عادت المياه لمجاريها بالنسبة لآل لا روس، إذ كانوا من حين لآخر يستقبلون نزيلا أو اثنين، لكن الأمور لم تعد لعهدها السابق بالنسبة لبيلا، التي وصلها خبر إقامة حفل زفاف عشيقها من فتاة اختارتها والدته لأجله.
في الأيام الأولى، حاولت بيلا أن ترضي كبريائها بالزعم أن ماتيو لن يتخطاها، بل وسيرى طيفها يلاحقه في كل مكان ثم سيعود إليها راكضا.
إلا أن ماتيو، لم يدق بابها أو يظهر في طريقها حتى بعد مرور ثلاثة أشهر وفي بداية الشهر الرابع، نزلت بيلا الى سوق البلدة تجر دراجاتها الهوائية نية التسوق، فاشترت من الخضار ما يسد حاجتهم وحاجة نزلهم المتواضع وبينما هي تسير، لمحت الطريق الذي يؤدي لمنزل ماتيو حيث يقطن مع زوجته الجديدة.
تلفتت حولها، خشية أن يراها أحد ثم اطاعت وساوس الشيطان داخلها وقادت دراجتها قاصدة داره وتوقفت على مقربة من الحديقة، إذ وجدت زوجته والتي تكون ابنة العمدة تلقي الحبوب لدجاجاتها.
عاينتها بيلا من بعيد تبحث عن المميزات التي رشحتها لهذا المنصب المهم، إذ كانت شابة كثيرة النمش وذات خصل صهباء كالجزر. إن سألت عن القامة فهي اقصر قامة من بيلا وإن سألت عن الوزن فهي اكثر بدانة منها فإذا ما السبب الذي رشحها؟ أهو الصوت؟ فبيلا لم تمتلك صوتا رنانا محببا للأذن إنما صوت فيه بحة خشنة كالرجال هي تمقتها. أهو المال الذي تفتقره؟ فبيلا لم تكن إطلاقا ذات جيوب وفيرة مثل ابنة العمدة او اثواب فاتنة...
خرج ماتيو من المنزل وفي جعبته المزيد من الحبوب للدجاجات، اختض قلب بيلا حينها وكاد يفر هاربا من صدرها، فللتو هي أدركت أن تفكيرها المفرط فيه ما كان إلا شوقا مكبوتا. راقبت بيلا أدق تفاصيله وعاينت ابتسامته التي ارتسمت حالما رأى زوجته وبؤبؤ عينه الذي اتسع مفتونا بما يرى.
سار نحوها بخطوات هائمة ويده وجدت طريقها لخصرها، يجرها لتقترب منه ولا تبتعد، قضمت بيلا شفتها من شدة غيرتها وقهرها فماتيو لم يتقدم نحوها كرجل عاشق في يوم، انما دوما أتاها كصديق يصغرها سنا.
وتلك اليد والاصابع الشجاعة التي تضغط على خصر زوجته لم تضغط عليها وتغمرها بدفئ لمسة حانية يوما.
مال ماتيو برأسه لأذن زوجته التي قهقهت مما تلفظ به ثم دنى بشفته ليقبل وجنتها ومن هناك انحرف قاصدا شفتيها.
شهقة فرت من بين شفتيها مصدومة بما ترى، غرزت بيلا اظافرها بمقود دراجتها وانفاسها تسارعت من شدة حقدها ولكي يتدارك انفها هذه المصيبة، اتسعت فتحتاه.
راقبته وراقبت كل تعبير وكل حركة يفتعلها، راقبت الحب الذي تجلى عليه وعلى زوجته ومع كل صوت متلذذ يفر هاربا من جوف صدره ذرفت عيناها الدموع.
ولهذا أعلنت بيلا أن شهر أيلول، هو الشهر الذي مات فيه قلبها. من بعد تلك الحادثة لم يعد هواء البلدة منعشا لرئتيها ولا طعامها محببا لمعدتها، حتى السماء فوقها، باتت سجنا والأرض أسفل قدميها مقبرة لذكرياتها الحلوة.
الخروج لم يعد عادة من عادتها المفضلة وفي كل مرة اغتنمت مبلغا من المال، رسمت خطة عنوانها الرحيل عن هنا. لكن ما منعها هو الى أين ستفر هاربة؟ فهي لم تكن مستعدة أبدا لحياة الشقاء.
وفي إحدى المرات بينما كانت تمارس هواية التطريز إلى جوار والدتها في السطح ومن حولهما شراشف الغسيل تتطاير مع النسيم، تذكرت بيلا ما عرضه سنيور رومان عليها في ليلة تموز الحارة.
حينها ولأول مرة هي فكرت بالموضوع بجدية، ولم تجد في هذه الفرصة أي شائبة، فبزواجها منه هي ستفر من هذه البلدة ومن ذكرياتها ومن الخزي الذي لا يكف عن ملاحقتها...
وعن الحب الذي اعتبرته شرطا لابد منه لإقامة الزواج؟ لم تعد ترى بيلا مانعا من الاستغناء عنه في سبيل تحقيق مبتغاها...
لذا عزمت بيلا في ذلك اليوم على كتابة رسالة الى سنيور رومان تخبره فيها عن موافقتها وقد زينت عبارتها الجافة ببعض الكلمات الودودة كعزيزي، أو وصف الوقت القليل الذي جمعهما بقطعة من النعيم، فلا يشعر أنها تستغله ثم سألته أن يأتي إلى البلدة كي يأخذها معه فلا تعاني من الوحدة في الطريق...
كم كان قلبها يضرب بقوة وكم كانت اصابعها ترتجف بينما تشاهد موظف البريد يختم رسالتها، صوت في داخلها استحلفها ان تسحب الرسالة وتمزقها لكن رغبة الهرب والانتقام لكبريائها كانت طاغية لذا سألت الموظف "برأيك متى سوف تصل الرسالة للعاصمة؟"
"أسبوعان وفي الثالث ستصل للمستلم"
"من فضلك ألا يوجد طريق أسرع من هذا؟ لست مستعدة لمراجعة قراري فهذه مسألة حياة أو موت"
"ماذا؟ انظري إن كانت رسالة مهمة فبإمكانك الاتصال لكنه سيكلفك الكثير"
"لا مانع لدي، الاتصال سيكون افضل! لدي الرقم فهلا دونته لأجلي"
وضعت بيلا الكثير من النقود أمامه والموظف لم يستطع أن يرفض لها طلبا بعد كرمها هذا، تلفت الموظف حوله ثم فتح قفل المكتب وأذن لها ان تدخل معه لما يوجد خلف هذا الشباك.
لحقت به بيلا ووقفت بذهول أمام الهاتف المعلق في الحائط، مد الموظف يده يسألها عن الرقم فأعطته الورقة وباشر بالنقر يطلبه.
"ليكن حديثك سريعا ومختصرا فليس من المفترض أن يراك أحد هنا"
"حاضر سأفعل"
ناولها الموظف سماعة الهاتف فوضعتها قرب أذنها وسمعت رنينا ولا شيء سوى الرنين "هل هذا الصوت طبيعي؟"
"أجل سيستمر هذا الصوت حتى يجيب"
أومئت بيلا ومن شدة توترها سلخت قشرة جافة من شفتها، ضميرها أنبها كثيرا، يعرض عليها حياة مريعة بعيدة عن نزل أخيها لذا ومن شدة خوفها قررت أن تعرض عن الأمر وتوقف مخططها.
عزمت على ابعاد السماعة لكن الرنين انقطع فجأة وحل محله صمت شديد ثم سمعت صوت انفتاح شيء وأنفاس رجل من الجهة الأخرى.
"معكم قصابة دي كارلو للحوم كيف يمكنني المساعدة؟"
اصيبت بيلا بالجزع والتفتت للموظف تمد له السماعة لكن الموظف ارتعب وأشار لها أن تتحدث بسرعة فقالت بتوتر "م.. مرحبا؟"
"مرحبا سنيورة كيف يمكنني المساعدة؟"
"سنيور رومان؟ هذه أنا بيلا!"
"آه المعذرة سنيورة ليس لدينا احد باسم رومان "
"أقصد نيكولو"
"حضرة السنيور صاحب القصابة؟"
"نعم من فضلك دعني احادثه"
"لست واثقا من أن هذا ممكن في اللحظة الراهنة"
"إنها مسألة حياة أو موت! قل له بيلا لا روس قد جهزت لعرضك جوابا وهو بالتأكيد سيوافق على محادثتِ"
"لن أعدك بشيء سنيورة فالسنيور دي كارلو مشغول الآن لذا ابقي على الخط من فضلك ولأرى ما يمكنني فعله"
انزل الشاب من الجهة الأخرى السماعة ووضعها على الرف ثم دفع البوابة الخشبية التي تؤدي لداخل المذبحة حيث يقومون بذبح الحيوانات والحفاظ عليها.
تجاوز الشاب بقع دم لم تكن عائدة لبقر أو لخروف واقترب من رب عمله الذي كان منكبا على طاولة معدنية ومنها كان يصدر صوت أنين آدمي، وكلما استمر مقص نيكولو بشق طريقه اهتزت القدمان الى ان توقفتا عن الحركة.
"سنيور، استمحيك عذرا لكن قد وصلك اتصال عاجل"
"لست متفرغا لأرد على أحد"
"اخبرتها لكنها لم تقلع، إنها سنيورة تلح بطلبك وأدعت أنك سترغب بالحديث معها حالما تسمع اسمها وجوابها على عرضك... لقد كانت بل روس من الممكن؟"
"بل روس؟"
قطب نيكولو حاجبيه في محاولة لتذكر شخص يعرفه بهذا الأسم وفجأة انحلت عقدة حاجبيه وهرول قاصدا مكتب المتجر حيث الهاتف معلق. تعجب الموظفون من رؤية مديرهم يهرول لأول مرة وقد نسي نزع جزمة العمل أو مئزر العمل الطويل رغم امتلاكه قوانين صارمة حيال النظافة.
دفع نيكولو البوابة وسارع بالتقاط سماعة الهاتف متناسيا أمر قفازه الدامي ليسأل واللهفة بادية في صوته.
"ميرا؟!"
شعرت بيلا بلسانها يعقد حالما سمعت صوته من الجهة الأخرى والخجل قد اصابها للدرجة التي كانت قادرة فيها على ضرب السماعة بالحائط وانهاء المكالمة.
"ميرا هذه انت؟"
"نعم!"
كرهت بيلا نفسها فلقد صاحت بنعم دون قصد منها ثم حاولت جمع شجاعتها لتقول "سير رومان لا أملك الكثير من الوقت فالموظف واقف وهو يستعجلني لذا اسمع، أنا موافقة فتعال لتأخذني!" ثم لاحظت كونها جملة ناقصة لذا اضافت "من فضلك"
"والآن وداعا"
أغلقت بوجهه الخط على الفور ثم القت بظهرها الحائط واغلقت فمها بكلتا يديها فهذه أول مرة تجرب استعمال الهاتف لهكذا اهداف لن ترضي الرب..

.png)
ترك كل شيء دامي حوله عشان يسمعها😭
ردحذفما كانت تحتاج تعنيف من أمها قد ما كانت تحتاج شهاده واضحه تقتنع فيها الحمدلله رجع عقلها لراسها 😭
ردحذف