illynaz illynaz
recent

آخر الأخبار

recent
جاري التحميل ...

اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة

القرية خلف سكة الحديد؛ الفصل الخامس والعشرون




انتقلت بيرل ببصرها للرجل الماكث جوارها ولم يخيل لها إطلاقا أنه من الممكن أن يكون مائيل، فلقد هجر القرية منذ زمن طويل ولم يبالي بالعودة واتمام الزواج الذي كان مقررا عليهما لما كانت حينها مجرد فتية في الثالثة عشر من عمرها.


"هل اعجبتكِ المفاجأة؟ أوصيتهم جميعا ألا يفصحوا عن اسمه أمامك فتعرفيه" قال السيد بينيت وبيرل أبدا لم تبتسم بل أحكمت قبضتها على الشوكة في نفسها فقع عيني مائيل.


"ألححتُ عليه بالعودة يا ابنتي وقلت له أن يستعجل فالفتاة منذ أن كانت في الثالثة عشر والناس تأكل رأسها يسألونها؛ لما هجرها الرجل الذي من المفترض أن يكون زوجها"


اهتزت شفتا بيرل وحاجباها تشكلا في عقدة قهر على حالها، حدقت بوالدتها ميلينا ثم بأختها جوان، فهي لا تصدق أنهما سعيدتان باعطاءها لهذا الرجل الذي لم يحترمها ولم يحترم قوانين القرية، وسافر ليعيش حياته ويحقق أحلامه بعيدا. في حين أنها بقيت حبيسة هنا، ممنوع عليها الخروج وممنوع عليها التفكير بأحد سواه.


ولم يقدر أخوها ماركو على أخذها والسفر إلى برلين إلا بعد أن وصلهم خبر زواج مائيل من امرأة إنجليزية تقطن في ويلز أيضا.


لكن هل أعتقوا رقبتها وتركوها حرة طليقة؟ على الإطلاق فقد ضلت مقيدة بأغلال من عنقها وقدميها ففي أي لحظة من الممكن أن يترك مائيل زوجته ويعود إلى دياره كي يتم ما قدره الحكيم له.


وها هو قد فعل، ها هو سيتزوجها بعد أن كبرت في السن وباتت عمة وخالة لكثير من صبية القرية.


"إني رافضٌ أشد الرفض قولكم هذا" نطق هايدن وجميع الأنظار قد انتقلت صوبه، أشارت ميلينا لمايكل كي يسكت حفيدها فقال "يا دوريان، إن المائدة ينقصها الشراب فاذهب واحضر لنا زجاجة من المخزن"


"دوريان اذهب وافعل ما تقوله لك جدتك ولا تزعجنا بعنادك في يوم جميل كهذا" أشار له الحكيم بالتحرك وعدم الجدال. هاجت أنفاس هايدن بحقد لما يفعلوه واعترض لكن مايكل قد مايكل ونيكو قد أخذاه معهما كي يجلبوا زجاجة الشراب.


"دعاني ولا تلمسا ذرة جلدٍ مني فأنا غاضب وقادر على ضربكما!" نزع هايدن ذراعيه منهما.


"دوريان أيها المعتوه ألا زلت لا تفهم أن اعتراضك لن يزيد الطين إلا بلة؟!" وبخه مايكل.


"نعم، هل تريد أن يقوموا بربطك في كرسي واقامة جلسة تطهير لك مجددا؟" تذمر نيكو.


"بل أنا من سيقوم بتطهير رؤوسهم عديمة الفائدة! كيف سولت له نفسه بكل تكبر وغرور أن يحضر رجلا ويضعه أمامنا على الطاولة، قائلا أنه سيكون زوجا لفلانة ولا يحق لأحدٍ الإعتراض! أيظن نفسه إلاها علينا؟!" زجرهما هايدن وأسنانه كان محكم الاطباق عليها.


"أفهم مدى غضبك لكن هذه هي القواعد البغيضة! لا يحق لأحد هنا اختيار من تهواه نفسه بل الحكيم من يختار لنا. برأيك ألم تسأل ما بالي وغصن التفاح لم نتزوج بعد؟! محرم عليَ الزواج من بنات القرية لأني لست ابنا من ابناء القرية"


"وهل أنا غبي مثلك لأرضى بهكذا قوانين وضعها رجل خرفٌ مثل ذاك؟!"


"دوريان لما تتفعل المشاكل؟ دعهما يتزوجان وأرح رأسك. انظر للجانب المشرق غرفتها ستصبح لك. أمنية حياتي أن تنقلع اخواتي من المنزل كي استولي على غرفهن" تدخل نيكو ليحل المصيبة بشكل سلمي لكن نظرة هايدن الساخطة اجبرته على ابتلاع لسانه والإقلاع عن التفكير حتى.


نزل الثلاثة للسرداب حيث يتم تخزين الطعام والشراب وعلى الفور رائحة عفنة اخترقت فتحتي أنفِ هايدن فأحرقت لفائف دماغه "بئسا ما هذه الرائحة العفنة؟!" غطى أنفه وبحث معهما عن زجاجة الشراب.


"ألا تشمان الرائحة؟"

"وكيف لا نفعل؟ لابد أنه رمز عائلة باومن موضوع هنا"

"رمز؟ لعائلة باومن رمز؟"


"نعم، إنها جمجمة الجدي" قال مايكل وبكم ثوبه غطى أنفه "ها هي هناك" أشار مايكل عليها فرأى هايدن أخيرا رمز هذه العائلة. إذ كانت جمجمة لحيوان الجدي ذو قرون طويلة ومن عينيه عشعش الدود وتطاير ذباب الجيف.


اختنق هايدن ولم يقدر نيكو على تحمل الرائحة أكثر، ففر ثلاثتهم لخارج السرداب مع زجاجة الشراب بحثا عن الهواء النظيف. 


"ما بها هذه الجدة تضع الرمز هنا، انظر لجدي كم كان فهيما عندما وضع الرمز في الحضيرة" اشتكى نيكو وعادوا أدراجهم للمائدة.


وفي الليل هم هايدن بالعودة لغرفته فرأى باب غرفة بيرل شبه مفتوح وعبره قد تسللت اصوات احاديثهم فجورجينا ولورا قررتا المبيت والمكوث إلى جوار صديقتهما في محنتها بينما جوان تقوم بتعمير ثوب الزفاف.


"بيرل" مسحت جورجينا على ظهر صاحبتها وأراحت رأسها على كتفها تضمها، فهي تعلم عن انفلات بيرل العاطفي تجاه دوريان، وما فطر فؤاد جورجينا هو أن الثوب الأزرق الذي ترتديه، كان هدية من دوريان في برلين لبسته في الليلة التي طلب يدها للزواج.


"ما هذا الوجه الذي تصنعيه، إفرديه حالا فلا تكش نفس الرجل عنك.. لم نصدق اخيرا انه عاد ورضي بالزواج منكِ" قالت جوان ساخرة وهي تدس الأبرة في القماش كي تسطر لها الخرز في كم ثوب زفافها، الذي احضره مائيل كهدية لها.


لم تكن بيرل بوضع التي قد تتقبل النقد أو السخرية وكلمات جوان لم تغير من تعابيرها شيئا فلقد كانت مكرهة ولو أمكنها لدست السم في شراب مائيل ذاك..


"أما سمعتن عن زوجته التي اختارها؟ ابنة عمه قالت انه احب تلك المرأة حبا شديدا وحالما بلغ السابعة عشر من عمره تزوجها.. كم انتِ محظوظة، فلهذا الرجل أبناء سيكونون مقاربين لعمرك فلا تشعري بالوحدة" 


رمقت جوان بيرل من زاوية عينها شامتة "إني حقا لا احسدك على حالك أبدا فانتِ دوما ما تحصلين على البقايا التي تركها اصحابها، فما كانت امي لتأخذك لو لم يسافر اخي وما كان ذاك الرجل ليتذكركِ لو لم تمت زوجته ويمسي أرملا..." 


"لكن انظري للجانب المشرق، إن شعرتي بالملل والضيق منه فهو لديه ثلاثة ابناء فاتخذي منهم من تشائين عشيقا والآن خذي هذه فقد تعبت وسأذهب للنوم" نهضت جوان والقت على بيرل ثوب زفافها.


خرجت من الغرفة ودفعت هايدن من صدره كي تمر فلمح هايدن يد المدام وسألها "مدام أين الجرح في اصبعك من ليلة البارحة؟ أذكر انه في يدك اليسرى"


"جرح؟ عن أي جرح تتحدث؟" سألته ساخرة واجتازته لتدخل عرفتها.


"كم إني اكرهها، أنها حقا امرأ بغيضة" اشتكت لورا ثم قالت "إني حقا أشفق عليك وعلى دوريان يا بيرل، لقد نزل قرار الحكيم هكذا دون سابق إنذار، يا ترى ما شعور دوريان والمرأة التي أراد الزواج منها سابقا ستتزوج من غيره"


"دوريان لن يشعر بشيء" نطقت بيرل وعيناها ذرفت دموع الحسرة "فهو قد مات" اهتز صوتها لكنها حاولت تمالك نفسها وغطت وجهها.


"إن اختي جوان محقة، فلا أحد عاقل من الممكن أن يحسدني على حالي، ومن عساه يحسد امرأة لا تقتات سوى على البقايا"


"بيرل، يا بيرل لا تقولي هذا"


"جورجينا، أخبريني كيف للشخص أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره ويداه في هذه الدنيا لازالت خاوية؟ لا بحب أسرته حضي ولا بحب من أحب؟" مالت بيرل ببدنها لتدفن ذاتها في حضن صديقتها.


"والآن ما نفع اعتراضي وأنا لا أملك ما أناضل لأجله؟ حبي قد دُفن تحت التراب فلما سأضحي بحب أمي لي وأرفض مائيل؟"


لم تفهم جورجينا ولورا حرفا مما تهذي به بيرل، لكن هايدن قد فهم مقصدها وفهم أخيرا ما نوت عليه من تقربها منه في مكتب السيد هوفمن. فبيرل قد بحثت في هايدن عن دوريان الذي خسرته من بين يديها...


بحثت فيه عن نصر من بين رماد خسائرها العديدة. فلا بأسرة حضيت ولا بكلبها العزيز احتفظت. هكذا فكر هايدن.


وفي حياة دوريان،  بيرل لم تملك الجرأة على البوح بمكنون قلبها له والتمرد على قوانين بلدتها لتحضى بطعم منه ورائحة، كي تحتفظ به داخل ذكرياتها وإنما اضطرت للسفر وفي نفسها كثير من الرغبة المكبوتة.


فرأت أني، هذا الكلب الذي يلهث خلفها بلا كرامة، أفضل وعاء من الممكن أن تستفرغ فيه رغباتها العاطفية. قال هايدن لنفسه.


امتنع هايدن عن سماع المزيد وولج لغرفته وقد حضي بجواب أهم سؤال راود نفسه في يوم، ألا وهو حقيقة ما تكنه بيرل له مشاعر.


ويا للعار، فلقد أغرم بامرأة هي لن تُغرم به أبداً...


وفي اليوم التالي استيقظت القرية على منظر جثث جديدة من الأهالي وجزعهم كان شديدا لا يرضى بالرضوخ لوعض الحكيم عن الصبر، فكثير منهم اعترض وتجمهر أمام دار الحكيم يطلبون تفسيرا وحلا لعلتهم، فهم لم يقصروا ولم يقترفوا أي ذنبهم يسوقهم للهلاك فما بها هذه الوحوش تقتل من أبنائهم وأزواجهم الكثير.


أما عن هايدن، فقد وجد مجددا رصاصة ذهبية محفور عليها ذات الاسم، فبات متأكدا من أن الذي قتل القرويين في الماضي، هو نفسه من لازال يستمر في قتلهم ورجح أنه قد حظي بهذا المنصب بعد سقوط ماركو غلور.


وفي المساء، رجع هايدن لغرفته فوجدها نظيفة على غير عادتها، قطب حاجبيه مستنكرا وباشر بالبحث عن مكان أوراقه ولما لم يجدها، بحث عن بيرل فأخبرته الجدة أنها ماكثة الليلة في منزل آل آرنر عند جورجينا.


"لما يا بني تسأل عنها؟ أيوجد ما تحتاجه؟" سألته ميلينا بينما تقوم بالحياكة، جالسة في ركنها المعتاد قرب النافذة.


"لا مدام، لا يوجد. شكرا لكِ" هم هايدن بالصعود ونادت عليه الجدة "دوريان عزيزي، تعال وتناول من اللحم الذي جلبه الحكيم على شرف زواج اختك بيرل"


"سآكل منه لاحقا" ابلغها متهربا وصعد السلالم ليغلق على نفسه باب غرفته ويباشر بنداء الهرة غريتا.


في البداية نداها كما ينادي الناس الهررة، اضاف اسمها لكن لا رد أتى منها فوقف في مكانه مكتوف اليدين، لا يعلم ما يفعل "أين ذهبت تلك الهرة الحمقاء"


شد هايدن على شعره فلا مستنداته موجودة ولا الهرة التي ساعدته في جمعها موجودة،  فبات يندب حظه بيأس مما اصابه وجلس على الأرض.


وبينما هو يفكر ما عساه بفاعل، لمح بقعة غريبة بنية اللون على خشب الأرضية ومسحه بيده فوجده جافا. العجيب أنه وجد منها لاحقا الكثير حتى على الحائط وفي زاوية من النافذة وجد بصمة كف هرة باللون البني.


تجرع هايدن حلقه الذي بات جافا من هول الصدمة وفزع من طرق فأر على النافذة، جالسا على ظهر حمامة، ففتح هايدن النافذة وحادثه الفأر والحمامة مستعجلين "غريتا! غريتا!"


تحدث كلاهما بصوت واحد، وهايدن لم يحتاج للمزيد من الشرح كي يفهم ما اصاب غريتا، فنزل السلالم واستغل دخول مدام ميلينا لغرفتها ليفر من المنزل والباب تركها تتمايل ولم يفطن هيئة إليوت، التي ظهرت عند عودة الباب للخلف كاشفا عن ردهة المنزل. واقفا يحدق به بلا حراك...


ركض هايدن وساقاه الطويلة حملته للقفز فوق السور، ليكمل نزول التل والعشب الطويل من حوله غطى لما فوق ركبتيه. وصل للمعبر الترابي بين حقول الأهالي ومن كان يقوده في طريقه هو الحمامة الجالس على ظهرها فأر صغير.


أوصلته الحمامة لأرض ابعد من أرض آل بينيت، حيث هناك دلو في بعض مواضعه محطم والحشائش اجتازت طوله مغطية إياه. قفز الفأر من على ظهر الحمامة وقفز بين الحشائش ليقف أمام فاه الدلو "غريتا، يا غريتا اصبري"


جثا هايدن على ركبتيه وأزاح العشب فهربت شهقة لما رأى حالها المزري، إذ كان الدم يغطي كافة شعرها البرتقالي وعن وجهها الصغير، ففكها كان مكسورا والدماء لازالت تتدفق منه.


"غريتا! غريتا ماذا اصابك؟!"


خرخرت غريتا وبالكاد تمكنت من رفع رأسها، كل ما أمكنها فعله هو تحريك بصرها والنظر إليه بعينين أمكنها رؤية النور في آخر النفق. 


"من الوحش الذي فعل هذا بك؟" سألها بأسى وهو لا ينتظر منها ردا، امتدت اصابعه ليطولها لكن بدنها انتفض وأنفاسها تسارعت لتعاود المواء، لكنه لم يكن مواء يطلب الشفقة إنما مواء هرة تحتضر.


"لا، لا، لا... هايدن، يا هايدن أفعل شيئا. ألست طبيبا" جر السيد حمامة بمنقاره خصلة من شعره يستحلفه أن يعينها "لا تتركها على حالها هذا!"


عجز هايدن عن مشاهدة أنفاسها الأخيرة، فأغمض عينيه وأشاح وجهه عنها ولما فر منها مواءها الأخير هربت دمعة من مقلتيه وانسابت في نزولها مبللة وجنته. 


وبعد آخر صوت لفظته غرتا، شخصت عيناها وركد بدنها ومن فمها خرج نفسٌ أبيض ساخن، معلنا عن وصول هذه الهرة لآخر فصل من حياتها والقلم الذي يخط حكايتها قد توقف للأبد.


"غريتا، يا غريتا. ما بالك لا تجيبين؟" قام الفأر بهزها والسيد حمامة جره من ذيله كي يبتعد عنها ولا يحاول أكثر، فصاحبتهما قد ولت ذاهبة وتركت هريراتها الصغيرة تبكي عليها.


ابصر هايدن ما حوله بصعوبة، فعيناه قد أغرقت بالدموع، ثم سحب أنفه قبل أن يسيل منه المزيد. تنهد بحسرة وقبضته اشتدت على قماش بنطاله والشمس في الأفق قد غربت وامتد الليل مكتسحا السماء فوقه.


وبينما عيناه معلقة بالسماء يطلب ممن فيها الرحمة، هبط بصره لهيئة سيدة في أواخر الخمسين، تقف وسط الحشاش الطويلة وتنورة ثوبها التي تتطاير فاحت منها ريح طيب، أسرت فؤاد الحاضرين.


كانت تتوهج ومن بدنها البريق يقدح ويتساقط تماما كماركو الذي رآه هايدن في الغابة مع بيرل.


ضاقت عيناها من شدة سرورها ورفعت يدها، ملوحة لهم ثم التفتت خلفها، كما لو أن موعد رحيلها قد حان وسارت ماضية في طريقها، في حقل الشعير. ومن الشمال هبت ريح عاصف وصفيرها كان عاتيا، فمال سنابل الشعير وضربت الريح بدن السيدة فاندثر البريق وتطاير حتى خمد واختفى...


ثلاثتهم كانوا معقودي اللسان إلى أن تفضل السيد حمامة بالحديث والتعجب في صوته "هذه المرأة... إني أذكرها، لقد كانت سيدة من سيدات آل باومن وهي ابنة أخِ ميلينا" 


"ماذا تقول؟"


"كان لها زوج وذرية وقد هبطتُ على غصن شجرة الرمان وشهدتُ يوم وجدوهم جثثا مشوهة في حديقة دارهم"


استذكر هايدن موت الكلب ذهبي وماركو الذي ظهر بعده والآن موت غريتا وهذه السيدة التي ظهرت واقفة تلوح لهم مودعة كأنها تعرفهم. ووسط حيرته استذكر هايدن حديث الهرة غريتا سابقا، لما أخبرته بشعورها أن هناك شيئا ما، مقيدا داخل بدن الهرة، وأن هناك عمرا من حياتها يفوق الثلاثين هي غير قادرة على تذكره.


وما جعل شكوكه تزداد هي عدم تمكن جميع الحيوانات من النطق مثلهم، بل قلة قليلة والذي تحدث منهم لا يذكر كيف هو قادر على فعلها.


أي نعم هو راودته فكرة لكنه احتاج لمراجعة المذكرة كي يبحث عن سطر يأكد عليه، إلا أن المذكرة ضائعة وبالتأكيد من سرقها هو نفسه من قتل الهرة غريتا.


ومن له في المنزل سوى مدام ميلينا، جوان وصغيرتهم بيرل؟


والنصيب الأكبر من شكه كان لجوان، فهي من وجد المذكرة في صندوق جهازها أول مرة وعن سبب استبعاد بيرل، فهي بالتأكيد لم تكن لتقوى على ضرب الهرة لدرجة تهشيم عظامها.


"هايدن، ما الذي سنفعله الآن؟" سأله الفأر ووقف على قامتيه الخلفية.


"أظن أني... انتظرا، هل تسمعان هذا الصفير الخافت؟"


حاول هايدن الانصات جيدا وحالما فطنه ارتفع على قدميه مرغما وباشر بالسير "سحقا" تمم وعلى الفور سد أذنيه يمتنع عن الاستماع.


"لقد أتو وهم الآن يستدرجون القرويين بالتأكيد" حادثهما هايدن وهما لم يكونا متأثرين بذلك الصفير.


بحث هايدن عن مخبأ يتخفى فيه قبل أن يصيده ذلك الصياد، لكنه لمح مايكل يترنح في المشي منصاعا لقدميه التي تقوده خارج منزله حاله من حال ثلاثة من القرويين.


"مايكل!" نادى هايدن بهمس "يا مايكل تعال ولا تذهب!" لكن الآخر لم ينصت بل كان يضحك ويرقص بترنح فهذا الصفير يجلب السعادة للقلب.


"مايكل تعال لهنا حالا!" نادى هذه المرة بعلو صوته وبدنه كان مرتعبا من الحركة.


ولما اصيب أول فرد برصاصة فجرت رأسه، اندفع بدن هايدن من شدة رعبه وركض ليخرج من مخبأه فأمسك بقميص مايكل يجره.


فزع هايدن من سماع صوت الصفير فصرخ، كي لا تسمع أذناه صوتا آخر سوى صياحه وألقى بمايكل داخل منزله، أوصد على نفسه الباب ولطم مايكل لطمة تعيد له رشده. استفاق مايكل وهايدن جعله يسد أذنيه بيديه، كي لا ينصت لشيء سوى نفسه "دوريان، ما الذي يحدث ولما ضربتني أيها الوغد؟!"


"صفعتك كي لا تكون طعاما للشياطين! إنهم في الخارج وانت كنت ستذهب بقدميك لهم!"


"أنا؟!"


"بالطبع انت وما دفعك لفعل ذلك هو صفير طائر! إنه يسلب الناس وعيهم ويقودهم لتلك الوحوش!"


"ء... انتظر هل سمعت هذا؟" انزل مايكل يديه عن أذنيه وهايدن فعل المثل لما شعرا بخطوات الموت تقترب منهما.


"هناك أحدٌ قادم"

"سحقا... لابد أنه هو" تمتم هايدن.

"من؟"

"لا وقت للشرح، علينا الاختباء حالا"

"انتظر، لنفترق"


انفصلا عن بعضهما، كل ذهب في صوب والباب التي ابتعدا عنه أدير مقبضه كاشفا عن شخص، أذن لنفسه بالدخول وفي جعبته بندقية ذهبية اللون. سار بخطى رزينة وجزمته كانت ملطخة بالطين ومع كل خطوة اتخذها اصدر الخشب أسفله صريرا.


مر بالغرف واحدة  تلو الأخرى، كما لو أنه يعرف كل ركن وزاوية في هذا الكوخ ميت الإنارة، ودوما ما كان يدخل فوهة بندقيته قبل دخوله فيزهق به الروح قبل أن تكشف هويته.


قرر تسلق السلالم حينها قاصدا الطابق الثاني من منزل مايكل وهناك مر على الغرف أيضا. ولما لم يعثر على أحد، قرر العودة للطابق الأول وهم بالمغادرة فتنفس هايدن الصعداء أخيرا، لكن ذلك الغريب توقف والتفت برأسه نحو دولاب الساعة الكبيرة ضد الحائط واقترب منها.


نسي هايدن كيفية التنفس وهو يراه قد اقترب ورفع بصره للأعلى كي يرى على الأقل وجه قاتله، لكن شخصا آخر ولج للكوخ وناداه "لقد ذهبا صوب الغابة"


حينها أقلع هذا الرجل مجهول الهوية عن فعلته وركض خلف صاحبة الصوت الأنثوي للحاق بمن هرب وهنا قد ازداد رعب هايدن اضعافا مضاعفة فذلك الصياد لم يعد صيادا واحدا بل اثنان ومن الممكن أن يكونوا عصبة.


فكما اجتاز ماركو الاختبارات باسم آل غلور بالتأكيد هناك مثله من اجتاز الاختبارات حاملا لقب عائلته.


وعن من قررا اللحاق بهما فقد الفأر وصاحبه السيد حمامة حطما بعض الاغصان في اتجاه الغابة فيظنا أنهما هربا لهناك.


لهث هايدن أنفاسه وأراح رأسه ضد الخشب ثم فجأة ظهر وجه أمامه ونادى "دوريان!"


انتفض هايدن فزعا ولما اكتشف أنه مايكل قد خرج من مخبأه لما شاهد الصياد يهرب شتمه وخرج من مكانه.


"تمالك اعصابك فلقد ذهبا"

"هل تمكنت من رؤية وجهه؟"


"إطلاقا ويا ليتني تمكنت من رؤيته فأفجر رأسه على فعلته الدنيئة"



"مايكل نحن علينا الفرار فهما سيعودان بالتأكيد"

"انتظر. من هذان يا دوريان، انطق فإن خوفي يزداد"


"وهذا ما عليك فعله، ان تخاف منهما فهما لن يتهاونا بصيدنا"

"دوريان انطق ولا تعبث معي بالأحجيات!"


افصح هايدن عما كشفه من مكائد ذلك الحكيم ومايكل لولا رؤيته هذان اللذان يلوحان ببندقيتهما لما صدقه، بل ولقام بتسليمه للحكيم بنفسه قائلا أنه يفتري عليه.


"بئسا، بئسا يا دوريان! وما نحن بفاعلين الآن؟ هل سنواجههم؟"


"وهل ستواجه ما لا تعرفه؟ لازلت جاهلا بهوياتهم! ولو كنت محظوظا لتمكنت من رؤية وجه ذلك الوغد الذي دخل علينا ملوحا ببندقيته"


"إذا سنهرب؟"


"بالطبع سنفعل فلا نية لي بالبقاء هنا اكثر" تذكر هايدن ما اوصته به بيرل أن يغادر قبل حلول موعد زفافها "دورنا سيأتي قريبا فلم يتبقى من الأهالي الكثير"


"لكن ماذا عن منزلي، ماذا عن الرفاق؟ وعن غصن التفاح خاصتي؟"


"لا علم لي بشأنهم يا مايكل لكن ليكن بعلمك أني سأغادر القرية ليلة غد فالاثنين آمن للسفر"


"هلا انتظرتني كي أغادر معك؟"

"سأنتظرك عند البئر إذا، خذ معك ما تستطيع حمله"

"هناك شيء آخر يا دوريان"

"ما هو؟"


"إني أعرف من القرويين من يريد الفرار ف..."

"لا يا مايكل نحن لن نأخذ أحدا معنا! ما أدراك أنه لن يكون يدا من أيدي الحكيم!"


"لا، لن يكونوا كذلك، إني أثق بهم وهم لن يمكروا بنا شرا بالتأكيد"


لم يعجب هايدن باقتراح مايكل لكنه وفي صباح اليوم التالي شعر بالحرقة التي شعر بها مايكل لما لمح بيرل ترعى الغنم وتقوم بتسييرهم في المرعى لكن دون وجود كلبها ذهبي إلى جوارها.


تأملها وكلما أمعن النظر بها مر طيف ذكرياته والوقت الذي قضاه معها أمام عينيه وشعر بالحسرة تنهش فؤاده، فقرر فعل ما حذر مايكل منه وتقدم نحوها مناديا وعن عدم حب بيرل له فهو لم يكن مهتما، بل كل ما أراده هو سلامتها.


"بيرل!"

"يا بيرل!"


التفتت بيرل نحو الصوت المنادي ورفعت يدها فوق عينيها كي تحجب أشعة الشمس وتبصر جيدا "هايدن؟"


"نعم" توقف على مقربة منها ورياح الخريف عصفت بهما فرفرف قميصه الفضفاض ولفائف شعره الذهبية تطايرت حالها من حال العشب الطويل. تبسم من مظهرها المعتاد فها هو شعرها معقود في ظفيرة وثوبها الأزرق تنورته ترفرف فبدأ حديثه ممازحا "أخبريني أيوجد عروس ترعى الغنم في يوم زفافها؟"


تنهدت بيرل بأسى لما ذكرها بالثوب الأبيض الذي سترتديه الليلة، وهزت رأسها بقلة حيلة وسألته "هايدن، لما لم تغادر بعد؟ ظننتك غادرت ليلة أمس لما رأيت غرفتك فارغة"


"سأفعل الليلة" تلفت برأسه من صعوبة نطقها فكبريائه قد اعتصر على لسانه يمنعه  "فتعالي معي يا بيرل"


"ماذا؟" تعجبت بيرل من طلبه وتلفتت حولها خشية أن يكون هناك من سمعه "هل أذناك تسمع ما تقول يا هايدن؟"


"نعم يا بيرل، تعالي معي وغادري هذا المكان الذي بات شطرا من الجحيم" تقدم نحوها خطوة و اعتصرت بيرل على عصاتها التي تهش بها الغنم.


 "اجمعي أغراضك يا بيرل وهيا بنا فما سبب بقائك؟ لستِ راضية بذلك الزواج والموت يلوح بنا من كل جانب هنا" باعد هايدن بين يديه وقد حاول اقناعها بلسانه وبكل جزء في بدنه.


بحث في تعابيرها عن الرضى والموافقة بما يقول، لكنه وجدها تهز رأسها رافضة كالمجبرة، فهز هايدن رأسه رافضا رفضها ويداه طالت كتفيها يعتصر عليهما وقال "لا، لا، لا يا بيرل" 


هزت بيرل رأسها بقهر وبضعف من المسؤوليات الواقعة على كتفيها دفعت يده بوهن  عنها فكوب هايدن وجنتيها، كي تستجمع شتات نفسها وتفكر باتزان "بيرل، حبا بالرب بيرل انتِ لا يمكنكِ البقاء"


"وإن خرجتُ معك فإلى أين سنذهب؟ إنت هارب من موطنك أم نسيت؟" رفعت اصابعها لتمسك بيده المستقرة علي وجنتها.


"سنجد حينها حلا لكن كل شيء أهون من الموت هنا" دعك هايدن وجنتها بابهامه يحاول اقناعها فابعدته بيرل عنها وضمت عصاة الغنم لصدرها.


"لا"

"بيرل..."


"لستُ بمغادرة، لا يمكنني تركُ منزلي ومن احبُ هنا. أمي لن ترضى عليَ حينها"


"بيرل، أقول لك الموت قادم لنا وتقولين لي حبُ والدتك؟! بئسا لوالدتك!" 


"هايدن!" زجرته كي لا يتمادى "سألتني واخبرتك أني لستُ بمغادرة فغادر انت الليلة" زمت شفتيها وبدت كمن تنتظر قدوم مصيبة.


"غادر قبل الغروب يا هايدن"

"لا تتباطئ"

"ولا تلتفت خلفك"


"بيرل... ما الذي سيحدث الليلة؟" سألها ثم فزع لما وجد جديا أسود اللون ذو قرنين يسير مجتازا الخراف ثم استقر واقفا إلى جوار بيرل.






عن الكاتب

إليناز كاتبة سابقة في تطبيق الواتباد و لي من الاعمال الكثير اشهرها الجميلة و الوحش في الشقة المجاورة, القرية خلف سكة الحديد و روميو و الوحوش في السرداب كذلك قصص سابقة مثل الغراب و الرداء الاحمر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

illynaz