الفصل الخامس
"انا اسف ابي"
تمتم بها لإدراكه انه يموت في هذه اللحظة دون ارضاء والده واغمض عينيه مستسلما لكن الراحة تملكته فالرائحة الجميلة التي وصلت لأنفه جعلته يظن انه سيدخل الجنة.
فتح إيفان عينيه و وجد سماءً زرقاء فوق رأسه وما امامه كان حقل والده، احس بالسعادة ظنا انه عاد الى الديار لكن البئر الذي تشكل في الأفق اعاده الى وقت لطالما هرب منه، اقترب البئر منه وصاح إيفان فزعا لما ادرك أن الأرض تسوق به لذلك المكان، غطى وجهه بيديه خشية النظر إليه فصوت صراخ صبي ثقب أذنيه يليه وقع سقوطه في الماء ولما تمكن إيفان أخيرا من تحرير قدميه والفرار، وجد البئر ظهر أمامه ومن اعماقه تسللت همسات تنادي باسمه
"إيفان..." تجرع إيفان حلقه لما بات اسمه واضحا، كشف بترددٍ عن عينيه ليجد وجها منتفخاُ، ازرق اللون والمياه تقطر منه.
"إيفان!"
انتفض إيفان فجأة وشعرُ بدنه استقام من شدة الخوف الذي تملكه، انفاسه المتسارعة لم تتريث الا عندما ادرك انه مجرد كابوس، اتى اليه على هيئة جديدة يحرص على تذكيره بذنبه الذي اقترفه والذي جعل والده يسخطُ عليه.
دعك ايفان عينيه ولم يدرك حاله الغريب الا بعد مدة فغطاء نظيف يغطيه وفراش وفير يريح ظهره. حملق بالغرفة التي تواجد فيها والستائر المزينة بالخرز غطت الفراش من جوانبه الأربعة. ابعد الستارة واستنكر الثياب التي تكسوه فلم تكن ثيابه التي عهدها إنما أُخرى نظيفة وثمينة.
نزل إيفان من على الفراش وتعجب من أمرِ السجادة الملكية اسفل قدميه فمثلها لا يوجد إلا في قصور الملوك لدرجة أنهُ استحى الدهس عليها بقدميه؛ ما هذا المكان؟!
جدران الغرفة الأربعة كانت مزينة، فالأول عُلقَ عليه لوحةً كبيرة والثاني تستقرُ فيه مرأة بطول إيفان. وعند الثالث مائدة وضع فوقها وعاء، بجانبه جرة ماء من الذهب ليغسل وجهه ومنشفة، لكن عطش ايفان الشديد دفعه ليرتشف ما في الجرة ولما فرغ مسح فمه بكمه وذهب نحو الشرفة، حيث تلاعب النسيم بالستائر اخذا اياها في رقصة. اشاح ايفان الستائر عن طريقه ليتعجب من حديقة القصر بل ومن الغيوم التي تسبح على مقربة من ابراج القصر فلقد بُني عاليا فوق السحب وغابة ستراشني اسفله بدت ضئيلة الحجم ومن مكانه امكنه رؤية البلدات المجاورة والانهار التي تتدفق بينها.
"كيفَ وصلتُ إلى هنا؟ ألم تلتهمني النيران ليلة أمس؟ ثم أين ذهبت تلك الوحوش!"
حاول إيفان تذكر وجه من ساعده البارحة لكنه فشل وما اثار حيرته هو تخيله لرؤية وجه امرأة جميلة، ليلة امس وبينما كان يجبر نفسه على التذكر، وصل الى مسامعه صوت همس خلف باب غرفته عائدا لثلاثة اشخص فتقدم نحو الباب وانصت اليهم.
"لما علي انا ان احمل الحساء، انه ساخن"
"هذا لأني انا من يحمل الخبز"
"ان حمل الخبز ليس صعبا كحمل الحساء!"
"توقفا عن الجدال والا ستوقظانه، علينا وضع الطعام والخروج دون ايقاظه"
"انت قادر على التحدث و القاء الاوامر لأنك لا تحمل الحساء الساخن!"
"انا احمل صينية الطعام!"
"اخفض صوتك فسوف يستيقظ!"
"انه نائم براحة لأنه لا يحمل الحساء الساخن!"
"انت من قرر حمل الحساء! اخبرتك أن تضعه في الصينية"
ادار ايفان مقبض الباب ليكشف عن ثلاثة اقزام قصار القامة وقد كانوا حجارة تفشت الطحالب فيها. فزع الاثنان وصرخا لكن ثالثهما قاطعهما وقال؛ انتما تستطيعان الفزع والصراخ لأنكما لا تحملان الحساء الساخن!
"م.. من انتم؟!"
ارتبك الثلاثة وتبادلوا النظرات فيما بينهم لا يعرفون ان كان عليهم الاجابة عليه ام لا وقال اقصرهم الذي يحمل الخبز؛ الذين اتينا لك بالإفطار؟
"اننا نستمحيك عذرا لكن علينا تقديم الطعام والرحيل قبل ان ترانا، هذا ما قيل لنا لذا هلا تظاهرت بانك لم ترانا وتكمل نومك؟"
"اجل خذ حسائك فلقد تعبت من حمله و تظاهر انك لم ترنا"
"لما لا يجب ان اراكم؟"
"لان هذا ما قيل لنا"
"من قال لكم ذلك؟"
"كبير الطباخين"
"اهو صاحب القصر؟"
"لا لقد قيل له ان يقول لنا ان نحرص على عدم ايقاظك وان لا ترانا"
"من قال لكبير الطباخين ذلك؟"
"كبير الخدم"
"هل هو صاحب القصر؟"
"لا بل كبير الخدم قيل له ان يقول لكبير الطباخين ان يقول لنا ان نحرص على عدم ايقاظك وان لا ترانا"
"من قال لكبير الخدم ذلك؟"
"السيد غريغور"
"هل هو صاحب القصر؟"
-لا انه المسؤول عن إدارة القصر"
"حسنا لا تكملوا.. لما لا تخبروني فقط من هو صاحب القصر؟"
تبادل الثلاثة النظرات فيما بينهم غير متأكدين من الحديث الى هذا الغريب فاكمل إيفان قائلا؛ اودُ شكره على مساعدتي.
اشرقت وجوه الثلاثة و اومئوا برضى على مشاركته بعض المعلومات لذا قال الذي يحمل الخبز؛ إننا لا نعرف مكان مالكة القصر الآن لكن كبير الطباخين يعرف من كبير الخدم و الذي هو يعرف من السيد غريغور انها ستأتي للمرور عليك هذه الليلة.
"ستأتي؟ اذا هي امرأة؟"
"ما هي المرأة؟"
تبادل الثلاثة نظرات متسائلة ثم قالوا؛ لنضع لك الطعام ثم نغادر لدينا اعمال كثيرة و انت تظاهر انك لم ترنا و لم تسمع منا شيئا.
ولجوا الى الغرفة و وضعوا ما حضره كبير الطباخين لأجله وقبل ان يغادروا استوقفهم إيفان فهو لديه اسئلة لم تنتهي بعد؛ اخبروني كيف للقصر ان يكون موجودا والشمس قد اشرقت؟ الا يظهر فقط عند البدر المكتمل؟
"اننا هنا دوما و لم نختفي او نظهر لكن ما نعرفه ان عليك الحذر فقد اغضبتهم البارحة وبسببك علينا ترميم الدمار الذي حل في الجزء الجنوبي للقصر"
"اغضبتُ من؟"
"انت تسأل الكثير ولا ندري إن كان علينا الإجابة لكن لا عليكَ، انهم لا يخرجون في النهار على أي حال، لذلك احرص على البقاء في هذه الغرفة عند حلول الليل ولا تخرج منها كي لا تغضبهم"
"هل يمكنني التجول في النهار؟"
"لا نعلم ان كان بإمكانك انت تحديدا فعل ذلك لكننا نفعل وفي الليل نبقى داخل القصر"
"دعوني اسألكم سؤال اخر و اعدكم انه الاخير؛ متى اتيت الى هنا؟"
"يبدوا انه ضرب رأسه بقوة"
"ايها الشاب لقد اتيت الى هنا ليلة امس"
تنهد إيفان براحة فلقد مرت عليه ليلة واحدة فقط، أي انه لا يزال يملك ليلتين قبل ان اختفاء البدر ومن المحتمل ان يظل عالقا هنا حتى البدر القادم. القى نظرة الى الطعام الشهي والى الخدم المصنوعين من الحجارة قد غادروا وهم لازالوا يتجادلون؛ يا ترى ما حال إليا الان؟ لابد انه يتضور جوعا الآن
تناول إيفان القليل لكن قلقه على إليا جعل من شهيته محدودة وفي اليد الأخرى عليه ايجاد الكنز لذا وعلى الفور نهض و دون جلب الأنظار خرج من الغرفة، اراد اخبار قصاصة الورق ان تبحث له عن الكنز لكن اختفائها من جيوبه اصابه بخيبة الامل؛ كيف سأجده الآن، فكر يا إيفان ما نوع الكنز الذي يسعى اليه القيصر؟
ردد ما قاله الوزير لما وصف له الكنز وعزم على البحث عنه، صادف في طريقه خزفيات ثمينة ومزهريات مزينة بالمجوهرات لكنها لم تقنع إيفان بأنها كنز الكنوز. توقف امام اللوحات التي كان إطارها من ذهب لكنه لم يقنعه بانه الكنز الذي يبحث عنه القيصر، فتح ابوابا وعثر على غرف فيها تماثيل وثريا وبعد نزوله السلالم وتفحصه مسند الدرج الذي كان من الذهب وصل الى غرفة الطعام والتي كانت ادواتها من الذهب والفضة.
"لا يمكن ان يكون كنز الكنوز مجرد ملاعق و اشواك من ذهب و فضة!"
"هل حقا الذهب يعيد الشيخ شابا والشاب صبيا من شدة فرحته بما وجد؟"
اقتبس ايفان من حديث الوزير وأعاد الطبق اللامع في مكانه واكمل البحث عن ذلك الكنز الذي يهب المزيد من الثراء بمجرد اقتنائه، صنع تخيلات عنه وهو ربما انه صندوق كلما اغلقته عاود الامتلاء أو ربما فيه زمرد وياقوت ايضا كما وصف الكنز في القصة.
بحث إيفان و بحث حتى وصل الى شرفة تطل على الحديقة والشمس في الافق ظاهرة ريثما السحاب يمر فوق حديقة القصر. رفع إيفان اصابعه ليلمس السحابة التي تمر من فوق رأسه وقد كان ملمسها باردا، لطالما ظن ان السحاب قطن يطفوا في الهواء ولما مرت كالخيوط بين اصابعه، تعجب وسأل نفسه بجدية هذه المرة إن كان القمر جبنا كما يزعم عجوز قريتهم.
رأى خدم القصر يعملون في الحديقة يرممون ما حدث من خراب ليلة امس و من بين كل ما رآه تساءل عن هيئة مالكة القصر و لما عساها ستزوره في الليل فحسب.
"ايها الشاب!" التفت إيفان خلفه اثر نداء احد الخدم الذي جلبوا له الطعام سابقا؛ ايها الشاب، ان موعد عشاءك قد اتى وعليك تناوله، هذا ما امرت به السيدة.
"هل السيدة موجودة؟"
"بالطبع انها كذلك"
تلفت ايفان حوله بحثا عن اي اثر لها وسأله ان كانت تقف على مقربة من هنا فهو يريد مقابلتها؛ أين هي؟
"لست ادري ان كان يمكنني قول ذلك لكن ما اعرفه ان عليك تناول عشاءك، اتبعني"
لحق إيفان بالخادم الشجرة عائدا الى تلك الغرفة ليجد طعامه معد وقد كان فيه كمية لحم لم يخيل له ان يراها كلها مجتمعة في طبق واحد وقال؛ هل ستتناول السيدة عشاءها معي؟
صعق الخادم من قول إيفان و صاح به ينهره؛ كيف لك ان تقول ذلك! ان السيدة لها عشاء منفصل!
"اكل هذا لي وحدي؟! انه يكفي عائلة من عشرة افراد"
"الذي لن تنهيه سنأخذه، ليست بالمشكلة الكبيرة"
"أين سيذهب الباقي؟"
"من عساه يأكل خلفك؟"
"ان هذا الطعام بإمكانه اشباع الكثير من الجياع، انه كثير علي بل واسراف كذلك."
الحديث الذي دار بينهما لم يكن خاصا بل كان هناك فرد ثالث يستمع اليهما من بعيد ولما انتهت المحادثة و خرج الخادم انحنى لسيدته وابلغها بما جرى بينهما من حديث؛ انه يرى ما قدمتيه كثير و اوصاني ان اوزع الباقي على العاملين هنا، لا اظنه يدرك اننا لا نجوع أو نعطش إيضا كدت ان انسى، لقد كان مصرا يود رؤيتك وشكركِ على مساعدتكِ له سيدتي.
اومئت سيدة القصر متفهمة ورفعت ثوبها تكشف عن حذائها الاخضر بينما تنزل السلالم وقالت؛ سوف اعود منتصف الليل، الى حين ذلك الوقت امل انه غط في نوم عميق.
"حاضر سيدتي"
تناول إيفان القدر الذي اشبعه و احس بثقل يغزوا عينيه فهز رأسه وحادث نفسه؛ يجب علي البقاء مستيقظا، ستأتي سيدة القصر وبالتأكيد لها اجابات اسئلتي.
قاوم إيفان النوم وسار ذهابا وإيابا، غسل وجهه عدة مرات لكن السرير اغراه في النهاية وعزم ان يريح ظهره قليلا لكنه غط في نوم عميق رغما عنه. تفقده الخدم ولما تأكدوا من عدم استيقاظه ابلغوا سيدتهم التي ولجت الى غرفته، اقتربت من سريره واشاحت ستارة سريره لتكشف عن وجهه مستذكرة ليلة امس.
قدومه البارحة اثار الفوضى وقد ظنت ان الرجل الذي سبقه كان الأخير, راقبته عبر النوافذ منتظرة موت زائر جديد لكنها ولأول مرة رأت رجلا يدخل حديقتها ولا يقطف ازهارها او يجمع ما في نافورتها. كل الذين سبقوه كانوا يفقدون صوابهم نية ملئ جيوبهم وبالكاد يتخطون النافورة الا ان هذا الشاب تجاهل ثروات وعجائب جنتها كما لو انه يملك كنزا افضل من هذا.
حينها جذب اهتمامها وامعنت النظر تتساءل عن هويته هل هو فارس، دوق او ملك لكن هل لهؤلاء كنوز افضل من كنوزها؟ تمنت نجاته كي تساله ولما رأته يكاد يتم شويه وهو في مقتبل عمره امرت خدمها بفتح الباب سامحيين له بالدخول لكن للوحوش رأي آخر فلم يسمحوا له وعزموا على حرقه وخدمها لم يكونوا قادرين على مواجهة النار فما كان منها سوى الذهاب بنفسها واخراجه.
ذلك الشاب اجبرها على رفع ثوبها والركض مستعجلة كما لم تفعل قبلا، اجبرها على الانحناء وبذل مجهود في حين انها سيدة لم تنزل يدها في الماء البارد ابدا. جاورته في ليلته العصيبة تلك إذ لم يتوقف عن الفزع بسبب كوابيسه وذكره لأسماء كثيرة مستفزا فضولها نحوه اكثر و اكثر وخلال تجوله اليوم في قصرها راقبته من بعيد. ظنته سيسرق لكنه لم يفعل، ظنته سيأكل بشراهة تثير غثيانها لكنه لم يفعل بل واكل بالقدر الذي يكفيه فحسب.
"هل حاله جيد يا سيد غريغور؟"
"اجل سيدتي، انه بحال جيد والفضل يعود لكرمكِ عليه" ثم اكمل؛ سيدتي ما الذي ستفعلينه حيال رغبته الملحة بمقابلتكِ؟ هو يظن نفسه مدينا لك بشكر.
"إن شكره لي لن يكون شيئا مقابل ما فعلته لذا لا داعي لذلك، اخبره غدا اني اوصل تحياتي وامل انه مرتاح في مسكنه"
"هل ستمرين عليه غدا سيدتي؟"
سألها السيد غريغور و تبعها في حذائها؛ اجل سأتي لرؤيته في الليل بعد ان يغط في نوم عميق.
اراد سؤالها عما ان كانت تنوي طرده من قصرها لكن السماحية التي اظهرتها تدل على رغبتها في ابقائه و غريغور لم يكن ليملك كلمة فوق كلمة سيدته على اي حال. هكذا اغلق الخدم الباب خلف سيدتهم وبعد تلك الليلة الطويلة استيقظ ايفان على ضوء الشمس، ادرك حينها انه فوت لقاء السيدة واحس بخيبة امل ومثل البارحة بحث عن كنز الكنوز فهذا يومه الاخير قبل غياب البدر. بحث وبحث دون توقف حتى احس بيأس ثم عزم على إيجاد السيدة علها تساعده لكنه فشل في إيجادها وكم احس بخيبة الأمل لما رأى شمس يوم جديد تغرب.
نادى خادمان عليه يدعوانه للعودة فوجبة عشاءه جاهزة وبعد ان اغلقا عليه باب غرفته سمع حديثهما عن سيدتهما.
"آمل ان الطباخ وضع ما يكفي لجعله ينام"
"كيف لي ضمان شبعه وهو لا يأكل سوى القليل؟"
"لا تقلق ان الطباخ يضع ما يجعله ينام في شرابه لذا حتى لو تناول القليل سيغط في نوم عميق"
"حسنا اذا اني ذاهب، انتظره هنا حتى تمر عليه وتتأكد من حاله كي تبلغ السيدة"
ابعد ايفان اذنه عن الباب وانتقل بصره الى شراب العنب الذي قُدم اليه ليلة البارحة ايضا، فكر بما يمكنه فعله وافرغ الشراب في ابريق الماء الذي يغسل به وجهه كل صباح اما عن الطعام فلقد القى القدر الذي يأكله في دلو يلقى فيه الحطب المحترق وبعد تأكده من ان كل شيء يبدوا طبيعيا اطفئ الشموع وادعى النوم.
لم يمضي الكثير حتى دخل عليه الخادم واقترب منه يتفحصه ولما وجده نائما بعمق اخذ الصينية وخرج من غرفته يبلغهم بانه قد نام كما تريد السيدة.
اوصل الخدم الخبر إلى السيدة وبالفعل ذهبت الى غرفته كالليلتين الماضية كي تلقي عليه نظرة، فتح السيد غريغور الباب لأجلها وكعبها المرصع باللؤلؤ كان يطرق مع كل خطوة تخطوها.
ولجت الى الداخل ولما وجدت الظلام دامسا أمرت بإشعال شمعة وهكذا أشعل خادمها غريغور لأجلها شمعة كانت موضوعة قرب ابريق الماء؛ تفضلي سيدتي.
اغلق الخادم غريغور باب الغرفة خلفه تنفيذا لأمر سيدته والتي حملت الشمعة من مسندها الفضي متقدمة نحو ضيفها. اشاحت ستارة سريره المزينة بالخرز كي تتمكن من رؤية وجهه عن قرب كالليلتين الماضية.
قربت لهيب الشمعة كي تنير وجهه أكثر وتمعن النظر فيه متأملة ضيفها، ضيفها الذي اثار غيضها بعدم سقوطه في غرام كنوزها وتجاهل جنتها الثمينة, كم كرهته وبنفس الوقت احبت الاحتفاظ به.
تفاصيل وجهه حفظتها من اول ليلة له في قصرها، فقد امتلكت حينها الكثير من الوقت لمراقبته وبعفوية امتدت رؤوس اصابعها الى خصلة من خصل شعره، تمردت بالاستقرار على وجنته تعيدها الى مكانها لكن شمعتها ذرفت قطرة حامية سقطت على عنقه فاتسعت عينا ايفان وكُشفت مكيدته
فزعت سيدة القصر من قبضته التي حبست معصمها ودون سابق انذار اعتدل ايفان من استلقائه مجبرا اياها على التراجع الى الخلف وعن طريق الخطأ تعثرت لتسقط جالسة على السرير وقماش الستار الذي تمزق انسدل مغطيا وجهها.
"بئسا!.. اعذريني فلم اكن اقصد"
ازال ايفان قماش الستارة عن وجهها وحُبست انفاسه لدرجة انه نسي كيفية التنفس، فقد كانت امرأة شديدة الحُسن لكن الذي ادهشه التصاق قصاصة الورق خاصته بها ليدرك حينها حقيقة الجالسة امامه.
صفعة حارقة اخرجته من افكاره وبغيض ناضلت لتحرير معصمها؛ من تخال نفسك؟!
هربت من ناظره لتستتر خلف ستارة السرير في الجانب الاخر والتي كانت قماشا اخضر اللون يكاد يشفُ وجهها وتخلله خرز ابيض ببياض اللؤلؤ.
"سامحيني يا سيدة القصر" حاول ان يحفظ ابتسامته التي تكاد تتشكل من جمالها وهي تستتر خلف القماش وكم كانت امرأة حسناء مليحة الوجه، طويلة الظفيرة ولقد امتلكت صوتا يدغدغ اذنيه. احست التبسم في صوته فرمقته من زاوية عينها ليجمع ابتسامته كاملة ويكمل قائلا؛ اكرر اعتذاري لكن كنتُ اودُ لقائك ولم يكن هناك حل سوى ذلك، فحضرتك عزمت على وضع شيء في شرابي يجبرني على النوم.
احست السيدة بالخزي من نفسها لما سمعته يقول ذلك بلسانه وقالت؛ حسنا، يمكنكَ القول اننا تعادلنا في هذه النقطة وبما اننا تقابلنا وانت مستيقظ هذه المرة فأخبرني من تكون، ملك؟ امير؟ دوق أم فارس؟
"الذي اعرفه انني فلاح ابن فلاح ولا يوجد لدينا من لم يحرث الارض قبلا"
رف جفنا سيدة القصر مرات عدة لا تصدق ان الذي يقف في حضرتها مجرد فلاح في حين انها ظنته كل شيء سوى ذلك، اشارت له بان يكف عن الحديث لتسأله هي؛ ما الذي جلب فلاحا ابن فلاح الى قصري اذا؟
"في الحقيقة، القيصر من ارسلني اليك يا سيدتي العزيزة"
"لما عساه يرسلك الى؟"
ابتلع ايفان لسانه فلقد وصل الى طريق مسدود في مراوغته معها، فكر وفكر مليا حتى لمعت فكرة في رأسه تنجيه من بطش هذه المرأة ومن القيصر كذلك فقال؛ ان ما تطلبين معرفته لسر خطير امرني القيصر بعدم افشائه وبما اني هنا خجل من حضرتك فلا بأس ان تعلمي فنوايا القيصر تقصدك وحضرتك احق الناس ان تعلمي.
"تكلم ايها الفلاح ولا تطل الحديث"
"ان القيصر ارسلني طالبا يدكِ يا سيدتي"
اومئ إيفان راضيا، الأمر الذي جعل سيدة القصر تشعر بالدوار وبصرها في الفراغ شارد، فلم يسعها سوى ان تضع يدها على جبينها علها توقف الدوار؛ من فضلك اخبرني انها مزحة، قيصر يرسل فلاحا لطلبِ يدي؟ اين هو واين فرسانه فلا انا ولا اجدادي سمعنا بمثل هذا! قيصر يرسل فلاحا لطلب يدي انا؟! من كان يدري اني ساعيش حتى ارى تقلب الموازين! قيصر يختبأ خلف فلاحه!
تسابق الخدم بالتخفيف عنها والسيد غريغور كان يحرك لها منديله عل الهواء يخرجها من صدمتها.
"سيدتي الكريمة، إني اود شكركِ على مساعدتكِ فلقد انقذتني من الموت حرقا، ان حضرتك بمقام ملكة ولا اعلم ما يمكنني اهدائه لك لذا لكِ امتناني وشكري الصادق"
رفعت بصرها اليه تستمع الى شكره وتنهدت تهز رأسها؛ لما انا من بين جميع تعيسات الحظ وقع عليها الاختيار؟
"سيدتي انك مطمع لجميع الرجال وسيد ارضنا عزم على ايجادك وجعلك زوجته قبل الجميع فكلهم يتهافتون من بقاع الارض بحثا عنك وكثير منهم الذي لقي حتفه وكم انا ممتن اذ تمكنت من رؤيتكِ. ان وجودك في ارضنا لشرف لنا"
راقها ما سمعته من مديح وسارت خلف الستار تنظر اليه ونور الشمعة اضاء الظلمة؛ اكمل فاني استمع اليك.
"لدينا في ارضنا اسطورة تحكي عنك يا صاحبة الحُسن، حالما سمع القيصر بك ارسل كثيرا من فرسانه الذين لقوا حتفهم في طريقهم اليك"
"لقد تذكرتهم، بالكاد اجتازوا النافورة، فقدوا عقولهم حالما دخلوا جنتي... انتظر عندك واجبني ما بها كنوزي لم تسلبك بصرك؟"
"سيدتي اني ممتن لنجاتي فلو لم اغض بصري عن مقتنياتك لما وجدت كنز الكنوز الا وهي سيدة هذا القصر"
عاودت التحديق به و لم تستطع نفي تعجبها مما قاله وإيفان اكمل؛ لو قدمت لك كنوز الارض لما وفيت حقك و سيدي عنده هدية لطلب يدكِ
اشاحت سيدة القصر بصرها عنه الى زاوية اخرى لا تريد النظر اليه وهو يسمعها هذا الحديث، لم تستطع منع نفسها فمن شدة طول عمرها ظنت ان لا احد يستحقها والان هذا الفلاح يخبرها ان سيده يملك هدية لها، ويخبرها انها ستعجبها؛ ترى ما هذه الهدية التي يثق بها سيدك؟
"انه خاتم لا يملك مثله ملوك الارض، يري حضرتك ما تودين رؤيته"
حديثه كاد يفقدها صوابها جاعلا من قلبها يتخبط لذا نزعت قفازها الابيض كاشفة عن اصابعها المزينة بخواتم تذهب العقل ومدت يدها من خلف الستار كي يلبسها هدية سيده الثمينة. تقدم ايفان والبسها الخاتم بصعوبة فيده كانت ترتجف من شدة جمال اصابعها ولقد ادرك تميزها اكثر بما تضعه من زينة. لقد كانت امرأة مليحة من رأسها حتى اظفرها.
سحبت سيدة القصر يدها منه وتأملت هدية القيصر بافتتان فكما قال واكد انه خاتم لم ترى له مثيلا وان كان هذا هدية لطلب رضاها فما الذي قد يملكه في جعبته ذلك القيصر؛ انه جميل حقا كما زعمت ايها الفلاح
"اذا افترض انك قادمة يا سيدة القصر؟"
"لقد اساءت فهمي ايها الفلاح فانا لن اتي معك الى سيدك"
تبسمت اليه بوهن وبهدوء سارت نحو باب غرفته عازمة على الرحيل "سأتظاهر اني لم اسمع شيئا من الذي قلته، من فضلك اخلد الى النوم ايها الفلاح" خرجت من غرفته هذه المرة بلا رجعة واخذت وشاحها المطرز من خادمها تضعه على رأسها تخفي ضفيرتها وزينة شعرها التي كانت مكشوفة لتكتمل طلتها فتمسي سيدة ذات هيبة وجمال تخضع الناظر اليها.
"يا سيدة القصر انتظري!"
لحق بها إيفان الى خارج الغرفة فهذه هي ليلته الأخيرة وإذا لم يأخذها معه حياته وحياة صاحبه بل وعائلته ستكون في خطر لذا نادى عليها وركض خلفها ينزل السلام مستعجلا؛ من فضلك تريثي و أعيدي التفكير في الأمر.
"اعيد التفكير في ماذا؟ لن استزوج بقيصر جبان يرسل فلاحا ليطلب يدي، لو جلب لي كنوز العالم ولو ركع جاثيا يقبل قدمي ما انا براضية عليه"
نزلت الى الحديقة وسارت ظنا ان ايفان لن يستطيع اللحاق بها بعد الوحوش الضارية التي قابلها لكن صوت ندائه وهو يلحق بها اصابها بالصدمة وصاحت به تنهره؛ عد الى القصر حالا! لست مهتمة بالزواج بسيدك!
"سيدتي امسكي بيدي ولنعد حالا، فهناك في حديقتك وحوش تحول الاخضر الى اليابس! انى لك ان تلقي بنفسك الى التهلكة هكذا!
امسك بيدها يريد اعادتها وهي فقط تحملق به لا تصدق ما قاله وخوفه عليها اكثر من نفسه لكن الأوان قد فات فالوحوش السوداء ذات القرون المهولة خرجت ولم تكن مسرورة بما رأت. ارتفعت زمجرتهم عاليا في سماء الليل والتسعة بأظافرهم الحادة هموا بتقطيع إيفان لكن حجمه الضئيل اعانه على الفرار من بين اظافرهم ولم يدع يد سيدة القصر بل اخذها معه.
"لنعد الى القصر بسرعة!"
ابلغها اثناء جريه نحو القصر لكن ظل الذيل الكبير الذي كان سينزل عليهما افزعهما، ظنا انهما سيموتان لكنه نزل قربهما وهز ارضية القصر عليهما، فتحت سيدة القصر عينيها و وجدت ذراعي إيفان ملتفة حولها يخبأها منهم فلقد كان يفوقها طولا وحجما. لمح إيفان قصاصة الورق مستقرة على ثيابها من الخلف و دون تضيع الوقت نزعها واحتفظ بها بيده.
"سيدتي!"
نادى الخدم عليها من النوافذ خائفين فلوهلة ظنوا انها ستموت. افاقت من صدمتها على إيفان الذي سعى لإعادتها سالمة الى قصرها لكن الوحوش كانوا له بالمرصاد ولم يتهاونوا بعدم احراقهم، من كل جانب نفثوا لهيبهم وقلبوا ظلمة الليل الى نهار مضيء.
"يا قصاصة الورق اخرجينا من هنا!"
فرت قصاصة الورق من يده وطارت امامه، تدله الى مخرج من هذه المصيبة و وجهتها كانت الى مجرى الماء الذي يقطع الحديقة. سارعا بلحاق قصاصة الورق الى نهاية الحديقة والتي كان يوجد اسفلها حديقة تمتلك بحيرة وتلك اسفلها كان يوجد هناك حديقة ايضا؛ علينا القفز خلفها!
هزت سيدة القصر رأسها نافية؛ سيستمعون الي ويتوقفون!
"انهم وحوش فكيف لهم الاستماع لك!"
"انهم اخوتي!"
.png)
اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة