illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القصر فوق السُّحب وأسفل القمر الفصل الأخير




الفصل الأخير

"أجل يا عزيزي إيفان لما لا تخبرنا"

فزع الاثنان لما ظهر القيصر من خلفهم على ظهر حصانه يصفق لهما على خيبتهما وحوله ستة من الفُرسان على رأسهم بيتروف لكن صدمة إيفان بالقيصر لم تكن كصدمته برؤية ابن خالته إليا يقف بينهم "لو لم اركما بأم عيني لما صدقتُ أيا من الهُراء الذي تفوه به هذا الوضيع"

لم يبدوا على إليا أي ندم فبعد أن أخذ إيفان فرسه إلى القصر هو أمر السائق بالذهاب إلى هناك أيضا نية رؤية القيصر وإبلاغه بما يدور خلف ظهره من مكائد. في البادئ لم يُصدقه القيصر لكن الخادمة التي أتت إليه مسرعة تبلغه باختفاء السيدة، جعله يأمر بحضور بيتروف مع أفضل رجاله وعلى ظهور احصنتهم سارعوا بلحاقهم.

"هل أيقنت يا سيدي المُبجل أني لم أكن كاذبا، هذا هو المعتوه الذي أُغرم بزوجة حضرتك. حذرناه مراراً وتكراراً لدرجة أن خالتي قررت تزويجه لكن نفسهُ بقيت مُعلقة بِحَرَمِ جلالتك حتى سولت لهُ نفسه اختطافها"

همهم القيصر وأشار للقائد بيتروف بتسليم صُرة من النقود لإليا مُقابل ولائه؛ سيدي لم افعلها لأجل المال لكن..

"اغلق فمك فقد سئمت! انقلع من أمامي قبل أن أغير رأي، فالشياطين ترقصُ فوق رأسي الآن!"

"حاضر يا سيدي، كل الشُكر لجلالتك!" هم إليا بتقبيل يدِ القيصر لكنه دفعه عنه متقززا ومسح يده بقفطانه الثمين "يا زوجتي العزيزة هل هذا هو جزائي؟ عفوتُ عنكِ وقتلتُ كل من تكلم عنك بسوء في القصر وها انتِ الآن تدُسين رأسي بالتُراب مجدداً! عودي معي وسأتغاضى عن خطاياكِ مع هذا الفلاح، أيضا بإمكاني ابقائهُ على قيد الحياة لتري مدى مرحمتي"

"لن أفعل! لن أعود لسجنك!"

"افتحي عينيكِ وافيقي إنه يخدعكِ لأجل الذهب الذي تخرجيه من يديك! تعالي الآن ولا تدعيني اسخط عليك فقد تحملتكِ بما فيه الكفاية!"

"إيفان؟" حدقت غالينا بالقيصر ثم بإيفان الذي كان غضبهُ مُنصبا على ابن خالته، ايقنت أنه سيسلمها للقيصر كي يفر بجلده وينقذ عائلته لكن إيفان كسرَ توقعاتها لما ضرب على لجام الفرس يُجبره على العدو.

"اجلبوا لي زوجتي!"

امتطى الفرسان احصنتهم على رأسهم القائد بيتروف في ملاحقة ذلك الفلاح "سيدتي خُذي!" سلم إيفان لجام الفرس لغالينا كي يشهر عن سيفه السحري الذي تصدى لضربات السيوف بمهارة لكن الستة الذين حاوطوه من كل جانب كانوا اشد قوة من السحر ومنهم من استهدف ساقي الفرسِ خاصته لذا وكمحاولة بائسة لإنقاذِ السيدة غالينا من شرهم صاح بها قائلا؛ سيدتي لا تدعي الفرس يتوقف ابداً!

"إيفان ما انت فاعل؟!"

"سيدتي فقط استمري ولا تنظري إلى الخلف!" التقط إيفان قصاصة ورقه التي تُحلقُ أمامه؛ خذي السيدة إلى قصرها!

"إيف.." لم يدعها تكمل فلسان غالينا انعقد لما رأته يلقي بنفسه من على الفرسِ مشهرا عن سيفه بوجهِ الفرسان والفارس الذي كاد أن يلحق بغالينا جرح ساقي حصانه مسقطاً إياه أرضا.

نزل الفرسان من على احصنتهم واحتدت السيوف فيما بينها ودويُ صليلها كان مؤلما على فؤادِ غالينا الذي ظل معلقا خلفها مع إيفان.

"يا هذا تعال إلى هنا" أخذ القيصر بيد إليا ودس في يده خاتمه الكبير؛ إن كنتَ تريدُه فقم بتأديب قريبك وصدقني سوف أهبكَ المزيد" همس القيصرُ في أذن إليا الذي رحب بالهدية وذهب إلى حيث إيفان تصادم سيفه السحري بسيف بيتروف.

"آه!" صاح بيتروف لما جرح إيفان ذراعه وتراجع إلى الخلف بخطوات وهنة فهذا السيف قوي دقيق الحركة كما لو كان سيف فارس بارع.

انتشل إليا سيفا احد الفرسان وباغت إيفان من خلف ظهره لكن سيف إيفان اتلف مجبراً إيفان على الاستدارة وصد ضربته؛ إليا؟! هل وصل بك الأمر لرفع السيف بوجهي!

"قل لي سببا واحدا يجعلني أقلعُ عن ذلك!"

"لقد اعطيتك كل شيء وعدتك واكثر ثم تبيعني ببضع عملات ذهبية أ هذا ثمني عندك!"

"أن أرفع بوجهك السيفُ أهون عليَ من أن يُقطع رأسي ورأس اقربائنا في المشنقة بسببك!"

ثار غضبُ إيفان مستذكرا ما فعله به إليا وبعد أن تغاضى عن الشائعات المشينة التي نشرها عنه وعن سيدته العفيفة ها هو يرفع السيف مقابل الذهب؛ اسمعني يا إليا إما أن تُلقي بسيفك الآن وإما أن انسى نسبك ورابطة الدم بيننا.

"قل لي وهل نفعتني رابطة الدم التي بيننا؟ كل تارة اجد نفسي متورطا معك في مصيبة، لقد دخلت السجن وأرسلتُ إلى ستراشني بسببك!"

تصادم السيفان بينهما والحقدُ أعمى بصيرتهما، أما غالينا فعيناها لم تكن ترى سوى قصاصة الورقِ التي تطير أمامها، لكنها وبشكل مفاجئ توقفت في مكانها ومن سُرعة الفرس التصقت الورقة بوجه غالينا.

استوقفت غالينا فرسها ولما استدارت خلفها وجدت ثياب إيفان مغطاة بدم ليس دمه، لقد ظن إيفان أن الغلبة له لما أسقط ابن خالته جريحا لكن فارسا هم به من الخلف وغرز سيفه في بطن إيفان.

"لا(!)"

صياحُ غالينا اشتد لكنه لم يبقي إيفان واقفا وجثا على ركبتيه بوهن في ثواني معدودة وسيفه غُرس في التُرابِ علهُ يثبتُ صاحبه، ولما انتزع الفارس سيفهُ وتطايرت قطرات الدم أمام عيني غالينا وقع إيفان ملقيا على الأرض وسيفه لحقَ به في سقوطه.

تركت غالينا اللجام ونزلت من على ظهر الفرس تاركة إياهُ عائدة أدراجها نحو إيفان ونادت؛ إيفان! هيا انهض كي نغادر!

كان بدنه يرتجفُ ولما حول بصرهُ نحوها قام الفارس بالدهس على جُرحه "لا(!) ابعد قدمك القذرة عنه!"

صاحت به ولما سمعت صراخه المتألم هي دفعت الفارس عنه لكن البقية قاموا بجرها عنه واخذها إلى القيصر. قدماها لم تكن ملكا لها من شدة صدمتها حتى أنها تعثرت بخطواتها وسقطت على الأرض جاثية أمام قدمي القيصر

"هل رأيتِ ماذا فعلتي يا زوجتي العزيزة؟ لو لم تهربي معه لما تلطخت سيوف رجالي بدمه" قال وأشار لفارسه بحاجبه كي يعاود ضرب إيفان ضربة أقوى من التي سبقتها وصياحه الذي اشتد جعل سائر بدنها ينتفض.

"خذها معك ولنذهب" سبقهم القيصر بامتطاء فرسه ورجاله الجرحى صعدوا على ظهور احصنتهم بوهن ثم أشار لذلك الفارس أن يُنهي على إيفان "اقطع عنقه وألقي به على قارعة الطريق كي يكون عبرة لمن يعتبر"

"دعوه وشأنه" تمتمت غالينا وطنين حادٌ اخترقَ اذنيها أصابها بالدوار، كم كانت أنفاسها متثاقلة وحرارة شديدة أحرقت حلقها ثم فجأة احست بالسواد يبتلعها لتغيب عن الواقع بثواني معدودة.

"بئساً، ما خطبُ السيدة؟!" صعق الحارس من رؤيتها جاثية على ركبتيها دون حراك وعيانها الشاخصة مثبتة نحو الأفق "هل يُخيل لي أم أن لون عيناها بات اسودا؟"

"ضعوها على ظهر الحصان واربطوها كي لا تفر هاربة ف.." لم يكمل القيصر حديثته بسبب رجاله الذين فروا هاربين على ظهور احصنتهم وظلٌ مهول الحجم امتد مُغطيا القيصر كاملا؛ ما بكم لما انتم تفرون هاربي... آآه!

"خذوني معكم! لا تدعوني هنا وحيداً" تمسك إليا بلجام فارس لكنه دفعه بقدمه كي يفلته فيفر هاربا ولم يكن بيد إليا سوى الركض.

صرخ القيصر برعب من الوحشِ المهول الذي امتد طوله وامتد مُغطيا البدر، رأسهُ كان ضخما تخرجُ منه ستُ قرونٍ مُلتوية وأظافره الحادة كالرماح سحقَ بها الأرض تحته. كشف الوحشُ عن عينيه بلون الكهرمان وسواد حراشفه كان يبرقُ باللون الأحمر تحت نور القمر.

خرخرة شيطانية انبعثت من حنجرته ولما أبصر ما حوله وما حلَ به زأر مُفسدا سكون الليل لدرجة أن المُدن المُجاورة اشعلت مصابيحها ظنا أن السماء ستُنزل غضبها.

صاح الوحش وصاح ينفثُ لهيبه عاليا راغبا بإشعال ما حوله عل قلبهُ المُشتعل يخمد لكن غضبه تفاقم أكثر لما سمع القيصر يستنجدُ بحراسهِ كي يحموه من شرِ ذلك الوحش.

اهتزت حراشفُ الوحش متضاربة ببعضها لما رأى القيصر يفر هاربا وكشف عن أسنان شرسة قادرة على قضم الحديد، على قوائمه الأربعة لحق بهم نحو العاصمة متعطشا لإراقة دمائهم كما أراقوا دم إيفان وإليا اتبلعته النيران حاله من حال المحاصيل.

"من أين ظهر ذلك الوحش؟!"

"لا أدري!"

"إنها زوجة القيصر! شب اللهب في بدنها ومنه خرج ذلك الوحش!"

"انجدوني!" صاح القيصر بهم يستنجد لكنهم رفضوا الالتفاف ومد يد العون فكل واحد منهم كان يصيح نفسي، نفسي. ولجوا إلى العاصمة يأملون النجاة لكن الوحش بسط جناحيه وضرب الهواء مرسلا عليهم ريحاً تكاد تقتلع الأشجار من جذورها.

تعجب الأهالي من الرياح العاتية ومنهم من خرج ليرى ما سبب العاصفة لكن ناراً حارقة التهمت بيوتهم وتفشت في شوارعهم تُحاصرهم حتى لم يعد لهم سبيل ولا مهرب.

أما القيصر فلم يتحمل حصانه ألسنة اللهب لذا نزل من عليه ونزع قفطانه التي شبت فيه النار ليسرعَ نحو قصره المُحصن؛ اغلقوا الأبواب! أغلقوا الأبواب خلفي ولا تدعوا أحدا يدخل!

لكن احداً لم يستمع فالخدم ركضوا في كل مكان بحثا عن مأمن من تلك النار الحارقة والقيصر استمر بالجري في أروقة قصرهِ قاصدا غرفتهُ، حيثُ يحتفظ بجميع مقتنياته؛ كنوزي! كنوزي! علي الوصول لها قبل أن يُتلفها ذلك الوحش!

تسلق القيصر السلالم نحو مخزن كنوزه وفي الخارج هبط الوحش على ابراجِ القصر يهدها، بضربة من ذيله اسقط من البروج اثنين من ثم صاح بعلو صوتهِ مُحطما الزجاج. كان تارة ينفث النار وتارة يهد البنيان دون وعي يُرشده فعيناه لم تعد تبصر من شدة غضبه.

زئيره كان شديدا وكلما التفت إلى جهة نفث اللهب حتى رفع عنقه إلى الأعلى وجعل السماء تمطر عليهم نارا حارقة لا ترحم صغيرا ولا كبيرا.

دس القيصر في جيوبه من الذهب ما استطاع غرفه بيده ولما رأى غرفته تتداعى على رأسه، اتجه الى أعلى برج قاصدا قمته عله يحمي نفسه من النيران لكن الوحش رآه عبر النوافذ وقفز نحو ذلك البرج يحطم ما اعترض طريقه من القُبب.

ضرب الوحش قبة ذلك البرج ليكشف عن تلال من الذهب كان القيصر يسبح بينها، يضمها لصدره ظنا منهُ أنه سينقذ ممتلكاته الثمينة؛ لا! ماذا فعلتُ لكِ يا غالينا كي استحقَ هذا!

"لا! كنوزي الثمينة!" صاح لما مال البرج وانسكب الذهب منهمرا على الوحش الضاري الذي فتح فمه على مصرعيه ومن عُمق حلقه تشكلت شعلة من النار.

عانق القيصر كنوزه لكن التلال انزلقت واخذته معها رغم مناضلته الشديدة في السباحة فوقها ظنا منه أنه سينجو لكن ثروته التي احبها خانته لما ألقت به إلى الموت.

صاح القيصر والبرج فوقه تداعى، حجارته ضربت الوحش من كل مكان، لتدفن كلاهما أسفل بحر من الذهب. آثار الحطام وترابه صنعت غمامة مهولة لا يُرى منها شيء ولم يكن هناك أثر للحياة إلا أصابع يد القيصر التي كانت مكشوفة من تحت الحجارة، إذ كانت تهتز وتختض مع جراحها الشديدة إلا أن حركتها لم تدم طويلا ومن تحت الطوب تفشى دمه معلنا نهاية حياته البائسة. وكم كانت ميتة مخزية، فخواتمه التي زينت يده لم تقه شر الموت ولا الذهب الذي تلطخ بدمه.

دُفن الوحش تحت حُطام القصر ونيرانه التي خلفها جعلت من ليل العاصمة نهاراً يُرى من المدن المُجاورة إذ أصوات صياح الأهالي كانت تُسمع، وبعيدا عنهم عند طريقٌ ترابي بين المزارع التي تحترقُ صدح صوت وهنٌ ينادي.

"غالينا"

تلك الهمسة أيقظت الوحش الذي لوهلة سلم نفسه للموت وعيناه على مصرعيها اتسعت، ضرب بجناحيه وقدميه يدفع عنه الحجارة، إلى أن تمكن من تحرير رأسه ثم من بعدها خلص جسده بلمح البصر من تحت الأنقاض وحلق مسرعا نحو القُرى..

تلفت برأسه بحثا عن مصدر الصوت فالدخان أعاقه عن رؤية ما هو أمامه ولم يكن قادراً على ارسال الريح خشية ان تسرع النيران وتلتقم إيفان، قلبه الذي كان كالجمرة توهج من شدة حرارته فلوهلة عاد أمله بحياة إيفان ثم ها هو الآن يتلاشى.

زمجر الوحش من خيبة أمله لكن قصاصة الورق ظهرت له من بين الدخان واستقرت تطفوا أمام عينيه ثم عاودت التحليق مختفية بين الدخان، بقي الوحش حائرا من فعل تلك القصاصة السحرية فهي عادت له ثم كررت فعلتها حتى فطن بما تُريده منه، ألا وهو اتباعها.

حلقت غالينا خلفَ قصاصة الورقِ التي أرسلها إيفان لإيجاد سيدته فلقد كان في نيته البحثُ عنها رغم جرحهِ البليغ.

اتسعت عينا غالينا لما رأت إيفان مُحاصرا باللهب من كلُ جانب ومن بعيد كان المزارعون يصيحون بهلع، فمحاصيلهم احترقت حالها من حال بيوتهم وباتت أرضهم مغطاة بغمامة سوداء معتمة حرمتهم من استنشاق الهواء.

هبطت غالينا على قوائهما الأربع والأرض من تحتها اهتزت لدرجة أن إيفان سقط بعد محاولته للتوازن، من بين غمامة الدخان المعتمة خفضت غالينا رأسها مهول الحجم ليرتعب إيفان من الوحش ذو القرون الستة.

"رباه!" شخصت عينا إيفان وانعقد لسانه فمن العدم ظهر له هذا الوحش المخيف، لوهلة نسي كيفية الحركة ومن شدة عجزه هو زحف إلى الوراء "ا.. ابتعد عني أيها الوحش!"

دنت غالينا برأسها مقربة إياه من إيفان كي تتمكن من رؤيته لكن إيفان اشهر عن سيفه وهددها "إياكَ والاقتراب مني!"

عزم على النهوض مجددا والإسراع في خطاه مبتعداً عن الوحش الذي ظنه واحداً من اخوة غالينا قد اتى بحثا عن الانتقام منه "غالينا!"

نادى إيفان عليها فهو بعد اصابته البليغة فقد وعيه ولما استعاده وجد نفسه مُحاطا بالنار من كل مكان وأول ما فكر به حينها كانت غالينا.

"غالينا أين انت؟!"

اهتزت حنجرة الوحش في همهمة عميقة أتت من صدره وبأنفه كاد أن يلامس إيفان لكن الآخر لوح بسيفه مُهدداً إياه ثم تعثر ليعاود السقوط. هذه المرة قام إيفان بحماية وجهه بكلا ذراعيه عندما عاود الوحش الاقتراب منه ولما ظن أن نهايته اتية لا محالة انتظر موته.

حينها احست غالينا بحزن شديد يتملكها لما رأته خائفا منها، كما لو أنها وحش شرير سيهم بتقطيعه إرباً فعاودت الهمهمة ثم ألحقتها بخرخرة. فتح إيفان كلا عينيه وانزل ذراعيه لما استنكر أمر هذا الوحش الذي لا يهجم إنما يكتفي بإصدار الأصوات وحملقَ به.

"ألن تأكلني؟" تساءل إيفان وهو يحدقُ بمنخاري الوحش حيث كانت أنفاسه تلفحه لدرجة أن خصل شعره تتطاير مع كل زفير "أم تنوي تعذيبي لما فعلتهُ بشقيقتك؟"

رفع إيفان بصره إلى الأعلى نحو عيني الوحش الكهرمانية ثم تجرع حلقه "أنا آسف، لو كنتُ مكانك لفعلتُ المثل.. كنتُ سأقتل الخسيس الذي تسلل إلى قصري وأخذ أختي معه"

قال إيفان وقد تذكر احاديثَ غالينا عن اخوتها، فهي اخبرته بأنهم في يومٍ كانوا يتحدثون مثل بقية الناس "أنا آسفٌ حقا لما سببتهُ من متاعب لكم، ما كان عليُ التسلل إلى منزلكم"

"لكن كما ترى شقيقتك ليست معي الآن وحالي من حالك لا أعرفُ أين أخذها ذلك الملعون" اهتز صوت إيفان في حديثه مستذكرا غالينا، في لحظة كانت إلى جواره، بين ذراعيه فوق الفرس ثم بسبب سوء اختياره قد خسرها مجدداً...

"إني حتى لا أعرفُ إن نجت من الحريق..."

تشكل حاجبا إيفان في عُقدة واحمر أنفه لدرجة أنه شعر بثقل في عينيه، فبجانب ألمه الشديد هو لا يكفُ عن تخيلها وهي تصيح بين ألسنة اللهب تطلبُ النجدة.

خفض إيفان بصره من شدة خزيه ويده التي كانت في يوم بيضاء باتت حمراء بسبب ثيابه التي تلطخت بدمه "آهه!" اشتكى من ألم جُرحه واهتز بدنه من أنينه. اشتدت قبضته على غمد سيفه ثم أراح جبينه ضده والسعال كان يراوده من حين لآخر فلم يعد قادراً على التنفس.

"أنا آسف"

عاود إيفان رفع بصره إلى الوحش فإذا به يلمح قصاصة الورق خاصتهِ ملتصقة بحراشفِ الوحش عند مخالبة، لم يستوعب إيفان ما سبب تواجدها بين مخالب شقيق غالينا فقد اخبرها أن تجد غالينا لا شقيقها ثم من بعدها تذكر حديثه مع غالينا، لما كانوا في طريقهم نحو بلدة نية لقاء بيتروف وباقي الفرسان.

اخبرته أن الغضب التهمها في مرة حتى امست وحشا مثل اخوتها...

"غالينا؟ هذهِ انتِ؟"

انتفض إيفان لما قرب الوحش وجهه منه ثم وبشكل اثار الفزع فيه حاوطه ليجد إيفان نفسهُ محاصراً بين قرنٍ حاد من قرون غالينا وبين حراشف وجنتها الصلبة.

اغمضت غالينا عينياها برضا فهو على قيد الحياة في حين أن إيفان كاد أن يبصقَ قلبه من شدة الرعب "سيدتي.." بتوتر رفع يده يربت على وجنتها ثم تمتم؛ يا للهول، إن كنتُ أخافكِ سابقا فها أنا الآن أهابكِ..

فتحت غالينا عينها الكهرمانية الكبيرة ثم انزلت بصرها نحوه فقد سمعت حديثه وإيفان كاد أن يتغوط على نفسه من الخوف "أعني تبدوا حضرتك جميلة الآن.."

اتسعت عيناها وتقلص بؤبؤها فها هو يقول لها أنها سابقا كانت قبيحة وها هي الآن تمسي جميلة لأول مرة "لا، لم أقصد ذلك.. ما أقوله أني لست خائفا منكِ فحضرتكِ كنتِ صعبة المزاج ومخيفة في السابق أيضا لذا لم يتبدل شيء حقا!

كشفت غالينا عن أنيابها وابتعدت عنه ليرى طول عنقها وضخامة جسدها الشيطاني، كانت مخالبها تخيف الناظر إليها وإيفان لم يكن بوضع يحسدُ عليه فقد غرزت مخالبها في التراب من شدة غضبها عليه، فها هو ينعتها بالقبيحة خُلقا وشكلاً.

"سيدتي!" صاح إيفان ثم بتلعثم قال "إنكِ تصعبين الأمر عليَ اكثر!"

"إني فقط لستُ معتاداً عليك بهذا الحجم المهول وبهذا العدد من القرون" لما رأى إيفان أن لا نجاة له من الورطة التي أوقعها فيه لسانه، امسك جرحه وصاح مُدعيا الألم نية الفرار من ذلك المأزق.

همهمت غالينا بحزن على حاله فعاودت خفض رأسها وقربت وجنتها منه في عناق، فقد كان إيفان كعقلة الإصبع بالنسبة لها.

رأى إيفان ستارة من الدموع تتجمع في مقلتيها، ليُذكر إيفان نفسه بأن خلف هذه الحراشف السوداء تمكثُ سيدته التي تبكي على اتفهِ الأسباب مثل النظافة والجوع، لذا اسند بدنه ضد وجنتها وبيده ربت عليها بلا بأس "لا عليكِ سيدتي أنا بخ..."

لم يكمل إيفان جملته بسبب الدمعة التي انهمرت عليه فجعلته مبللاً من رأسه حتى اخمص اصبعه "آه سيدتي لما البكاء، ثم كيف لسيدة مبجلة مثلك أن تذرف دموعا على فلاح مثلي" مازحها نية التخفيف من حزنها فوقعت عليه دمعة أخرى "توقفي عن البكاء يا سيدتي قبل أن يراكِ اخوتكِ فيقوموا بإحراقي لجعل اختهم تبكي"

ريثما هو يحادثها، مر من فوقهما بريقٌ في السماء فلحقِ به دوي رعد كزمجرة الوحوش ثم من بعدها انهمرت عليهم امطارٌ اخمدت ما فعلته غالينا من مصيبة "لقد أتت العاصفة في وقتها"

ابتعد إيفان عن سيدته غالينا كي يرى ما حوله ومع وميض البرق فزع لما ظهر له ثماني وحوش من التنانين يحيطون بهم وهذه المرة كانوا أشقاء غالينا فقد تمكنوا أخيرا من العثور عليها ولم يوصلهم لها سوى الحريق الذي اشعلته في العاصمة "لم اقصد أن يراكِ اخوتك الآن بالمعنى الحرفي"

"سيدتي.." قال إيفان ولم يكن يسعه سوى الشعور بالخوف لكن ذيل غالينا امتد أمامه ليكون حاجزاً بينه وبينهم، ليعلم اخوتها أنهُ غير قابلٍ للمس. أي أجل كان النقاش بينهم حافلا فهي من جهة تزمجر بهم ومن من جهة كانوا يردون بالمثل، فكلا الطرفين غاضب لأبعد الحدود.

فغالينا حاقدة على اخوتها الذين أهملوها لسنين طويلة بسبب أن عدم تحكمهم بغضبهم المفرطَ جعلهم عالقين بهذه الهيئة الشرسة، وهم لم يكونوا راضيين عن ذلك البشري الذي قام بخطفها من المنزل.

كشفت غالينا عن أسنانها تهددهم بعدم مساس إيفان فهم لم يكونوا مقتنعين ابدا أنها فرت برضاها معه وكاد أن يتطور الأمر لدرجة احراق بعضهم بعضا إلا أن شقيقهم يوليان وقف حائلا بين الطرفين وعرض على غالينا العودة إلى القصر فما حل من خراب دليل كافي على أن البشر سيئون بالنسبة لهم.

يوليان كان يكبر غالينا بعدة أعوام وهي أتت لهذه الدنيا من بعده، كان الأقرب لها من بين اخوتها وليوليان أساليب للتفاهم مع شقيقته الصغيرة كما امتلكُ العديد من الأساليب للتعامل مع النساء، فهو اشتهر بينهم بعلاقاته الكثيرة وتأثيره الساحر على السيدات.

من أساليب تفاهم يوليان مع النساء كانت كالتي فعلها قبل قليل، فقد ضرب قرن غالينا وثبت رأسها في التراب بمخالبه ولما همت بحرقه التقم عنقها بأسنانه لدرجة أن الدماء باتت تسيل من بين حراشفها.

"غالينا(!) ابعد أسنانك عنها أيها المخبول! سيدتي!" صاح إيفان بشقيقها يوليان والذي عض عليها أشد هذه المرة.

انتفضت غالينا وتلوت نية الإنتقام لكن لما أيقنت أن لا مفر من شقيقها يوليان سوى الاستسلام أصدرت خرخرة واهية تطلب منه افلاتها ففعل ولعق دمها عن عنقها ينظفه لها.

صدم يوليان رأسه برأسها يلاطف شقيقته بودٍ وهي فعلت المثل كما لو أنهما لم يهما بقتل بعضهما البعض قبل قليل مما جعل إيفان يُصابُ بالدهشة.

وافقت غالينا على العودة مع اشقائها وأبلغت يوليان أنها كانت قاصدة العودة بالفعل وذلك البشري من كان سيعيدها، لكن حدثت معضلة صغيرة أدت إلى الحريق الذي رأوه. كلُ تلك الأحاديث كانت تدور بينهم دون أن يفهم إيفان منهم حرفاً واحداً لكن لما رأى أن المشاحنة بينهم انتهت أدركَ أن موعد ذهاب غالينا قد اقترب.

أنزلت غالينا بصرها نحو إيفان وحُزنها كان جليا على تقاسيم وجهها المخيفة، دنت برأسها إليه وإيفان مد يده ليلامس حراشف أنفها "سيدتي غالينا"

ظنت غالينا أن بمقدورها التماسك والاحتفاظ بأخلاقها أمام اشقائها لكن دموعها انهمرت من مقلتيها وحزنها دفعها للتهور فاحاطت رأسها حول بدنه في عناق، صُعق إيفان من فعلتها وأحس بالجو المشحون لما سمع زئير اخوتها يأتي من خلفه "سيدتي لا بأس... كل شيء على ما يرام فلا تحزني"

همهمت غالينا تشتكي له صعوبة الفراق، فهي لن تكون قادرة على رؤيته مجددا وإيفان شعر بقلبه يتفطر ليس لأجلها فقط، بل لأجل نفسه فهو كان مشتاقاً لها وبعد لقائه بها مجددا ها هي يتوجبُ عليها الرحيل.

"لم اضع في الحسبان صعوبة الوداع لما اخبرتكِ أني سأعيدك إلى القصر" اعترف إيفان لها وربت على حراشف وجنتها.

"لكن في النهاية السمكة مكانها الماء، أليس كذلك؟ ستكون حضرتكِ آمنة في قصركِ البعيد جداً فوق السُّحب" اهتز صوت إيفان، ولما تذكر المسافة التي ستكون بينهما شعر بالاختناق لدرجة أن الكلمات لم تعد قادرة على الخروج "حيث لا فلاح يلفقُ الأكاذيب ولا قيصر يجبركِ على صنعِ الذهب"

التقت عينا إيفان بعينيها الكهرمانية واستذكر أحلامه الساذجة في أن يجمعهما سقفُ واحد وتنهد بقلة حيلة من حسرته.

"سيدتي... سأشتاقُ لكِ بشدة" همس إيفان لها وكان ذلك آخر ما يقوله ومن بعدها افترقا، فهي ذهبت مع اخوتها واختفت عالياً بين الغيوم أما هو فقد قادتهُ قصاصة الورق خاصتهُ لفرسهِ الذي هرب من النيران.

"ها انت ذا، تعال هنا ولنبحث عن أبناء اخي"

امتطى إيفان فرسه بحذر وأبلغ قصاصة الورق أن تدلهُ على رومان وإخوته وريثما حصانه يعبر القرية نحو العاصمة، ظهرت أشعة الشمس في الأفق معلنة قدوم الصباح.

لَحقَ إيفان بقصاصة الورقِ التي كانت تحلق أمامه وكل تارة ينغزه ألمُ جُرحه حتى انتكس ظهره وتمتم بتذمر "سُحقاً لهذا الألم"

عاود رفع رأسه ليرى بوابات العاصمة أمامه والناسُ قد حملوا امتعتهم على ظهور مواشيهم مغادرين العاصمة ومنهم من جمع كنوز القيصر معه فقد تم الإعلان عن وفاته لما عثروا على جثته أسفل الأنقاض.

"رومان! دنيشكا! غونار، آرفيد! أين أنتم؟!" نادى إيفان على أبناء أخيه أوليغ ولحق بقصاصة الورق التي عثرت عليهم وسواد الدخان يغطي وجوههم وثيابهم.

"عمي؟... عمي إيفان نحنُ هنا!" لوح دنيشكا بيده لإيفان، وكم كانوا مسرورين برؤية فرد من العائلة يمتلكُ من المال ما سيغطي عليهم تكاليف سفرهم نحو دوقية فولكوف.

"من الجيد رؤيتكم قطعة واحدة" اجتمع بهم الأربعة وكل اثنين منهم تشاركا ظهر حصان، اومئ غونار وقال؛ الفضل يعود لرومان دخل علينا وجعلنا نجمع كل ما نحن قادرون على جمه.

"أجل كما لو أنه شعر بما سيحصل"

"آه؟ بالطبع ليس كما لو أني قابلتُ عمي إيفان الذي اخبرني بذلك" تمتم رومان آخر حديثه بهمس ولما امعن آرفيد النظر في عمه سأله؛ عمي إيفان هل هذا دم؟

"إنه كذلك... يستحينُ بي إيجاد حكيم قبل أن تفقدوا عمكم يا أولاد"

"رباه! لستُ مستعدا لخسارة صندوق الذهب خاصتنا، يكفي ما مررنا به من كابوس.. يا عمي قد امطرت السماء علينا نارا وبعضهم ذكر رؤيته لوحش ظهر من بين الدخان"

"إنه التفسير الوحيد فكيف لقصر القيصر أن يمسي حطاما في ثواني معدودة"

تبادل دنيشكا، غونار وآرفيد أطراف الحديث بينما يجتازون أسوار المدينة عل ظهور احصنتهم ورومان سأل عمه فجأة "عمي قل لي ما الذي اعادك؟ ألم تكن قاصدا غابة ستراشني بصحبة عشيق..."

رمق إيفان رومان بحدة كي يتوقف عن الحديث فأنظار الأخوة حلقت نحوهما إلا أن رومان لم يفهم الإشارة "ما بكَ تنظرُ لي هكذا؟ ثم دعني اخبرك، لقد نزل علينا العقاب من السماء بسبب ذنبكَ الدنيء فأي رجل صالح يخطفُ زوجة الملك تحت جنح الليل؟!"

"رومان هل ترى هذا السيف بحوزتي؟ إنه ارثُ العائلة"

"حقا؟"

"أجل وسأستعمله في قطع لسانك أولا ثم يديك كي لا تأخذ من ميراثي شيئا"

"رباه! عمي ما هذا الحقد، لما قلبكَ اسود هكذا؟ ثم منذُ متى وأنا افصح الأسرار؟ إني بئر عميق"

"أرى ذلك"

"عمي" تدخل غونار يسأل "هل سنذهبُ لدوقية فولكوف حقا؟"

"لا سنعود لمنزلي، جدتكم ستحبُ رؤيتكم وأنا سأكون مسرورا ببقائكم معنا"

"ألن نكون عبئا عليكَ عندما تتزوج؟ ثم ما الذي حدث لزفافك القريب؟"

"عمكم سيبقى عازبا لفترة من الوقت" هز رأسه وتبسم لهم لكن ما جعل ابتسامته تتبدل إلى صدمة هو حديث غونار لآرفيد

"لابد أن خطيبته تخلصت منه بعد أن اكتشفت خيانته لها مع حرمِ القيصر"

ندبَ إيفان حظه لكنه كان شاكراً لهم فلقد جاوروه في رحلتهم واعتنوا بهِ لما اهلكته الحمى في دارٍ حكيم عثروا عليه في البلدة المجاورة، لم يتخيل إيفان أنه سيكون قادرا على العيش من بعد تلك الحادثة إلا أن الحياة كانت من نصيبه فقد مد الرب بعمره ومكنه من العيش ليرى عائلته مجدداً.

تلك الحادثة المروعة طويت صفحتها مع مضي السنين وباتت قصة تُحكى لكل من لم يشهد الليلة التي أمطرت فيها السماء ناراً عليهم وخلال العشر سنين التي انقضت، نقل إيفان أستثماراته في الزراعة من العاصمة إلى دوقيته وعملَ على تعميرها وجعلها تزدهر.

اخوته وغالبية اقربائه كانوا مسرورون به، ليس من جمال عينيه إنما بسبب قراراه الذي صب في مصلحتهم، فلقد امتنع إيفان عن الزواج طوال تلك السنين، فطالما لا يوجد زوجة لا يوجد ذرية ولا ذرية تعني أنه لن يخرج الميراث من بينهم.

هم كان لهم بعض الخطط الدنيئة لإقتسام الميراث بشكل شرعي، فمن خالاته من عزمت على تزويجه ببناتها ومن الأعمام من فعل ذلك أيضا. لدرجة أن عمه قدم له ابنته، التي ولدت في العام الذي دخل فيه إيفان السجن لما كان مجردَ فلاح.

فطن إيفان خبثهم وفي مرة من المرات اصابهم بذبحة صدرية لما عزمَ عن الزواج من خادمة شابة تعملُ عندهم في المنزل لكن هل توقفوا عند هذا الحد؟

بالطبع لا فمن بعد فشل محاولاتهم الشرعية انتقلوا لمحاولات غير شرعية كافتعال حوادث كانت قادرة على أن تؤدي بحياته لكن إيفان ذلك المعتوه الأبله كما يلقبوه نجا مجدداً ومجدداً.

وفي صبيحة شهر نيسان كان إيفان يستندُ على سور خشبي بكلا مرفقيه، يشاهد سائس الخيل وهو يروضُ مهرة انضمت إلى مجموعته من الأحصنة حديثا.

كان صهيلها عاليا وهي تقاوم سائس الخيول فتارة تهرب منه وتارة تعزم على الركض خلفه كي تخيفه لكنها وفي كل مرة كان يجبرها على الرضوخ له وامتطائها.

"إنها مهرة صعبة المِراس يا سيدي، لما تورطت واشتريتها" سأل ابنُ سائس الخيل الذي كان يقفُ إلى جوار إيفان، يشاهد والدهُ وهو يُعاني.

"لم اتورط بها إنما اكتنزتُها، تراها عنيدة الآن أجل لكنها ستكون اكثرهم وفاءً لي"

راقب إيفان مهرته وهي تقاوم حتى انتهى بها الأمر منهكة غير قادرة على الحراك ولما عزم على الدخول وتقديم تفاحة لها استوقفه صوت رومان المنادي وهو على ظهر حصانه "عمي!"

جر رومان لجام حصانه ليوقفه ثم قال؛ عمي إيفان، لديكَ زوار..

"زوارٌ في هذه الساعة؟ من هم؟"

"نفسُ السؤال راودني، قابلتهم لما كنتُ في السوق إذ سألني احدهم أن ادلهُ إلى منزل إيفان غورينوفيش ولما سألته عن هويته قال أنه صديقُ قديم لك"

"ألم يفصح عن اسمه؟"

"لا لم يفعل لكن استنكرتُ العلاقة بينكم فكيفَ عساكَ تملكُ صديقا بهذا الثراء ونحن كنا مجرد فلاحين؟ انظر ها هو قادم"

أشار رومان نحو العربات الثلاثة التي تجرها احصنة اصيلة الهيئة. استنكر إيفان هوية ذلك الزائر فاحش الثراء فهو لا يملكُ معارف لهم تلك الوفرة من النقود، ضرب سائق العربة بسوطه على الأحصنة لتتوقف العربات الثلاث على مقربة منهم.

"سيدي خُذ" همس ابن سائس الخيل لسيده إيفان أن يرتدي قفطانه الأزرق كي يبدوا بمظهر لائق أمامهم، فهو كان مكتفيا بقميصه الأبيض الفضفاض وسروالٍ داكن اللون مع جزمة ذات عنقِ طويل.

نزل خادمان وفتحا باب العربة ليترجل منها شابٌ حسنُ الوجهِ وجماله لاحظه الرجال الحاضرون وما جعلهم يتعجبون منه هو الرائحة الطيبة التي سبقته "نهاركم سعيد، يا ترى هل إيفان غورينوفيش يقطنُ هنا؟"

"إنه يقطنُ هنا وهو واقفُ أمامك الآن فقل لي من حضرتك، لا تبدوا كصديق قديم بالنسبة لي"

انتقل بصر الشاب إلى رومان ثم لإيفان وقال بصوت رزين "غلطتي أني لم اتعرفَ عليك، فحضرتك الآن لا تشبه نفسكَ سابقا.. أخبرني ألم تتعرف علي يا إيفان؟"

"لم أتمكن من تميز وجهك يا سيد"

"قد ينعشُ هذا ذاكرتك" كشف الشاب عن يده الخاوية ثم اقترب من إيفان حتى وصل إلى أذنهِ ثم من العدم امسك بين أصابعه عملةً ذهبية، حملق إيفان به مطولا ولما ادرك هوية الواقف أمامه احس بساقيه أصابها الرعاش.

"البحثُ عنك كان شاقاً يا سيد غورينوفيش لكننا عثرنا عليكَ الآن"

قال الشاب وعينا إيفان بقيت معلقة به لا يقدرُ على استيعاب صدمته فقد مر وقتٌ طويل؛ لما عساكَ تبحثُ عني؟ ظننتُ أن كلَ شيء انتهى في تلك الليلة..

"لا تصنع هذا الوجه يا سيد غورينوفيش وهل ظننت أنك ستدخل ممتلكاتنا عنوة وتأخذ ما هو لنا ثم تذهب هكذا بعد أن أوقعتنا في مصيبة؟" ربت الشاب على كتفِ إيفان ومد يده للمصافحة "أدعى يوليان بالمناسبة ولحسن حظكَ أني من خرجتُ لتحيتك، فداخل العربة يوجد الكثير ممن ينون حرقكَ حيا"

"تشرفتُ بمعرفتك سيد يوليان لكن أخبرني بماذا ورطتكم؟"

تبسم يوليان محافظا على تعابير ودودة ومن بين أسنانه همس بغيض؛ لقد فتحت عيني اختنا على أمور كُنا في غِنا عنها لسنين طويلة وها انت الآن عليك دفعُ الثمن..

نزل من العربة الأولى شابان آخران ومن العربة الثانية نزل ثلاث شبان ومن العربة الثالثة نزل شابان ومدَ احدهما يدهُ لتمسك بها امرأة كشفت عن كعبها كي تنزل بحذر.

بحثت غالينا بعينيها عن إيفان وصُعقت لما رأت رجلا كبيراً في السن، له لحية طويلة بجانبه صبي فلوهلة ظنتهُ إيفان وهذا ابنه لكن صوته المنادي عليها انقذها من خيالها الأسود.

"سيدتي؟"

التفتت نحوه والذهول تملكها فذلك الشاب الذي كان في بدايات العشرين بات الآن رجلاً يبلغُ من العمر بضعا وثلاثين.

كل تفاصيله تبدلت لهيئة أشد نضجا ولم تخفي رضاها عما ترى، رسمت غالينا ابتسامة على شفتيها وبتحفظ بقيت واقفة إلى جوار أخيها ماكسيم "سررتُ بلقائكَ مجددا سيد غورينوفيش"

أومئ إيفان لا يعرف ما يقول، فها هو يرى سيدته العزيزة مرة أخرى وفكر يا ترى لما الدنيا تبتسم له أخيرا بعد ما مر به مع أقربائه الدمويين.

"آه، عزيزتي غالينا" كاد أن يأخذ إيفان خطواته نحوها لكن يدَ يوليان على كتفه اوقفته وقال ينهره "إلى أين تخالُ نفسك ذاهبا! ثم من تلك التي تدعوها بعزيزتي أمامنا؟! إنها اختي يا ولد!" أدركَ يوليان وتيرة صوته التي ارتفعت ولم يكن بمقدوره سوى ذلك، فهذا الرجل ينظر لأخته بأعين مغرمة.

"يوليان" قالت غالينا من بين أسنانها وحاولت إبقاء ابتسامتها كي تبدوا سيدة طيبة اللسان مرهفة المشاعر، ذات حياء عالي.

حاول يوليان تمالك نفسه وبابتسامة قال "أعني.. ألن تقوم بدعوتنا؟ فطريقنا كان شاقا"

حدق إيفان بيوليان ثم بإخوة غالينا بارتياب فقال ماكسيم "ما بكَ خائفٌ كما لو أنك محاطٌ بوحوشٍ ضارية؟ لندخل للداخل ولنتحدث"

"أجل، فحديث طويلٌ ينتظرنا"

(النهاية) 


عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz