"يا سنيور إن ما تفعله لسرقة وإن لم تعد لي بقية نقودي فلك من يدي لطمة ستستعيد بها رشدك!"
"اخبرتك ان لا مال لك عندي!"
"وهل تقول عني كاذبة؟! لا تراوغ يا ابن لاريسا وأعد لي نقودي!"
اشتد الشجار بين بائع فاكهة وبين كارمن البالغة من العمر ثلاثين عاما فلقد خرجت في هذا الصباح شديد الحر برفقة خادمتها فقط لإتمام مهمة سامية ألا وهي شراء مستلزمات ليوم ميلاد ليليان الرابع والعشرين والذي سيحضره كثير من الأقارب بالطبع..
"سنيورة كارمن، من فضلك لنذهب فالناس اجتمعوا حولنا" امسكت ماريا بذراع سيدتها، تترجاها أن يرحلا لكن كارمن كانت ثابتة ولو كان مزاجها جيدا لتركت البائع ولم تبالي إلا أن مزاجها العكر كان طاغيا عليها والسبب يعود لهذا الوقت المميز من الشهر.
"ما بكم قد اجتمعتم وتجمهرتم! افسحوا المجال لأمر!"
ارتبك الأهالي حالما سمعوا النداء وتنحوا عن طريق السنيور، الذي مر على ظهر فرسه وقرر فض النزاع الذي دام طويلا وأعاق العابرين عن المرور "تحركوا!" صاح بهم وبحكم مكانته بينهم ما كان بأيديهم حيلة سوى تنفيذ أمره لكنهم ورغم تفرقهم، كثير منهم من بقي على مقربة ليشاهد الشجار>
"لقد قلت تحركوا وهذا يشملكِ أيضا يا سنيورة" وجه السنيور حديثه لها وهي استمرت بهز قدمها والطرق بحذائها على الطريق الحجري أسفلها تطالب باستعادة حقها "يا سنيورة ألا تسمعين؟!"
"ماذا؟!" اشتد صياح كارمن كغراب لا يكف عن النعيق أما عن خادمتها ماريا فلقد انتابها الرعب من مكانة السنيور واحتمت بمالكتها.
"لقد زاحمتِ الناس وسددتي الطريق!"
"هل تراه مسدودا؟! إن كنت تريد العبور فأعبر الآن ولا تجعلني اضعك في رأسي يا سنيور! ألا ترى أني أخوض نقاشا هاما مع هذا الرجل!"
"ما بها تصرخ عندك؟! هل لها عندك شيء؟!" انتقل السنيور بحديثه للبائع عسى ولعل أن يجد حلا ويخلص الناس من ضجة كارمن.
"يا حضرة السنيور هي تزعم أني سرقتها وابقيت في جيبي سنتا واحد"
"ماذا؟ سددتي الطريق لأجل سنتٍ واحدة؟! يا ظالمة النفس اغربي عن وجهي قبل ان اضع يدي عليك!"
رفعت كارمن حاجبيها وانتقلت ببصرها تحدق به وعيناها النرجسية لم تدع له مهربا، إذ تقدمت نحوه مقتربة ولم تبالي بالخطوة الأخيرة التي فصلت بينهما "تضع يدك علي؟" كررت عبارته.
"تريد أن تمد يدك عليَ؟! أريني يدك... وإن رفعتها" هددته ورفعت سبابتها بين وجههما تحذره "صدقني سأجعلك تفتقدها"
"وما الذي ستفعلينه يا ابنة خوليان" اخذ السنيور حقه في الخطوة الأخيرة الفاصلة وقبعته الطويلة ذات الريشة وقع ظلها على وجه كارمن.
"إياك وأن تجربني يا رامون"
وهكذا انهت كارمن نقاشها الحضاري مع رامون دي لا سييرفا ابن عمدة مدينتهم العزيزة واستدارت لتكمل تسوقها مع ماريا التي كانت ترتعب من شدة الخوف فوالد السنيورة كارمن منذ الطفولة وهو يحذرها من العبث مع ابناء العمدة..
"سنيورة ان كانت حياتك رخيصة فحياتي ليست كذلك، من فضلك... ماذا لو علم والدك بهذا؟" همست ماريا بقلق.
"وإن علم، ماذا سيفعل؟"
تجرعت ماريا حلقها، فلقد رأت العلامة القديمة في وجه سيدتها منذ آخر جدال عائلي حدث قبل سنين طويلة، إذ جُن جنون السيد وأدار الخاتم في يده منزلا إياه على وجه ابنته ليخلف أثرا لن يختفي مع تقدم عمرها. فلقد امتدت العلامة من أذنها إلى زاوية شفتها.
"سنيورة لم نتفق بعد ما الذي سنعده للسنيوريتا ليلي؟" غيرت ماريا الحديث وراقبت تبدل تعابير كارمن إلى أخرى اكثر لينا وقالت كما لو انها لم تفتعل شجارا كبيرا على سنتٍ لا قيمة له.
"المعتوهة تحب التفاح ولا مزاج لي لتناول شيء فيه مذاق القرفة والتفاح"
"ما الذي ترغبين به إذا؟"
"حلوى بالزبيب ستكون خيارا موفقا ربما" انظم إليهما صوت من الخلف.
"ما الذي تفعله عندك يا رامون"
"كنتُ مارا وسمعت حديثكما عن طريق الصدفة، كنتما تقولان شيئا عن يوم ميلاد ليليان أليس كذلك؟"
دحرجت كارمن عينيها وتخصرت أمامه واقفة كما لو أنها جدار منيع يصده عن ذكر اسم اختها وقالت "ماذا تريد يا رامون؟"
"أود المشاركة في يوم الميلاد" تقدم نحوها فوضعت يدها ضد صدره تعيده لحيث كان يقف.
"وما علاقتك بأختي" سألته وفي نفسها آمنت أن هذا الشاب المتباهي لا خير يأتي منه فلرامون تاريخ عريق بمضايقة ليليان وفي آخر لقاء كسر هدية ميلادها والتي كانت عبارة عن عطر ثمين اتاها من عمتها في فرنسا.
"ما بكِ تمنعيني عن فعل الخير يا كارمن؟"
"انت تفعل الخير يا ابن سونيا؟ الخير الوحيد الذي من الممكن أن تكرمنا به هو أن تغرب عن وجهي"
"يا سنيورة ما هذه الألفاظ، لقد كبرنا ولسنا بهؤلاء السوقيين كي نتحدث هكذا"
رأى حاجباها ارتفعا فقال "أنزلي حاجبيك هذان فهما يستفزاني بشدة"
"حقا؟ شكرا لهذه المعلومة التي لا فائدة منها"
"حسنا يا سنيورة كارمن لن آتي لكن لي سؤال"
"ولك الجواب، تفضل"
"هل من الممكن أن تتوقفي عن هز خصرك؟ لا استطيع التركيز بسبب كعبك الذي لا يتوقف عن الدق"
"هيا بنا يا ماريا لنذهب" دحرجت عينيها بملل واخذت بيد خادمتها كي تكملا طريقهما.
"انتظري لما انت حامية الاعصاب! اسمعي يا سنيورة سوف آتي لشيء غير الحفلة فهل ستكونين موجودة؟" استوقفها ممسكا بمعصهما.
"ماذا؟"
"فقط أجيبي بنعم أم لا"
"بالتأكيد سأكون هناك والآن عن إذنك يا سنيور لدي حفلة لأشعلها الليلة"
انتزعت معصمها من قبضته وسارت أمام ناظريه بقوام رشيق وظهر معتدل. فسألتها ماريا "يا ترى ما الذي ينوي فعله؟"
"لا أدري لكن إن عزم على افساد ليلة اختي فحسابي معه عسير"
توقفت كارمن عند بسطة بائع تشتري منه باقي احتياجاتهما وفي المساء كان المطبخ في الدار مكتظا، فالمربية تصيح بهم أن يسرعوا والخدم أيديهم محملة بالكثير من الأواني يقومون بنقلها بلا توقف فعلى شرف ليليان أقام السنيور خوليان وليمة والأقرباء فيها اجتمعوا.
أما في غرفة ليليان استفردت الأم واختها بابنتها يقومان بتجهيزها على أكمل وجه، فسيدة الحفلة لا يمكن لمظهرها أن يكون أقل من الحضور.
"يا أمي إن هذا يكفي و يا خالتي من فضلك لا تضعي لي من هذا" دفعت ليليان يد خالتها لا تود أن تضع لها من اللون الأحمر على شفتيها، إذ كان يوحي بأن من تضعه هي امرأة ناضجة ومتزوجة.
"ليلي لا تعاندي، فما سيجعل طلتك كاملة هذا المساء هو هذا، لربما يعجب بك فرد من المدعوين ويطلبكِ لأبنه"
"ألم يطلب السنيور دومينجو يدي لابنه؟"
"دعكِ منه فهو رجل لا نفع منه وابنه مسرف مبذر"
صبغت الخالة شفتي ليليان باللون الأحمر ولما اكتمل مظهرها أخيرا خرجتا لاستقبال الضيوف، بقيت ليليان جالسة أمام المرآة تحدق بشفتيها ولم تكن مقتنعة بهذا اللون الذي افسد النمط في ثوبها الأصفر، فلقد كانت تبدوا من الأسفل فتاة يافعة أما من الأعلى فوجهها بدا كوجه امرأة متزوجة.
الطرق على الباب قاطع تأملها في انعكاسها فقالت "تفضل" وحالما فتح الباب وظهرت كارمن لها هي ابتهجت ونهضت من مقعدها لتحي اختها.
"كارمن، يا كارمن ما رأيك بثوبي؟ زوجة عمي انتقته خصيصا لي من خياط معروف في ويلز"
"لاحظت نقوشه الأجنبية، وهو يلائمك" تبسمت كارمن وخلف ظهرها كانت تخفي هديتها "لكن أخبريني ما هذا اللون القبيح على شفتيك؟"
"إنها من افعال خالتي، لازالت مصرة على جعلي أبدوا كامرأة ناضجة.. لا ادري ما بالها، تريد تزويجي ويا ليتها تجد شخصا جيدا"
"إن خالتك امرأة فقدت صوابها بعد أن هجرها ابنها برفقة زوجته"
استخرجت كارمن منديلا من كمها ومسحت اللون الاحمر توزعه بحذر فلا يبدوا فاقعا إنما متناسقا مع بشرتها "هكذا أفضل"
"خالتي ستغضب إن رأت هذا"
"وهل أبدوا لكِ كمن يهتم لرأيها؟ هي فقدت أملها بي منذ زمن. والآن كل ما ينقصك هي هديتي"
"ماذا احضرتِ لي هذا العام؟ عِطرٌ أم دبوس؟"
"لا هذا ولا ذاك إنما ابتعتُ لك عِقداً"
باعدت كارمن بين يديها لتكشف لها عن عقد من اللؤلؤ وبن كل حبة لؤلؤ كبيرة وُجد ذهب ثقيل، كشفت ليليان عن صف اسنانها من شدة فرحتها بما احضرته اختها وعلى الفور اخذتها في عناق "كارمن! الرب يشهد أن ذوقك أفضل بكثير من ذوق البقية"
"اسمعيني شيئا لا أعلمه" ألبستها كارمن العقد.
خرجت الأختان متجاورتين في خطى متناسقة فمنذ الصغر وهما دوما يقلدان بعضهما البعض حتى في الخطى.
كانت ليليان ذات بشرة بيضاء مشبعة بالحُمرة، ولها شعر ذو لفائف فاتحة اللون، كلما سطعت عليه الشمس ظنه الناظر ذهبا وثوبها الأصفر اطفى عليها روحا صبية فبدت اصغر من سنها أما كارمن، كانت النقيض لأختها؛ فبشرتها كانت قمحية فيها من سُمرة الصيف وشعرها الداكن كان مجعدا لا يقبل اسنان المشط أبدا، أما عن ثوبها فلقد كان أحمراً داكن اللون يلجم قلب الناظر إليها فلقد اضاف لها عمرا فوق عمرها والأهم من ذلك انه جعلها ذات هيبة تخيف الناظر اليها لكيلا يجرأ احد على محادثتها في الوليمة.
"ليليان، ابنتي الحبيبة" استقبلها والدها في الردهة وقبل كلا وجنتيها مسرورا بجمالها ولما انتقل ببصر لابنته كارمن هو اكتفى بالابتسام لا يود اطالة النظر فيلحظ الخدش في وجنتها.
نزل الأب وبجواره ابنته نحو الحديقة أما كارمن فلقد نزلت السلالم من بعدهما وعلى الفور اتخذت مقعدها إلى جوار جدتها التي كانت أرملة مثلها ورغم ان السن تقدم وتركها هرمة الا انها حرصت على وضع احمر شفاه يعيد لها بعضا من حيويتها.
"لو ارتديتي الأسود لكان افضل، الأحمر يجعل منكِ وديعة" قالت الجدة وزلقت لجوفها شرابا عتيقا أحرق حلقها ثم طلبت الآخر فسكبت لها كارمن وقالت؛
"كي يقولوا عني مقلدة؟ لا شكرا، فثوبك الاسود يكفي هذه الأمسية يا جدة"
تبسمت الجدة برضى على حديث حفيدتها اللاذع والفخر كان باديا عليها ثم أردفت قائلة وفي صوتها شكوى "اخبريني يا كارمن هل سنظل نجتمع كل سنة لأجل هذه المناسبة؟ اقنعي والدك ان يقلع عن هذه العادة القديمة فقدماي لا تعينني على نزول السلالم ولا صحتي تهون علي لقاء هؤلاء جميعا"
"لن يفعل هذا بابنته الحبيبة"
"آخ منها ألم تكبر على هذه العادات الطفولية ثم أخبريني ما بال والديك قاما بتخليلها كما نخلل الملفوف؟ ألا يجب أن تكون متزوجة الآن؟ قولي يا كارمن ولا تخفي عني سراً إن فيها عيبا أليس كذلك؟ لربما لا تملك ما نملك أسفل تنورتها"
"حذارِ أن يسمعكِ والداي" تحدثت كارمن وابتسامتها لم تتلاشى فهي معتادة على جدتها وصراحتها الفريدة من نوعها "إنهما لا يرغبان بأي كان إنما يريدان رجلا بمواصفات تلائم ابنتها، فهو لم يصرف عليها ويقم بتعليمها كي يتزوجها سائس خيل كما يقول والدي"
"ومن هذا الذي يريده ابني؟ الأمير؟"
"إن أتى فهو لن يرفض بالتأكيد، لكن طالما أن الأمير لن يأتي لهذه البلدة الصغيرة فهو في انتظار أن يلحظها أحد ابناء الكونت فيعجب بها ويتزوجها... للكونت خمسة ذكور وأمي في انتظار احدهم"
"لو كنتُ رجلا فطينا يا بنيتي لما رضيت بدأ حياتي مع امرأة بهذا العمر، انها تثير الشبهة فلما البنات في الخامسة عشر من عمرهن تزوجن وهي بقيت بلا زواج؟ لن يرغب أحدٌ بمواجهة المعتاد عليه والخوض في أمور استثنائية إلا إن كان هو الآخر استثنائيا"
"لكِ وجهة نظر يا جدتي وأنا في صفكِ... قلة قليلة من لهم رغبة في تجربة كل ما هو غريب واستثنائي ودعيني أضيف وأقول أنهم مخيفون" اراحت كارمن ذقنها على راحة يدها فلم تكن مستعجلة لعدم وجود من يشاركها أطراف الحديث غير جدتها...
وليس هناك عاقل يرضى بمحادثة جدتها غيرها...
"هناك شيء ناقص" قطبت كارمن حاجبيها "ألم يزعم رامون أنه قادم بمفاجأة فأين هو؟"
تجولت كارمن ببصرها على المدعوين فإذا بخادم يأتي مهرولا ليهمس في أذن السنيور خوليا الذي أذاع الخبر قائلا "يا لهذه المفاجأة السعيدة، أسرة دي لا سييرفا تقف أمام بابي!"
"من هؤلاء؟" سألت الجدة فأجابتها كارمن "انهم أسرة الكونت"
نهضت كارمن حالها من حال باقي الضيوف لما تفضل الكونت دي لا سيرفا مع حرمه وبعض من ابنائه إلا أن رامون كان مختفيا وكارمن شعرت بأن هناك مصيبة ستحصل.
أي نعم انتهت الوليمة وانتقلوا للداخل يحتسون النبيذ على صوت مقطوعة موسيقية، عزفتها ليليان وأسرتها كانت مسرورة بمهارتها إلا كارمن لم تكن راضية بالذي تسمعه فهذه هي المقطوعة التي ألفها كارلوس زوجها الراحل خلال سنين عمله كاستاذ في دارهم.
"جدتي، إني ذاهبة"
"أخيرا هناك عاقل سيفر هاربا، تعالي وخذيني معك فلم اعد قادرة على الجلوس اكثر"
اخذت كارمن بيد جدتها تأخذها لغرفتها وهي ولجت لغرفتها الخاصة، تتخلص من حليها وعلى الفور نزعت المشد عن صدرها لتتمكن من لفظ أنفاسها. كارمن لم تكن بالفتاة النحيلة إنما كانت في بعض جوانبها ممتلئة لذا ولإخفاء هذه العيوب دوما ما تأمر والدتها، ماريا أن تحكم على حبال المشد...
على الأقل كي تبدوا شابة يافعة لا أرملة بلى عليها الزمن.. هكذا فكرت والدتها، فحال كارمن لوضع مهين يدنس مثالية أسرتها.
استلقت كارمن على فراشها واستخرجت من أسفل وسادتها رسالة كارلوس الأخيرة قبل ذهابه لأسرته، قرأتها بتمعن كما لو أنها المرة الأولى ولم يكن بوسعها سوى تقبيل حبر قلمه عند كلمة احبك.
فكارمن لم تسمع هذه الكلمة إلا بضع مرات وبالكاد هي تذكر أغلبها لكن كارلوس كان مختلفا، فلقد حرص على امتاعها بكلام حلو كالعسل على قلبها في كل لقاء يجمعهما، ومن بعد رحيله هي عزمت على اللحاق به للجهة الأخرى مرات عديدة إلا أن ماريا وفي كل مرة كانت توقفها بحجة أن جدتها لن تحتمل رحيل حفيدتها، لذا لم يعد بوسع كارمن سوى العيش ومع الوقت هي باتت مجرد مزهرية جميلة من الخارج وخاوية من الداخل...
وتشبيه مزهرية لكثير عليها فهي كانت أشبه بإناء فخاري خاوي، لا لون فيه.
اغمضت كارمن عينيها بعد أن عاودت دس الرسالة أسفل وسادتها، وعزمت على النوم، فلقد اجهدت نفسها بما فيه الكفاية في السوق لكن دخول ليلي المفاجئ أيقظها.
"كارمن، يا كارمن اين انت!"
فزعت كارمن من نومها وصدمت من ليليان التي اوصدت الباب خلفها واجهشت بالبكاء "يا مصيبتي ما أنا بفاعلة!"
"ماذا حدث! ما بكِ تبكين هكذا هل ماتت جدتي!" نهضت كارمن على الفور..
"بل الأسواء! الكونت دي لا سييرفا طلب يدي وأبي وافق على تزويجي!"
"لا أفهم شيئا مما تقولين! من سيتزوج من!"
"أبي سيزوجني من رامون!" امسكت ليليان بكتفي كارمن تستنجد بها "رامون طلب يدي من أبي! هل تدركين حجم المصيبة! أفعلي شيئا يا أختي! انت عليك مساعدتي!"
"وماذا عساي افعل؟! ماذا تريدين مني؟!"
"انا لا اريد رامون! إنه حقير، مغتر بنفسه وأنا لا اطيقه! ثم كيف لي الزواج منه وفي قلبي يوجد ميغيل"
"ألم يكن ميغيل مدعوا؟ الم يقل شيئا او يعترض؟"
"لقد غضب من قرار ابي وطلبه للحديث لكن ابي منعه فكيف عساه ينطق وعمدة بلدتنا الموقر يحادث ابي! كارمن ارجوك افعلي شيئا واجعلي رامون يقلع عن هذا الزواج، إنه مريض لا يعرف معنى الحب! كيف لي العيش مع رجل مثله!"
اشتكت ليليان فكل لحظة جمعتها مع رامون انتهت بمصيبة، فهو كان ولازال طائشا ذو يد حامية، لا يقدر عليه أحد حتى والده، عاجز عن ترويضه واعادة تربيته.
"انت الوحيدة التي لك كلمة على رامون فهو يخافك، من فضلك اتوسل اليك ان تقنعيه"
"حسنا... سأرى ما يمكنني فعله في الغد"
وكما قالت كارمن خرجت من بيتها في اليوم التالي وحيدة بلا رفقة وفي جعبتها سلة للتسوق، سارت في طرقات البلدة قاصدة السوق الذي يفترش فيه الباعة محاصيلهم في كل يوم أربعاء وبحثت عن عاملي آل دي لا سييرفا.
إذ كان العمدة مشرفا على السوق وله من البسطات الكثير فكان اغلب السوق يبيع محاصيل أراضيه.
بحثت كارمن عن رامون، ولولا العقاب الذي حل عليه مؤخرا لما وجدته هنا، فهو في العادة يقضي وقته في الأسطبل مع الخيول لكنه وبسبب طيشه ومشاكله التي لا تنتهي اجبره والده على النزول كل أربعاء والبيع إلى جوار الأهالي كمحاولة منه لإعادة تأديبه.
عثرت عليه كارمن وقد كان صاخبا كعادته يشاجر امرأة، كلما وزن لها شيئا تغير رأيها وتقرر شراء شيء آخر.
"اخبريني يا سنيورة هل انت اختبار ارسله ابي؟" سأل رامون المرأة العجوز ولما وقع بصره على كارمن قد قصدت بسطتهم، هو أشار لصبي جانبه ان يتعامل مع تلك العجوز فلقد مارس من الصبر كفايته لليوم.
اجتازت كارمن بعضا من الأهالي وريثما هي كانت تختار حبات الطماطم، ظهر لها رامون وقال أنها غير مرغوب فيها كنوع من الانتقام عن اهانتها له البارحة الا ان رغبته تلاشت لما وضعت يدها على كتفه وقالت "قابلني عند حديقة البيت المهجور"
ابتهج رامون والباعة من حوله وكزوه يغمزون له، استأذن رامون من العمال ثم لحق بها مغترا بنفسه لا يتوارى عن أحد، حتى وصل أخيرا إلى ذلك البيت المهجور القابع في اطراف البلدة وكارمن هناك كانت تهز قدمها كعادتها الغير صبورة، تدق بكعبها على الأرض تحتها.
"إن هذا المكان يعيد الذكريات حقا، فلم نجتمع فيه منذ أن تزوجتي ورحلتي يا سنيورة" غمز لها رامون واقترب منها ليستند على السور العتيق "لا بد أنكِ سعيدة بهديتي في يوم مولد اختكِ لذا لم تنتظري وأتيتي إلى بقدميك في اليوم الذي يليه على الفور"
"سعيدة؟ هل يبدوا وجهي وجه امرأة سعيدة؟"
"ما أدراني ما الفرق فأنا لم أرك سعيدة من قبل، لكن دعكِ من هذا فأنا سأحرص على جعل هذا الوجه المتحجر يبتسم دوما" امتدت اصابعه لوجنتها كي يقرصها وفي نيته اغاضتها فصفعت كارمن يده وقالت؛
"اسمع يا رامون بلا لف ودوران اذهب لوالدك وقل له انك غيرت رأيك بأمر الزواج"
"ماذا؟ مخبولة انتِ؟ ولما عساي أغير رأي، أنا راضي أشد الرضا"
"لكن ليلي ليست راضية ولا تتوقف عن البكاء منذ البارحة"
"وما شأن ليلي؟"
"كيف تقول ما شأنها وهي التي ستتورط بك!"
"لما عساها تتورط بي! انا لا افهم من حديثك شيئا يا كارمن"
"رامون، انت ستلغي زواجك من ليلي قبل أن يبدأ وهذا آخر كلام عندي، هل فهمت"
حدق رامون بها مطولا فإذا بشفتيه ترتسم في ابتسامة خبيثة، عاد بظهره للخلف وألقى بقدم فوق الأخرى مستمتعا بجلسته.
"وما بك انتِ من تنبحين بوجهي، هل تغارين لأني اخترت شقيقتك عوضا عنك؟"
"رامون كلمتي واحدة ولن اغيرها"
"اوه حقا؟ اذهبي واصرفي كلمتك هذه في مكان آخر فلا سلطة لكِ عليَ ولا على اختك، نحن عصفورا حب وقعا لبعضهما البعض ثم إن والدها قال كلمته ولم يعد لرأيك مكان"
تبسم رامون وهو يرى قبضتها قد اشتدت والغضب قد تجلى عليها إلا أنها تمالكت اعصابها وقالت بثبات.
"اسمعني، حكاية احبها تلك لن تنطلي علي، فأنا أعرف من أي طينةٍ أتيت، زواجك منها لن يتم وإن تم فلن يشرفني أبدا أن تكون فردا من اسرتنا"
تجاوزته وتعمدت ان تضرب كتفها بكتفه تذكره بمكانته ورامون حينها أدرك مدى مهارته التي طورت في ممارسة الصبر فهو لم يتجرأ ويرفع يده عليها.
حدق رامون في اثرها وغضب جلي اعتراه لدرجة انه ضرب السوق العتيق ثم ركله محطما إياه فكيف لها ان تهينه وتمسح به البلاط وهو ابن العمدة أي أن سلامة اسرتها مرهونة بكلمة منه..
فوالده العمدة يحمل لقب كونت وهذا اللقب سيرثه رامون قريبا

.jpg)

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة