الفصل الرابع
"من أين لك بهذا السيف أيها السجين؟"
"لقد كان من بين اشيائي التي استرددتها البارحة يا سيدي"
لم يكن القائد متأكدا من وجود سيف لكن حقيقة انهما سيحتاجان لما يحميهما منعه عن الدخول في جدال.
"هذا الحمار لكما فاصعدا عليه ومدا لي ايديكما"
"حمار؟! سندخل الغابة بحمار؟!" تعجب إليا وكان رافضا لما قُدم إليه بشدة.
"كن شاكراً اني لم ارسلك للغابة على قدميك فالقيصر يرى ان الحمار لكثير عليكما"
لم يسمح لهما بالجدال اكثر وكما امرهما القائد دبرا امرهما بالحمار الواحد وتم عقد ايديهما بحبل متين لا يُقطع، يجرهما به القائد بيتروف ومعه فارسان مختلفان في الطول والبدن فاحدهما قصير وبدين اما الاخر طويل ونحيل. القصير كان يدعى فاسيلي والطويل كان معروفا باسم يعقوب. العجيب ان مزاجهما كان متناقضا ايضا فلفاسيلي خُلقٌ ضيق و ليعقوب بال طويل لا تُهز راحته بسهولة. حملوا على ظهور احصنتهم ما يكفيهم رحلتهم وحاوطوا السجينين من الاتجاهات الثلاثة، فالقائد بيتروف في الأمام على ظهر حصانه الأسود، اما يعقوب وفاسيلي فعلى الجانبين والسجينان قد تبادلا الادوار، كلما تعب احدهما من المشي صعد على ظهر الحمار والذي سمياه بالسيد حمار.
قطعوا في طريقهم السهول وفي بعض الأحيان توجب عليهم تسلق الجبال، واجهتهم أيام وليالي شديدة المطر لكن راحتهم كانت بفضل المؤنة التي زودهم القيصر بها ولم تنفذ إلا عندما وصلوا الى بلدة تبعد بضعة ايام عن الغابة ستراشني. كانت بلدة تعجُ بالحياة رغم صغرها وكثُر فيها التجار فلقد كانت موقفا يربط بين طرق كثيرة لذا وُجد فيها كثير من البضاعة.
"ارغب بغرفة فهل هناك مكان شاغر؟" سأل القائد بيتروف مالكة النزل والتي لم تعجب بهم حالما رأت الشعار الملكي على عباءتهم إلا ان حاجتها للمال كسرت عنقها وابلغتهم بوجود غرفة شاغرة تكفيهم لهذه الليلة وبالفعل افرغوا حقائبهم فيها وتركوا احصنتهم في الاسطبل.
"حضرة القائد إن المساء قد حل فلما لا ننزل الى حانة النزل و نحظى بعشاء؟"
"اني اوافق فاسيلي فجوعي اهلكني."
"سوف ننزل بالفعل لكن لأربط هذين بالسرير"
"انتظر، ألن تأخذونا معكم؟" تدخل إيفان مندهشا من قسوتهم التي كانت اشد من قسوة الأرض الباردة فلقد ربطهم بساق السرير يحرمهم من الاحساس براحة الفراش. فطن إليا ما تلمح به نظراتهم وامسك بذراع ايفان يبعده عن هؤلاء.
"لما عسانا نفعل ذلك؟ إن توفير الغذاء كان وعدا قطعه القيصر على نفسه ولست أنا"
"السنا زملاء في الرحلة؟ اعنني اننا ضيوف شرف عند القيصر في النهاية اليس كذلك فلما القسوة؟"
"زملاء رحلة هاه"
تبادل الفرسان النظرات فيما بينهم فهذان الابلهان يظنان نفسهما في مكانة عالية لمجرد ان القيصر طلبهما بالاسم، تبادل الفرسان الضحكات فيما بينهم قال فاسيلي ريثما يحاول كتم شخيره من الضحك.
"اجل يا زميل انكما رفاق رحلتنا ومن عساه ينكر ذلك لكن لاكن صريحا معك؛ اننا نخشى عليكما ان يمسكما سوء فمن المحتمل ان خبر ارسال القيصر لكما وصل الى مسامع الحاقدين واخشى وجود من يتربص بكما لذا الحل الامثل هو الابقاء عليكما هنا بأمان"
"ان فاسيلي محق فنحن بصفتنا الحراس علينا ضمان سلامتكما"
لم يصدق أي منهما ما قيل لهما تم ايصاد الباب عليهما. نزل الفرسان الى الحانة وقد كان حديثهم ممتلئا بالسخرية من هذين الاثنين واللذان لم يتجاوز عقلهما اللوزة، فلقد كانا مجرد قرويين و بحملهما لقب السجين باتا ادنى من مرتبة الفلاحين اما هناك في الأعلى حيث تركا ايفان و اليا، كانا ملتصقين ببعضهما كي لا يفترسهما البرد و يهلكهما.
"هذا ما يسمى بالفراش الوثير، ظننت اني سأشيب قبل رؤيته.. أمل أن يمدني اللهُ بعمرٍ لتجربتهِ"
"يا لكرم القيصر، ارانا شكل الاسرة المريحة بعد ان فلق ظهرنا مع السيد حمار. انه ملك حكيم حقا"
ضحك إليا فرغم حالهما البالي الا ان كل ما كانا يمران به افضل من ايام السجن، فمن ظلمته كانا عاجزين عن رؤية اصابعهما. طفولتهما التي انحصرت في زراعة الارض و تلقي المعاملة الرديئة ممن هم اعلى مكانا منهما اكسبتهما قدرة تحمل، فلم يعد يهز بدنهما اغلب الامور التي تعتبر مصيبة للأخرين مثل البرد و المطر وسوء المأكل وما جعلهما غريبين انهما عرفا كيف يضحكان انفسهما في اسوء الأحوال لذا كانا يبدوان كالأبلهين للناظر اليهما.
"هاي فانيا، اذا حصل و وجدنا ذلك الكنز المزعوم هلا اكرمتني بإعطائي السرج الذهبي؟"
"بالطبع سأعطيك إياه، هكذا ستكون انت والسيد حمار اغنى الأغنياء"
ضحك الاثنان دون توقف كما لو ان ما يقولانه هو اكثر النكات اضحاكا واكمل إيفان؛ ان السرج الذهبي لن يكتمل بدون الحذاء الغالي والقفطان الاحمر من الحرير يا إليا لذا كلهم لك.
"هل حقا ستهديني ما وعدك القيصر بإعطائه لك؟"
"بالطبع سأفعل ان كنت تريد، بالنهاية ما انا فاعل بكل تلك الهدايا بعد ارتدائها مرة او مرتين"
"هل ركل الحمار رأسك! كيف لك قول هذا عن كل تلك الهدايا الملكية؟ انها من القيصر اغنى الاغنياء لذا عليك حفظها في امان وإن لم تستطع انقلها لي كلها كي احفظها"
"ما الفلاح فاعل بكل ذلك الذهب؟ ان مزرعتنا لا تكفي لكثير من الابقار ان نويت شراء المزيد بالذهب"
"هل حقا تنوي العودة الى القرية بعد كل تلك الخيرات؟!"
"بالطبع اني انوي العودة، المدينة لم تعجبني كثيرا و لأصارحك فانا احب دجاجاتي"
تبسم ايفان يستذكر دجاجاته العزيزة كذلك بقرته المسنة والتي لم تعد تدر بالحليب البتة ثم انتقل ببصره الى اليا؛ اخبرني يا ارستقراطي زمانك ما انت فاعل بكل تلك الهدايا؟
"انا؟"
"بالطبع انت وهل يوجد غيرك"
"سأنتقل على الفور الى العاصمة وسأحرص على شراء ارض وخدم يليقون بدوق، سوف املئ مخازن طعامي بكل ما لذ وطاب والاهم من ذلك سأغتسل بالحليب وسأحضر امسيات النبلاء، من يدري علي أجد فتاة احلامي هناك. امرأة لها نسب مشرف وجمال لا يعلى عليه اتباها بها أمام الناس"
"ان احلامك مملة يا إليا"
"في حين ان احلامك يا ايفان رديئة، افق وافتح اذنيك فقريبا سنكون ندا لهؤلاء النبلاء والفرسان"
"لست مهتما بمنافستهم حتى، ان مطامعي تتمثل في ارضاء عائلتي... ألم ترى السرور باديا عليهم لما علموا بما وعدني القيصر! سأحبُ أن ترتدي أمي اثوابا جديدة، هي دوما ما تنظر بحزن لأثواب اخواتها الجديدة"
"يا ايفان دعك منهم، ان اخوتك كسالى، عاطلون ومنهم النشالون!"
"لكن لهم حق علي، اعني اننا عائلة وعلي اشباعهم وتوفير سقف لهم، لقد تزوج اخوتي وبات لهم ذرية كبيرة. هذا اقل ما يمكنني فعله لهم ليرضوا عني"
"هل تعني حادثة الطاحونة؟"
"ا يوجد غيرها؟"
تنهد إليا بقلة حيلة، فهو لا يعرف ما يضيف على ذلك الحادث الذي خسر فيه ايفان شقيقه الاكبر ميخائيل و اكتفى بالصمت الغير مريح بالنسبة لإيفان الذي استذكر كثيرا من لحظات تلك الحادثة ثم قال؛ إليا انا سأحرص على اعادتك سالما الى المنزل هذه المرة فلا تقلق.
"ماذا؟"
"ورطتك معي مرات كثيرة وهذه المرة لن يمسك سوء فانا اعدك"
"سمعتك تقول هذا مرات سابقة، ليست غلطتك بل غلطتي انا الذي اسير خلفك"
"انتما مستيقظان؟"
التفت كلاهما نحو مصدر الصوت، إذ نفذ يعقوب وعده لهما وجلب لهما بقايا الطعام وفي صباح اليوم التالي اكملوا طريق الخمسة ايام الى ان ظهرت غابة ستراشني في الافق ولم تكن تلك الغابة التي تشرح الصدر بل كانت مخيفة تفوح منها رائحة الموت.
"تقدما الى الداخل ايها السجينان"
افلت القائد الحبل وامرهما بالتقدم لكن الخوف انتاب إليا عندما لم يتقدم معهم الفرسان فتساءل؛ الن تأتوا معنا؟
"انه طريقكما وحدكما بدأ من هذه النقطة"
"ماذا تعني بأنه طريقنا وحدنا؟!" نزل إيفان من على ظهر الحمار واراد العودة ادراجه لكن القائد بيتروف رفع سيفه في وجههما يحذرهما من العودة؛ امرني القيصر بقتلكما إن قررتما الهرب لذا يستحسن بكما التقدم و إيجاد الكنز و اني اؤكد لكما ان الوحوش ستكون ارحم من سيفي.
"ان هذا لظلم!" صاح إليا لكن القائد بيتروف باغتهما ان لوح بسيفه امام وجههما وسارع إليا بجر إيفان قبل ان يفصل السيف وجهه الى نصفين.
"نفذا ما امرتما به ايها السجينان!"
"هل حملنا لقب مساجين يحلل لكم هذه المعاملة الدنيئة؟! اننا بشر نخاف على انفسنا كما تفعلون!"
"ان هذا ما ارسلتما لأجله ولا تملكان سوى التنفيذ و الموت في سبيل القيصر!" اشهر فاسيلي عن سيفه ولم يخشى نحر عنقيهما فهما كما قال مجرد سجينين لا فائدة منهما ولم يتم ارسالهما الا للحفاظ على حياة الفرسان.
كان جدالا سيخسر فيه إيفان وإليا حياتهم ولم يكن لهما سوى التقدم الى عمق الغابة حاملين شربة ماء وخبزا يابسا، منتظرين حلول الليل فبحسب حسابات بيتروف سيظهر البدر الليلة وسيستمر لثلاثة ليالي. يختفي في النهار ويظهر في الليل. سار الاثنان خائفين وكلما سمعا صوتا اهتزت عظامهما تحت جلدهما فزعة، فأقصى ما واجهه إيفان في حياته كان ذئبا ولم تكن مواجهة دموية فكلابه كانوا له بالمرصاد.
"إيفان اتسمع هذا الصوت؟"
"أيُ صوت؟"
اتاهما من خلفهما صوت تكسر الاغصان فسارع الاثنان بالركض خائفين دون ادراك هوية الذي يقترب و الذي كان ارنبا.
"إيفان لما لا تخبر ورقتك ان ترشدنا الى الطريق؟ ايضا الم تخبرني ان عمي اعطاك سيفا يحميك؟"
"لقد نسيتهما من شدة الخوف"
استخرج إيفان الورقة ونفخ عليها بعد ان طلب منها ايجاد القصر لهما، هكذا طارت الورقة امامهما بشكل سحري ولحقا بها مع حمارهما العزيز.
"ساعدوني! ليساعدني احد!"
وصل الى اذانهما صوت امرأة تستنجد، الأمر الذي جعل إيفان يتخلف عن لحاق قصاصة الورق والبحث عن المستغيث وإليا لم يكن مسرورا لذا جره من ذراعه يحثه على الإسراع قائلا؛ دعك ولنكمل، لابد انه فخ, الا تذكر قصص هذه الغابة؟ ثم اخبرني ما الذي تفعله امرأة في الغابة؟ لابد انه وحش سيأكلنا لقمة واحدة حالما يرانا!
"الا تسمع صوتها؟ ان مصيبتها تبدوا كبيرة. قد تكون مجبرة مثلنا و بإمكانها مرافقتنا في رحلتنا"
اخذ إيفان ذراعه لنفسه و اسرع بلحاق مصدر الصوت ولما اطل من بين الاشجار وجد انها غراب يستغيث، كانت تحلق و تقفز بجنون خائفة على ابنها الذي يرفرف بين اسنان ذئب اسود كبير على بدنه يوجد بقايا من ثياب الفرسان الصلبة.
"إيفان لنهرب قبل ان يأتي دورنا و ينقض علينا الذئب!"
امسك إليا بثياب إيفان يجره بعيدا فالذئب كبير ولن يفوت اكلهما لكن إيفان لم يستمع بل شفقته على تلك الأم كانت اشد لذا اشهر عن سيف جد جده وخرج من بين الاشجار يهدد الذئب؛ فك اسره ايها الذئب و الا قتلتك بضربة واحدة!
"أيها الأبلهُ يا إيفان ما بكَ تلقي نفسك إلى التهلكة!" تراجع إليا إلى الخلف مستعداً للهرب في أي لحظة. التفت الذئب برأسه الى ايفان وتشكلت ابتسامته كاشفا عن اسنانه الحادة "ماذا لدينا هنا، رجل فيه الكثير من اللحم" صوته كان غليظا يبث الرعب كما لو انه شيطان ولأجل ابتلاع إيفان بصق الغراب الصغير.
"هذا الذئب يتحدث! ايفان دعنا نهرب!" صاح اليا و لما رأى ان ايفان لا يستجيب من شدة خوفه خانته قدماه بالفرار بعيدا تاركا خلفه ابن خالته.
لاحظ الذئب السيف و سخر منه قائلا؛ هل تظن ان ما في يدك سيردعني؟ اني لست أي ذئب فأنا ادعى تشورني و وددتُ لو انك سمعت عني من الفرسان الذين قبلك لكن يؤسفني قول انهم كلهم في بطني.
ضحكته الشريرة كانت مدوية و حركته سريعة لكن سيف إيفان كان اشد منه بئسا وبضربة واحدة فصل رأسه عن بدنه. طار عقل إليا مما جرى و قال بذهول؛ منذ متى وانت تجيد القتال بالسيف؟!
"اني لا اجيد القتال بل السيف من يجيد ذلك!" حدق إيفان بالسيف العجيب وفطن اخيرا مقصد والده بان السيف سيحميه.
"ايها الشاب اني لشديدة الشكر! حررت ابني من بين اسنان تشورني الظالم. اخبرني كيف يمكنني ردُ جميلك؟ اطلب ما تريد فأنا ملكة قومي و سأكرمك كرما يليق بك" حطت على غصن شجرة قريب وبجانبها ابنها الأمير. لقد كانا غرابين اسودا الريش و في عنق كليهما قلادة من ذهب مرصعة بالألماس. اراد إليا طلب الكثير لما سمع بل وحث إيفان على طلب كنز فيه الكثير من الذهب لكن ايفان رفض فما هما فاعلين بالذهب داخل هذه الغابة المخيفة وقال إيفان؛ اودُ لو تخبريني عن مكان القصر فوق السحب واسفل القمر.
استغرقت الملكة في التفكير ثم هزت رأسها نافية؛ يؤسفني ابلاغك ان لا علم لي بمكانه لكن يمكنك سؤال زيلوني، انه شجرة ذو عمر طويل وبالتأكيد له علم بمكان القصر الذي تريده.
"اوه، شكرا اذا ايتها الملكة الغراب"
راقب الغراب الأمير خيبة الأمل التي حطت على إيفان وشاور والدته لتستوقفه قبل مغادرته؛ توقف ايها الشاب و لأعطيك اغلى ما املك جزاء لما فعلت.
رفرفت الملكة وحلقت من فوقه ليسقط من العدم تفاحة ذهبية في يده اليمنى؛ انها تفاحة تشبع صاحبها ولا تنتهي، انها كنز ارضي وسر بركتها فلا تفرط بها ايها الشاب الطيب.
هكذا اختفت الملكة و اختفى ابنها من بعدها ليتركا ايفان و إليا في الغابة وحدهما.
"ايفان، ارني ما جنيت!" استعار إليا التفاحة الذهبية واستنشق رائحتها، كم كانت حلوة لذا جرب اخذ قضمه و تعجب من لذتها ومن شبعه وتخمته كما لو انه تناول فخذ عجل كامل لوحده وقال؛ ايفان انها لذيذة بل و انظر اليها عادت سليمة كما لو اني لم اقضم منها شيئا!
امتدت يد ايفان هو الاخر ينوي اخذ قضمه لكن إليا سحب التفاحة خوفا من ان ينهيها إيفان و يتضور جوعا بسببه فالغابة مخيفة و مواردها محدودة؛ اسمع يا ايفان علينا الاقتصاد بما نملك لذا دعنا نتفق الا نأخذ منها قضمه حتى نتضور جوعا
اقتنع ايفان بحديث إليا فهو لا يعرف كم يوما قد تدوم رحلتهما ودون افراط في المناقشة عزم على اخذ التفاحة من إليا كي يضعها في جيبه ويكملا لكن إليا اصر على الاحتفاظ بها مقنعا اياه انه سيعتني بها.
"ايفان لما لا نعود الى القرية و نبيع هذه التفاحة؟ ستصنع لنا ثروة بالتأكيد عندما يعلم الناس انها هدية من ملكة غراب"
"كيف لنا العودة قبل ايجاد ذلك الكنز؟ ان القيصر لن يظهر الرحمة لا لنا و لا لعائلتنا، ايتها القصاصة جدي لي المدعو زيلوني عله ينفعنا"
طارت القصاصة متراقصة مع النسيم وحلقت امامهما تدلهما على ذلك الرجل وهما لحقا بها حتى توقفت الورقة عند رجل كهل يجلس على صخرة، يتوكأ على عصاة بالية كحاله ورداء من اوراق الشجر يكسوه، انتاب الرعب قلب إليا لما لمح قدمي الرجل والتي كانت خشبا نمت الطحالب عليه. رفع العجوز بصره نحوهما وقد كان كل جزء به يرتجف ويهتز -ماء، اكرماني ايها الشابان بشربة ماء.
دون تفكير بحث ايفان عن صرة الماء من جلد الماعز خاصته واراد اهدائها للعجوز لكن إليا امسك بيده و همس؛ لا تفعل هذا يا ايفان فلا نملك ما يروي عطشنا غيره ولسنا قادرين على مشاركته مع شخص ثالث ثم الا تراه مريبا؟ قبل يرتوي ثم يقتلنا, دعنا نقتله و نأخذ ما يملك.
"الا تراه عطشا يكاد يموت؟"
"فانيا انه ليس ادميا حتى!"
لم يستمع ايفان لتحذيرات إليا وذهب الى الكهل؛ ايها الجد، وددتُ لو اعطيك المزيد لكن هذا كل ما نملكه.
قدم إيفان الماء الى الرجل الذي شرب وشرب كل ما في الصرة دون التفكير بهما، الأمر الذي اثار غضب إليا و صاح به يخبره ان يتريث فهناك اخرون غيره. انهى العجوز كل ما امتلكاه من الماء وتبسم لما ارتوى اخيرا، انتعشت اوراقه مخضرة لما ارتدت اليه صحته وامتد طوله وكبر حجمه كذلك تلاشت تجاعيده ليعود رجلا يافعا طويلا كطول الاشجار. سعادته لم تكن توصف ونهض على قدميه وفي كل خطوة اهتزت الارض بإيفان وإليا اللذان خافا ان يتم الدهس عليهما "اين ذهبتما؟" بحث الشاب عنهما عند قدميه ثم التقطهما بيده؛ شكرا لكما على الماء فاني منذ مدة اجول دون ان اجد قطرة ماء والامطار لم تهطل بغزارة هذا الربيع.
لم يعرفا بما يجيبان فعقلهما قطع صلته بلسانهما من هول الصدمة فتعجب الشاب و قال -ما بكما؟ الم تريا شجرة من قبل؟
هز الاثنان رأسيهما بالنفي فهما لم يريا شجرة تتحرك ويمتد طولها هكذا من قبل فاكمل الشاب يسألهما ريثما يسير وفي كل خطوة ازداد طوله ليجتاز الاشجار ويلوح السماء التي توشك شمسها على الغروب؛ اخبراني ما الذي اتى بكما الى ستراشني؟ ان كنتما ضائعين فإني قادر على اعادتكما.
تمالك إليا صدمته وقال؛ اننا نبحث عن القصر فوق السُّحب وأسفل القمر.
"اجل علينا ايجاده عند ظهور البدر"
"مم، القصر فوق السحب و اسفل القمر، هذا عجيب فلم اسمع به قبلا ولم اره لكن قد تدلكما الرياح عليه فهي تجوب الغابة دوما"
"الرياح تدلنا؟!"
"بالطبع! الم تقابلا الرياح قبلا؟"
هز الاثنان رأسهما بالنفي فهما لم يقابلا رياحا كالتي وصفها واكمل؛ لكن عليكما توخي الحذر والحفاظ على ما تملكانه فالرياح شقية تحب العبث، ايضا ايها الشاب اني شاكر ممنون لك ولكرمك، خذ هذا الخاتم هدية مني واحتفظ به، لا تفرط به ولا تهده لأحد فهو كنز لا يملكه أي ملك.
سقط في يد إيفان خاتم من الذهب لم يشبه أي خاتم فلقد كان ثقيلا ذو لؤلؤة كبيرة على كل جانب ثلاثة احجار من الألماس؛ انه يريك ما تريد ان ترى.
تعجب ايفان من هذا الخاتم الثمين وشكر زيلوني على كرمه وإليا من عنده كان يراقب فحسب وقبضتاه مشدودة فلم يستطع رفع عينيه من على الخاتم، هز رأسه للجانبين واقنع نفسه انه قادر على محادثة ايفان لاحقا واستعارة الخاتم منه ثم سأل زيلوني عن امر اهم؛ ايها السيد لم تخبرنا بعد كيف سنقابل الرياح؟
لم يبقى سؤال إليا دون جواب فقد نفخ عليهما الشجرة زيلوني نفخة جعلتهما يطيران في الهواء وقبل ان يسقطا على الاشجار مرت بهم الرياح من تحتهما ومن فوقهما، ضربتهما من اليمين ومن الشمال اخذة اياهما كما طلب منهم السيد الشجرة. كان دوي صياحهما عاليا ارعب الطيور وبصعوبة حافظ ايفان على سيفه اذ قام بضمه الى صدره والريح تعصف به من كل جانب، كما امسك إليا قبعته خوفا ان تسرقها الرياح منه. نزلت بهم الرياح على مقربة من الارض والقتهما بعد ان عصفت بالأشجار واسقطت ثمارها عليهما. رفع ايفان رأسه بصعوبة من الريح العاصف التي تمر من فوقه و رأى مرورها بالغابة امامه اذ بعثرت الاغصان واوراق الشجر ثم غادرت اخذة معها صفيرها الذي يبث الرعب في القلب.
"كانت هذه اسوء رحلة اخوضها في حياتي!" بصق إليا ورقة شجر دخلت في فمه وفرت معها ذبابة قد دخلت عن طريق الخطأ. استخرج من شعره بعض الاغصان ولما التفت خلفه وجد السيد حمار معهما ينهق من شدة رعبه مما اصابه.
اما ايفان فلقد تنهد براحة كونه لم يضيع سيف والده لكن تذكره قصاصة الورق جعله يتلفت حوله حتى وجدها تطفو في الهواء متمايلة؛ يا قصاصة الورق تعالي قبل ان افقدك.
لم تطعه قصاصة الورق بل بقيت في نقطتها ولما رفع ايفان بصره الى الاعلى وجد السحب متجمعة لا تتحرك فادرك ان القصر سيظهر هنا.
"يا لنا من حمير بائسة، الغيوم قد قررت الظهور في ليلتنا الأولى!" تذمر إليا بعد انتظار دام طويلا فالسماء كانت ملبدة بالغيوم ولا اثر للبدر عند حلول الليل لكن نهيق السيد حمار جعله يشعر بالذنب فتأسف منه و اكمل قائلا؛ إيفان دعنا نهرب الآن فإن كانت الغابة مخيفة في وضح النهار فما بالك في الليل؟!
دار إليا ودار حول نفسه حتى قرر الهرب لكن إيفان امسك به يمنعه فالرياح دفعت الغيوم وكشفت عن البدر الذي تسلل نوره الى السحب وعلى وقع معزوفة لأوركسترا خيالية تدب الرعب في القلب تجلى القصر المهول شيئا فشيئا لهما. وقفا منذهلين، غير قادرين على الحراك من هول القصر الذي تحمله السُّحب ببروجه وقببه البهية. هز إليا رأسه للجانبين وفرك عينيه يحاول ايقاظ نفسه من هذا الحلم لا يصدق ان القصة حقيقية و ان كانت حقيقية فإذا كنوزها حقيقة ايضا.
"إليا هل ترى ما أراه؟"
"هل تقصد القصر فوق السُّحب و اسفل القمر؟"
اومئ إيفان ليجيبه إليا؛ إذا انا أرى ما ترى لكن اخبرني كيف سنصعد اليه وهو في السماء لا يصل اليه احدا! لستُ ارى حبلا ولا سُلما يوصلنا اليه! القيصر لم يخبرنا كيف نصعد اليه حتى!
"لا بد ان السبيل اليه مذكور في القصة، هل تذكرها؟"
حدق الاثنان ببعضهما يحاولان تذكر احداثها فلقد كانت قديمة من ايام طفولتهما، حك إليا شعره بعد ان انزل قبعته وبحث حوله حتى استذكر ان الرجل في القصة دخل في طريق تحت شجرة.
"لكن أي شجرة؟"
"ما بك تسألني؟ اسأل قصاصتك السحرية تلك علها تعرف الطريق"
"ايتها القصاصة اين هو السبيل لذلك القصر؟"
بروية فوق النسيم طارت القصاصة نحو اشجار متماثلة في الشكل ومن شجرة الى اخرى تنقلت حتى وصلت الى واحدة وانزلقت بين جذورها لتكشف عن حفرة مظلمة قد خرج منها صرصار.
"هل حقا سندخل هناك؟!"
"اخشى ذلك يا إليا والان اخبرني هل تنزل انت اولا ام انزل انا"
"أرى ان تنزل انت اولا يا إيفان وانا سأحمي ظهرك"
حث إليا إيفان على النزول أولا وبالفعل فعل، جثى إيفان على ركبتيه وبحذر زحف فوق بطنه ملقيا ساقيه اولا الى الحفرة ثم جسده لكن السيف اعاقه فقال؛ إليا امسك بالسيف ثم انزل خلفي.
ألقى إيفان بالسيف لإليا ثم اكمل دفع نفسه الى الاسفل حتى ألقى نفسه واستقرت قدماه على ارضية صلبة فنادى على إليا؛ هيا انزل!
هم إليا بالنزول لكن جذور الشجرة تشابكت تسد عليه الطريق ومن خلف إيفان كُشف له طريق وعلى طوله اشتعلت الفوانيس لتنيره.
"إيفان، لا يوجد سبيل لي للدخول!" ضرب إليا الجذور بسيفه لكنه كلما ضربها كلما تشابكت وتجمعت اكثر.
"إيفان! يا إيفان هل تسمعني؟!"
لاحظ إيفان ان الورقة تحثه على المضي في الطريق فصاح بعلو صوته يُسمٍع إليا؛ استمع إلي يا إليا، سأكمل الطريق واجلب الكنز بنفسي فلا اظن ان المعبر يستقبل الكثير.
"ماذا تعني بحديثك هذا؟! هل ستتخلى عني؟ ماذا سأفعل في الغابة وحدي، الوحوش ستأكلني ولن ترحمني!"
"السيف معك فلا تخاف! ابي قال انه سيحمي حامله!"
"إيفان انتظرني! كيف لسيف ان يحمي صاحبه يا إيفان؟! ... إيفان(!)"
"انتبه على نفسك يا إليا وحاول البقاء على قيد الحياة!"
"إيفان(!)"
لحقَ إيفان قصاصة الورق في النفق وسقفه امتدت فيه جذور الاشجار، تجولت الحشرات اسفل قدميه مصدرة صوت خشخشة لكنه استمر حتى وصل إلى بابٍ خشبي تفتت حالما تجرأ على لمسه.
كان ما بعد الباب مجرد ظلامٍ دامسٍ عجز فيه إيفان عن رؤية الخطوة التالية التي تنتظره، راقب إيفان تقدم القصاصة فألقى بقدمه وتبعها بالأخرى، لكن لم يُخيل له انه لن يلقى ارضا صلبة تحته وسقط في فوهة مظلمة احس ان لا نهاية لها. اصم إيفان اذنيه بصياحه لكن سقوطه المروع قوطع لما غط في مياه قاعها كان فيه نور، رأى إيفان قصاصة الورق تنزل الى القاع فسبح خلفها مستعجلا الهواء ولما مد اصابعه شعر بيده تلامس الهواء فأخرج رأسه و وجد ذاته يسبح داخل بئر.
لهث إيفان يستنجد الهواء ليعيد ملئ صدره وفزع من حقيقة انه داخل بئر. تملكه الخوف فهو يكره هذه الاماكن لكن الحبل الممتد دفعه ليجرب جره مرتين يتأكد من امانه ولما وجده لا يهتز استعان به متسلقا الى الأعلى رغبة في الخلاص فهناك كثير من القصص في طفولته عن اولاد صغار غرقوا في بئر.
جثى راكعا على ركبتيه بعد خروجه و ود لو يقبل الارض الحجرية والتي كانت حجارتها مرصوصة بعناية معماري ذو موهبة فذة. كان الطريق ممرا في نهايته بوابة تمكن من رؤية الحديقة خلفها بفضل قضبانها المتباعدة، فنهض يحث نفسه على اكمال الطريق، فإن كان القصر حقيقيا فالكنز حقيقي وما وعد القيصر بتنفيذه لم يعد مجرد حلم بل حقيقة توشك على التحقق.
وصل ايفان الى البوابة وبحث عما يعينه على فتحها فوجد ذراعا قرب الباب فقام بإنزالها، هكذا التفت البكرة تجر السلاسل لترتفع البوابة الى اعلى تفتح له الطريق الى الحديقة فدخلها وقلبه يهتز في صدره خشية ما قد يظهر له. تجول ايفان ببصره على الحديقة والتي كانت مذهبة للعقل في نظره لكنه استنكر كون الورود تلمع فلما نقر عليها وجدها زجاج.
"من هذا الذي كان له وقت لصناعة كل ذلك الزجاج ودسه في الارض!" لم يعلم ايفان قيمة هذه الحديقة فهو لم يكن ملما بالأحجار النفيسة لذا لم يتعرف على الياقوت ولا الزمرد بل ظنهم مجرد زجاج ملون؛ انها ليست بجميلة البتة، اي عاقل يستغني عن الورد بزجاج ملون!
اكمل السير خلف قصاصة الورق وتعجب من تلك النافورة الكبيرة في منتصف الحديقة والتي امتلكت تمثال امرأة وتسعة ابناء حولها يحملون جرات تتدفق منها المياه؛ اني اشعر بالعطش الشديد!
دس يده في الماء يرتشف منه واستنكر وجود زجاج يلمع داخل النافورة ايضا فوضع في ذهنه ان صاحب هذا القصر كان مخبولا. حالما فرغ إيفان اكمل السير ولم يضيع وقته بجمع الكنوز كما فعل اللذين اتوا من قبله لكن طريق الحديقة كان طويلا والقصاصة كانت تدله الى القصر وفي طريقه وصل الى انفه رائحة عفنة انتشرت في الهواء فجأة، جعلته متيقظ الحواس يتلفت حوله؛ ما مصدر تلك الرائحة؟
لم يدم الامر طويلا حتى وصل صوت مخيف الى اذنيه، فأيقن حينها انه لم يكن وحده وكالمرة السابقة تلفت حوله متحذراً ليعزم هذه المرة على الاسراع وبالفعل باشر بالركض، يستعجل الوصول الى القصر قاطعا شوطا طويلا قبل ان تظهر تلك الوحوش فلقد احس بها ايفان قبل قدومها، كونه معتاد على ابقاء حواسه يقظه منذ ايام رعيه للغنم، فالذئاب كان غدارة لا ترحم.
اهتزت الارض تحت إيفان بفضل قامتهم وزمجرتهم كادت ان تجبره على بصق قلبه من فمه لذا اسرع اكثر واكثر دون تضيع الوقت بالنظر خلفه ولا معرفة ما يلاحقه. قفز ايفان الى الممر المكشوف للحديقة وجرى فيه بحثا عن اقرب بوابة، من خلفه انيرت ظلمة الليل فجأة كما لو ان الصباح حل واندلعت نيران حارقة تسابقت لالتهامه.
اخذ ايفان قصاصة الورق في يده وعزم على الدخول عبر البوابة لكن حقيقة كونها موصده اجبرته على تغير مساره والبحث عن مدخل اخر؛ ليساعدني احد!
صاح ايفان مستنجدا والقصاصة اكملت الطيران امامه بحثا عن مدخل حتى لاح في الافق بوابة تُفتح لأجله وقبل ان تلتهٍمه موجة اللهب التي اندلعت من خلفه، ارتمى للداخل.
كاد ان يشعر إيفان بالسعادة لكن اهتزاز الارض وزمجرة الوحوش اعلمته انه لن يسلم منهم بسهولة ولما التفت خلفه فزع فزعا شديداً من عين الوحش الصفراء التي تبحث عنه عبر البوابة، جلده كان صلبا كالصخر واسنانه قاطعة لا ترحم، لما عثر عليه الوحش اتسعت مقلة عينه ثم تقلص بشكل حاد لينفث بعدها اللهب داخل القصر.
جرى ايفان متسلقا السلالم الضيقة الى الأعلى واوصد الباب خلفه لكن اعين الوحوش بحثت عنه عبر النوافذ وكلما عثر عليه احد نفخ لهيبه لتندفع النيران من ثمان نوافذ جاعلة من الممر فرنا لحرق إيفان الذي كلما ظن انه فر منهم نفثوا النار بعد تحطيمهم زجاج النوافذ.
تسابقت انفاس ايفان اللاهثة وعلا سعاله من الدخان الذي ملئ هواء القصر فكل ما خلفه ابتلعه اللهب وما امامه يتداعى ويتحطم بسبب ضربهم القوي على القصر. وصل ايفان الى باب خشبي ولم يقدر على ادارة مقبضة الحامي فدفعه بكتفه ثم قدمه لكن دون جدوى فالسعال اهلكه والارض به تهتز دون توقف وحجارة الجدران تتداعى فوق رأسه؛ ساعدوني! ليساعدني احد!
"ارجوكم"
تلاشى صوته شيئا فشيئا و جثا على ركبتيه لا يتوقف عن السعال لدرجة ان جبينه قابل الارض وجسده لم يعد قادرا على حمله. مع كل هواء كان يملئ به رئتيه اشتد سعاله حتى باتت الدنيا مشوشة في عينيه وما رآه كان اللهب يلتهم ما حوله، في هذه اللحظة ومن بين الجميع تذكر والديه وأحس بالحزن انه لن يعود لهما سالما محملا بثروات تفرحهم كما كان يحلم، بل وأحس بالذنب انه اصاب والده بخيبة امل جديدة لذا ما خرج من فمه كان اعتذارا صادقا لعدم كونه ابنا جيدا.
صرير الحديد تعالى جراء انفتاح الباب الذي كان يترجاه ان يفتح ومن خلفه ظهر شخص لم يستطع إيفان التفكير ليدرك هويته بل كل ما شعر به بعدها انه تم جره بعيدا عن اللهب.
"انا اسف ابي"
.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة