تمنى رامون في تلك الليلة، أن تشرق شمس اليوم التالي وتحضر عربة آل غارسيا كارمن إليه، كي يرى ما بها، فلعلها محمومة أو تم تعنيفها لتوافق على باولو، وبالفعل حدث ما تمنى رامون. توقف الحصان في اليوم التالي أمام بوابة دارهم، ومن العربة نزلت ليلي ثم من بعدها باولو، الذي تصرف كرجل نبيل ومد يده لكارمن يعينها على النزول.
"على مهلك يا سكرة حياتي"
اتسعت عينا رامون وشعر بدمه يتجمع في رأسه من هول الكلمة التي تلفظ بها باولو، فكيف له أن يناديها بسكرة وأمامه أيضا هو الذي يخشى من مناداتها بشيء غير الوحش.
مدت كارمن يدها تستعين بباولو والذي تعرفه باسم رافاييل، فنزلت تكشف عن لون ثوبها الذي لم يكن معهودا، فلأول مرة هي ارتدت ثوبا اصفر اللون بهيا يبرق تحت الشمس، جاعلا منها تبدوا اصغر من سنها بكثير...
حملق بها رامون مطولا وفي صدره تشكل ألم هو يعرفه جيدا، فهذا الألم البغيض شعر به لأول مرة عندما تزوجت كارمن، وهذه الألوان المبهجة تعني شيئا واحدا وهو أن كارمن تستعد للزواج مجددا...
"سنيور رامون، هل سنظل واقفين هنا؟"
سألت ليلي كي يخرج الآخر من أفكاره التي تعصف به وهز رأسه "بل سندخل، تفضلوا"
استدار وسار للداخل، متجاهلا ليلي التي همت ان تدس يدها في ذراعه فيسيرا كأي مخطوبين ولما بقيت يدها معلقة في الهواء، امسكت كارمن بها وغلفت اصابع اختها بيدها.
تبسمت ليلي بود لشقيقتها الكبرى وسارت الى جوارها أما باولو المدعو برافايل فجاور كارمن في الخطى واشار لها ان تمسك بمرفقه.
دحرجت كارمن عينيها بقهر، فالألم الذي يراودها كلما قامت بالتنفس ويشتد اكثر مع محاولتها الانحاء لذا لم يكن بوسعها سوى السير كخشبة.
شجعتها ليلي وكارمن اجبرت نفسها على وضع يدها في مرفقه، فاستبشر باولو ووضع يده على يدها "قد اكون كررت الامر مرات كثيرة، لكن حقا مسرور بموافقتك والمجيء للموعد معي"
"انها نزهة وليس موعد سنيور رافاييل" ذكرته كارمن والضيق من المشد البغيض تجلى على تعابيرها.
"نزهة بالنسبة لهما وموعد غرامي بالنسبة لنا، أنا اعرف شجرة كبيرة بإمكاننا الذهاب خلفها" غمز لها باولو.
"تعرف شجرة؟ ألست اجنبيا عن البلدة فما ادراك بحديقة قصر دي لا سييرفا؟" استنكرت كارمن.
عضت ليلي لسانها ورامون تجمد في مكانه فزعا من أن تكتشف كارمن الخدعة، فقال والتوتر بادي عليه "إن رافاييل صديق سابق لي وقد زار المنزل بضع مرات، فهو ملم بالفروسية مثلما افعل" فرك رامون شحمة أذنه دون شعور منه وكارمن على الفور رفعت كلا حاجبيها.
"فهمت"
اكتفت كارمن بقول ذلك وسارت برفقتهم في ردهة الدار، حيث اللوحات الثمينة معلقة في الجدران والفن بارز في كل زاوية من زوايا القصر البهي. وصل لمسامعهم صوت كمان شجي فابلغهم رامون ان هذا العزف يأتي من شقيقه الأصغر فالأستاذ حاضر يقوم بتعليم اخوته.
اخذهم للحديقة حيث كراسي النزهة والمائدة موضوعة والكونتيسة بنفسها كانت في انتظارهم، إلى جوارها اصغر بناتها، البالغة من العمر أربع سنوات، تلاعب كلبا من نوع بابليون، ذو شعر ذهبي بلون القمح وفيه من الابيض الكثير.
رحبت بهم الكونتيسة واجلست ليلي إلى جوارها بكل حب، حينها تبسمت كارمن لما رأت أن والدة شقيقتها في القانون حسنة الخلق.
استغل باولو مزاج كارمن الجيد وجلس إلى جوارها ومن تحت المائدة هو مد يده كي يصل إلى يدها. في البادئ استنكرت كارمن فعلته، لكنها اجبرت نفسها على الهدوء إلا أن أربعة كلاب صيد قفزت فجأة من المزرعة ولحقت بعصا ألقاها رامون حيث تقام النزهة.
فزعت الكونتيسة وتمسكت بليلي فصعدتا على الكراسي، باولو سقط أرضا من شدة الرعب واخذ تنورة ثوب كارمن يحتمي بها، أما كارمن فلقد بقيت في مكانها جالسة تشاهد الكلاب وهي تتشاجر على العصى، فكلهم ارادوا اعادتها لمالكهم العزيز رامون.
"رامون! يا رامون! ما هذا التصرف المشين! ابعد كلابك عن هنا حالا!" صاحت الكونتيسة بقهر ثم بحذر نزلت من كرسيها التي وقفت عليه.
"أمي انهم يلعبون فحسب"
"فليلعبوا في مكان بعيد عن هنا.. آه منك يا بني، اعذري تصرفه يا عزيزتي فلرامون حس فكاهي عالي" حاولت تبرير تصرف ابنها الشقي ثم قالت "رامون عزيزي، لما لا تأخذ خطيبتك الجميلة في نزهة وتريها احصنتك، اعلم كم انت تعزهم وتهتم لأمرهم وأنا متأكدة أن جولة على ظهر الفرس ستكون فكرة رائعة"
"لا بأس سيدتي فأنا بخير هنا" حاولت ليلي الرفض بأدب.
"لا تقلقي يا ليلي، رامون سيعتني بك فلما لا تذهبا" ربتت على كتفها تحثها على النهوض والذهاب برفقة ابنها، كي يختلي بها ويتمكنا من قضاء بعض الوقت العاطفي.
"إن كنتِ مصرة..." استسلمت ليلي ونهضت متجهة لرامون الذي لم يكن راضيا عن الفكرة، فلا يوجد أسوء من قضاء الوقت مع تلك الطفلة المدللة.
انتقل ببصره لكارمن وسألها "تودين المجيء يا كارمن؟ ركوب الخيل سيكون ممتعا"
هزت كارمن رأسها نافية، فلقد فهمت نوايا الكونتيسة وليس بوسعها الاعتراض "انتبه على اختي ولا تسقطها من على ظهر الفرس"
"إن ابني ماهر في ركوب الخيل وليس هاويا كي يسقط خطيبته العزيزة سنيورة غارسيا" قاطعتها الكونتيسة ولم تحتاج كارمن أن تكون مختصة لتفهم التلميح الجارح خلف جملتها ووجهها البشوش.
"أعذري خوفي المفرط حضرة الكونتيسة، ما كان علي التشكيك أبدا بمهارة السنيور الفذة في الفروسية"
"آمل ان تنتقي كلماتك بحكمة في المرة المقبلة سنيورة غارسيا"
"سأحرص على ذلك حضرة الكونتيسة"
"أمي، على مهلك معها فكارمن لم تقصد اهانتي" تدخل رامون يدافع عنها.
"بني أما زلت هنا؟ ظننتك ذهبت منذ مدة، هيا اذهب ولا تتأخر على خطيبتك"
تنهد رامون بقلة حيلة، فهو لن يعارض والدته ويقلل من شأنها أمام ضيوفها لذا نادى على ليلي بضجر "تعالي لنذهب" سبقها بخطى متباعدة ثم اختفيا خلف اشجار الحديقة وقضيا من الوقت الكثير في المزرعة...
في تلك الأثناء جمعت كارمن انفاسها بصعوبة فمن جانب كانت الكونتيسة تلح عليها بأن تجرب من كل اصناف الطعام الموضوعة ومن جانب آخر كان باولو يتقرب إليها بوضع يده على ركبتها.
صدرها الذي كان يعلو ويهبط ببطء ظنه باولو علامة عن مدى تأثرها بلمسته الرجولية وابتهج لما سألت كارمن الكونتيسة عن الحمام بعد آخر لقمة دستها في فمها، أخبرتها الكونتيسة عن الطريق المؤدي لجناح ابنتها كي تستعمل حمامها وبعد نهوض كارمن ورحيلها استأذن باولو ولحق بها.
ركض خلفها بينما يده كانت مشغولة بفك زر سرواله وحالما وجدها تسير في الردهة تستعين بالجدار من شدة اختناقها هو ناداها بهمس "كارمن!"
"رافاييل ما الذي تفعله هنا؟ كيف لك ان تترك الكونتيسة وحيدة"
"يمكنها الانتظار فالأمر لن يستغرق اكثر من ثلاث دقائق، هيا بنا بسرعة"
"ما الذي تهذي به؟ ولما زر بنطالك مفتوح؟ كم انت مثير للشفقة هل اتيت للقصر وانت بهذا الحال؟! اغرب عن وجهي حالا!"
"ما الذي تقولينه انا اتيت خلفك كي..."
توقف عن الحديث لما رأى الغضب قد تجلى عليها، لذا هو اغلق زر بنطاله وعاد أدراجه يحمل ذيول الخيبة فلقد افسد مخططه.
"رباه!" اكملت كارمن طريقها وسألت خادمة فدلتها، لذا هي سارت والألم أهلكها ففتحت باب غرفة على الفور وأوصدت خلفها.
لهثت كارمن انفاسها بصعوبة، ويدها كانت مستقرة فوق معدتها، تجمع الدم في وجهها فبات ذا حمرة شديدة ولما أيقنت انه لا منجى لها هي على الفور بحثت عن عقدة الثوب في ظهرها وتذمرت بصوت مسموع كان كالأنين.
عثرت أخيرا على العقدة وقامت بفكها، فتخلصت من القطعة العلوية للثوب على الفور، كي تكشف عن لعنة يومها ألا وهو المشد الذي احكمت والدتها إغلاقه وجعلت ماريا تشد حباله مستعينة بعجلة فقط كي تبدوا بمظهر أنيق أمام الكونتيسة.
"آهه!"
اشتكت كارمن من قلة الهواء الذي يغذي رأسها، فالأربع ملاعق التي ابتلعتها سابقا باتت توشك على استفراغها، فصدرها بالكاد كان قادرا على التوسع كي يجمع الهواء.
فكت عقد المشد وأرخت جميع حباله، سامحة لبدنها باستعادة شكله السابق، تنهدت كارمن حينها بعمق وجلست على الكرسي ملقية رأسها للخلف فلم يخيل لها أنها قد تشتاق للهواء أبدا.
كان المشد مرتخيا يحتضن معدتها بالكامل ونصف صدرها أما أسفل المشد فثوب أبيض داخلي، يستر بدنها وهذا المظهر الذي لم ترغب به كارمن، اجبرت عليه من قبل اسرتها والثوب الاصفر كان ثوب شقيقتها ليلي..
فتحت كارمن عينيها ولما ابصرت السيوف المعلقة على الحائط خلفها هي فكرت، كيف لابنة الكونتيسة ان تكون مهوسة بالسيوف لهذه الدرجة؟ نهضت كارمن الكرسي وسارت نحو الجدار حيث السيوف معلقة، والخناجر كانت موضوعة على المائدة، فالتقطت واحدا ونزعت غمده الجلدي، لتقع مبهورة أمام لمعانه وحدة نصله.
أذنت لنفسها باستخراج سيف من مكانه وحالما حملته كان ثقيلا، ادركت أنه اصلي فنزعته من غمده. لمحت مرآة كبيرة موضوعة ضد الحائد، قرب ستارة تبديل الثياب فوقفت أمامها ولوحت بالسيف بخطوات مدروسة بينما ذراعها الأخرى مرفوعة للأعلى.
تبسمت كارمن لدرجة أن صف أسنانها ظهر وقاتلت وحشا من وحي خيالها، فتارة تطعنه وتارة تقهره وفي النهاية التفت حول نفسها ثم من شدة حماسها غرزت السيف في الحائط عن طريق الخطأ "سحقا.."
انتفضت كارمن في مكانها لما سمعت تصفيق وصفير رجل "برافو... انت على بعد خطوة من تحطيم غرفتي" تأكد رامون من ادارة المفتاح في القفل كي لا يدخل أحد ويراها بهذا الشكل ثم سار نحو المائدة وسكب لنفسه ماءا كي يروي به عطشه فالشمس كانت ساطعة في الخارج وركوب الخيل انهكه.
"ما الذي تفعله هنا؟ وأين تركت اختي؟"
تذكرت كارمن أمر المشد المفتوح وقطعة ثوبها الملقية على الأريكة فاتجهت نحو الكرسي مستعجلة كي تلتقطه وسارعت بارتدائه..
"ألم تسمعيني وأنا اقول أنها غرفتي؟ ثم أنا من يحق له السؤال فانت من دخل عنوة لمكاني وكاد أن يتعرى.. آه لو تأخرت قليلا، لكن لا بأس فأنا منحوس منذ يوم ولادتي" هز رامون رأسه بأسى على حاله.
"لا تهذي ولا تحلم يا رامون، ظننتها غرفة اختك لكن الشك راودني بالفعل لما رأيت مجموعة السيوف، فلا مهوس في عائلة دي لا سييرفا بالسيوف غيرك" فرغت كارمن من ربط الحبال قطعة ثوبها خلف ستار تبديل الثياب
"انتِ محقة في هذا، هل اعجبتك مجموعتي؟"
تقدم رامون نحو مجموعته وسحب السيف الذي غرزته كارمن في الجدار عن طريق الخطأ "اخترت سيفا ثقيلا بالمناسبة"
خرجت كارمن من خلف الستار "عليَ الاعتراف أن لك ذوقا ملفتا للاهتمام، لم أجد أي أثر لآلة موسيقية، كل ما رأيته هو سيوف وخناجر"
"لا احب تلك التفاهات الفنية، ثم أخبريني يا كارمن هل يوجد اجمل من صليل سيفان رفعا في وجهي بعضهما؟" انتقل ببصره نحوها.
تبسمت كارمن وهزت رأسها نافية، فللسيوف صوت مميز يجعل الدم يجري في عروقها اسرع، وهذا الشعور اكتشفته لما شاهدت مبارزة لأول مرة في حياتها عندما كانت صبية.
"إن اخوتي محبون للفن، فكثير منهم رسامون، شعراء وموسيقيون وهذه المهارات يحبها والداي بشدة ولولا أن لدي عقلا يفهم في التجارة لما رضي أن يبقيني والدي تحت اسمه" أعاد رامون السيف لمكانه بحذر.
"لقد كنتَ دوما ألما بالنسبة له كالحصوة في الحذاء، أذكر عدد المرات التي عاقبك فيها الكونت"
" يا للصدفة، وانا اذكر عدد المرات التي عاقبك فيها والدك... عندما أرى الفتيات يلعبن في البستان وانت لست برفقتهن كنت اعلم حينها انك معاقبة"
"كنتُ فتاة طائشة"
"ولازلت كذلك يا كارمن"
تبادل الاثنان النظرات ثم انتقلت كارمن ببصرها للسيوف وقالت "اختر لي واحدا فنتبارز"
"انتقام هذا؟" تبسم رامون بجانبية واختار لأجلها سيفا معدنه كان رفيعا "سمهِ ما تشاء، لكن النتيجة واحدة وهي أني سأمزق كبريائك"
لم يقاوم رامون وضحك على ثقتها "هذا سيف رابير سيكون مناسبا لحجمك" ثم اختار لنفسه واحدا من نوع سابير وقال "بغمد أم بدون غمد؟"
"ليكن بغمد فلا أريد ارسالك لوالديك مشوها"
"أجل صدقتك، هذا إن استطعت الاقتراب مني، لك هذا الخنجر ليعينك"
ألقى لها بخنجر ثم سار نحو الباب والتفت إليها التي تقف في الجهة الأخرى من غرفة المعيشة.
"فرصتك الأخيرة للانسحاب" رفع رامون سيفه بوجهها وهي فعلت المثل "لا شكرا"
كان الاثنان يراقبان بعضهما بترقب، ففجر رامون المفاجأة ودفع المائدة بقدمه كي يسقط كأسه النحاسي، فزعت كارمن في البداية لكنها فطنت امر هجومه عليها فاستدارت حول نفسها متفادية إياه.
انزلت سيفها تهم بضربه فردعها وهكذا اتخذت مبارزتهما طريقها، فكلما حاول احدهما تسديد ضربة اوقف الآخر هجومه.
"هذا افضل ما تملكه؟!" صاحت كارمن به تلهث انفاسها.
"لم أبداء بعد حتى" تبسم رامون بتعالي والتعب لم يكن باديا عليه فالنزال بينهما لعبة اطفال بالنسبة له، إذ كان بدنها مندفها يهدر كثير من طاقته في حين ان رامون سار بضع خطوات فحسب دون اجهاد نفسه "ادخلتِ نفسكِ في لعبة لستِ لها"
في النهاية امسك رامون بكارمن وحاصرها بينه وبين سيفه ضد عنقها، بعد أن أسقط سيفها وركله بعيدا بقدمه "ما رأيك أن تستسلمي الآن؟"
"رامون، لا تحلم فأنا سأغلبك كما غلبتك دائما"
اخبرته وفي حين غفلته هي ضربت معدته بالخنجر وفرت من قبضته هاربة نحو السيف، إلا أن رامون رفع قدمه وركل مؤخرتها لتدخل للحجرة الأخرى مندفعة، وسقطت بين الأثاث بينما التقط هو سيفها ليصبح في جعبته سيفان..
"أيها الخسيس كيف لك أن تركلني بهذه الطريقة!"
"كان عليك تفاديها"
مد بوجهها سيفا والأخر جعله فوقه متقاطعا كنذير لها بأنه سيهزمها شر هزيمة، فنزعت كارمن غمد الخنجر لتأخذ المبارزة بينهما لمستوى آخر..
"إن كان هذا ما تريدينه"
نزع رامون غمد السيفين وبدأ النزال بينهما هذه المرة بكارمن تلقي عليه مزهرية فتفاداها، كانت كارمن هذه المرة من تتراجع ورامون من يهاجم.
تعثر كعبها بطرف السجادة وسقطت أرضا على مؤخرتها، أنزل رامون سيفه ففرقت كارمن بين ساقيها فأصاب السجادة.
زحفت كارمن للخلف تهرب منه ولما كادت ان تنهض عاود ركلها من مؤخرتها بقدمه فارتمت مجددا وبالكاد تمكنت من جمع انفاسها ريثما تحاول النهوض، فهي لم تلعب بشراسة هكذا منذ مدة "كفى! كفى يا رامون فلقد تعبت!"
تبسم رامون بجانبية لما حصل عليها، جالسة على الأرض بتعب وحالها مزري فغرز سيفا بين اصابعها والآخر قربه من عنقها "قولي الكلمات السحرية، قولي أنا استسلم، أعفو عني يا رامون"
"انت تهذي!"
"لا مهرب لك يا كارمن"
وضع رامون قدما على الأريكة جانبها ودنى برأسه مقتربا منها فباغتته أن لوحت بالخنجر لكن كارمن فطنت نتيجة حركتها الهوجاء متأخرا بعد أن تلطخ صدرها بدم تدفق من كتفه.
"رامون!"
نهضت كارمن على الفور ولعبتهما انتهت برامون جالسا على الكرسي وكارمن بجانبه تحكم العقدة حول كتفه، بعد ان ضمدت له جرحه والغرفة التي تركها الخدم نظيفة هذا الصباح انقلبت رأسا على عقب كما لو ان اعصارا مر بها.
"انظر لحالك، هل ارتحت الان؟"
"سنيورة ذكريني من الذي نزع غمد خنجره أولا"
"نزعت غمد الخنجر لما هددتني بسيفين"
"ما كنت لأصنع جرحا عميقا كهذا، كنت أنوي ضربك بضع مرات في اماكن عدة لربما تستعيدين رشدك"
"استعيد رشدي؟! هل تراني مخبولة؟!"
"بل أراك مجنونة! كيف سولت لك نفسك الاختلاء بعشيقك في غرفتي! ما الذي كان بوسعي فعله لما دخلت ورأيت قطعة من ثوبك على الكرسي والمشد مفتوح يكشف عن صدرك هذا! أردت قتلك بيدي هاتين!"
"احفظ لسانك! أنا لم اختلي بأحد!"
"أمي اخبرتني انك قصدتي الحمام وباولو.. اعني رافاييل لحق بك، لو ترين وجهها المستنكر وهي تذكر اسمك بعد الذي اقترفتيه!"
"أنا لم اختلي بأحد! كان المشد ضيقا وقصدت غرفة شقيقتك لفك بعض من عقده! رافاييل هو من لحق بي فطردته، أنا لم ارتكب ذنبا ولن اسمح لاحد بأن يظن بي سوءا! هل تراني امرأة مومس ترتكب الفاحشة في بيوت الغرباء!"
"أمي من قالت هذا ولم يكن بوسعي سوى البحث عنك! ثم ما ذنبي وقد أسود وجهي بسبب سوء الفهم هذا!"
"لا تصرخ! إياك ورفع صوتك عليَ يا رامون!"
رفعت كارمن اصبعها بوجهه تحذره من رفع صوته اكثر، زم رامون شفتيه وتقاسيم فكه برزت من شدة ضغطه على أسنانه فقال "لا ترفعي اصبعك هذا في وجهي، لست طفلا كي تتسلطي علي"
"بل انت مجرد صبي طائش، لم تتغير ولن تتغير ابدا يا رامون!"
"أنا مجرد صبي؟! انا رجل كامل ألا ترين ذلك! ألا ترين أني رجل في الرابعة والعشرين من عمره!"
"لازلت صغيرا طائشا وغير صبور! كيف لك ان تظن بي هكذا ظن ومن المفترض انك تعرفني بحكم المدة التي جمعتنا، انت ابن بلدتي فإن كان ابن بلدتي يظن هذا فماذا ابقيت للغرباء؟!"
شعر رامون بالذنب ينهشه فافصح لها معترفا عما يجول في خاطره "اسمعيني، ألستِ انتِ وحش بلدتنا الشرس؟ الأرملة التي يخشاها الجميع؟ لقد اهتزت حياتي ومعتقداتي لما وصلني خبر موافقتك على الخروج مع ذاك الرجل! كيف لك أن توافقي عليه يا كارمن!"
"رامون لنتوقف هنا، فالحديث يأخذ منحنى آخر"
نهضت كارمن من جواره واتجهت نحو الباب، تهم بالرحيل لكن رامون لم ينهي كلامه وغضبه تفاقم من تجاهلها له مجددا، كما لو انه صبي صغير لا رأي له، فلحق بها وقبل أن تدير المفتاح وضع يده على القفل وحاصرها ضد الباب يمنعها عن الحراك.
"دعي الحديث بيننا يأخذ منحنى آخر فليس هناك شيء لإخفائه، اخبريني كيف سولت لك نفسك الموافقة على رافاييل! لم يمضي على ملاحقته لك بضع أسابيع ورضيتي! أخبريني ما الذي يملكه؟ هل لمجرد أنه يناديكِ بسكرة حياتي وافقتي عليه!"
"لدي أسبابي الخاصة فلا شأن لك بها، دعني أخرج الآن!"
"وهل هذه هي نفسها أسبابك التي جعلتك توافقين على الزواج من الاستاذ؟! كيف لك الزواج برجل يكبرك بعشر سنين إن كان العمر يشكل فارقا بالنسبة لك هاه!"
"رامون ما الذي تهذي به؟!"
"لما هو وليس أنا! قولي لما رضيتي به ولم ترضي بي فلقد كنت متطلعا للزواج بك!"
تجرعت كارمن حلقها ولما أدركت ما يقوله هي ضربت جبينها من هول مصيبتها ودفعته من كتفه، كي يدرك ما الذي يتحدث عنه "رامون لقد كنتَ حينها مجرد فتى في الخامسة عشر من عمره"
"وماذا في ذلك! لست أفهم ما الذي يعيبني! عندما وصلني خبر زواجك من أستاذي جن جنوني وركضت في طرقات البلدة حافي القدمين كي أخبرك ألا تخافي من والديك وإن اجبرك والدك على الزواج فأنا من سيتزوج بك"
"رامون..."
"لا تنظري إلي بشفقة حسنا، أنا لم أقم بأي شيء مخزي"
هزت كارمن رأسها بالنفي وقالت ريثما تحاول الوصول للمفتاح كي تفر هاربة "لا.. لا انت لم تفعل شيئا مخزيا"
هدأ رامون مع هدوء صوتها والتقط لفافة من لفائف شعرها الداكن "فقدت صوابي عندما اخبرني ميغيل انك لم تكوني مجبرة على ذلك الزواج إنما كان برغبتك... التصديق بأن والدك أرغمك أهون علي من التصديق بأنك كنت تحبين احدهم بصدق لأربع سنوات كاملة... أنا حاقد عليه بشدة وأحسده بنفس الوقت يا كارمن، فهل هذا شيء طبيعي؟ أن اكره زوجك الراحل"
"رامون... " تلفظت كارمن اخيرا وفي نيتها الفرار لكنها ارتبكت لما وجدت عينيه تحدق بشفتيها.. كما اخبرتها والدتها سابقا.
"كارمن، أما حان الوقت لتنظري إلي؟" همس رامون ودنى برأسه ليشعر بوجنتها ضد شفتيه لأول مرة فقبلها برقة ولما راق له هذا الشعور غرز اصابعه في جلدها وقبلها مرات عدة حتى تجرأ وانحرفت شفتاه لما هو محرم.
لهثت كارمن عندما احست بحرارة حارقة تلجم رأسها ثم هبطت إلى نهاية ظهرها وهذا الشعور كان مألوفا لها فقد خاضته سابقا، فاغمضت عينيها باشتياق لهذه الاحاسيس التي راودتها مجددا من بعد انقطاع دام طويلا بسبب زوجها الراحل..
حينها أيقنت كارمن انها قادرة على الشعور بهذه الأمور مجددا بل وفطنت أن رامون، هذا الذي كانت تعتبره مجرد صبي بات رجلا قادرا على جعل المرأة داخلها تهذي..
فيداها كانت محترفة تعرف اين تذهب، وهذا اصاب رامون بالدوار فقبلها اكثر لتكشف له عن المزيد من جانبها المخفي هذا، فكارمن كانت تُحبِ ان تحب.
جابت يداها على كتفيه ثم ارتفعت لعنقه تحيطه من الجانبين ورؤوس اصابعها ملامسة لشحمة أذنه، ولما قرر رامون أن يأخذ هذه اللحظة لمستوى آخر تشكلت عقدة بين حاجبيها وعلى الفور اصابعها توغلت في تجعيدات شعره، تقبض على حزمة منه.
وهذا الألم الذي صنعته استهوى رامون كي يهبها المزيد والمزيد لدرجة أن فر أنينها من صدرها عبر فمها فهز جوفه ولما كاد الشيطان أن يهمس لهما بالتخلص من الحائل بين جلدهما، ألا وهو قماش ثيابهما، صفعتها نزعة إيمانية كانت أشد عليها قوة من ذلك الشيطان وذكرها بمن تكون وبمن يكون هذا الطائش فقالت وفي صوتها نبرة انكسار وخزي "توقف، توقف أرجوك فانت هكذا تخيفني!" صاحت به عندما اصر على فعلته والتمادي فصفعته بقسوة عله يستعيد رشده.
لكن صفعتها لم تكن من أيقظه انما تلك الكلمة -تخيفني- كانت كماء بارد يسكب عليه، فتراجع عنها ليجدها تضم ذاتها والخوف من ذاتها ومنه يعتريها "كارمن.. أنا"
"كيف لك ان تفعل هذا بي واختي هي خطيبتك.. انتَ شيطان ملعون"
"كارمن.. لكن ... لكن انت هي من أريد! لطالما كان الأمر كذلك"
"فقط اعطني المفتاح ودعني أذهب، انا الغبية التي حادثتك... ما كان علي الوثوق بك"
اقترب منها لكن بدنها انتفض، فلم يكن بوسعه سوى ادارة المفتاح في القفل والسماح لها بالرحيل فركضت مسرعة عائدة ادراجها للحديقة والخزي يعتريها.
اضطرت كارمن للتحامل وصنع هيئة لا تهتز أمام الكونتيسة، فما ذنب ليلي كي تحرجها امام والدتها في القانون وتطلب الرحيل عنوة؟ لذا انتظرت كارمن ولما انتهى وقت الزيارة استقلت الفتاتان العربة وعادتا للمنزل برفقة باولو الذي نزل في مركز المدينة.
طريق العودة كان صامتا وحالما توقفت العربة أرادت ليلي محادثة اختها كي تسرد لها ما حصل في غيابها لكن كارمن لم تدع لها فرصة وولجت لغرفتها.
حرمت كارمن نفسها في تلك الليلة من لذة الاستمتاع بعشاء شهي مع اسرتها في الاسفل، فكيف لها ان تكون سعيدة ولقد دنست مجددا ممتلكات ليلي، لذا الحرمان كان الحل المثالي لتعيد تأديب ذاتها.
وبخت كارمن ذاتها بشدة ولعنت نفسها، فمهما حاولت أن تكون اختا طيبة يقوم الشيطان بلعبته ويفسد عليها أعمالها الحسنة...
فهي عليها التوقف عن الغيرة والحسد وكره الخير لشقيقتها، هي عليها ألا تنظر لما تملكه شقيقتها...
هي عليها ألا تتمنى شعبية اختها ولا اصدقائها.
ولا يجب عليها أن تتمنى حب الناس لها كما يفعلون مع اختها..
كل هذه العبارات كانت توجه إليها وكارمن حاولت الشفاء من هذا المرض المزمن، إلا أنه يوما بعد يوم هي باتت تشعر بنفسها غريقة في بحر مظلم وفي الاعماق وحش أسود القلب يجرها من قدميها لنقطة لا نور فيها.
ولتطهير نفسها من هذا الوحش امرت كارمن، ماريا ان تغلي لها الماء وتجهز حماما شديد السخونة كي تفرك جلدها فيمسي نظيفا كما يفعل الماء الساخن بالقماش، يزيل عنه البقع وعسى حينها أن يعتبرها والداها سليمة الروح معافاة من أمراض الحقد والغيرة.
كانت جلسة التطهير هذه مختلفة عن سابقاتها فلقد راود ذهن كارمن خاطرة دنيئة ألا وهي هيئة رامون وهو يبارزها بالسيف، ارادت القهقهة لما تذكرت ركلته الخسيسة فهو عديم المبدأ منذ الطفولة إلا ان صوت صياح المربية بها مر في رأسها فكيف لها ان تتخيل ممتلكات أختها!
فركت كارمن كتفيها وصدرها تشغل نفسها فراودتها هذه المرة هيئة رامون وهو يوزع قبلات على بشرتها التي افتقدت هذا الشعور، تبسمت بحياء من حديثه الأحمق ولما سمعت في رأسها صياح والدتها بها اقلعت عن هذه الفكرة فكيف لها ان تغوي خطيب اختها.
فركت كارمن جلدها اكثر فقفز لذهنها تخيل، ردعته بفرك كتفها بقسوة فقفز لذهنها تخيل أشد بشاعة منه، دعكت كارمن كتفها الآخر ولما راودها شعور مشتاق للمسة رامون هي القت بجبينها ضد طرف الحوض وفركت جلدها دون توقف تود لو تنظف نفسها من هذا الذنب.
كلما اصرت على تنظيف نفسها قفز لها تخيل آخر، حتى وصل بها الأمر لتخيل ذاتها تجلس فوق رامون في فراشه وعيناه مغمضة من السرور فاشتكت من شدة القهر وقامت بعض معصمها بقسوة كي تأدب نفسها.
وفعالية العض هذه لم تكن جديدة، إذ كانت لأسنانها أثار قديمة على ذراعها الأخرى في مواضع مختلف.
أما رامون فلقد كان جالسا في غرفته يهز قدمه بلا توقف واسنانه قضمت اظافره العشرة ولما لم يعد له ما يقضمه هو استمر بالعبث في اظفره حتى اقتلع منه جزءا عن طريق الخطأ ولم ينته إلا والدم يسيل من اصبعه "بئسا"
اعتصر على اصبعه وهم بصب الشراب عله ينسيه صوت كارمن الخائف وهيئتها المرتجفة إلا أن والدته دخلت غرفته وحالما رأت حاله وحال الغرفة هي امسكت برأسها من هول المصيبة.
"رامون! ما الذي فعلته بغرفتك! قل لي ما الذي اصابك يا بني، هل شاجرت والدك مجددا؟!"
"لم أقابله اليوم"
سكب لنفسه ولما رأى ان الكأس لن يحل مصيبته تجرع من الزجاجة فورا "رامون، يا بني كفى!" وضعت يدها على كتفه كي توقفه لكنه صاح بها من شدة ضيقه فتراجعت عنه خائفة.
حدق رامون حينها بوالدته وسألها بحيرة "هل انت خائفة مني؟"
"بني من فضلك تمالك نفسك"
حادثته من بعيد فقال "انت حقا تخافين مني كما يفعل الجميع"
"من هم الجميع؟ عمن تتحدث يا رامون؟ كيف لهم ان يخافوا منك ان الجميع يحبك، اخوتك يحبونك، انا احبك واصحابك أيضا"
"انهم جميعا جبناء، لا يملك احد فيهم الجرأة على معارضتي.. اليس كذلك؟"
"بالطبع يا بني، ان ما تقوله صحيح لكن ارجوك فقط توقف"
"هكذا تماما، انهم يفعلون كما تفعلين"
ضحك رامون مع نفسه وتجرع المزيد من الشراب ثم جلس على الكرسي وسط دمار غرفته فلقد مزق جميع اثاثه بالسيوف التي لديه وحطم جميع التماثيل والخزف "الجميع يخشاني"
"إلا اثنان فقط، لا يخافون مني... أولهم والدي"
تنهد بحسرة وفرك جبينه من شدة خزيه مما فعل "والثانية هي كارمن"
تمتم لنفسه مستذكرا إياها "المرأة الوحيدة التي لا تخافني ... أو كانت كذلك..."
تجرع المزيد من الشراب وألقى رأسه للخلف يغمض عينيه فلقد دمر غرفته بما فيه الكفاية ودمر المرأة التي احبت الكثير من الناس سواه..
وهذا ما جعله يكرهها ويقدسها بذات الوقت فهي ملعونة تذكره بوالده..


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة