الفصل الثاني عشر
أكمل ثلاثتهم الطريق على ظهور احصنتهم، متجهين نحو البلدة حيث ينتظر الفرسان الثلاثة وكل واحد منهم له هم يثقل كاهله، فإيفان أيقن ان موعد الفراق عن سيدته التي أسرت فؤاده يقترب، وإليا كان مهموما يرغب بإيجاد طريقة تنفعه للاستفادة من تلك السيدة، اما غالينا فقد كانت حائرة تفكر بالذي سيطلبه إيفان منها عندما يحين الوقت.
بحثهم عن الفرسان لم يكن بالشاق والفرسان في بادئ الأمر، لم يعجبوا بما أحضره إيفان إليهم بل وكاد أن يفقد رأسه الثمين لولا تدخل إليا وكشفه عن سر تلك السيدة، مقنعا إياهم أنها كنز الكنوز الذي يبحث عنه القيصر لدرجة انهم لم يملكوا سببا للرفض لما رأوا الذهب يفيض من يديها.
تهافتوا إليها متوسلين وجمعوا كل قطعة تسقط من يديها خشية التفريط بها، اشتروا من الصناديق الكثير راجين ان تملئها لهم وهكذا فعلت غالينا بسرور فكيف لها ان ترفض تقديس الناس لها.
أكرموها ولأجلها صنعوا موكبا، اشترا الفرسان لأنفسهم الكثير من الخدم ومن المواشي ما يجر صناديقهم المعبأة بالذهب، كانت غالينا كمصباح علاء الدين بالنسبة لهم كلما طلبوا وهبتهم المزيد، لكن ما عكر عليها صفو سعادتها هو ايفان الذي كان يقف دون حراك عندما تلقي مزيدا من الذهب على الأرض، لم يكن يركع على ركبتيه مقبلا قدميها كي يملئ جيوبه كما يفعل الجميع وهذا كان يغيظها أكثر وأكثر. يدفعها للتساءل عن هذا الشيء القيم الذي يغنيه عن ذهبها، لدرجة أنها تخيلت امتلاكه لكنز سري لا يعرف به أحد.
ازاحت غالينا قليلا من ستارة العربة الملكية والتي كان يجرها اثنا عشر فرسا أصيلا، وعلى جانبي العربة كان الفارسان فاسيلي ويعقوب اما في المقدمة كان القائد بيتروف يقود الموكب المحمل بالكنوز نحو اسوار العاصمة التي لاحت لهم في الأفق منبأ بانتهاء رحلة الشهر ونصف الشهر.
أما إليا فلقد كان يمتطي حصانه في مؤخرة الموكب يحرسُ صناديقه الثلاثة الممتلئة بالذهب خشية أن يعترض طريقهم قطاع طرق او الأسوء من ذلك، أن يسلبه القيصر ممتلكاته التي جناها فقد كان رجلا خسيسا لا يؤتمن على قرشٍ من نحاس.
"ايفان يا صاحبي أ ترى اسوار العاصمة، ها نحن نعود ورائحة الثراء تفوح منا"
"إننا كذلك بالفعل"
"كلما التفتُ إلى الطريق خلفي أتذكر حالنا التي كانت يرثى لها لما غادرنا العاصمة، سجينان وضيعان لا مكانه لهما لكن كل الشكر للقيصر وكلنا بمهمة جعلتنا اثرياء قومنا"
اومئ ايفان ولما تذكر اسرته تبسم قائلا؛ لم اشعر بالتعب يتملكني الا في هذه اللحظة، ها قد انتهى كل شيء على خير يا إليا.
"يا ايفان اسمعني، كن عاقلا وخذ من تلك المرأة خمس صناديق من الذهب ولنجمعها مع هدية القيصر كي نبني لأنفسنا قصرا لا نشقى فيه، هل سنظل كالحمقى ننام على اسرة قاسية بينما هم اسرتهم من ريش؟"
تنهد ايفان من ابن خالته وقال؛ حسنا، حسنا..
"انا اعرفُ هذه العبارة انت تلهيني كي تغير الموضوع"
"إليا انا متعب ولا يسعني سوى التفكير بعائلتي الان"
قال ايفان ثم القى نظرة فضولية الى عربة السيدة يود لو يلمحُ طيفها، لكن لم يسعه الوقت فقد فتحت اسوار العاصمة مستقبلة الموكب الكبير والرعية اجتمعوا متسائلين عن هوية القادم. أرسل القائد بيتروف برسولٍ يبلغ القيصر بقدوم كنزه ولما رآه القيصر، بملل ابلغ وزيره أن يجهز مساجينا جدد لإرسالهم ظنا ان ايفان وإليا تم سحقهما كالحشرات حالهما من حال الذين سبقوهما.
"سيدي العزيز، انه يقول ان القائد قد احضر الكنز الى جلالته" قال الوزير لكن القيصر لم يقتنع وحذره؛ لا تمازحني فانا لست بالمزاج، الا تراني أحل الشطرنج؟!
أشار القيصر إلى البيدق كي يتحرك خطوة إلى الامام وبيدقه كان عبارة عن خادم مسكين تم الباسه زي بيدق حاله كحال البقية الذين يقفون على مرمر اسود وابيض. تقدُم البيدق كان امر القيصر إلا أن حركته كانت خاطئة ففيل وزير المالية قد غلبه والخسارة عندهم كانت سهما يرشق الخادم فيسلبه حياته.
"كيف لك أن تفوز علي!" تملك القيصر الغضب وصاح بكبير الحرس، الذي قام بإخباره ان يتخذ هذه الخطوة الفاشلة وبحركة من اصبعه كاد أن يأمر بقطع عنقه لولا إلحاح الوزير بان يخرج ويرى الموكب.
"كفَ عن مزاحك فانا لا أحب المزاح خصوصا حول امر ذلك الكنز بعيد المنال!"
"يا سيدي من فضلك"
"اقطعوا لسان هذا الوزير، لا! بل اقطعوا رأسه المعطوب فهو لم يعد يفهم الأوامر!"
نهض القيصر من عرشه غاضبا فمزاجه تعكر ولم يعد مهتما بلعب الشطرنج بالأخص بعد تلك الضوضاء التي تأتي من الخارج، لذا اتجه نحو النافذة بينما يتم جر وزيره الى المقصلة ولما رأى موكبا كبيرا يسير في ارجاء العاصمة أشار للوزير بالحضور حالا "تعال إلى هنا بسرعة!"
لهث الوزير انفاس حريته وركض مستعجلا الى جوار القيصر "نعم سيدي"
"أخبرني ما هذا الموكب البهي"
"انه موكب جهزه القائد بيتروف لأجل حضرتك، فلقد عثر على الكنز"
"أي كنز؟"
"كنز ذلك القصر"
"قصر الدوق فيركوف؟"
"ان كنوز قصر الدوق فيركوف قد صادرها حضرتك الشهر الماضي، أما هذا فهو كنز القصر فوق السحب وأسفل القمر"
استغرق الامر القيصر عدة ثواني ليستوعب البشرى فكان رده ان جر لحية الوزير؛ لما لم تقل لي ذلك مسبقا!
"اعفُ عن تقصيري يا سيدي!"
"ليس لدي الوقت للتعامل معك، إني ذاهب لرؤية كنزي!"
تركه القيصر في حال سبيله وذهب متلهفا للقاء كنزه ولأول مرة منذ سنين طويلة، رفع القيصر قفطانه الأحمر وركض بكامل صحته في الممر نحو البوابة. لحق الوزراء به يبلغوه بالتريث قبل ان تنتكس صحته فهو سيدخل الثمانين من عمره هذا العام.
"اجلبوا لي صولجاني أيها الحمقى!"
صاح بهم ثم عاود الجري لكنه تذكر أمر تاجه فالتفت إليهم يبلغهم ان يجلبوه معهم وبعد خطوتين قطعت أنفاسه واتكئ على ركبيته من شدة الم ظهره "آه من هذا الألم"
وصل الوزراء اليه يحملون صولجانه وتاجه وريثما كانوا يلبسوه وشاحه قرب الوزير كوب الماء الى فم القيصر كي يتجرعه وبروية مسح على وجهه بالماء كي يستعيد حيويته.
"انا بخير، الان تنحوا عن طريقي"
أشار لهم بالوقوف خلفه ومع اقترابه من البوابة فتح الحراس بوابة القصر كاشفين عن الموكب البهي. ابتهج القيصر برؤيته موكبا يليق بكنزه العزيز ولما نزل القائد بيتروف من على ظهر حصانه مستعدا ليلقي خطابا حرك القيصر يده قائلا؛ دعك من الثرثرة وأريني كنزي الان
"حاضر سيدي" توجه بيتروف الى باب العربة ثم فتحها.
"لما الكنز في العربة ا هو صغير؟" سأل القيصر وزيره ليجيب الاخر بانه لا يعلم ولما مد القائد يده سأل القيصر؛ هل سيقفز الكنز الى يده؟
لكن كل توقعاته تحطمت، لما اخذت السيدة غالينا بيد القائد بيتروف ونزلت من العربة، وشاحها الثمين كان يغطي وجهها كعروس مليحة وابتسامتها تشق وجهها بفضول لرؤية زوجها المستقبلي في حين أن القيصر كان لا يزال يسأل ان كانت تمثالاً من الذهب قادرا على التحرك.
"سيدي القيصر، يسعدني ان أكون شاهدا على هذه اللحظة، فمنذ زمن نحن كنا نسمع عن قصة ظننا انها خيال لكن مع فطنة حضرتك واصرارك، تمكنا من رؤية الخيال يمسي حقيقة. يا سيدي المبجل أقدم لك عروسك المنتظرة، سيدة القصر فوق السحب وأسفل القمر!"
رفعت السيدة غالينا غطاء رأسها المطرز كاشفة عن حُسن وجهها الذي فُتن به جميع الحاضرون منهم القيصر نفسه، عاينت بعينيها القصر ذو البروج العالية ولم يكن بالشيء الذي يدعوا للفخر ثم بحثت عن القيصر لكنها لم تجد سوى رجالا قد كسى الشيب شعرهم ولم تكن لتصدق ان القيصر يقف في المنتصف لولا رؤيتها التاج على رأسه.
تجرعت حلقها الذي جف فجأة وأنفاسها كانت مذعورة فلم يخبرها أحد ان القيصر رجل له قدم في الأرض وقدم في القبر أما القيصر لازال لم يفهم بعد سبب احضارهم سيدة القصر عوضا عن الكنز وقال؛ إنها سيدة حسنة الوجه أجل لكن أين الكنز؟
تبادل الفرسان الثلاثة النظرات فيما بينهم، ليعاود بيتروف الإشارة للسيدة محركا شفتيه دون اصدار صوت انها هي الكنز لكن القيصر لم يفهم مجددا ورفع يده مناديا على الحرس؛ أيها الحراس، القوا القبض على هؤلاء النصابين وصادروا كل ما هو ثمين.
فزع الفرسان وسارع إليا بحماية صناديقه الثلاثة يترجاهم ألا يأخذوها منه، لكن الحراس قاموا بجره هو وممتلكاته حاله من حال الجميع، ناضل بيتروف في محاولاتٍ بائسة لإقناع القيصر أن يستمع إليهم ولما رأى أن قضبان السجن على بعد خطوة منه ترجى السيدة غالينا ان تخرج الذهب من يديها؛ أرجوكِ أريه ما انت قادرة على فعله! اصنعي له الذهب!
كانت السيدة مصدومة مما ترى فالخدم تم جرهم مع اصحابهم وصناديق الذهب افرغت على الأرض لكن ما هز قلبها هو قسوة حارس على إيفان إذ اسقطه من على فرسه ورأسه بات تحت قدم الحارس مثبتا.
"ابعدوا ايديكم عنه!" لم يستمع لها أحد ولم يعرها أي اهتمام فالقيصر هو سيدهم هنا وليست هي؛ خذوا تلك المرأة معهم وجردوها من حُليها وثيابها.
"لا!"
صاحت غالينا لما كاد حارس قبيح الوجه ان يجرها من يدها ويجردها من حُليها وثيابها الثمينة كما امر القيصر، لم يحتمل ايفان صوت صياح سيدته وأفلت من قبضتي الحارس مندفعا ببدنه على ذلك الحارس مبعدا إياه عن غالينا. رغم يدي ايفان المقيدة إلا أنه استقر واقفا بثبات امامها وغالينا لما رأت الحراس ينون شراَ بايفان صرخت بجزع؛ دعوه وخذوا الذهب! عندي.. عندي الكثير منه لكن دعوه ولا تمسوه بسوء!
بسطت كفي يديها لتنهمر العملات الذهبية والمجوهرات النفيسة، عندها فقط توقف الجميع من هول الصدمة والقيصر الذي ول مغادرا عاد ادراجه مستعجلا لما سمع صوت الكثير من العملات الذهبية؛ ما الذي تراه عيناي!
فرك القيصر عينيه مرارا وتكراراً وهو يرى الأرض تفيض بالذهب عند قدميها ودون شعور منه رفع قفطانه كاشفا عن ساقيه الهرمة مسرعا نحو الذهب وارتمى فوق تلة النقود يتمرغ كخنزير سمين.
لم يختلف الوزراء عن سيدهم، فلقد ركعوا امامها يجمعون ما استطاعوا من الذهب لدرجة أن أحدهم فتح فمه لتسقط العملات فيه، ولما رأى القيصر حالهم زجرهم؛ ابعدوا ايديكم القذرة عن ذهبي، من يلمسه فسوف اقطع يده بل واقتلع مقلتي عينيه!
رفع القيصر رأسه الى السيدة غالينا واحتضن ساقيها سعيدا بما جني "المزيد! اعطيني المزيد!" ضحك لدرجة ان سعادته المفرطة لم تناسب صحته المتدهروة، ليفيق على نفسه بعدها في غرفته وحوله جميع وزرائه ممتلئي الجيوب ومنهم من وضع النقود في فمه لعدم امتلاكه المزيد من المساحة.
"ما الذي اصابني؟" سأل القيصر بتعب وهو يفرك على صدره ليجيبه القائد بيتروف قائلا؛ لقد أفرط حضرتك بالسعادة يا سيدي.
"آه وكيف لا افرح بعد رؤيتي لحلم جميل مثل ذاك، لقد رأيت امرأة جميلة يخرج الذهب من يديها، لوهلة ظننت نفسي دخلت الجنة فقد كنت ملكا صالحا لرعيتي" ضحك على نفسه وتمنى ان لا تغار زوجته التي في قبرها عليه وتنقلب عظامها فيُلعن.
حمحم القائد بيتروف وانحنى ليكون على مقربة من أذنه ويهمس "سيدي ان ما رأيته لم يكن حلما"
"ماذا قلت؟!" دفع القيصر غطائه بقدمه وارتفع على قوائمه الأربعة كالكلب يلهث؛ ما بالك تقف عندك هنا، اجلب تلك المرأة واجعلها تصنع المزيد!
"سيدي من فضلك تريث واستمع لي، تلك المرأة تكون سيدة القصر الشهير وذلك الفلاح ايفان احتال عليها قائلا ان حضرتك تريد الزواج منها لذا كنت دوما ما ترسل الفرسان لإيجادها" أبلغه القائد بما حصل كي يتمكن القيصر من التصرف بحكمة فبعد الذي حصل السيدة غالينا غاضبة اشد الغضب عليهم.
ضحك القيصر بدناءة فما أجمل من الذهب؟ بالطبع امرأة جميلة تصنع الذهب! والافضل من هذا كله انها ستكون زوجته؛ لا بأس يا بيتروف إني راضي عن كذبة ذلك الفلاح وبالطبع سوف اتحمل العواقب واتزوج منها عن طيب خاطر، المسكينة جاءت كل هذا الطريق راغبة في الزواج مني ولن ادعها تشعر بخيبة الأمل.
"بالتأكيد يا جلالة القيصر" أيده جميع الوزراء إلا أن بيتروف كان يحمل اخبارا سيئة؛ سيدي المعضلة ليست هنا، بل المعضلة تكمن في ان السيدة لم تعجب بتصرف حضرتك وهي الان تريد المغادرة.
"لماذا، ما الذي فعلته لها؟" سأل القيصر مستنكرا رغبتها في الرحيل. تبادل الوزراء النظرات فيما بينهم وكل واحد كان يحث الآخر على اخباره بالحقيقة إلى أن وقع الاختيار على وزيره المقرب وتم رفسه نحو سرير القيصر.
لم يعرف الوزير كيف يقولها وبتردد اقترب من أذن سيده يبلغه كيف اهانها لما اراد القائها في السجن بعد تجريدها من ثيابها وحُليها؛ لكن لم افعل لها شيئا! ما بها تتصرفُ بحساسية حالها كحال زوجتي السابقة؟ إني لا افهم النساء ابدا!
"بعد إذن حضرتك، يجب عليك اتخاذ اجراء سريع لإقناعها بالبقاء هنا وعدم الرحيل" أصر بيتروف فهو لا يريد ان يخسر ثروة تسير على قدمين.
أومئ القيصر متفهما واشار لحارسه؛ اذهب وألقي بها في السجن كي لا تتمكن من الرحيل.
"سيدي!"
خرج صوت الوزير عاليا فجأة ليتدارك موقفه ويأخذ بيد القيصر يمسح عليها؛ سيدي ما رأي حضرتك لو تذهب لمراضاة السيدة وتلين قلبها، انها امرأة في النهاية وسترضى بكلمة حلوة من فم سعادتك.
"هل ترى ذلك؟" مشط القيصر لحيته مُفكرا بإقتراح الوزير.
"اجل يا سيدي، اقم وليمة على شرفها واذبح لها عشر بقرات سمان، فالنساء يحببن الطعام" اقترح عليه أحد الوزراء ليدلي الجميع برأيه في محاولة لمساعدة القيصر كي يُراضي زوجته المستقبلية.
"بل خذها في جولة في ارجاء القصر وأرها ثروات جلالتك، قدم لها من المجوهرات الكثير فالنساء تحب الحُلي"
"سيدي لا تستمع الى قول أحد منهم، لو كانوا جيدين لما انتهى الأمر بأغلبهم إما أرملا أو فاقدا لزوجته الهاربة. استمع إلي فأنا املك الفكرة لجعلها تقع في غرامك"
"قلها إذا فما الذي تنتظره!" ضرب القيصر كبير الحرس يحثه على الإفصاح عن خطته.
جر كبير الحرسِ أُذن القيصر وهمس له بخطته التي جعلت من اعينه تحلق في مقلتيه، فلقد مرت سنين طويلة منذ ان فعل القيصر هذه التمارين الرياضية بل وتحمس لما رأى يد كبير الحرس، يرسم منحنيا في الهواء ثم قام بما يشابه الصفعة والقيصر قفز في مكانه فزعا؛ أيها اللعوب الخبيث..
فطن الوزراء بخطة ذاك الخسيس وجره القائد بيتروف من قفطانه، قبل ان يضع تلك الفكرة الفاشلة في عقل سيدهم السميك فيفقدون السيدة غالينا الى الابد وقال مقترحا؛ يا سيدي إني أرى ان تأمر الخدم بإشعال فوانيس الحديقة وتأخذها في جولة تريها بحيرة البجع خاصتك ثم وفي الركن الملكي على ضوء الشموع تطلب منها ان تكون زوجة لحضرتك. بالطبع بعد أن تعتذر منها.
مشط القيصر لحيته الطويلة مفكرا باقتراح القائد بيتروف؛ لم اعهدك يا بيتروف فطينا بحال النساء. قل لي هل تزوجت بعد أم لا؟
"يا سيدي إن عملي الشاق يعيقني عن الزواج ولو تكرم السيد بتخفيف واجباتي فسوف اتزوج بأسرع وقت، صدقني إن ارتداء الزي العسكري والبقاء مع حفنة من الرجال طوال الوقت ليس بالشيء الممتع"
"بيتروف"
"أجل سيدي"
"ألا تظن أني اعطتيك من الصلاحيات الكثير؟ ما رأيك لو انحيك عن منصبك؟"
"لا شكرا يا سيدي إني احب منصبي واحب البقاء إلى جوار حضرتك"
"احسنت والآن اغلق فمك"
وبالفعل امر القيصر خدمه بتجهيز الحديقة وإقامة مائدة فيها من الطعام الحُلو ما يرضي ذوق غالينا، ثم أرسل رسولا الى غرفتها يبلغها بالمجيء.
لم توافق غالينا على طلب القيصر حبا به إنما رغبة في صفعه ثم المغادرة، اعانها الخدم على ارتداء ثوب ثمين ارسله القيصر و وضعوا لها حُليا جديدة واغلبها كانت مجوهرات مُصادرة من النبلاء.
فُتحت ابواب الحديقة الملكية بحضور غالينا والتي كان ذيل ثوبها الاحمر يتبعها في كل طرقة يطرقها كعبها الأبيض المرصع بالكرستال، عجزت أعين الخدم والحراس عن مفارقة هيئتها لحُسن وجهها وطيب رائحتها كذلك جمال قوامها الطويل.
فُتنوا بها والقيصر لم يختلف عنهم إلا بتفصيل بسيط، ألا وهو انه فُتن بثروتها اكثر من جمالها، فلو لم تكن تملك تلك الهبة لما التفت اليها من الاساس، فنوعه المفضل ليس النحيل بل احب النساء ضخام البنية، كوالدته المصونة وآه لو كانت بطنها تسبقها في خطواتها. دليل واضح يكشف عزها وثروتها.
بسط القيصر ذراعيه مستعدا للترحيب بها لكن وقبل ان ينطق تلقى صفعة حارة احرقت وجنته المتهدلة "هذا جزاء اهانتك لي امام عامة الناس!" ثم ختمتها بصفعة اخرى على الجانب الاخر "وهذه لتركِ اعاني من الجوع والبرد في تلك الرحلة المشؤمة!"
استدارت غالينا عائدة ادراجها، لا تدري بأمر الوزراء الذين كانوا يقفون خلف الشجيرات يشيرون لسيدهم ان يلحق بها وهو في نفسه اراد اصدار امر بشنقها على فعلتها المهينة، فجلده ملكي حاله كحال كل عضو في بدنه وجزاء من يمسه بسوء هو الموت.
كتم القيصر غيضه وسار خلفها مستعجلا؛ يا جميلة الجميلات انتظري واستمعي الي!
توقفت غالينا والقت اليه نظرة حاقدة؛ أي عذر هذا الذي سيشفع فعلتك بي، لقد اهنتني في العلن ورجالك كادوا يجردوني من ثيابي!
شعر القيصر بالارتباك وكرر ما اجبره الوزراء على حفظه؛ ما فعلته لم يكن سوى نتيجة لحزني الشديد، رجالي تأخروا وظننت أني فشلت ككل مرة ولما وقفتِ أمامي حسبت انها حيلة لفقها القائد بيتروف.
رمقته غالينا من طرف عينها وذراعاها معقودة امام صدرها بعدم رضى؛ لا تفطري قلبي أكثر من ذلك يا جميلة الجميلات، ألا يكفيك أن الشيب تخلل شعري من طول انتظارك، سامحيني فقد اعماني حزني... ما انا بفاعل ان كنتِ صعبة المنال.
تعابيرها الصارمة تبددت شيئا فشيئا وقالت مشتكية؛ لو كنت اتيت بنفسك لما حدث هذا! لا اصدق أنك ارسلت فلاحيين لإحضاري دون موكب ولا احتفال، اهذه هي قيمتي عندك؟ ما كان علي تصديق كلام ذلك الفلاح، أخبرني عن شوقك ورغبتك الشديدة برؤيتي ثم ماذا جنيت؟ سقطت في مجاري القصر الخاص بي ومكثت في كوخ قديم دون طعام يليق بمكانتي لعدة أيام... لقد سارت حشرة على جلدي بسببك!
سارع القيصر باخذ كلا يديها يترجاها؛ لكنِ مشتاق وهو صادق لم يكذبِ عليك ابدا. طوال سنين وانا اسعى خلفك حتى ظننتُ انه لم يعد لحضرتكِ وجود لكن انظري الى نفسك وانظري إلي، لازلت زهرة في ريعان شبابك في حين اني امسيت طاعنا في السن.
دحرجت غالينا عينيها لما تحدث عن العمر، لا يدري انها أكبر منه سنا فهي قد توقفت عن الحساب بعد عيد ميلادها الثلاثمائة تسعة وتسعين.
سحبت كلا يديها منه وفركت على ذراعها بتفكير "حسنا" اكتفت بقول ذلك غير راغبة بالمزيد من الثرثرة اما القيصر ظنها رضيت عنه لذا اخذها في جولة داخل حديقته البهية تحت اضواء الفوانيس.
ضاعت غالينا في افكارها تستذكر امر اخوتها الذين اخافوا واحرقوا كل رجل تشجع للوصول إليها حتى انقضى عليها من الوقت الكثير بين جدران ذلك القصر، لا يدري عنها احد ولم تعد مقصدا للملوك ولا للنبلاء لذا ومن شدة يأسها هي اكملت طريقها مع ايفان علها تتزوج، حتى لو لم تكن طريقة اخذه لها مشرفة.
حدقت غالينا بالقيصر دون الاهتمام بكلامه المعسول، لم يخبرها احد عن حاله الهرم ولا طباعه الدميمة إلا انها كانت ترى فيه فرصة، علها تتزوج وتكون اسرة كالذين سبقوها من اسلافها لذا دهست على قلبها رغبة في تحقيق مبتغاها فقد وصلت الى مرحلة خشيت بها الموت داخل جدران غرفتها وحيدة لا يدري عنها أحد.
"هل حضرتك موافقة؟"
افاقت غالينا على سؤاله وقالت مجبرة نفسها على التبسم "المعذرة؟"
"كنتُ اقول، ما رأي حضرتكِ عن الزواج"
"آه.. أجل، انا موافقة"
اكتفت بقول ذلك وطأطأت رأسها ليس خجلا من القيصر انما بسبب شعور اشبه بالوخز ينخر فؤادها، فزعت من القيصر يهم بتقبيلها بعد كثير من الثرثرة عن مدى سعادته بموافقتها فأوقفت حملته بيدها ليكتفي بتقبيل قفازها وقالت متهربة منه؛ يا حضرة القيصر لما لا ندع هذه الامور بعد زواجنا، ماذا سيقول الناس علينا؟
"أي رأي هذا الذي سيعلوا فوق رغبتي؟"
"يا حضرة القيصر ان كنت سترفضُ طلباتي من قبل زواجنا فأنا أخشى مما ستفعله معي بعده" فرت منه هاربة بخطوات متزنة وتركته خلفها ليلحق بها مستعجلا رغم صحته المتدهورة.
"لا يا زهرة حياتي بل سألبي رغباتك حتى لو لم تعجبني!"
"مم، حقا؟"
اكملت غالينا التجول في أرجاء الحديقة تلمس أزهارها التي لم تحرك داخلها ذرة احساس، فهي موقنة ان حديقتها أجمل منها ولما رأته بعيدا عنها بقليل استغلت الفرصة وفركت على جوهرة خاتمها لتتشكل لها هيئة ايفان، احست بانقباض في صدرها فهي لم تره بعد ان اخذها الخدم الى جناحها الخاص ودون قصد قاطعت حديث القيصر حول حفل الزفاف.
"يا حضرة القيصر، اخبرني ما انت فاعل بهما، أيفان وإليا؟"
استنكر القيصر سؤالها الذي ليس في محله وقال؛ عجبا، ما بالكِ تسألين عنهما؟
"كيف لا اسأل وآخر شيء رأيته من حضرتك أن امرت رجالك بجرهم كالماشية التي تساقُ الى الجزار، قال لي ذلك المدعو بإيفان أنك وعدته بإكرام عائلته إذا ما أفلح في العثور علي"
"آه.. اجل، اجل لقد وعدته بذلك"
" إذا اوفي بوعدك واظهر لي جانبك الكريم يا صاحب الجلالة"
تبسم القيصر وعدل قفطانه برضى، فلوهلة ظن ان هذه المرأة صعبة الطباع لكن ظهر أنها كالفرس المطيع وذات كلمات حلوة، قادرة على اذابة قلب رجل مثله. امر القيصر رجاله بإخراج ايفان وإليا من الزنزانة وتم جرهما الى الحديقة حيث ينتظرهما القيصر.
باللحظة التي لمحهما القيصر اصطنع وجها بشوشا وحياهما بود؛ ها هما البطلان اللذان جمعاني مع حبِ حياتي، جميلة الجميلات...
"ما هذه القيود حولهما؟"
لكن مسرحيته فسدت لما رأت غالينا الاصفاد تقيدهما واشار القيصر للحارس بفكِ وثاقهما على الفور؛ لا تبالي يا عزيزتي فهذه الأصفاد زينة اهبها لمن ارضى عنه.
حمحم القيصر يدعوا ان تصدق كذبته وأكمل؛ لقد ذكرت السيدة محاسنكما واصرت على ان اعطيكما هديتكما الان قبل اي شيء، لذا اظهرا لها امتنانكما واركعا.
ركع إليا على ركبتيه يغدقها بالشكر فلم يكن ليتحمل فكرة دخول السجن مجددا وايفان كذلك، نزل على ركبتيه راكعا وشكرها مُكرها؛ لك خالصُ شُكري يا صاحبة السعادة.
رفع ايفان بصره الى سيدته تقف بجوار زوجها المستقبلي وغالينا بدورها كانت تحدقُ به وطيف حزن مر على تعابيرها فها قد وصلا الى نهاية الطريق ورؤيته مجددا لن يكون خيارا متاحا لها؛ لا بأس..
"اجلبوا كل ما وعدتهما به فلقد نجحا وحققا ما لم يستطع أحد من قبلهما فعله" امر القيصر بتجهيز الهدايا وتم الباسهما قفطانا احمر من الحرير، جزمة وسرجا من الذهب يليق بمقام النبلاء، كذلك منحهما لقب دوق واعفاهما من الضرائب لمئة سنة قادمة منفذا جميع شروط ايفان الذي اشترا رفاهية عائلته لأجيال.
لم يتوقف إليا عن تقبيل يد القيصر ونزل يقبل جزمته الثمينة ممتناُ لعطاياه؛ حسنا والآن كف عن فعل ذلك... توقف.. قلت لك ابتعد عني ألا تفهم؟!
همس القيصر بحدة ورفس إليا كي يبتعد عنه ثم امرهما القيصر بالعودة الى الديار وقبل رحيلهما نادت غالينا على ايفان تستوقفه؛ ايها الفلاح، انتظر.
استنكر القيصر تصرف غالينا التي ذهبت الى ايفان ولم يتمكن من رؤية وجهها فقط ظهرها كان مواجها له؛ ألم يحن الوقت لتخبرني بما كتمته عني في تلك الليلة؟
تبسم إيفان بوهن ثم أشاح ببصره عنها، كانت غالينا تمارس كثيرا من الصبر مترقبة لكن لسانه قد خانه مجددا وبحسرة هز رأسه نافيا.
ذلك الفضول انطفئ فيها ولما رأته رافضا الحديث فنزعت غالينا خاتمها الذي اهداه إيفان لها تلك الليلة ودسته في يده مجبرة إياه على قبوله؛ سيدتي..
"خذه يا إيفان، ابقيه معك... ليس كهدية لمجهودك إنما هو هدية وداع كي لا تنساني. إنه ذا قيمة عندي فخذه"
اراد ايفان رفض هديتها لكنها اصرت وهمست بصوت مهزوز لا يسمعه سواهما؛ ابقه عندك، هذا طلبي الاخير فحققه ولا تعارضني... من فضلك.
ود ايفان لو يتحدث ويبوح لها عما يخالج صدره لكن الآوان قد فات بالفعل وباتت زوجة سيده، شعر حينها بندم شديد لن يكون قادرا على اجتيازه مهما فعل فعوضا عن استخلاصها لنفسه هو أعطاها لآخر، وكم كان يشاجر نفسه في كل ساعة، تارة يقترح على ذاته الهرب معها وتارة يهدد نفسه بعائلته.
"يا عزيزتي أما حان الوقت لنكمل رحلتنا؟ لازالت بحيرة البجع في انتظارنا"
"أمهلني من الوقت المزيد"
رأى إيفان القيصر يقف بكامل جبروته خلفها منتظرا والضيق بادي عليه، لذا خشية عليها من بطشه انحنى مستأذنا" نستمحيك عذرا سيدي المبجل" أومئ له القيصر وانسحب مع ابن خالته برفقة الحراس مغادرا القصر الملكي محملين بالهديا أجل، لكنه أيقن أن ما تركه خلفه كان أشد قيمة وغير قابل للاستبدال.
فقد تخلى عن قطعة من روحه مُكرها...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة