**تنويه؛ قمت ببعض التعديلات في احداث هذا الفصل..
صورة دخان تلك المحرقة ورمادها المتطاير، لم تفارق بال هايدن الذي راوده هم وحزن شديد وفي كل مرة تذكر وجه ذلك الصبي الصغير، ضميره أنبه بشدة وتمنى لو أنه شاجر عائلته وصاح بهم، عل احدا منهم يستفيق قبل أن يلقى حتفه.
"كيف تمكن من معرفة من سيموت؟ هل حقا هو له عِلمٌ لا نعلمه؟"
راودت الشكوك رأس هايدن لدرجة أنه وصل لمرحة قريبة من الهاوية، ألا وهي الإيمان بدجل ذلك الحكيم وبشياطين هذه القرية، فالوحوش حقيقة لا مفر منها، تزورهم كل ليلة فلما لا يكون الحكيم محقا؟
فمهما فكر هو لا يستطيع إيجاد تفسير علمي واحد لما يصيبه وكلما عجز عقله عن الترجمة، اضطر لتصديق ما يقال له، وهذا التوجه لم يكن بالطريق السهل، فكبريائه كان صلبا لا يرضى بالنزول لمستوى هؤلاء القرويين ومشاركتهم نفس الإيمان..
أما عن التطهير، فكل بيت من بيوت القرية أقام هذه الحملة ولم يكن بوسع هايدن، سوى أن ينزوي بعيدا عنهم وريثما هو جالس في الحديقة، يحدق بالغيوم التي تدافعت بسبب الريح سمع حديثا يدور بين سيدتين..
"ما بهم هؤلاء القرويون يتصاعد الدخان من مداخنهم بكثرة؟"
"ألم تخبركِ غريتا عن الخبر؟ قالت ان هناك اثنان من القرويين قتلا ليلة أمس بوحشية"
"وكيف لغريتا أن تعرف وهي لا تغادر منزل السيدة باومن؟"
"أندرين من أخبرها"
"وكيف لأندرين أن يعلم وهو لا يطير في الليل؟"
"هذا لأن لوريس من أخبره"
"لكن لوريس لا يخرج من جحره؟ فكيف سمع الخبر؟"
"لين هي من ابلغت لوريس، فأسرع كي يحكي لأندرين، ما جرى وغريتا سمعت الخبر منه"
"ذكرتِ الجميع ولم تذكري الكلب ذهبي، ألا علم له؟"
قطب هايدن حاجبيه واعتدل بجلسته بحثا عن هاتين السيدتين اللتان فقدتا صوابهما ولم يجد أمامه سوى دجاجتين تنبشان في التراب بحثا عما يؤكل.
نهض من مكانه وتلفت حوله بحثا عن أي أثر لأنسي كي ينسب إليه هذا الحديث لكنه كان وحيدا في الحديقة فإذا به يسمع من خلفه صوتا مناديا.
"آفا! لِيا! هل سمعتما بما حدث، لقد ذبح الحكيم عِجل باولا البارحة!"
"أغلق فمك يا أندرين ألا ترى حفيد الجدة واقفا بالقرب من هنا!"
التفت هايدن خلفه مجددا ولما أنزل بصره للدجاجتين وجد حمامة قد هبطت لتقف إلى جوارهما ثم الثلاثة نبشوا في التراب بحثا عن الدود.
تبسم هايدن حتى ظهر صف أسنانه وضحك بشدة، هز رأسه والتفت عائدا أدراجه للمنزل، فالخطوة الأولى كانت موفقة وفي الثانية سقط مغشيا عليه ومن خلفه انتقل الحمامة ببصره للدجاجتين.
"هل مات؟"
"عمي دوريان؟"
رف جفنا إليوت لما خرج من المنزل، في نيته اللعب لكن منظر العم دوريان مغشي عليه أرعبه، فنادى على جدته وأمه يستنجد بهما. حينها ندم هايدن على خسارة انضباطه فلقد أذاقته مدام ميلينا وجوان الويل في جلسة التطير.
فهايدن لم يكن ليفقد وعيه إلا بسبب التعب وما كان التعب ليصيبه، إلا بعد تلك المحرقة وتلك المحرقة، ما كانت لتحدث إلا بسبب حفيد بينيت والسيد إيليم المريض، اللذان قد مسهما شيطان قوي. مما يعني أن سبب إغماء هايدن هي الشياطين وبالتأكيد اكلت رأسه بعد مغادرته القرية مع بيرل في ذلك الحادث.
هكذا قامتا بربط الأحداث ووفقا لها تصرفتا، إذا اجلستا هايدن في كرسي منتصف الغرفة ولأنه قاومهما، قامتا بربطه ثم صنعتا دائرة حماية من الحجارة ومن بعيد، رشت جوان ماء مبارك والجدة ألقت عليه الملح بينما تردد صلوات لا يقوى هايدن على فهمها.
رددت جوان وميلينا الصلوات سويا بصوت واحد، ثم بصقتا في كوب الماء ومن كانت حاضرة جلسة التطهير بصقت فيه أيضا "يا سيدات ما بكن بصقتن بالكوب هكذا؟ من فضلكن خيبن أملي واسكبنه في الخارج"
إلا أنهن لم يخيبن أمله كما تمنى واجبرنه على شرب ما في الكوب، حرك هايدن وجهه للجانبين، غير راضي بتجرع هذا القرف لذا وبسبب عناده، اضطرت جوان لاستهلاك ما تملكه من قوة بدنية واحكمت الامساك برأسه، كي تدخل والدتها الماء لجوفه فيبتلعه.
"يا بني ابتلعه هيا فهو سيشفيك" حثته مدام ميلينا لكن هايدن رفض تجرعه ولما عزمت جوان على اجباره بصق ما في فمه من ماء قذر في وجهها.
"آهه! القرف!" تجعدت معالم وجهه هايدن وهو يحاول جاهدا نسيان طعم ذلك الماء اللزج في فمه.
"إن الشيطان داخله قوي، يا جوان احضري ذيل ذلك الفأر كي ننقعه بالماء فيشربه ويشفى"
رف جفنا هايدن وهو يرى مدام جوان، جلبت ذيل فأر محنط ونقعته في كوب ماء. اهتز بدن هايدن فهو لم يعد قادرا على تحمل القرف لذا سقط مغشيا عليه مجددا والسيدات هتفن بأنهن انتصرن على الشيطان. لكن فرحتهن تلاشت عندما وكزت مدام ميلينا هايدن ولم يستيقظ، لذا توجب عليهم جلب مختص في هذه الحالة ألا وهو الحكيم.
الذي قام حضرته بنثر بذور شعير في المدفأة فتبدل لون النار، حينها أخذ خشبة ووضعها في وعاء حديدي داخله نبتة، يدعوها الجميع هنا نبتة الشفاء واجبر هايدن على استنشاق كميات كبيرة من دخانها.
بالكاد تمكن هايدن من ابقاء عينيه مفتوحة، فالكمية الكبيرة التي اجبر على استنشاقها نخرت لفائف دماغه، شعر هايدن حينها بثقل كبير في رأسه كما لو أن أحدهم وضع عليه صخرة.
"رأسي... رأسي انه ثقيل... من هذا الملعون الذي يجلس عليه؟ اقسم أني سأنطحه" تلفظ هايدن بعشوائية وتمايل رأسه للجانبين من شدة ثقله، فظن الجميع أن الشيطان اخيرا كُشف وبدأ الحكيم بقول تعويذاته ورشه بالملح.
تبسم هايدن وباشر بالضحك مستمتعا بما يرى فلقد خيل له أن الجميع مجتمع حوله يحتفلون فرحين به ولكن في الحقيقة توجسوا منه خيفة وظنوا ان الشيطان هذا قوي لا يقهر.
"ما بها يداي عالقة خلف ظهري؟ فكوها لي كي أصفق معكم" ضحك هايدن ومدام ميلينا اغرقت عيناها بالدموع وتوسلت الحكيم أن ينقذ ابنها.
والحكيم أنقذه بالفعل، فلقد ضربه بعصى المدفأة ومجددا المسكين سقط مغشيا عليه لكن بعلة ألا وهو الدم الذي سال من مؤخرة رأسه. اوصى الحكيم مدام ميلينا في هذا اليوم، أن تحرق المزيد من النبتة في غرفته وتوصد عليه الباب والنافذة فلا يخرج الدخان بعيدا وهكذا فعلت العجوز.
"سيدي الحكيم أتوسلك أن تحل مشكلة حفيدي فلقد تكررت جلسات التطهير خاصته منذ مجيئه إلا أنه لازال يعاني من ضعف بدنه وهشاشته أمام الشياطين" سألته مدام ميلينا النصيحة بعد أن اغلقت باب غرفة حفيدها وإلى جوارها ابنتها جوان.
حدق الحكيم بهما ثم تنهد بقلة حيلة وقال "سأبوح لكما بسر لكن لا تفزعا، إني أيضا قلقٌ حيال حفيدك وقلقي هذا ليس من فراغ فلقد حدث شيء عجيب لم يحدث من قبل، هل تذكرين لما طلبت لقائك قبل مجيئه إلى هنا؟"
أومئت مدام ميلينا موافقة إذ أنه طلب قدومها إليه لكنها تخلفت عن موعدها بسبب انشغالها فأكمل الحكيم قائلا "طلبتك حينها كي أعزيك بوفاة حفيدك فلقد سقطت ورقة عمره المعلقة في الغرفة المقدسة واحترقت لكن صعقت لما رأيته حاضرا إلينا بشحمه ولحمه بعد بضعة أيام"
"حضرة الحكيم أخبرني هل علي أن احزن أم أفرح؟ فلست افهم ما يتوجب علي فعله"
"عليك القلق عزيزتي ميلينا، فورقة العمر لا مجال لها لأن تخيب. حفيدك مشكوك في أمره وطائري نفسه غير قادر على اخباري بما يحدث"
"ماذا سيحل به إن كان مشكوكا بأمره"
"سيحل به ما حل بجميع من شكلوا خطرا على قريتنا لذا يستحسن بكِ أن تتقبلي الأمر وتتجهزي لتوديعه"
"لا، لا من فضلك يا حضرة الحكيم لا تقل هذا! إنه حفيدي وقد ضممته لصدري البارحة فكيف تريدني أن أودعه اليوم!"
"هذا كل ما لدي يا ميلينا العزيزة وحذار من الاعتراض كي لا يطولك سوء أنت أيضا، فحضرتك شخص له مكانته واحترامه في القرية وخسارتك للشياطين ستكون علينا فاجعة"
حذرها وبنفس الوقت واسها وقبل أن يستأذن ألقى نظرة لجوان التي كانت تهدأ والدتها المنهارة وأومئت له. غادر الحكيم منزلهم وجوان أعانت والدتها التي لا تكف عن النحيب لغرفتها وبينما هي تسير في الممر لمحت باب غرفة بيرل مفتوحا وهي في سريرها ماكثة تطرز.
تبادلتا النظرات فجوان علمت أن بيرل سمعت ما دار بينهم من حديث وقالت موصية لها "ساعدي والدتنا في تخطي هذه الأزمة واجعليها تتقبل الفراق"
"لكن اختي.."
"المعذرة هل قلت تتقبل؟ بل اجبريها عليه، ليس بي طاقة للعب الأطفال هذا، فللنفذ أمر الحكيم ولنعش بسلام"
أما عند هايدن فقد اختلط الواقع عليه بالوهم وتشابك الحلم بالحقيقة، فلم يعد يفهم أهو نائم أم مستيقظ وكم من مرة رأى في سقف غرفته اسماكا تسبح.
لكن ورغم تنفيذ ميلينا جميع توصيات الحكيم حول صحة هايدن، إلا أن حفيدها قطع تناوله للطعام هذه المرة وبات لا يغادر سريره، لذا عزمت أنها ستمر على الحكيم في صباح اليوم التالي وبحكم أن الليلة هي ليلية اثنين، اضطرت لمغادرة منزلها برفقة ابنتها، لزيارة دار عائلة بينيت ومساعدة ابنتهم التي ظهر عليها نفس أعراض هايدن ألا وهي الإغماء.
كان المنزل خاليا لا أحد فيه وهايدن ماكث في فراشه يتقلب، فكلما هم برفع رأسه عاود السقوط من شدة ثقله "كفى.. كفى ارجوكم" ضرب رأسه بيده مرات عدة وفي تلك الاثناء ولج أحدهم لغرفته وسكب الماء في الوعاء كي يخمد شر تلك النبتة.
فتح هايدن عينيه وحملق باليد التي امتدت لفتح النافذة فوق سريره وعبرها تدفق نسيم منعش محى رائحة ذلك الدخان الخانق. حرك رأسه بوهن ليجد أنها بيرل، قد استغلت رحيل أمها واختها وتخلصت من تلك النبتة..
"سير هايدن، هل انتَ بخير؟"
"ماء.."
اكتفى هايدن بطلب هذا، فجوف حلقه كان جافا بشدة، استعانت بيرل بالعكازين وسكبت له ماءً ولما قدمته شربه هايدن ولم يسرف بقطرة أبداً "ترغب بالمزيد؟"
"لا.. هل تعلمين، لأول مرة منذ مدة طويلة يراودني حلم جميل"
مال رأس هايدن للجانب وأغمض عينيه مرتاحا فالهلوسات المرعبة تلاشت وحل محلها هلوسات عن بيرل قد زارته تقدم له الماء، لكن راحته هذه لم تدم فلقد فزع من يد رطبة بالماء تمسح على وجهه كي يستفيق.
"سير هايدن، من فضلك أفق وتعال معي الى الحديقة علك تسترد رشدك بعيدا عن رائحة تلك النبتة"
جرته من يده كي ينهض واستعانت بعكازها، حرصت بيرل على اخراجه من هذه الغرفة كما وعدته واخذته نحو شرفة المنزل حيث عشب الحديقة الرطب لامس قدميه.
قدمت له رغيف خبز كي يملئ بطنه لكن هايدن حالما رأى الطعام شعر بالغثيان واكتفى بطلب المزيد من الماء، جلبت بيرل له ما يريد لكن ليس بسرعتها المعتادة فالجبيرة كانت عائقا أمامها وحتى في جلوسها على الخشب الى جواره هي عانت.
"تفضل سير هايدن"
ضم هايدن الكوب بين يديه وحدق بالأفق امامه مستنكرا وجود انوار مصابيح تنير بعضا من المنازل "لما المصابيح؟ هل تمكنت من مغادرة القرية؟"
"انها ليلة الاثنين لذا لا خوف من اشعال المصابيح سير هايدن"
تبسم هايدن بشفقة على حاله وقال "كانت السعادة ستغمرني لو قلتِ أني غادرت القرية وانتِ أتيتِ برفقتي"
زمت بيرل شفتيها وهبطت عيناها ليديها المستقرة في حضنها، لا تدري هل تحزن أم تفرح بإفصاحه عن رغبته بالسفر معها لكنها وضعت هذا الاحتمال بعيدا ونسبت سبب تلفظه بهذا بالهلوسات التي تفتعلها تلك النبتة.
أما هايدن فقد تنهد من عنده لعدم مغادرته القرية وفرك على جبينه بسبب الصداع، الذي بدأ يراوده وقال حالما لمح جبيرة بيرل تتدلى وبياضها الذي كان ناصعا بات قذرا في مواضع كثيرة.
"كيف حال قدمكِ؟ أرى جبيرتك متسخة، هل كنتِ تتجولين رغم أني اوصيتك مرات عديدة بأن لا تغادري الفراش؟"
تبسمت بيرل واهتز صدرها بفعل قهقهة مكتومة فهذا -الطبيب- حتى في هكذا اوقات ينطق بهذا..
"إن ملازمته صعبة بالنسبة لي وفي أحيان كثيرة توجب علي النهوض ومساعدة اختي في المنزل"
"جوان؟ آه من شمطاء هذه القصة، قطعت لي وعدا بأنها لن تجبرك على مغادرة الفراش، طالما أني انجز اعمال المنزل... لو اخبرني احد في يوم اني سأحمل العلف على ظهري كل صباح ما كنتُ لأصدقه أبدا"
ابتسامة بيرل لم تتبدد ابدا بينما تنظر اليه وهو يثرثر بتعب عما يعانيه من عمل شاق، حينها هي نسيت كونه اجنبيا مجهول الهوية وشاركته اطراف الحديث بينما النمل كان يمر على مقربة منهما كما لو انهما في نزهة.
"سير هايدن، اما عادت لك شهيتك بعد؟" سألته فهز رأسه نافيا، لم ترضى بيرل بجوابه وكي لا تثير اشمئزازه القطعة الكبيرة هي اقتصت منها ومدت له اخرى صغيرة "تناولها كي اتناول حصتي أيضا فأنا اتضور جوعا ولم آكل شيئا منذ الصباح، لقد غبت عني ولم تحضر صينية الفطور"
"ألم تحضرها لك مدام ميلينا؟"
"لقد كانت مشغولة بتطهير المنزل ونسيت ابنتها... في الواقع إني اشتكي إليك يا حضرة الطبيب من نسيان اسرتي لي وأولهم انت" مازحته.
"شكرا لترك شكواكِ في صندوق الشكاوى، سنرى ما يمكننا فعله لحل هذه المعضلة بأسرع وقت ممكن" سايرها هايدن.
حدق هايدن بقطعة رغيف الخبز وأجبر نفسه على مضغها كي تأكل هي أيضا ولا تحرم نفسها لأجله، فتناول الاثنان ما بايديهما من خبز وبصرهما بقي معلقا بالأفق أمامهما كل منهما يحمل هما من نوع آخر..
"سير هايدن"
"أجل؟"
"أما اقترب موعد رحيلك؟ إني اسأل خشية أن تطيل البقاء هنا اكثر ويمسك من ضرر القرية المزيد، فحضرتك لست بابن هذا المكان وجلدك غير صلب"
"وهل صلابة الجلد تدفع عنك ألم رؤية ابن بلدتك تشب في بدنه نيران المحرقة؟"
هز هايدن رأسه للجانبين بأسى "هل ذلك الحكيم هو الحق المطلق؟ فتراه يشرع لنفسه مداواة فلان وحرق فلان؟" انتقل هايدن ببصره إليها وبكل جدية سألها "هل هو ربكِ وإلهك يا بيرل؟ أمن دينهِ انتِ؟"
"سير هايدن من فضلك غادر ولا تطل البقاء هنا" هزت رأسها بأسى وتحاشت الرد على سؤاله "إنك غير قادر على العيش هنا اكثر من هذا وإن استمررت فمصيرك سيكون من مصيرنا، فلا احد هنا سواي يعلم بهويتك، فانت اجنبي عن هنا والقوانين لا يمكنها ان تطولك.. لكنهم طالما يظنونك فردا منا فستطولك تشريعات الحكيم وإن رفضت ذلك"
زفر هايدن بضيق وراوده شعور الاختناق فمهما كانت السماء فوقه ممتدة والأرض مبسوطة، فسيحة أسفل قدميه احس بأنها سجنه والأرض أغلاله.
"سير هايدن، قد تظن سؤالي ضربا من الجنون لكن هل يا ترى ولو عن طريق الصدفة خيل لك سماع الحيوانات تنطق هنا؟"
ارتفع حاجبا هايدن واستدار برأسه إليها وتعابير الدهشة تعلو معالم وجهه، الإقرار بهذا كان صعبا لذا هو أومئ برأسه.
"انت لم تفصح لاحد عن هذا أليس كذلك؟"
"لم استطع النطق عن هذا لأحد ابدا"
جمع هايدن قدميه متربعا وقد استدار اليها بسائر بدنه، يرغب لو يجد عندها جوابا لهذه الهلوسات.
"وحضرتك لن تفصح عن هذا لأحد مهما حييت، إن علم بأمرك الحكيم فتلك النبتة التي دخنوها في غرفتك لن تكون إلا البداية والنهاية ما هي إلا نيران المحرقة"
امتدت يد بيرل لكتف هايدن تضغط عليه كي يدرك مدى خطورة الوضع "لا تنطق بها لأحد ولا تفعلها امام احد ولو حتى كنت مختليا مع نفسك فالجدران لها أعين ترى بها وتسمع"
"انتظر عندكِ، انتِ تعلمين بالذي يراقبنا كل ليلة؟"
"إنك تراه شيئا غريبا لكنه متعارف عليه هنا..."
عضت بيرل باطن شفتها لا تدري هل تخبره أم تبقيه عنه سراً وهايدن حالما فطن أنها تعلم بهذا امسك بكتفها يستحلفها ان تحكي له فهو عازم على دس قلم في الحفرة وفقع عين هذا الذي يراقبه.
"لا! إياك وأن تقدم على شيء كهذا، سير هايدن إن استنكرت هذا فسيشكون بك، فلدوريان علم بكل تقاليد وقوانين هذه القرية... انصت إلي، نظام الرقابة ممتد بدأ من الحكيم وصولا الى كبار العوائل هنا. لكل عائلة رمزها ولكل عائلة كبيرها. لآل باومن توجد جوان ولآل غلور يوجد نيليو شقيقي، قد ترأس الاسرة العام الماضي بعد وفاة جدي"
"لكل كبير أسرة يوجد أعين وفية له، لا يعلم بهويتها احد ووظيفتها هي مراقبة ما يحدث خلف الأبواب المؤصدة، فلا يقدم فرد على العصيان وارتكاب الذنوب في خلوته"
"تعنين أن سيادة الحكيم ماضية في حكمها ولو اغلقت على نفسك باب الخلاء، كم هذا رائع" سخر هايدن وشتم حاله الذي وصل اليه تحت انفاسه وبالطبع لم ينسى شتم دوريان الذي ورطه بهذا كله.
"أخي دوريان، أما شعرت بالجوع؟ قد بقي في الفرن بعض من مرقة الفاصولياء"
رفع هايدن بصره نحو بيرل الجالسة الى جواره وعلى وجهها ابتسامة كما لو انها دمية خزفية "أشفق عليك لأنك فوت عشاء البارحة، والآن دعني اقم بإشعال النار أسفل القدر"
"كيف كنا نقول ستأكل اصابعك بعده بالألمانية؟ انتَ افضل مني في هذا لذا لابد انك تعلم... دعني اتذكر، آه لقد كانت – اس ات هييا-"
نهضت بيرل متكئة على كتفه ثم ولت من امامه واستعانت بالعكاز متجهة نحو المطبخ خلف باب الشرفة، تبسم هايدن ولوح لها بيده ثم عاود النظر أمامه يحدق في الحديقة وفي رأسه تكررت جملة بيرل التي ذكرتها بلغة اجنبية
-إنه هنا يراقب-
في اليوم التالي ادعى هايدن امتلاكه لصحة جيدة وانه أفضل مما سبق، حتى انه قام بإنهاء طعامه الذي في طبقه وليثبت كذبته وافق على طلب المساعدة الذي أتاه من دار بينيت.
وبينما هو يساعدهم سمع خلافا يجري بين رجل من عائلة بينيت ورجلا من عائلة تدعى خوفمن، اشتد الجدال بينهما لدرجة أنهما تعرضها لبعضهما البعض باللكمات، فذاك يقول انت غششتني وذاك يقول انت سرقتني.
حاول ابناء عائلة بينيت فض النزاع فاقترب هايدن لرؤية سببهم فإذا بهما يتشاجران حول دفتر حسابات، فعائلة هوفمن هي من تعطي المال مقابل أن يجمع آل بينيت عناقيد العنب ويكدسونها في العربات التي تجرها خيول.
"إن لم يكن لديكما مانع فهل لي أن أرى، لربما اساعدكما بشيء"
"ولما عسانا نطلب مساعدة من آل باومن"
"أليس افضل من يقيم الدفتر فرد من عائلة بينيت فتتهمونهم بالخداع؟"
زفر الرجل من آل هوفمن وقدم دفتر الحسابات لهايدن الذي قام بمعاينته وبعد مدة من الحساب اخبرهم أن هوفمن يدينون بخمسين فرنك لدار بينيت وفي المقابل دار بينيت ينقصه صندوقان اضافيان من العنب للتسليم...
ذلك اليوم العادي مر مرور الكرام على هايدن لكن كبير عائلة هوفمن والذي يدعى فيكتور هوفمن اعجب بما حدث وأرسل له حفيده كي يطلب منه القدوم والعمل عنده في الحسابات فمن الصعب إيجاد رجل سوي قادر على التدوين بمهارة.
"اذهب وقل هذا لمدام ميلينا"
اكتفى هايدن بقول هذا لذلك المبعوث من هوفمن ولما ابلغ الجدة، قفزت جوان من مكانها فرحة فمن خيل له في يوم ان يطلب السيد فيكتور، ذلك الرجل الغني ابن اخيها وبالتأكيد سيغدقه بالمال لذا وافقت جوان وألحت على هايدن بالذهاب.
"انتَ عليك تنفيذ أمري والذهاب للعمل عنده! انك جاهل بعائلة هوفمن ولو كنت تعرفهم لما رفضت. انهم أثرياء القرية وكبيرهم من يملك غالبية الأراضي الزراعية هنا... كلنا نعمل هنا في الزراعة والرعي وما نحصده نبيعه له فهو تاجر!"
"لا طاقة لي بالمزيد من المهام، إن جلب العلف والرعي كذلك أعمال الحديقة والغسيل قد اهلكتني وفلقت ظهري لنصفين!" انزل هايدن العلف من على ظهره وفرشه في الأرض ثم فتح باب الحضيرة لتخرج الخراف متلهفة للطعام.
"لا بأس! إن كان هذا سبب رفضك فالحل عندي! إن بيرل استردت من عافيتها الكثير وهي ستكون قادرة على العودة لعملها"
"انها بالكاد تسير بعكازها فكيف لها أن تنهي هذا كله"
"سأنجزه أنا وامي! إليوت معنا وهو من سيساعدنا"
"ألم يكن التنظيف والطبخ مهمتك فكيف ستنهين هذا أيضا"
"إني قادرة على فعل ذلك! لذا هيا وافق على الذهاب فلم يعد لديك حجة لرفض طلب السيد الموقر"
تنهد هايدن بقلة حيلة ولما فكر بالأمر جيدا رأى انه بحاجة لجمع المزيد من المال الذي سيساعده في سفره لذا لم يتبقى لديه سبب للرفض فوافق بالرغم من رفض بيرل ذهابه والعمل عند آل هوفمن.
في البداية عمله عندهم كان يقتصر بمتابعه الدفتر، فالخبر عن الكمية يصله من حفيد فيكتور ومن يعطي النقود للعمال هو حفيد فيكتور أيضا لكن وبعد مرتين حدث فيها التباس في الكمية ونقص في الأجور قرر هايدن الخروج بنفسه والاشراف عن الكميات التي تصلهم وتقديم النقود بيديه للعمال.
فيكتور العجوز احب هايدن ومكنه من صلاحيات كثيرة حتى بات هايدن في غضون ثلاثة أشهر المشرف الرسمي عن هذه التجارة ونحى في المقابل حفيده الذي جعل من اعماله تتدهور.
وفي إحدى المرات عرض فيكتور عليه مرافقته ليريه الاسطبل الخاص به، إذ لم يكن يدخله سواه وسائس الخيل مع مساعده.
اخفض سائس الخيل والغلام رأسهما حالما ولج هايدن بصحبة السيد فيكتور وقد حبست انفاس هايدن عندما وقع بصره على أربعين فرسا يحتفظ بهم ذلك السيد الثري.
"اتبعني يا هايدن لأريك المفضل إلي"
لحق هايدن بالسيد فيكتور وفي طريقه رأى جمجمة حصان معلقة على الحائط في نهاية الممر ورائحة نتنة كانت تفوح منها، إذ كان الذباب يحوم حولها ومن محجر العينين الديدان كانت تتمايل.
ناضل هايدن لتحمل هذه الرائحة البغيضة وتوقف بجانب السيد فيكتور أمام حجرة لفرسٍ أدهم اللون ذو شعر لامع من شدة سوداه.
شعر هايدن بفؤاده يلجم بشكل اثار الرعب في نفسه رغم ان الفرس كان يشبه بقية الاحصنة ولم يختلف عنهم في شيء سوى الهيبة بالطبع والمزاج الحامي.
"هذا هو الفرس خاصتي وأسمه أسود، انه وفي لا يرضى بان يقترب منه احد غيري لذا لا احد يمتطي ظهره سواي"
"لم اكن اعرف ان لحضرتك ولع بالأحصنة لهذه الدرجة"
"وكيف لا يكون لدي، اسمعني جيدا يا ولد، على مر العصور اقترنت الاحصنةباصحاب الثروة والعز والان اخبرني هل ركبت الخيل من قبل؟"
"ركبت فقط العربة التي يجرها الخيل"
ضحك فيكتور وربت على كتف هايدن قائلا "إن لك حس دعابة يعجبني يا دوريان، دعني احقق ما لم تحققه في حياتك وادعك تركب فرسا"
نادى السيد فيكتور على الغلام كي يخرج لهايدن فرسا تدعى أنوك ويجهزها لأجله، وهكذا فعل الغلام. وضع لها سرجا وألبسها اللجام ثم اخرجها للساحة حيث يمتطي السيد فيكتور خيله في العادة.
"هيا تقدم يا دوريان وجربها"
"امسكها لأجلي يا ولد" طلب هايدن من الغلام ريثما يحاول صعودها وبالكاد رفع نفسه فتقدم سائس الخيل وأعان هايدن على الصعود.
"ماذا افعل الآن؟"
"لا تخف إنها فرس مدربة وستطيعني" مر فيكتور على مقربة من أنوك بفرسه وبالكرباج ضربها فباشرت بالهرولة خلف حصان سيدها فيكتور.
"هل اعجبك هذا يا حضرة الطبيب؟"
"لأصدقك القول اني نادم لعدم تجربتي إياه سابقا"
"هذه هي الروح المطلوبة والآن التقط هذا الكرباج واتبعني"
القى السيد فيكتور بالكرباج لهايدن وحث فرسه المدعو بأسود على العدو أسرع، تحمس هايدن لمسابقته وضرب أنوك بالكرباج كي تسرع بالعدو هي أيضا.
"توقف أرجوك فهذا يؤلم!"
اتسعت عينا هايدن من الصوت العائد لفتاة بالكاد تجاوزت الرابعة عشر تترجى فتلفت حوله يمينا ويسارا بحثا عنها لكنه وجد ان الفرس من تنظر إليه وفي عينها لمح طيفا لفتاة يافعة.
تشابكت قدما أنوك وتعثرت بالسور أمامها فاسقطت هايدن من على ظهرها وتدحرج هو الآخر على الأرض ليقسم في نفسه انه لن يعيد هذه التجربة مجددا.
"دوريان! يا ولد هل انت بخير!" عاد السيد فيكتور على ظهر فرسه ونزل كي يعينه خشية ان يكون كسر شيئا في بدنه فيفقد هكذا موظفا عنده.
"اظن اني كذلك" تمتم هايدن وتذمر بألم من الخدوش في بدنه، تنهد فيكتور براحة ثم انتقل ببصره لتلك الفرس فانهال عليها بالشتائم ولطمها على وجهها.
"فرسٌ غبي لا فائدة منها!" ضربها مجددا ثم نادى على سائس الخيل كي يأتي ويعيدها للإسطبل بل وأكد عليه ان يحرمها من الماء والعلف هذه الليلة.
حدق هايدن بالفرس التي كانت تتلفت إليه برأسها تحدق به بينما سائس الخيل يجرها وفي نفسه شعر بذنب عظيم لكن بيرل اوصته سابقا ألا ينساق خلف هذه الأوهام فيفقد صوابه.


اترك تعليقا اذا اعجبتك القصة