فرت ليلي هاربة من المربية بعد أن اختلقت حجة أنها تشعر بالمغص، وعلى الفور رفعت طرف ثوبها وركضت في أروقة الدار إلى أن وصلت لباب غرفة كارمن ودون طرق هي ولجت وكما توقعت وجدت كارمن تجلس مع ماريا يتبادلن اطراف الحديث في الشرفة..
"كارمن يا كارمن، ابشري هل وافق؟"
"أجل وافق، واصر على الزواج منك"
"لا! إن هذا مستحيل... اقسم انه ينوي بي شرا بهذا الزواج ذلك الرجل المريض"
"سنيوريتا ليلي لست افهم سبب رفضك، إن السنيور لا يعيبه شيء"
"بعيدا عن كونه كالصبي الطائش، إلا أن رأي من رأي ماريا، لربما رامون في النهاية يكن لك الحب"
"هل نحن نتحدث عن نفس الشخص؟ ثم يا كارمن أي حب هذا وهو منذ أن خلقت في هذه الدنيا يتربص بي شرا، إما يجر شعري ويمسح بكرامتي البلاط أو يمزق ألعابي"
"قولي عنه حبا شرس" تبسمت كارمن ابتسامة لعوب وليلي لم تعجب بحديث اختها فطلبت منها التوقف غير راغبة بسماع المزيد من النكات السخيفة.
"بعيدا عن المزاح يا ليلي، انظري للجانب المشرق، سوف تتزوجين وترثين لقب كونتيسة. فكري مليا ما الذي سيتمكن ميغيل من توفيره لك إن تزوجته؟ ابي لن يقبل بميغيل من بعد أن وجد رامون، عيب عليك ان تطلبي من الرجل تقدير النحاس بعد رؤيته الذهب"
"في قلبي يوجد ميغيل ولا احد غيره، شتان بينهما فهو عاقل رزين أما ذاك فكل الأخلاق القبيحة اجتمعت في وجهه... يا كارمن أرجوك ان تحاولي مع رامون مجددا"
"وهل باليد حيلة غير تنفيذ طلباتك؟" تبسمت كارمن بود لاختها وابعدت من حضنها ثوبا لها كانت تطرز ذيله "اعذراني الآن فأنا ذاهبة لأرى جدتي، لابد أنها استيقظت الان وتشعر بالوحشة"
خرجت كارمن غرفتها وماريا حدقت بأثرها والحزن بدى عليها فقالت وفي نيتها مصارحة سنيوريتا ليلي بمخاوفها "يا ترى كيف سيكون حالها بعد ان تتزوجي وتغادري المنزل، لابد أنها ستشعر بالوحدة"
"لما عساها ستشعر بذلك؟"
"إن السنيورة لا اصدقاء لها وهي وحيدة في هذا المنزل، لا تملك سواكِ والجدة"
"معكِ حق، اشفقت عليها الآن فمن بعدي هي لن تملك سوى تلك العجوز الخرفة لتقضي وقتها معها... لا عجب لما اختي حالها مزري" تنهدت ليلي بشفقة على اختها ذات المزاج العكر والخلق الضيق وقالت "لو يتقدم احد للزواج بها ويشعرها بالحب، لربما يتحسن خلقها، فلقد كانت لينة الطبع مسرورة الحال لما كان كارلوس موجودا"
"وهل سترضى بغيره؟ هي لازالت تحتفظ بثيابه في دولاب ملابسها"
"بالطبع ستفعل، فكارلوس قد رحل ولا فائدة من التعفف، ان اختي في الثلاثين ولربما الحب قادر على تغييرها"
كتمت ماريا استهزائها بحديث ليلي الطفولي وحاولت الاعتراض بشكل لائق "يؤسفني قول ذلك سنيوريتا لكن لا يوجد رجل عاقل قد يخاطر بحياته ويقترب من السنيورة... بلا مؤاخذة فلولا رابط الأنوثة والولاء الذي يجمعني بها لاستقلت منذ مدة، فما بالك برجل سيعاشرها العمر بطوله"
"منذ متى يتحدث الخدم عن أسيادهم بهذه الطريقة؟ ثم هي تحتاج دفعة بسيطة كي تعود تلك المرأة حسنة الخلق... يا ليت أحدا يتقدم لطلب يدها فحسب"
"سامحي زلة لساني سنيوريتا ليلي، إن سمحتي لي بالسؤال فأين ستجدين رجلا كهذا في البلدة؟ انهم يعرفونها ويخافونها"
"يا ماريا لقد راودتي فكرة لن تفشل ابدا"
تبسمت ليلي ودون تضيع للوقت، قصدت متجر عشيقها ميغيل، ذلك الشاب الذي كان ابن عمها ذو الحال الشبه ميسور...
لما رآها هو على الفور عدل من هندامه واقلع عن النبش في انفه من شدة فراغه. عرض عليها الجلوس وكي لا يجلب لها السمعة السيئة اسدل ستائر المتجر واوصد بابه وعندما استدار وجدها ارتمت في حضنه.
"ميغيل، آه يا ميغيل هل تصدق أن كارمن فشلت في اقناع رامون أن يعدل عن قراره. ما أنا فاعلة إن تزوجت حقا من ذلك المسخ!"
"آه لا تذكريني بتلك الفاجعة! فجأة ومن العدم هو قرر الزواج بكِ فأي مزحة هذه وأي مكيدة يحيك لكِ يا حب حياتي" مسح على خصلها الذهبية والحزن بادي عليه.
تذمرت ليلي بقهر وامتدت شفتها السفلى في عبوس طفيف "إنها غلطتك، كم مرة اخبرتك أن تسرع بالحديث الى والدي لكنك رفضت وهذه نتيجة رفضك، سأضيع من بين يديك فهل انت سعيد!" ضربته على صدره توبخه "لكن لا بأس لم اقصد رؤيتك كي أوبخك إنما قصدتك في حاجة يا ميغيل فلا ترفض لي طلبي"
"وما هي حاجتك، أطلعيني عليها وسوف انفذها" اخبرها ورجولته طغت عليه عندما وجدها تعبث بشريط كم ثوبها والحياء بادي عليها..
اطلعته ليلي على خطتها وهي أن يقوم بمحادثة اصحابه من الحانة واقناع بعضهم كي تكون لهم الشجاعة ويتقدموا لطلب يد كارمن من ابيها.
في البادئ رفض ميغيل قائلا أن والدها سيكتشف لعبتهم وكارمن لن تسامحها ابدا ان علمت لكن ليلي ألحت عليه، فسألها كيف سيقنع اصحابه إذا، ومجددا هي وجدت الحل.
اخبرته أن يؤجر واحدا من اصدقائه ويرسله لمنزلهم غدا فوالدها متفرغ لا عمل له وميغيل لم يكن بوسعه سوى التنفيذ فلقد تركت ليلي في جعبته صرة من النقود سترضي اصحابه من الحانة وتدفعهم للخوض في هذا التحدي الصعب.
أي نعم رفضوا رفضا قاطعا في البداية، عندما اجتمع ميغيل باصحابه واطلعهم باللعبة، لكن بعضهم وافق بسبب حاجته للمال ومنهم من وافق، عسى ولعل أن تكون كارمن تجربة مشوقة له خارج إيطار الزواج..
وفي اليوم التالي اشتد الطرق على باب دار غارسيا وليلي فرحت لما ظنته احد اصدقاء ميغيل أتى كي يخوض في اللعبة، إلا أن تعابيرها تبدلت لما وجدته رامون يقف لها وقبعته السوداء ذات الريشة البيضاء تعلو رأسه "هذا انت!"
رسم رامون ابتسامة صفراء على وجهه فلقد قالتها كمن رأت بعبعا "نادي والدك يا فتاة، احتاج ان اتحدث اليه" اشار لها برأسه كي تسرع ولا تتأخر.
لم يكن بوسع ليلي الرفض أو طرده انما الرضوخ والذهاب لنداء والدها، فيد رامون الحامية التي كانت تنزل عليها منذ الصغر اعادت تأديبها للدرجة التي تهابه فيها وتخشاه اكثر مما تخشى والدها "ابي يا ابي، ان السنيور رامون هنا يود لقائك والحديث معك"
"ما هذا اليوم الجميل" ترك والدها السفينة داخل الزجاجة التي كان يعمل عليها في ورشته وذهب لاستقبال ابن الكونت بنفسه "سنيور رامون، يا لها من مفاجأة قد ادخلت السرور لقلبي" انحنى والدها احتراما وهي انحنت من خلفه.
"من فضلك يا سنيور خوليان" انحنى رامون بدوره بعد أن نزع قبعته ثم دفع ردائه فاجتمع القماش على جانب كتفه أما الجانب الآخر فقد كان مكشوفا ليمتع الناظر عينيه بمدى جمال ثيابه الثمينة..
"منذ الليلة التي دخل بها والدك علي بطلبه ذاك والأحلام الجميلة تراودني يا سنيور"
"بالطبع! هذا ما اتيت للحديث بشأنه، فيا سنيور والدي العزيز اقترف خطأ و.."
قوطع حديث رامون بسبب طرق على الباب ففتحت ليلي واستنكرت هيئة الرجل النحيل ذو الثياب النظيفة "هذا هو دار السنيور غارسيا؟"
"أجل يا سنيور ومن حضرتك؟"
"انا يا سادة أدعى خوسيه دي لا روس الابن البكر للتاجر الموقر دي لا روس، الشهير في اوساط فرنسا وقد طرقت بابكم لهدف سامي" انحنى الرجل وقبعته ذات الريشة كادت ان تسقط وتكشف عن صلعته فالتقطها بسرعة ورفع رأسه مجددا..
تعجب والد الفتاتين من امر ابن التاجر هذا الذي قصد بابه ورامون قطب حاجبيه مستنكرا، فاكمل ابن التاجر قائلا "اتيت لطلب يد ابنة حضرتك"
"لكن يا سنيور ابنتي مخطوبة الآن، فكيف لك ان تطلب يدها"
"إن من قصدته ليست السنيوريتا الصغيرة، انما الكبيرة"
"كارمن!" هتف رامون من شدة صدمته واعتصر قبعته بكلا قبضتيه لا يصدق ان هناك معتوها اتى للجحيم بقدميه.
"بالضبط، اني اطلب يد ابنة حضرتك كارمن"
"يا بني هل انت متأكد؟ لربما سمعتها ليليان واختلطت عليك الأمور" حك السنيور خوليان شعره من شدة قلقه.
"لا يوجد خطأ يا سنيور، اني راغب بالزواج من ابنة حضرتكم فلقد سمعت عنها كل خير وقيل انها ذات خلق ولسان حسن يرد النفس"
"كارمن؟!" سأل رامون مجددا واقترب من ابن التاجر المزعوم يحدق بوجهه مدققا النظر.
حاول الرجل تحاشيه لكن رامون افزعه لما ضحك ضحكة هزت أرجاء المنزل..
"يا سنيور، ألن تقدمني لابنتك" بلل الرجل شفتيه وكرر سؤاله.
"آه.. بالطبع، تفضل من هنا"
أذن خوليان لزائره بالدخول واشار لليلي أن تنادي على كارمن بسرعة ثم التفت بحيرة لابن الكونت الذي لا يكف عن الضحك "سنيور اعذرني فلقد قوطع حديثنا، ما الذي كنت تود قوله؟"
"ما أود قوله؟ يا سنيور هلا سمحت لي بالحضور أيضا، اعتبرني فردا من العائلة"
"ما هذا القول يا سنيور رامون، بالطبع انت فرد من العائلة! تفضل"
جلس الثلاثة في غرفة المعيشة التي كانت مطلة على ابوابها الحديقة، كان والد الفتاتين منذهلا من ان احدا تقدم لابنته كارمن أما رامون فلقد افترش على الاريكة، إذ عاد بظهره للخلف وباعد بين قدميه ثم ألقى بقدم فوق الأخرى، يستفز ابن التاجر بأسئلة مشككة وذلك الرجل المسكين كان منكمشا حول نفسه خائفا من أن يتم اكتشاف امره.
"اخبرني وهل عائلة دي لا روس مختصة في تجارة العطور؟"
"آه؟ بالطبع يا سيدي الوقور"
"همم، رغم أني لم اسمع بكم سابقا"
"نحن عائلة بسيطة ميسورة الحال يا سنيور وأبي بدأ تجارته حديثا"
"حقا ممم"
لكن هذه الاحاديث الجانبية، توقفت باللحظة التي ظهرت فيها كارمن بوجه متلبد التعابير وطوال نزولها السلالم كانت ترمق الرجل من طرف عينها، تعاينه لدرجة احس فيها الرجل بالندم على الحضور.
جلست على كرسي منفصل ولم تتحلى بأي آداب فلقد ألقت بذراعها لظهر الكرسي وقالت "هل انت المعتوه الذي اتيت لطلب يدي؟"
انتابه الخوف وتلعثم في حديثه "ن.. نعم يا سنيورة انا ذلك المعتوه.. اعني الرجل"
"كارمن!" زجرها والدها.
تجاهلت كارمن صياح والدها وقالت مستنتجة "لا بد انك أجنبي عن هنا، فلو كنت فطينا لما اتيت للموت بقدميك"
"كارمن!" هذه المرة وكزتها اختها ليليان لتتحلى ببعض الأدب.
زفرت كارمن انفاسها بضيق ثم قالت حاسمة أمرها دون ان تدع فرصة لابيها "بلا لف ولا دوارن يا سنيور، فانت تبدوا طيبا ومن العيب أن اظلمك، زواج؟ انا لست للزواج"
"لكن لما التعجل يا سنيورة، ألا تريدين التفكير قليلا"
"هل رأيتني وانا انزل الدرج؟ فكرت هناك بما فيه الكفاية"
بقي فاه ابيها مفتوحا من هول صدمته ولم يعد يعرف كيف يقنع الرجل بأن يتزوج من ابنته ويخلصه منها..
"سنيورة من فضلك لا تردي لي طلبي، ضعي يدك على قلبك واعطيني فرصة"
"لا قلب لي"
اجابته كارمن باختصار والرجل قد تملكه الخزي فرجولته قد خدشت بقسوة ورامون الماكث جانبه بصعوبة كان يكتم ضحكته..
"على رسلك يا وحش"
اكتفت كارمن برفع حاجبيها ورامون اجابها "اجل هذه النظرة التي كنت انتظرها"
"عن أذنكم فلقد ضاع من وقتي الكثير" نهضت كارمن وعادت ادراجها لجدتها تاركة والدها ليتورط مع ذلك الشاب.
كان موقفه لا يحسد عليه فلقد اعتذر منه كثيرا والرجل خرج فلحق به رامون ولما ابتعدا اطاح رامون به وحصل على رأسه داخل ذراعه "قلت خوسيه دي لا روس هاه! وتظن أن ثيابك النظيفة هذه ستخفي هويتك ايها الوغد!"
"سامحني يا سنيور، أنا آسف، أنا آسف! من فضلك لا تخبر زوجتي بما رأيت، اقسم لو علمت انك هناك لما اقتربت من بابهم حتى"
"تكلم يا مانويل على الفور والا ابرحتك ضربا، ما بك قصدت دارهم وانتحلت هوية ليست بهويتك"
"يا سنيور ارجوك، لقد دفع لي ميغيل المال وفعلت ما اخبرني به بالحرف، قال انه سيعطي المال لكل من ينجح بإغواء كارمن وهذا كان الرهان بيننا"
"وما سبب هذا الرهان السخيف؟"
"لن تخبر احدا اليس كذلك؟"
"انت قل وانا من سيقرر ذلك"
"حسنا، حسنا.. لقد كان ميغيل يحاول اخفاء ذلك لكنه كشف الأمر عن طريق الخطأ وقال ان هذه الخطة صنعتها اختها ليليان لجعل كارمن تقلع عن أخلاق الرجال... ألن تقول شيئا يا سنيور"
قطب رامون حاجبيه من شدة استنكاره الأمر لكن تعابيره تبلدت من بعدها وتبسم قائلا "بالطبع سأقول، أكملوا لعبتكم هذه وأنا لن انطق بشيء"
"هل حقا ما تقول يا سنيور!"
"أجل، والفائز أنا بنفسي سأكرمه"
ربت رامون على كتف مانويل يتركه في حال سبيله ثم ألقى نظرة أخيرة على دار السنيور خوليان قبل ان يعود ادراجه وابتسامة لعوبة قد ارتسمت على شفتيه...
فهل يوجد شيء في الحياة اشد اثارة من ترويض كارمن تلك المرأة الشرسة؟



اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة