الفصل الرابع عشر
ذاهب لرؤية سيدتي غالينا!
فزع إليا وقال في محاولة لإبقائه؛ لكنها لم ترسل لك شيئا ولم ترغب برؤيتك بعد دعوة الزفاف!
"أيُ دعوة زفاف؟ لم أتلقا دعوة زفاف منها!"
أوقف إيفان الفرس متسائلا وإليا كان في موقف لا يُحسدُ عليه؛ ا..أنت تعلم الزفاف الملكي... هي أرسلت خادمة بحوزتها دعوة..
"أرسلت دعوة لي؟! كيف لك أن تُخفي عني شيئا مهما كهذا؟!"
"كيف اخبرك عن تلك الدعوة وانت قد قمت بخطبة الآنسة ميري!"
"زفاف السيدة غالينا كان قبل مغادرتي العاصمة!" احتد صوت إيفان يصيح بغضب على ابن خالته الذي تصرف من نفسه.
"ماذا كنتَ ستفعل؟! ستذهب وتفسدُ زفافها؟ تلك المرأة تعيش في السرايا مع زوجها القيصر الذي هو أفضل حالا مني ومنك فلما تحرمها من النعيم! أنا أعلم بأمر هوسك المفرط بها ولن ادع طيشك يسلبنا كل ما نملك! إن علم القيصر بفعلتك، فسيسلبنا لقبنا ومنزلنا ولن يعيدنا الى المزرعة بل الى السجن على الفور!"
احس إليا بالرضى لما رأى إيفان يعيد التفكير بما هو مقبل عليه وقال؛ فكر بنا يا إيفان ولا تفكر بها، إنها امرأة متزوجة قادرة على صنع الذهب أما نحن مُجردُ فلاحين بالكاد نجد قوت يومنا، لقد أهلكنا التعب وهذه أول مرة نذوق طعم السعادة فلا تحرمنا.
امسك إليا بلجام الفرس وجره للعودة الى المنزل وإيفان يفكر بذنبه العظيم الذي ارتكبه بحقها، في كفة تقفُ هي وفي الأُخرى عائلته بأكملها؛ أنا غيرُ قادر على الراحة يا إليا فلما لا تفهم؟ لم يعد للمال، للطعام وللنوم لذة. دعني أراها وإن كانت على ما يُرام اقسِمُ لك أني لن اجلب اسمها على لساني ولن افكر بها مجددا!
لم يتمكن إليا من الرد فإيفان قد خطف لجام الفرس وحثه على الجري مسرعا نحو سرايا القيصر. وقف إليا مكتوف اليدين يحدقُ بالتراب الذي خلفته حوافر الفرس ولما أيقن أن إيفان فقد قدرته على التفكير السوي هو عزم على إصلاح الأمور فلن يُضحي بما اكتنزه.
سبقت قصاصة الورق إيفان بالتحليق أمامه تريهِ الطريق ثم فجأة انعطفت يمينا والتصقت بظهر صبي نشال يهُم بسرقة صُرة نقود سيدة، علم إيفان هوية النشال إذ لم يكن سوى ابن أخيه؛ رومان! تعال إلى هنا يا رومان أنا عمك!
استنكرت السيدة هذا الصوت المنادي ولما استدارت رأت خلفها صبيا يكاد طوله يتعداها، ارتبك الصبي ثم بسط يده كاشفا عن صُرة النقود؛ لقد اسقطت حضرتكِ هذه الصُرة والآن اعذريني فعمي ينادي..
فر رومان هاربا قبل ان تشك به وذهب إلى عمه إيفان الذي اخذ بيده يعينه على امتطاء الفرس؛ ما بالك يا عمي قطعت علي قوت يومي!
زجره إيفان غاضبا وقال؛ فقط أخبرني لمن جلبتُ أنا كل تلك النقود! أليس لتكُف عن مد يدك إلى جيوب الناس.
تذمر رومان من توبيخ عمه؛ إني ممتن لك يا عمي أجل، لكن لا أحب أن آكل من مال غيري، إني شريف لا آكل إلا من عرقِ جبيني ثم أخبرني ألم تكن قاصدا دار خطيبتك هذه الليلة كما اخبرتني أمي قبل سفرها إلى البلدة.
"لقد فعلت وها أنا الآن قاصدٌ رؤية السيدة غالينا"
اتسعت عينا رومان من شدة صدمته ثم قال؛ زوجة القيصر بشحمها ولحمها؟! إذن ما قيل عنك كان صحيحا!
"ماذا؟ ماذا قيل عني يا ولد! تحدث بسرعة"
فطن رومان امر الكلمات التي هربت من فمه ولما رأى عمه مصرا قرر الإفصاح له عما يُقال عنه هامسا؛ أنكَ يا عمي قمت بالزنا مع زوجة القيصر...
جر إيفان لجام فرسه موقفا إياه ليقف الفرس على قامتيه الخلفيتين ثم يعاود النزول على الأربع، حدق إيفان بالصبي رومان وبهدوء سأله؛ من قال لكم ذلك؟
"عدني أنك لن تغضب ولن تخبر أحدا بما قلته لك"
"اعدك" قال إيفان بنفاذ صبر.
"انظر! هذه النبرة تعني أنك ستقول! لا يا عمي أنا لن أخاطر بعلاقاتي مع اقربائي فهم مصدر رزق جيد"
"تحدث يا رومان قبل أن أجعلك ترى أسنانك مفروشة على الأرض أمامك!"
صعق رومان من حديث عمه وقال بخوف "إنه إليا... لقد كان شاهدا على ما فعلتماه وأيضا قال أن زوجة القيصر افصحت عن طريق يوصلك إلى غرفتها في دعوة زفاف كتبتها خصيصا لك يا عمي"
احس رومان بالرعب فحاول تلطيف الجو عل عمه يهدأ "الصراحة انا لم اغضب عليك بل العكس تماما، كنت فخورا بعمي الذي وصل لتنورة ثوب زوجة القيصر"
ضحك رومان لكن لكمة عمه اخرسته فأعتذر نادما لما رأى الغضب يعتري إيفان الذي عاود حث فرسه على الجري حتى وصلا إلى سور القصر، فربط فرسه في مكان لن يعثر عليه الحراس وبحذر تسللا إلى الداخل يتبعان الطريق الذي تسلكه قصاصة الورق، والتي اوصلتهما الى المطبخ الملكي تحت الأرض، حيث كانت المصابيح مطفأة ولا يوجد أحد غيرهما.
"عمي هل انت غاضب علي؟" سأل رومان بندم لكن المقتنيات الثمينة انسته ندمه وأعادته لأصله فامتدت أصابعه الشقية إلى الملاعق والشُوك الفضية نية بيعها في السوق.
"صهه!"
"عمي أنا آسف فقط لا تحرمني من الميراث" تبع رومان رائحة لذيذة تفوح ولما كشف عن غطاء الصينية وجد أنه عشاء القيصر نفسه، فسرق الدجاجة كاملة وباشر بأكلها كما لو أنه لم يأكل دجاجة مشوية في حياته.
"رومان صهه!"
"يا عمي أرضى عني ولا تُخرجني من الوصية، كذلك بعد أن تموت قم بتمرير لقب الدوق إلي، أعدك أني سأكون رجلا صالحاً" قال وفمه ممتلئ باللحم وعندما وقعت عيناه على طبق فيه كعك قام بدسها بنهم في فمه حتى شعر بالاختناق فبحث عن الماء، وعن طريق الخطأ ارتطم بذراع مقلاة فسقطت ارضا محدثة ضجة عالية..
"من هناك؟!"ولج خادم من خدم المطبخ كان يمر على مقربة ولما لم يجد أحداً تمتم قائلا "إما أنه فأر وإما اكثرتُ من الشُربِ عن طريق الخطأ" مسح على وجهه وضحك برضى فالشراب الذي سرقه من مخزن القيصر لقوي ولذيذ.
انتظر الاثنان خروج الخادم وكاد ايفان ان ينهض من تحتِ الطاولة نية الذهاب للباب لكن قصاصة الورق غيرت وجهتها والتصقت ببوابة مصعد الطعام. زلق إيفان الباب الخشبي وكشف عن حُجرة المصعد فتدخل رومان قائلا؛ انت لا تفكر بالجلوس فيه أليس كذلك يا عمي؟
"إن هذه خطتي بالفعل" نزع إيفان غمد سيفه ليضمه ولما رأى رومان ما بحوزته تملكه الخوف، صعد إيفان داخل المصعد وضم ساقيه نحو صدره كي تسعهُ الحُجرة وقال؛ رومان قم بسحب الحبل حتى ترى الرقم تغير إلى الطابق الخامس وبعد أن اصل غادر القصر من الطريق الذي سلكناه وانتظر عودتي بجانب الفرس، إياك والمغادرة من دوني هل فهمت؟
أشار إيفان على المربع حيث تستدير البكرة لتظهر رقم الطوابق مع صعود المصعد؛ لكن يا عمي أخبرني كيف لكَ معرفة الطابق الخاص بجناحها؟ هل حقاً كنتَ تذهبُ إليها؟
"لا!" زفر إيفان بضيق و وجه سبابته نحو رومان محذراً إياه من أفكاره المنحرفةِ وقال؛ لقد كنتُ متواجداً في القصر لما تمَ إرسالها إلى جناحها ومن الخدمِ علمتُ في أي طابقٍ تسكن..
"إذا كنت تقول هذا فليكن ذلك إذا" حمحم رومان يخفي نظرته لعمه وهي اقتناعه التام بكونه عشيقها السري ثم قال؛ يا عمي هناكَ مُعضلة، إني لا أجيد الكتابة والقراءة.
"قم بالعدِ حتى الرقم خمسة إذا"
"لكن يا عمي..." لم يدع إيفان لرومان وقتا للتذمر بل زلق الباب الخشبي موصدا إياه ودق على الخشب ليفهم الآخر ويباشر بسحب الحبل بصعوبة فوزن عمه يكاد يفوق وزن ثورٍ مراهق؛ تباً لك يا عمي، ورطتني بهذه المصيبة فقط لترى عشيقتك... لو علمت جدتي لقامت بجلدي على مساعدتك.
سحب رومان وسحب لكن باب المطبخ فُتح فجأة فأفلت الحبل واختبأ تحت المائدة ولما رأى الحبل يطير عاود امسكاه والجلوس على طرفه محافظا على هدوئه.
"فاديم، يا فاديم أيٌها الشقي كُفَ عن هذا فأنا لازلتُ غاضبة عليك"
"لويزا يا حبيبتي اخبرتكِ أنَ ما رأيتيه لم يكن حقيقة!"
تهامس الاثنان ففاديم كان وزير المالية الجديد ولويزا هي خادمة من خادمات السيدة غالينا وقد كشفت حبيبها بالجُرم المشهود يختلسُ النظر للسيدة عبرَ قُفل الباب؛ ثم إني كنتُ اتفقدُ حال السيدة كما أمرني القيصر.
"تتفقدُ حالها عبر قُفل الباب وهي تنزع ثوبها؟! ثم هل تفقُد حال حرمِ القيصر من مهام وزير المالية؟!"
تذمر رومان من جدالهما العقيم الذي علا صوته فاستغل الفرصة وعاود سحب الخيط بروية وهدوء خشية أن يكشف أمره.
"اعترف يا فاديم، قل الحقيقة واعترف انك مهوس بجمال تلك المرأة كحال رجال هذا القصر!" ولما رأت لويزا عشيقها صامتا أيقنت أنه وقع مفتونا بجمال غالينا كذلك.
"فاديم أيها الخسيس! اقسم اني سأغرزُ المقصَ في عُنقِ تلك المرأة وافتكُ منها، كيف لها سرقةُ عزيزي! "
همت بالمغادرة لكن فاديم اوقفها معيدا إياها بين ذراعيه وقال؛ يا حبيبتي لويزا أنت تفوقينها جمالا وحُسنا، لو لم تكونِ كذلك لما خُنتُ زوجتي معكِ.
"أنت كاذب! لقد خُنتها معي بزعمكَ أنها قاسية لا تفهمُ بالحُبِ شيئاً"
"بل إني صادق يا حبيبتي"
امتدح فاديم جمال عشيقته والتي كانت تبلغُ من العمرِ ستينَ عاما ولويزا ذات القلبِ الهشِ وقعت أسيرة لسانه المعسول مجدداً وبعد بضع كلمات لم تعارض تقبيلهُ لها.
"اكرهكَ يا عمي، اكرهك على ما اوقعتني به من مُصيبة، سماع شجار جدتي وجدي أفضل من هذا كُله" تمتم رومان من الموقف الذي وقع فيه وتوقف عن سحبِ الحبل بعد أن وصل الى الرقم خمسة وبالفعل بعد مدة أحس بالمصعد بات أخف فأدرك أن عمه قد خرج بالفعل.
تلفتَ إيفان حوله خشية أن يكشفَ أمرهُ حارسٌ أو خادمة، لكن وبشكل مريب لم يتواجد أحدٌ في الجناح الخاص بالسيدة غالينا وكلما اقترب من غرفتها سمع صوت نحيبها يعلوا أكثر وأكثر.
خبأ إيفان غمد سيفه أسفل قفطانه وتعجب من باب غرفتها لا أحد يحرسهُ والمفتاح معلق في الحائط. أخذ إيفان المفتاح مديراً إياه في القفل وغالينا كانت قد توقفت عن ذرف الدموع لما سمعت خطا احدهم تقترب من غرفتها لذا التقطت شمعدانا وخلف الباب اختبأت نية ضرب القيصر انتقاما منه.
كانت تلك الثواني اشبه بالأبد خصوصا بعد أن سمعت صوت (تليك) لذا هي احكمت قبضتها على الشمعدان لكن كل شيء توقف لما سمعت صوت دقٍ على الباب؛ سيدتي، أتسمحين لي بالدخول؟
فتحت غالينا الباب على مصرعيه متعجبة من رؤيته؛ الفلاحُ إيفان!
"سيدتي العزيزة غالي.."
لم تدع غالينا له فرصة ليكمل جملته إلا وأهدته صفعة جعلت وجهه يستدير للجهة الأخرى وصاحت به؛ أيها الغشاش الخسيس! بأي وجه تدق باب غرفتي!
خشي إيفان قدوم احدهم وأشار لسيدته إلتزام الصمت لكن غضبها كان شديدا ولم تتوقف عن ضربه بكل ما اوتيت من قوة متخلية عن جميع أخلاقياتها؛ سيدتي سيأتي أحدٌ ويسمعنا! اضربيني بقدر ما ترغبين لكن ليس هنا!
امسك إيفان بمعصمها ولما همت بضربه بالشمعدان امسك يدها الأخرى، عندها قررت غالينا تسديد ضربة لرأسه بجبينها لكن المتضرر الوحيد كانت هي فلقد احست بصداع شديد يراودها؛ آه رأسي! أنا اكرهك يا أيها الفلاح أكرهك كرها شديداً!... يا ليتني تركتُ اخوتي يقومون بشويك!
تمتمت غالينا وكادت أن تسقط مغشيا عليها فحاوطها إيفان بكلا ذراعيه وأدخلها لداخل غرفتها مع التأكد من أغلاق الباب خلفهما "أنا آسفٌ يا سيدتي"
دفعته عنها مبعدةً إياه وقالت بغيض؛ لما انتَ آسفٌ وبأي وجهٍ أتيت؟ ألم تأخذ كل النقود وتفر إلى خطيبتك أيها الفلاح! كنتُ سأعفو عن حيلتك لكنك كاذب، قلت أن القيصر طيب.. انظر إلى حالي هل أبدوا لك زوجة رجلٍ طيب؟!
اغرقت عينا السيدة غالينا وانهارت بالبكاء مغطية وجهها بكلا يديها؛ لم يترُك لي شيء.. كلُ ما يجعلني أقوم به هو صنع المزيد والمزيد من الذهب ويا ليته يشبع! ما الذي فعلتهُ لك؟ ما الذي فعلته لأستحقَ ذلك! لقد كنتُ في قصري مرتاحة لا يدقُ بابي أحد، يا ليتني استمعتُ إلى اخوتي، لقد كانوا مُحقين فلا خير يأتي من البشر...
في هذه اللحظة أدرك إيفان سبب فقدانه لذة الأكل والشرب فكيف له أن يحضا بالراحة وقد قدم سيدته الغالية لرجلٍ جشعٍ مُقابل لقبٍ وبعض الرفاهية. ظن أن القيصر سيتبدلُ حاله لما يقعُ اسيرا في جمالِ السيدة غالينا ويكرمها اشد الكرم لذا وبندمٍ شديد تقدم إيفان نحوها لا يسعه التخفيف عنها؛ سيدتي غالينا...
"كيف أمكنك التخلي عني والرحيل هكذا" تمتمت وسط دموعها وخفضت بصرها نحوه؛ وبأي وجهٍ تعود إلي الآن؟
"سيدتي سامحي ذنبي القبيح... هناك بعض التفاصيل لم افصح لكِ عنها، فلقد كان القيصر يريد ما يسمى بكنز الكنوز في قصرك ولما علمتُ أن جلالتك هي الكنز الحقيقي في القصر قلتُ ما قلتهُ لكِ في تلكَ الليلة" قال إيفان وشعور الخزي يُراوده من الإعتراف لها بالحقيقة "اخذكِ للقيصر كان اهم شيء يدور في رأسي فمقابل احضارك كنت سأحظى بالرفاهية وسيتم اعفائي من الضرائب أنا وعائلتي لمئة عام"
احست غاليتا بالتشويش من شدة صدمتها وهزت رأسها للجانبين؛ انتظر على مهلك... ما قصدكَ بكنز؟ هل تعني كنزا بالمعنى الحرفي؟
كشف إيفان عن كف يده لترى قصاصة ورق تطفوا في الهواء "هي من اوصلتني لك، طلبت منها إيجاد الكنز وهي عثرت على حضرتك.. انظري، يا قصاصة الورق اعثري لي على كنز القصر فوق السُّحب وأسفل القمر"
التفت القصاصة حول نفسها وبتمايل حلقت نحو غالينا لتلتصق بثوبها. التقطت غالينا الورقة وحملقت بها، كان فاهها مفتوحا لا تستطيع اغلاقه ولما استوعبت ما اصابها من مصيبة هي حدقت بإيفان "يا لهول مصيبتي! كل ما حصل كان بسبب هذه الورقة التي التصقت بي؟"
"إذا كذبتك لم تكن حول هوية سيدك فحسب بل وحول رغبته بالزواج مني أيضا؟" لما رأت الندم باديا على وجهه هي صاحت به.
"لقد تركتُ اخوتي والقصر خلف ظهري!... هل تعلم لما رضيت بالزواج من ذلك القيصر رغم عدم قبولي به؟ لقد اردت تكوين عائلة! لقد اردتُ عائلة وأردت أولاداً يحيطون بي" تراجعت عنه ودموعها انسابت بقهر على طول وجنتيها.
"لقد احببتُ فكرة الزواج وأردته من كل قلبي..." جلست على طرف سريرها "كيف لك أن تفهم، فانت لم تعش وحيدا كل تلك السنين مثلي، لديك عائلة طبيعية قادرة على تكوين جملة مفيدة عكس اخوتي الغير قادرين على شيء سوى نفث اللهب.."
عاودت غالينا النحيب لكن هذه المرة ليس بسبب تصرفات القيصر الغير إنسانية إنما بسبب إيفان، فخيبة أملها منه كانت اشد ألما وقالت "انت لا تعلم معنى الخوف من الموت وحيدا"
زم إيفان شفتيه لا يدري أيشفق على نفسه أم عليها فهي خائفة من الموت وحيدة في حين أنه كان يواجه الجوع والبرد في سجن القيصر لمدة طويلة من الزمن وخلاصه كان بتلفيق تلك الكذبة.
"قل لي هل هناك كذبةٌ أخرى جعلتني اصدقها؟"
أومئ إيفان بحزن على حالها وهو بالفعل قرر الاعتراف بكل كذبة لفقها "الخاتم الذي أعطيته لكِ تلك الليلة كان خاتمي وليس القيصر"
حملقت به غالينا ومن بين دموعها هي ضحكت على حالها؛ رباه! لقد تم خداعي من قبلِ فلاح فقير.
"سيدتي لكِ ولائي وعُنقي، تركتُ عائلتي خلفَ ظهري هذه المرة وها أنا الآن جاثي على ركبتي أمامكِ أطلبُ عفوكِ.. أنتِ سيدتي الآن ولا سلطة تعلو فوق سُلطتك" قال إيفان آخذا بيديها وقرر طي تلك الصفحة ليبدأ معها بواحدة جديدة ذات مخاطرٍ مختلفة..
"ما أنا فاعلة بعنقك وانتَ مُجردُ فلاح؟ لست بفارس ولا بملك"
"سأهبكِ ما لم يهبكِ إياه الفارسُ ولا القيصر، سأهبُكِ حُريتكِ يا سيدتي"
رف جفنا غالينا وكلمة الحرية رنت داخل رأسها دون توقف فمسحت دموعها وسألته؛ كيف ستهبني حُريتي؟ لا تُمازحني ولا تكذب علي!
"ليست مزحة ولا كذبة. سوف أُعيدكِ إلى منزلك.. إلى جوار اخوتك"
"هل ستفعل حقا!" اختض قلبُ غالينا لما سمعت اسمَ المنزل لكن قلقها كان طاغيا؛ ماذا عن القيصر؟ لن يظهر لك الرحمة إذا كشفَ أمرك.
"لا تفكري به الآن" هز إيفان رأسه بلا بأس وقال "لتحمل سيدتي معها ما هي قادرةٌ على حملهِ، إن كان الحظُ حليفنا يُمكننا الوصول الى غابة ستراشني في غضون شهر"
لم تكن ساقا غالينا قادرة على الحراك من هول صدمتها، ظنته يخادعها لكن لما رأته ثابتا لا يتزحزح عن موقفه، اخذت بيده مستعينة ونهضت من على فراشها الذي كرهته ثم امعنت النظر بالغرفة حولها وقالت؛ لا يوجد ما يستحقُ اخذه.
"إذا لنتحرك" نفخ على قُصاصة الورقِ خاصته طالبا منها أن تُريه طريق الخروج ليتبعها وغالينا خلفه.
حدقت غالينا بالممر المفروش بالسجاد أسفل نعليها ثم بالفلاحِ إيفان وغمد سيفه تحت قفطانه، أقدامهما التي تعدوا وقلبها الذي يدقُ بسرعة ذكرها بتلك الليلة التي هربت بها من قصرها عن طريق الخطأ؛ يا أيها الفلاح إني اتبعكَ لكن هل لديكَ خُطة؟ إن طريق العودة لطويل.
"أملكُ فرسا ينتظرُنا خارج أسوار القصر يا سيدتي" أجابها إيفان ويده الأخرى كانت على مقرُبة من رسغ سيفه مستعدا لسحبهِ في أي لحظة "حالما نصلُ سأجلسكِ على ظهره بعدها لن ننظرَ خلفنا ابدا ًوإن كنتِ تسألين عن المأكل والمشرب فلا تقلقي لن أدعكِ تجوعين أو تشعرين بالبرد"
"لك.."
لم يدعها تكمل جملتها إذ أغلقَ إيفان فمها بيد وبيده الأخرى ضمها إليه متخفيا عن أنظار حارسٍ كان يعبرُ الممر يُصفر من شدة ملله. صوت خطواتهِ كان واضحا لأُذني غالينا التي وضعت كلتا يديها فوق يدِ إيفان على فمها، اغمضت عينيها في محاولة بائسة لتخفف عن نفسها ودون شعور منها ألقت بثقل ظهرها على صدره فلا ملاذَ لها في هذه اللحظة غيره.
"سيدتي" همسَ إيفان واذنا غالينا اختضت من صوته، جاعلة من الشعر خلف عنقها يقفُ لترد عليه بهمهمة فقال؛ لقد ذهب..
حرر بدنها لكن غالينا تذكرت الابتعاد عنه بعد بضع لحظات، حدقت به متعجبة من نيته في اعادتها إلى دارها ثم همست؛ إيفان إني شاكرة لما تفعل لكن وبعد رؤيتي للحارس تذكرتُ شيئا كنتُ غافلة عنه، ما الذي سيحُل بكَ بعد عودتي لقصري؟
"سأجدُ حلا حينها"
"أين ستعيش وأين ستأكل؟ كيف ستفرُ من طاغية مثله؟"
تجرع إيفان حلقه فهي تُفكرُ به في حين أنه قلقٌ على عائلته لكن غالينا امسكت بكلا ذراعيه لما راودها حلٌ للمصيبة وقالت "ابقا في القصر معي ولا تعد ابداً، في النهاية لستَ غريبا فقد مكثت فيه ثلاث ليالي" تخلل السرور صوت غالينا فهي قبل خروجها من قصرها كانت لها خططٌ حول إبقاء ايفان لديها، وحتى في طريقها الى زوجها القيصر كان في نيتها اصدار امرٍ ملكي باستخلاص إيفان لنفسها وجعلهِ خادمها الشخصي.
"لا تفكر كثيراً يا إيفان فها أنا أعفوا عن ذنبك وأنقذك من سيدك الظالم"
"لكن بأي صِفةٍ سأمكثُ في قصركِ يا سيدتي"
"بصفتكَ خادماً لي بالتأكيد، ماذا عساك تكون غير ذلك؟ أيضاً سأُقنعُ اخوتي بعدم سلخكَ حيا"
تبسم إيفان بوهن وفك يدها عن ذراعه ثم قال "علينا الخروج قبل أن يكشف أمرنا أحد يا سيدتي" اومئت غالينا برضى ولحقت به ريثما تحلمُ بتلك الأوقات عندما سيكون إيفان تحت عينيها فلا يغيبُ عنها ابداً.
تمكن إيفان من تهريب سيدته الى خارج اسوار القصر وخوفا عليها من أن يُكشفَ امرها ألبسها قفطانه الأخضر واخذها إلى حيثُ ترك فرسهُ وابن أخيه رومان الذي كاد أن يختم اظافره من كِثر قضمه لها.
"عمي؟ آه يا عمي ما بالكَ تأخرتَ هكذا؟! لا تقل لي أنك تناسيت وجودي ونزعت ثيابكَ في حضرة عشيقتك! أنا ابن اخيك وسلامتي أولى من نزواتك!" قال رومان بضيق واستنكر قدوم شخصٍ آخر مع عمه.
"احفظ لسانك يا رومان!" قال إيفان من بين أسنانه وغالينا من خلفه كشفت عن رأسها منزلة القفطان عن رأسها؛ من هذا يا إيفان، وما الذي يقوله؟
"إنهُ.. إنه ابن أخي واسمه رومان"
"أرى أن لكَ عائلة كبيرة لكن بماذا وصفني ذلك الصبي؟"
"لم يقل شيئا يا سيدتي أليسَ كذلك يا رومان؟"
عُقد لِسان رومان لما أدرك هوية تلك السيدة التي كان وصفُ جميلة قليلا بحقها؛ ا.. ا.. يا عمي انت لم تذكر لي ابدا هذا الجزء، قلت لي أنك ذاهبٌ لرؤيتها ليس ذاهبٌ لجلبها ثم يا عمي ألا تظن أن القيصر سيكون غاضبا إذا علم بخروج حرمه من القصر في ساعة كهذه؟
اهتزت قدما رومان لدرجة الرعاش من شدة خوفه وتلمس عنقه فأول ما سيتقصاه القيصر حينها ستكون رؤوسهم. بحلق بعمه يُعين عشيقته المزعومة على امتطاء الفرس وصعد خلفها؛ تعال يا رومان، امسك بيدي.
"قل لي هل لي خيارٌ آخر يا عمي؟" امسك رومان بيد عمه ليمتطي الفرس و بكلا ذراعيه تمسك بإيفان لما باشر الفرسُ بالجري في شوارعِ العاصمة تحت جُنحِ الليل.
"عمي هلا شاركتني افكارك فالخوفُ بدأ ينتابني!"
"اسمع يا رومان إني قاصدٌ غابة ستراشني وسأنزلك قريبا من منزلك كي تبلغ اخوتك"
"ما الذي قلته؟! يا عمي تعقل فلا اظنك اخذت إذن القيصر باصطحاب زوجته إلى ستراشني!"
"رومان لا تسأل عما لا يعنيك! أريدُ منك الذهاب الى المنزل بأسرع ما يمكن"
"كي نقوم بشنق أنفسنا قبل أن يعثر علينا القيصر؟َ!"
"لا! بل كي تأخذوا ما انتم قادرون على أخذه ومغادرة العاصمة، إن لي منزلا اشتريته في دوقية فولكوف كان سيكون لعروسي ميري لكن بما أنه لم يعد هناك عريس فلا وجود للعُرس"
"عمي تعقل ولا تدع الجنون يسيطرُ عليك، لما لا نعيد السيدة إلى قصرها ونعود نحن إلى منزلنا فأنا لا احبُ دوقية فولكوف!"
"هل برأيكَ يوجدُ طريق عودة الآن؟! هيا انزل ولا تتأخر!"
استوقف إيفان فرسه على مقربة من حدود العاصمة ليتمكن رومان من النزول ودون المزيد من اهدار الوقت حث إيفان فرسه على الجري ليتمكنا من تركِ العاصمة خلفهما في طريقهما نحو الأرياف.
"ألقيتَ بي خلفَ ظهرك لأجل امرأة تُدعى ميري!" قالت غالينا وذراعا إيفان تحيطها من الجانبين ممسكا بلجامِ الفرس "وهل مشكلتك مع الاسم؟!"
"بل المُشكلة أنك لازلت أبلها كما عهدتك، كان عليَ معرفة ذلك في اللحظة التي لم تفهم فيها قيمة حديقة قصري! ألقيتَ بي بكل بساطة أنا السيدة غالينا خلف ظهرك وذهبت الى تلك التي بالتأكيد لم تكن من دمٍ نبيل حتى! انتَ مُجردُ فلاح فما انا منتظرة؟! لن تفهم قيمة الكنز كما يفعل النبلاء"
"مع كامل احترامي لسيادتك لكن بماذا نفعتكِ حديقتك لما هم اخوتك بحرقنا احياء؟! ثم يا حضرة الملكة ذكريني هل وصل أيُ ملكٍ أو دوقٍ لحجرتك؟ كلهم تم حرقهم من قبلِ اخوتك الكرام ولم يتمكن نبيل من رؤية ظفركِ إلى أن اتى ذلك الفلاح الأبله والذي عن طريقِ الصُدفةِ انقذكِ من الموت حرقاً!"
"اخوتي كانوا غاضبين فلا تلمهم، الذنبُ ذنبك، انت الذي كذبتَ عليَ بحُجة الزواج! انتم البشر لا خير يأتي منكم!"
"بل الذنبُ ذنبكِ، انتِ التي صدقتِ فلاحا ابلهاً مِثلي!" اِحتد صوت إيفان واستوقف فرَسهُ فلا صوت غير معزوفة صراصير الحقل وصياحهما المتبادل أفسد سكون الليل "كيف تجرؤ!"
"بل انتِ كيف لكِ نعتي بذلك وحضرتكِ كنتِ تعيشين على ظهري طوال طريق الرحلة! بعد كل ما مررنا به وما نمرُ بهِ الآن لازلتُ مجردَ فلاحٍ ابلهٍ لا يفقهُ قيمة المجوهرات بالنسبة لك؟! أخبريني ما قيمة الذهب الذي تخرجيه من يديك لما حبسكِ القيصر؟! هل شفع قصرك وحديقتك لك عنده؟!"
"لا ترفع صوتكَ علي!"
"بل سأرفعُ صوتي لتفهمي أني لستُ خادما عندكِ ولا عندَ ذلك الملكِ العجوز! ستراشني تلك التي دخلتها واخوتك الوحوش الذين وقفت في وجههم.. ليس لجمال عينيك ولا لجمال عيني القيصر بل لأجل عائلتي!"
اشتدت قبضةُ غالينا واتخذت الحل الوحيد ألا وهو تقديم صفعة له كي تلقنهُ درسا لكن إيفان هذه المرة امسك بمعصمها وقال؛ حتى وجودي هنا معكِ ومخاطرتي بحياتي... ليس خوفا منكِ ولا طمعا بما لديكِ لكن حضرتكِ وبعد هذا كلهِ لازالت ترى أن أفضل مكان يليق بي هو أن أكون خادما تحت قدميك؟
استذكرت غالينا حديثها السابق معه ثم سألته؛ ماذا اردت أن تكون.. ماذا عساك تكون غير ذلك؟
“اردت أن أكون زو..."
"أجل يا عزيزي إيفان لما لا تخبرنا"

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة