لا عليك سوف احادثه"

"ماذا ستقول له!"

"لا تقلق، سوف اذهب لرؤيته" خرج دوريان من الحجرة واغلق الباب خلفه، تاركا هايدن في حالة ذعر، سار في أرجاء الحجرة ذهابا وإيابا وهو ينتظر سماع صوت دوريان يحادث قاطع التذاكر لكن لا صوت أتى وفجأة فتح قاطع التذاكر الباب وقال "اظهر لي تذكرتك يا سيدي"

لم يعلم هايدن ما يفعله وبشكل لا ارادي هبطت يده لجيبه يستخرج تذكرته، كان يأمل أن يخبأ اسمه بإبهامه لكن قاطع التذاكر اخذ التذكرة منه وقرأ اسمه "مم"

ثقبها ببساطة وأعادها له "تفضل سيد باومن" أومئ هايدن وحالما غادر الموظف قرأ التذكرة ليجد أنها تذكرة دوريان، بحث في جيبه عن تذكرته لكنه لم يجدها "هل هذه طريقته في حل المشكلة؟ لأنتظر قليلا ثم اذهب للبحث عنه"

عاود هايدن الجلوس وهو ينتظر بفارغ الصبر عودة دوريان ولما لم يأتي قرر الخروج والبحث عنه، سار في الردهة نحو المقطورة التالية وفي كل حجرة ألقى نظرة إلى أن اقترب من الأخيرة حيث الدرجة العامة وهناك وجد زحاما.

"ما الذي يحدث؟" سأل هايدن واجابه عجوز مسن "يقولون أن هناك رجلا ميتا عثر عليه في المخزن"

اتسعت عينا هايدن واحس بوخز في صدره، كما لو أنه المجرم وسار بين الحشد بصعوبة حتى وصل إلى مكان الحادث وصعق مما رآه، فلقد كان السيد دوريان مستندا على حائط المخزن ومن كلا معصميه الدماء تدفقت.

احس هايدن بالدوار يلازم رأسه و وضع يده على جبينه يلعن حظه فالقطار تم إيقافه وأمن المحطة تدخل "افسحوا المجال، تنحوا جانبا!"

تقدم احد رجال الأمن وتفقد جيوب الجثة، بحثا عن دليل يكشف هويته، عثر على تذكرة في جيبه ولما قرأ الاسم اتجه نحو زملائه وخاضوا نقاشا طويلا، أراد هايدن استراق السمع، لكن خوفه كان شديدا لذا امسك بموظف وسأله "ما الذي عثروا عليه في جيب الضحية؟"

"أعذرني يا سيدي لكن من انت؟"

"أنا طبيب وأدعى دوريان باومن"

"آه.. يا حضرة الطبيب كما ترى، فهذا الرجل مجرم تسلل الى القطار، لقد وصلنا بلاغ بالفعل من المركز الرئيسي عن شخص هارب يحمل اسم كاميرون صعد على متن القطار... وقد عثروا على التذكرة في جيبه. سامحنا سيدي على هذا الخطأ البسيط، يمكنك العودة بأمان لحجرتك فهذا الموقف لن يتكرر مجددا"

"حسنا، شكرا لك" اومئ وعيناه انتقلت الى جثة دوريان الهامدة وهم يقومون بنقله بعد أن اخرجوا الركاب وابلغوهم بالعودة إلى مقاعدهم.

عاد هايدن الى الحجرة بخطوات وهنة دون أن يملك خياراً آخر، وحالما اغلق الباب على نفسهِ سقط جاثيا على ركبتيه وألقى بجبينه على الأرض، غير قادر على استيعاب ما حل بذلك الشاب حسن المظهر والصوت "ما هذا اليوم الملعون" تمتم هايدن ثم جر شعره يندب حظه "سحقا، سحقا، سحقا!"

"ما بالها المصائب تلطم وجهي من كل جانب دون تريث!" صرخ بقهر من المصائب التي تتدافع واشتكى من الظلم الذي وقع عليه، فهو بريء في نظر نفسه، كاد هايدن ان يدخل في نوبة غضب لكن موظفا قاطعه لما فتح الباب كاشفا عن عربة محملة بالطعام "سيدي، حان وقت وجبة الغد... أعذرني سوف احضر في وقت لاحق"

"ماذا؟ آه أجل انتظر عندك!" نهض هايدن مرتبكا وأخذ أطباق الغداء منه ثم التقط زجاجة شراب عتيق من العربة دون استئذان "آه سيدي هل تظن أنه الوقت المناسب للشرب؟"

"لا شأن لك هيا غادر ... لا، لا، انتظر عندك، قل لي ما اسمي؟"

احس الموظف بالغرابة وقال محافظا على ابتسامة، فالزبون دوما على حق وهو لم يرد أن يتم طرده، بسبب رجل ثري مستهتر من الطبقة الرفيعة كهذه "حضرتك السيد دوريان باومن، الطبيب الذي يسكن في الحجرة أربعة"

"نعم، نعم هذا هو الرد الصحيح" أومئ هايدن وقبل ان ينطق الموظف بشيء، اغلق الباب بوجهه وارتمى على الأريكة يأكل من الغداء وبعد كل لقمة يقضمها، ألحقها بجرعات من الشراب احرقت جوف حلقه في محاولة واهية، ليفقد صلته بالواقع "عليك اللعنة يا دوريان، بماذا ورطتني، انا الغبي إن صدقت رجلا المانيا يثرثر كثيرا" التقط حقيبة الطبيب وفتحها ليرى ما فيها وحالما وقع بصره على النقود الكثيرة، انتصب من مكانه وقال "احسنت صنعا يا دوريان! هذا أفضل شيء فعلته في حياتك"

وضع زجاجة الشراب جانبا ونبش في اغراضه "لنرى من تكون أيها الطبيب"

بحث في مقتنياته عن تفاصيل قد تفيده ومن دفتر مفكرات صغيرة سقطت صورة تجمع الطبيب دوريان بوالده، ألقى بها جانبا وتصفح المفكرة ليجد أنها ملاحظات طبية ستنفعه لذا احتفظ بها واكمل البحث فبما أنه يحمل تلك الهوية...

هو عليه تقمس دوريان باومن.




عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz